"كلمة" الله وجَدَل المعنى والتأويل

في المسيحية والإسلام

 

وجيه قانصو

 

عندما أراد الإغريق التعرف إلى الله، كان طريقُهم إلى ذلك هو "اللوغوس" Logos الذي يَهَبُ النظامَ للعالم ويفسِّره في آن معًا. وكان الله، وفقًا لهذا الفهم، هو "المحرِّك الأول" Primum mobile لكلِّ حدوث والعلةَ الأولى لكلِّ وجود. استغنى اليونان عن الوحي، فكان الله، في نظرهم، متعاليًا ومنفصلاً عن العالم في طبيعته وحقيقته، غائبًا ومحتجبًا، لا يُعرَف إلا بالسلب والاستحالة والامتناع.[1]

وفي حين كان اللوغوس محور الطريق إلى الله عند اليونان، كانت الكلمة Verbum أساس الطريق إلى الله في الأديان، وخاصة ما يُسمَّى بالأديان التوحيدية الثلاث. فكان الله بذلك محلَّ قُرْب، لا بُعد، واتصال، لا انفصال، وتَخاطُب ومحاورة وحضور، لا صمت وغياب واحتجاب. بالكلمة، تجلَّت إنسانيةُ الله، بالمعنى الدلالي، لا الأونطولوجي أو العقائدي، بعدما كان عند اليونان جزءًا من نظام العالم الآلي؛ وبالكلمة أيضًا، دخل الله في التاريخ الإنساني بعدما كان خارجه.

سجَّل الحواريون خطاب السيد المسيح إلى الناس – كلِّ الناس، مؤمنهم وكافرهم[2]؛ وتلقَّت قريش وحي محمد بلسان عربي مبين، فكان المُشرِك يسمع ويفهم، كما كان المؤمن أيضًا. فكانت كلمة الله بذلك مجالاً عامًّا يستعصي على الاستحواذ، وتيارًا روحيًّا يتدافع في كلِّ اتجاه. كانت الكلمة هي ترجمان الوحي المعبِّر عن واقعة الاتصال التي حصلتْ بين النبي والغيب؛ كانت الكلمة نقطةَ الاتصال والعبور بين الغيب والشهود، ومظهرَ حضورٍ إلهي يتقولب بقالب إنساني؛ كانت الكلمة الوسيط والجامع، في آنٍ، بين اللاهوت والناسوت.

لم تأتِ كلمة الله إلينا مشفَّرة، ولم تحمل قاموسًا خاصًّا، بل تشكَّلتْ بألفاظ بشرية ومعانٍ مألوفة ومعهودة قبلها، وبمفردات وقواعد إرسال وإفهام كانت متحقِّقة قبل زمن حصول الكلمة. لذلك كانت قناة الاتصال بين المتكلِّم – الذي هو الله – وبين المتلقي هي الأعراف والتقاليد والخلفية الثقافية التي كان يختزنها مجتمع الوحي وظَرْف الاتصال بين الله والناس. وهذا يعني أن مراد الله ما كان ليُكشَف أو يُدرَك أو يُعقَل إلا بمزيدِ وعيٍ لحقيقة الإنسان نفسه وإدراكٍ لشرط وجوده التاريخي. بذلك لا تعود "كلمة الله" شيئًا خارجيًّا نتلقاه، بل تصبح نداءً داخليًّا توقظ به الذاتَ من غفلتها عن أبعاد وجودها الأخرى، وتخلق في باطنها طاقةَ إعادة صُنْع الذات وتغيير العالم.

لم تنقطع الكلمة عن الظهور في التاريخ الإنساني؛ إذ لم تكن، في لحظات ظهورها التاريخي، قاطعةً مع "الكلمة" التي سبقتْها أو منفصلةً عنها، بل كانت تتكئ على "الكلمة" التي سبقتْها، وتخلق لنفسها مساحتَها الجديدة بإعادة تأويل ما سَبَقَها. لذلك لم يُلْغِ القرآنُ الإنجيل والتوراة، بل جاء ليؤكد وحدة المصدر والطبيعة. لقد كانت رسالة النبي محمد تحقيقًا لنبوءة الكتب السابقة، كما أكد القرآن على لسان المسيح: "[...] ومبشرًا برسول يأتي من بعدي اسمُه أحمد" (سورة الصف 6). غير أن القرآن، في المقابل، دخل في سجال تأويلي مع النصوص التي سبقتْه، وأنشأ لنفسه مساحةَ معنى جديد تمهِّد للمساحة الدينية الجديدة.

كذلك، لم يُنكِر المسيحُ العهد القديم، بل قال: "لا تظنوا أني جئت لأنقض الناموس أو الأنبياء: ما جئت لأنقض بل لأكمل" (إنجيل متى 5: 17). وهذا ما جعل الآباء الأولين يرون في المسيح تحقيقًا للنبوءة التوراتية: فهو المسيح المنتظَر، وكلُّ شيء حصل وفقًا للنص المكتوب. إلا أن المسيح دخل في منظومة تأويلية منافِسة تصوِّب المعنى أو توجِّهه، وتفرش الأرض لحقيقة دينية جديدة: "سمعتم أنه قيل للأولين... أما أنا فأقول لكم..." (متى 5: 20-48)؛ أي أن "كلمة الله" متصلة، لكنها، مع كلِّ وحي جديد، تنشئ لنفسها حقلاً دلاليًّا جديدًا تجدِّد به النصَّ السابق وتحييه: "الحق أقول لكم: إلى أن تزول السماء والأرض لا يزول حرفٌ واحد أو نقطةٌ واحدة من الناموس حتى يكون الكل" (متى 5: 18).

لذلك، وعلى الرغم من تاريخية الكلمة، أي تاريخية حدوثها ووقائعها، فإن الكلمة واحدة وناموسَها واحد، على الرغم من تكثُّرها: يعود السابقُ جديدًا بثوب اللاحق، ويؤسِّس اللاحقُ لوجوده بالانتساب إلى السابق، ويصنع حقيقته الجديدة من تجلِّيات الكلمة السابقة وتاريخها. بذلك يمكن القول إن الكلمة الجديدة هي الكلمة السابقة مؤوَّلةً: هي قراءة الكلمة لنفسها في ديناميَّتها التاريخية وتفاعلها الإنساني.

انشغال الدين، بعد مرحلة التأسيس، في تسيير شؤون مؤمنيه دَفَعَه إلى إنتاج "مركز تضامني" للجماعة، قوامه عقيدة الاستقامة والنجاة، يَهَبُ تمايزًا للجماعة المؤمنة، ويحقِّق تجانُسَها، ويركِّز طاقتَها في تحقيق وجود مؤسَّسي واستمرارية تاريخية لها. وقد سَعَتْ "مسلكيةُ النجاة" هذه إلى تقنين إنتاج المعنى الديني والحدِّ من فوضى تأويله. غير أن مسلك التفسير الديني انقلب من قلق لمعرفة مراد الله من النص إلى حَصْرِ معنى النص بظاهره، الذي لا شيء وراءه، وإلى تشكل طبقة وسيطة بين الكلمة والفرد، تملك سرَّ المعنى وتستحوذ على نعمة الله. وهذا ما حوَّل الحركة الدلالية للنص الديني من نصٍّ حامل للمعنى ومولِّد له إلى نصٍّ شاهد على معنى جاهز، أي من نصٍّ يُدلي على القارئ بمعناه ومقصده إلى قارئ يُملي على النصِّ معناه ومرجحاته. لذلك لم تكن القراءة يومًا بريئة من الدوافع، بل، كما أشار ديفيد كاسپر، إن الهرمنوطيقا hermeneutics كانت دائمًا في التاريخ نشاطًا سياسيًّا وسلطويًّا بامتياز.

قطعت "عقيدةُ النجاة" ذلك الاتصال بين كلام الله السابق واللاحق، أي قطعت اتصال كلام الله مع نفسه، وبترت تلك الحالات التي كان يُحيلها النص اللاحق على النص السابق، فعطَّلتْ، تاليًا، الكثير من توتراته الدلالية، وغيَّبتْ طبقاتٍ من المعنى في النصِّ ما كانت لتنكشف أو تتجلَّى إلا داخل تيار شبكة النصوص الموحى بها في التاريخ.

حجبت القراءة الحرفية، التي سادت سلوكَ التفسير الديني زمنًا طويلاً، طبقاتٍ من المعنى يحملها النص؛ وقد عبَّر عنها پول ريكور بـ"فائض المعنى". فالمغزى، كما يقول هُسِّرل، لا يقتصر على الأفعال المنطقية فقط، بل يشمل جميع الأفعال الإرادية والانفعالية، أي جميع ما يدور في النفس؛ أي أن الظاهر ليس إلا الطبقة أو القشرة السطحية للمعنى الذي يختلج في داخلي، التي تمثِّل، بطريقة ما، حالة تشويه وكَبْتٍ للطاقة والفاعلية وقوة الدفع داخل كلِّ واحد فينا. بهذا، إذا كان "الإنسان يقول أكثر مما يعني"، كما يقول جاك لاكان، فإن الله تعالى "يعني أكثر مما يقول".

ليس النص الديني حقل خطاب عقلاني فقط، بل لا بدَّ من اكتشاف مجالات ما وراء العقل فيه، والتعرف على بُناه الرمزية والأسطورية التي تخاطب طبقات اللاوعي فينا بلغة ورسالة تقف تراكيبُها ودلالاتُها خلف مستوى الخطاب المباشر؛ أي إزاحة مستوى الظاهر الذي هو مستوى كبْت ورقابة لكلِّ تعبيرات قوى النفس (أي مستوى السلطة)، والولوج إلى مستوى تعبيري وتركيبي آخر في النص، خالٍ من سلطة الرقابة، يُكشَف به عن معاني الأعماق والطاقة والحيوية داخل الإنسان التي تحبسها مفاهيمُ الظاهر الهجينة.

كون الوحي أو كلام الله المقول أو الملقى عبارة عن واقعة حدثت في فترة تاريخية محددة يعني امتناع وصول الواقعة نفسها، من حيث هي تجربة، إلينا. فـ"تجربتي، كما يقول پول ريكور، لا يمكن أبدًا أن تصير مباشرة تجربتك"، والواقعة التي تدور في خَلَدِ إنسان لا يمكن أن تنتقل كما هي إلى خلد آخر. فالذي انتقل إلينا هو معنى هذه التجربة ومغزاها عبر النصِّ المكتوب؛ فانتقلت كلمة الله من كونها ملقاة أو موحى بها إلى كونها مكتوبة، وتحولت واقعة الوحي إلى خطاب للوحي. حفظت الكتابةُ لحظة الوحي وأنقذته من النسيان – صحيح؛ إلا أن ما حفظتْه هو قول الوحي ومعناه، وليس واقعة الوحي.

مع انتقال الوحي من القول إلى الكلمة المكتوبة، انتقلت العلاقة من كونها علاقة بين التكلم والاستماع إلى العلاقة بين النصِّ والقراءة، واندكَّ قصدُ الله ومرادُه داخل قصد النص ومعناه؛ فلم يعد مراد الله يُتلقى بل أضحى يُفسَّر ويؤوَّل. مع النص المكتوب، تم نسف الموقف الحواري الذي كان بين متلقِّيه وسامعيه بالكامل؛ فلم تعد الرسالة مرتبطة بالمتكلم الذي هو الله أو الوسيط، بل أصبحنا أمام جدل المعنى والتأويل الذي بدأ حين انتهت لحظة الحوار بين المتكلم والمستمع. ففي حين كان الخطاب الحواري يتوجه إلى شخص يحدده الموقفُ الحواري سلفًا، اتجه النص المكتوب إلى قارئ مجهول، وضمنًا إلى كلِّ مَن يعرف القراءة. هذا التعميم على الجمهور هو إحدى نتائج الكتابة المثيرة التي يتحرَّر فيها النص من ضيق موقف المشافهة وجهًا لوجه. فالمشافهة واقعة جزئية، في حين أن النص حالة شمول.

إن تفلُّت النص من مؤلِّفه ومن سياقه – أي ظرفه التاريخي والتأسيسي – أدى به إلى التفلُّت من متلقيه الأصلي، الأمر الذي أكسب النصَّ قراءً جُدُدًا في استمرار، حيث بدأت عند ذلك رحلةُ الجدل بين المعنى والتأويل، وبدأ "صراع القارئ مع النص لأجل النص"، كما يقول جفري هارتمان، الذي شبَّهه بالصراع الذي حصل بين يعقوب وذلك الرجل الغريب الغامض في جدل التكوين من أجل نيل البَرَكة (سِفْر التكوين 32: 23-32).

وعلى الرغم من أن الله بقي البُعد المكوِّن لمفهوم النص نفسه، الذي يمكن تلمُّس حضوره في النص عِبْرَ ترسانة ضخمة من الإشارات الإلهية التي لا يمكن للقارئ تجاهُلها، إلا أن هذا النص، عند تحوله إلى نصٍّ مكتوب، أضحى صامتًا وقابلاً لإساءة الفهم ولإساءة الاستعمال، كما كان يؤكد أفلاطون حول أيِّ نصٍّ مكتوب. وهذا خَلَقَ علاقةً غير متناسبة بين النص والقارئ، حيث يتحدث فيها أحد الشريكين الذي هو القارئ على لسان كليهما. فالنص، كما يقول أُمبِرتو إيكو، عبارة عن "نزهة يقوم فيها المؤلِّف بوضع الكلمات ليأتي القرَّاء لاحقًا بالمعنى". ويقول پول ريكور أيضًا، "إن النص أشبه بقطعة موسيقية، والقارئ أشبه بعازف الأركسترا الذي يطيع تعليمات التنغيم". وتاليًا فإن فهم القارئ للنصِّ ليس مجرد تكرار للواقعة الكلامية، بل هو توليد لواقعة جديدة تبدأ من النص الذي تَمَوْضَعَتْ فيه الواقعةُ الأولى. ولأن التأويل يضع النصَّ تحت قوة الذات التي تؤوِّله ورحمتها، جهد المفسِّرون في إنقاذ النص من سلطة القارئ، فترسخت سلطةُ ظاهر المعنى في العقل التفسيري للنص الديني في الإسلام، واستُبْعِدَ التأويلُ، بوصفه فعل اكتشاف للنصِّ، من مجال التفكير المسموح به.

كذلك فقد جهد بعض مفكِّري المسيحية، على نحو مماثل، في إزاحة الذات القارئة وتغييبها من فعل القراءة. فعَمِلَ توما الأكويني على الدخول إلى عقل الله لا عقولنا لمعرفة مراده؛ واقترح مارتن لوثر تَرْكَ الإنجيل يفسِّر نفسه بنفسه لأنه يوفِّر لنا قواعد تفسيره وقراءته. وأشار كارل بارت إلى أن قراءة النص المقدس تعني أن تستمع في طاعة؛ فالله في الإنجيل هو الذي يقرؤنا ويفسِّرنا ويستعملنا لنحقق إرادته. كذلك يقول توماس أكِمْپس بأن قراءة الإنجيل لا تعني الإبحار في التعلم، ولكنْ فن الاستماع إلى القديسين والآباء.

ولعل ذلك كلَّه كان يهدف إلى التقليل من المحبِّذات الخاصة للقارئ، وإلى التأكيد على أن النص الديني يولِّد المعنى بذاته. لذا كان أكثر المفسِّرين السابقين يدعون القارئ إلى أن يعيش النص ويشعره، كمدخل مناسب لاسترجاع واقعة الوحي أو استحضار تفاعلات المستمع الأول مع النص. وهذا ما عمل عليه غدامِر، حيث دعا إلى صَهْرِ أفق عالم القارئ في أفق عالم صاحب النص، ورأى أن المهمة التأويلية محكومة بفهم متلقي النص الأصلي؛ كما أشار إلى ذلك محمد إقبال بالنصيحة للقارئ بأن يقرأ القارئ القرآن كما لو أنه يوحى إليه.

المواجهة المباشرة بين القارئ والنص الديني تُدخِل القارئ في ما يسميه شليرماخر – أبو الهرمنوطيقا – في دوامة التأويل المغلقة التي يصفها بالقول:

لتحصيل رؤية عامة عن النص في حالته المكتملة، علينا أن ننصت إلى التفاصيل والخصوصيات فيه. ولكن لا يمكن لنا أن نقدِّر تمايُز تلك الخصوصيات والتفاصيل من دون رؤيةٍ عن الكل؛ أي نبدأ من خلال الفكرة الشاملة في قراءة تفاصيل النص بوضوح، ثم نستعين بالنص لنصقل الفكرة الأولية العامة. فالعملية التأويلية تحرِّكها رغبةُ صاحب النص أن يُفهم وقلقُ القارئ أن يَفهم – وهذه العملية ستستمر إلى ما لا نهاية. وبهذا تضيع الخلاصة النهائية لعملية التأويل بين الغيوم.

لذلك لم تستطع أيةُ قراءة أن تقدم استنتاجًا نهائيًّا. فالقارئ الحقيقي، كما يقول أُمبِرتو إيكو، هو الذي يفهم أن سرَّ النص يكمن في عدمه؛ فكما قال هَيْدِغِر: "ليس المهم كيفية الخروج من دائرة التأويل المغلقة، ولكن المهم كيفية الدخول إليها."

السؤال الذي يلاحق كلَّ مؤمن عندما يقرأ نصَّه المقدس هو: كيف أتعرف على مراد الله، وكيف أضمن أن ما عرفتُه صحيح؟ هذا السؤال كان محور قارئي النص المقدس جميعًا، الذين لم يَسْلَم أكثرُهم – إن لم يكن كلهم – من الدائرة المغلقة.

التغييب الطويل للقارئ، وحَذْفُ الذات من حركة المعنى والنص، دفعا بعضهم إلى استعادة القارئ كمحور رئيسي في النصِّ نفسه. فاعتبر إراسموس نوتردام أن قراءة الإنجيل هي تبادُل بين النص والقارئ، واعتبر أن قراءة الإنجيل قراءةً نقدية، كأيِّ كتاب آخر، هو السبيل الوحيد لكَشْفِ فرادة الإنجيل. فالقراءة هي مغامرة واكتشاف؛ وفوق ذلك هي اكتشاف للذات.

ومع تصاعُد العصر الذي دشَّنه ديكارت، تعزَّز القولُ بأننا لم نعد في حاجة إلى الصلاة قبل أن نقرأ الإنجيل، بل علينا قراءته بذهن منفتح؛ أي علينا الاعتماد على قدراتنا المستقلة عن الله. لذا دعا جان مارتن شلادينيوس، مثلاً، إلى قراءة الإنجيل وفق الفهم البشري، وليس وفق عقل الله؛ كما دعا ديفيد شتراوس إلى التعامل مع الإنجيل كأيِّ نصٍّ آخر، من دون خصوصية أو تمايُز له.

جاء إيمانويل كانط لينسف كلَّ إمكانية للوصول إلى الحقيقة – من حيث إن معرفتنا تقتصر على ظواهرها – وليعلن، في مجال المعنى، أننا نخلق بنسبة النصف ما نحن ندركه. أي أن العالم لا يُملي علينا حقيقتَه فقط، بل نحن نُملي عليه – وبالقدْر نفسه – ما هي حقيقته. لذا فالقارئ لا يتأمل نصًّا بحيث يكون هنالك معنى، ولكنه يجلب إلى النصِّ إدراكاتِه وتفضيلاتِه الخاصة، ويوسِّط غريزتَه وبديهتَه وخيالَه. وهذا ما دفع الباحث المعاصر ستانلي فيش، حين وجد أن عدد التفسيرات المختلفة داخل الصف لنصٍّ واحد يساوي عدد المفسِّرين أنفسهم، إلى القول متسائلاً: "هل هنالك نص في الصف أم نحن وحسب؟" لذلك أدرك التأويليون في القرن العشرين أن التفسير عبارة عن عملية إبقاء الأسئلة معلَّقةً في الهواء، فقاوموا الحلول كلَّها والأجوبة كافة، حتى أصبح القرن العشرون قرن الأسئلة بامتياز.

من المؤكد أن النصَّ يجمع، على نحو متقابل، أفقين يتقاطعان عند لحظة فهمه: أفق النص الذي أودِعَ الماضي في ذاكرته الوجودية، وأفق القارئ الذي يريد فَتْحَه على المستقبل. وينصهر هذان الأفقان ليولِّدا عملية القراءة في تملُّك النص وفهمه. فالقراءة تكشف عن صيرورة الخطاب مشروعًا في العالم؛ والتأويل هو العملية التي تكشف عن أنماط جديدة من الوجود، وتبدع صور حياة جديدة، تَهَبُ الذاتَ قدرةً جديدة على معرفة نفسها ومعرفة ربِّها معًا.

*** *** ***


[1] لا يجوز التعميم هنا على الفلسفة اليونانية برمتها؛ إذ جلي لمن له اطلاع على نظرية المُثُل في فلسفة أفلاطون أن كلام السيد وجيه قانصو يجانب الدقة: فالمُثُل الأفلاطونية، بما فيها مثال الخير، ليست متعالية أو مفارِقة وحسب، كما يُظَن، بل هي كذلك محايثة للعقل، بها يعرف العقلُ العالمَ كانعكاس له. (المحرِّر)

[2] مصطلح "الكفر" ليس في عداد الألفاظ الواردة في الأناجيل على لسان المسيح؛ ومَن حاد عن البنود المذهبية التي صاغتْها الكنيسة فيما بعد لتحديد "استقامة الرأي" عُدَّ "هرطيقًا"، وليس "كافرًا" – فاقتضى التنويه. (المحرر)