فرويد ونفسانية المرأة

 

ديمتري أفييرينوس

إنك تتنبأ لي بأن أخطائي معرَّضة من بعدي لأن تصبح محلَّ عبادة، شأنها شأن رفات القديسين. هذا يُضحِكني للغاية، لكنني لا أظنه سوف يحدث. أظن، على العكس، أن خلفائي سيسارعون إلى هدم كلِّ ما ليس مُسنَدًا فيما سأترك ورائي.

تسيغموند فرويد

من رسالة إلى ك.غ. يونغ، 1909

ما أكثر الآراء السائدة المغرضة بحقِّ المرأة! ليست المرأة إلا "حيوانًا أليفًا"، "ليس فيه من صفات بني آدم شيء"؛ "ضلع قاصر"، كما يقال، "عاجزة عن التفكير كما يفكر الرجال"؛ "حرمة"، "لم يفطرها الباري إلا على الإنجاب وخدمة الرجال مجانًا"؛ إلخ.[1] هذه الآراء البالية التي ما يزال الرجل والمرأة العربيين، على حدٍّ سواء، يحملانها في ثنايا الخافية (= اللاوعي) القومية national unconscious لم تُخْلِ السبيل بسهولة لحملات الحركة النسوية feminism والتعليم وتغلغُل الأفكار اللبرالية.

والغريب أن هذه النظرة لا تقتصر على العالَم الشرقي وحسب؛ إذ حوالى العام 1940 نراها تولد في الغرب من جديد، متنكرة في زي قشيب، وتسترد منزلتها مع فتوح الفرويدية المنتصرة. أما نقل مؤلَّفات فرويد إلى العربية فلم يؤدِّ إلا إلى ترسيخ وضع قائم منذ أمد بعيد نتيجة السيطرة الذكورية على الموروث الديني التقليدي.

ولعل المرأة تعاني اليوم في دفع هذه الحميَّة الجديدة – هذه الصورة المقولبة عنها – أكثر مما كانت تعاني أمُّها المتحرقة إلى التحرر في مناهضتها الأفكار البالية، وذلك لسببين: أولاً، لأن هذه الحميَّة يساهم في نشرها المربُّون وعلماء الاجتماع الذين يفترَض فيهم أن يكونوا ألدَّ أعداء الأفكار المسبقة؛ وثانيًا لأن طبيعة الفكر الفرويدي نفسه تَحُول من حيث المبدأ حيلولة قاطعة دون أية إعادة نظر في صحَّته كنظرية. فكيف نأمل أن تناهض امرأةٌ متوسطة الثقافة، لا تملك معرفة عالِم النفس و"خبرته" المزعومة في ارتياد مجاهل النفس البشرية، معتقَدًا فرويديًّا أضحى راسخًا في أذهان الناس. يتناهى إلى سمعها أن اكتشاف فرويد للخافية (أو إعادة اكتشافه لها بالأصح) كان للفكر البشري الحديث المتعطش إلى المعرفة كشفًا عظيمًا. وهي تسمع كذلك أن العلم القائم على هذا الاكتشاف ساعد عددًا من الرجال والنساء المعذَّبين. ولقد لقَّنتْها وسائل الإعلام بأن سنواتٍ طويلة من الدراسة ضروريةٌ لسبر الفكر الفرويدي وللإحاطة بجوانبه المتعددة. ولعلها تدري أيضًا إلى أيِّ حدٍّ يقاوم الذهنُ البشري مقاومة غير واعية هذه الحقيقة. أنَّى لها أن تجرؤ على وطء الأرض المقدسة التي وحدهم المحلِّلون يحق لهم التوغل في مجاهلها؟

ليس لأحد أن يشكك في عبقرية فرويد، ولا في مساهمته الاستثنائية في الثقافة الحديثة. وليس قصدُنا من إذاعة هذه الخواطر التشكيكَ في نجاعة التحليل النفسي كما يمارسه اليوم تلامذةُ فرويد ومناهضوه على حدٍّ سواء؛ لكن خبرتنا في مجال التحليل – وهي جد متواضعة إذا قيست إلى خبرة المحلِّلين! –، بالإضافة إلى الحسِّ السليم، يجيزان لنا قطعًا الاعتراض على تطبيق الأفكار الفرويدية حول الأنوثة على نساء اليوم. لا اعتراض لنا على الفنِّ العلاجي التحليلي في حدِّ ذاته، بل على استخدام النظريات التحليلية التعسفي وعلى الطريقة التي تسلَّلتْ من خلالها هذه النظرياتُ إلى الحياة المعاصرة بواسطة المجلات الشعبية وتفسيرات "الخبراء" المزعومين وتصريحاتهم. وفي اعتقادنا أن هذه الأفكار، في غالبيتها، قد تُجووِزَتْ، وأنها لا تفيد إلا في سَتْرِ الحقيقة عن النساء المعاصرات، وأن إليها أخيرًا تُعزى علةُ الهمِّ الخبيث والمبهم الذي يقع فريسة له العديدُ من النساء.

لقد كانت لمنجزات فرويد نتائج متناقضة. لقد ساعد مفهومُ "الأنا الأعلى" الإنسانَ على التحرر من سطوة الواجبات الأخلاقية الكاذبة ومن وطأة الماضي التي تحول دون الطفل وبلوغَ سنِّ الحِلم. ومع ذلك، فإن الفكر الفرويدي ساهم في خلق "أنا أعلى" superego جديد، وبالتالي في تكريس سطوة مفاهيم جديدة تكبِّل المرأة بالصورة القديمة، وتحول دونها والاختيار، وتمنعها من النمو، كما تنكر عليها كلَّ هوية مستقلة عن هوية الذَّكَر.

لقد اعتُمِدَ مفهوم "حسد القضيب"، ألا وهو مفهوم صاغه فرويد لوصف ظاهرة كان لاحَظَها عند النساء (أي عند نساء المجتمع الحَضَري للقرن التاسع عشر اللاتي كن يأتين لاستشارته في فيينا) – ومازال معتمَدًا – لتفسير كلِّ ما ليس على ما يرام عند نساء اليوم. وقلة من بين الذين نبَّهوا إلى الأخطار التي تتهدَّد الأنوثة، معرقلين بذلك تفتح النساء على الحرية والاستقلالية الداخليتين، كانوا على علم بالمصادر الفرويدية للمذهب الذي كانوا يدافعون عنه. وقلة من بين الذين استخدموه – ولسنا هنا نتكلَّم على الندرة من علماء النفس الحقيقيين، بل على المروِّجين لها من مبسِّطي العلوم، وعلماء الاجتماع، والمربين، ووكلاء شركات الإعلان، والصحافيين، وأطباء الأطفال، والمستشارين الأسريين، ورجال الدين، ومرتادي الحفلات "الاجتماعية" – كانوا على علم حقًّا بما قصد إليه فرويد بكلامه على "حسد القضيب"؛ بينما تكفي معرفة الظاهرة التي كان يصفها فرويد لدى أولئك النسوة من القرن الماضي لفهم الخديعة التي يمثلها التطبيق الحرفي لهذا المصطلح على نساء اليوم. حسبنا أن نعلم سبب اختياره لهذا المصطلح لكي نفهم أن هذه "النظرية" تُجووِزَتْ في معظمها بفضل مكتشفات العلم اللاحقة التي بات يعرفها كلُّ الاختصاصيين في الوقت الحاضر، في حين كان فرويد يجهلها آنذاك.

يرى الرأي العام أن فرويد كان مراقبًا أريبًا وفطينًا للمقولات الأساسية للشخصية الإنسانية. لكنه، بينما راح يطرح هذه المسائل، كان، من حيث لا يدري، أسير ثقافته. وفيما كان ينظِّر لبُنى فكرية جديدة للحضارة المعاصرة، لم يكن بمقدوره أن يفلت من بُنى ثقافته. وما كانت عبقريتُه نفسُها لتزوِّده بمعرفة السيرورات الثقافية التي ينمو في وسطها الإنسان العادي اليوم.

تتصف نظرية أينشتاين في النسبية – تلك النظرية التي قلبتْ مقترَبنا من المسائل العلمية رأسًا على عقب – بمرونة أقل من النسبية relativity التي تعترض مقاربة عالِم الاجتماع. ولعلنا نستطيع أن نقول – وهذه حقيقة أساسية – إنه ما من عالِم اجتماع بمقدوره أن يتحرر بالكلِّية من قيود ثقافته؛ جل ما يستطيع أن يفعل، في أحسن الأحوال، هو تأويل ما يرى من خلال الأنموذج paradigm الثقافي السائد في عصره.

لقد تبيَّن بفضل البحوث الحديثة أن غالبية ما كان في نظر فرويد يعود بأصله إلى البيولوجيا والغريزة، ويتصف من جراء ذلك بالثبات وبالديمومة، يتأسَّس على ثقافة معيَّنة ويتأثر بالإجماع الاجتماعي وبالقيم السائدة. والقسم الأكبر مما يصفه فرويد محايثًا للطبيعة البشرية كان ببساطة من مفرزات المجتمع الأوروبي في نهاية القرن التاسع عشر. فمن المؤكد أن اهتمام فرويد قد اتَّجه نحو الجنس لأن ثقافته كانت تتنكَّر لهذا البُعد الأساسي في الشخصية الإنسانية، الأمر الذي جعله يطوِّر نظريته بخلع مغزًى جنسي حصرًا على أشواط تفتح الشخصية التي وَصَفَها (الفمي، الشرجي، التناسلي)، وبإرجاع كافة الظواهر المرصودة إلى البُعد الجنسي وحده.

إن جهوده لترجمة الظواهر النفسانية كافة بعبارات جنسية، وتناوله مشكلات الشخصية الراشدة جميعًا من حيث هي عواقب تثبُّتات fixations جنسية تعود إلى الطفولة نتيجة رضوض traumas نفسية معينة، تعود جزئيًّا إلى تأهيله الطبي نفسه وإلى موقف الفكر العلمي لعصره من "السببية الضمنية".

إن بنيان النظرية الفرويدية كلَّه يقوم على الحتمية determinism الصارمة التي وَسَمَتْ بميسمها الفكرَ العلمي في أواخر القرن التاسع عشر. ولقد استُبدِل بالحتمية في أيامنا هذه تصورٌ أعقد عن السبب والنتيجة، مطروح بلغة السيرورات والظواهر النفسجسمية psychosomatic في آنٍ معًا. من هذا المنظور الجديد ليس الاختصاصيون في السلوك في حاجة إلى استعارة لغة الفسيولوجيا لتفسير الظواهر النفسانية؛ كما أنهم ليسوا في حاجة إلى عَزْو واقعية كاذبة إلى هذه الظواهر. إن الظواهر الجنسية ليست لا أقل ولا أكثر "واقعية"، على سبيل المثال، من الظاهرة التي جعلت شكسبير يكتب هملت والتي يتعذَّر تفسيرُها بعبارات جنسية حصرًا، كما فعل فرويد. وحتى فرويد نفسه لا يصح أن يُفسَّر بحتميته، بـ"سلبه" الفسيولوجي، على الرغم من أن مؤرِّخ سيرته يفسِّر عبقريته – "هواه الإلهي بالمعرفة" – بفضول جنسي لا يرتوي، كان يدفع به إلى الاهتمام، حتى قبل بلوغه عامَه الثالث، بما كان يجري في غرفة والديه!

ويرى البيولوجيون وعلماء الاجتماع وعدد كبير من المحلِّلين النفسيين اليوم في الدافع إلى النموِّ والتفتح عند الإنسان حاجةً إنسانية لا تقل عن الجنس بدائية. لقد بات الشوطان "الفمي" و"الشرجي" (يستمد الطفل لذة جنسية من الفم أولاً، وهو يرضع ثدي أمه، ثم من حركات مصرانه) يُعتبَران الآن شوطَيْ نموٍّ يتأثران بالوسط المحيط والثقافة والحضارة بما لا يقل عن الجنس. فمع بزوغ الأسنان يمكن للفم أن يعضَّ أيضًا، لا أن يمصَّ وحسب. هذا وإن العضلات والمخ تنمو هي الأخرى، ويصبح الطفل قادرًا على ضبط نفسه والفهم؛ وحاجته إلى النموِّ وظمأه إلى المعرفة في الخامسة، أو الخامسة والعشرين، أو الخمسين، يمكن لثقافته أن تلبيهما، أو أن تكبتهما، تقمعهما، تسبِّب ضمورهما، تستحثهما أو تثبِّطهما، على حدٍّ سواء؛ وهذا يصح كذلك على حاجاته الجنسية.

لقد شرع علماء الاجتماع والمحلِّلون الغربيون (الأمريكيون منهم بصفة خاصة)، منذ الأربعينات، في إعادة النظر في النظريات الفرويدية، مع أخذ السياق الثقافي بعين الاعتبار أكثر فأكثر؛ لكنهم – ويا للعجب! – ظلوا يعتنقون النظريات الفرويدية حول الأنوثة لتفسير اضطرابات المرأة الأمريكية.

لا ريب أن فرويد كان يرى في النساء كائنات دنيا، مبهمة الدوافع، تكاد لا تنتمي إلى الجنس البشري. كان يرى فيهن "دمى" لا تصلح إلا للحب، حبِّ الرجل وإشباع شهواته. وقد ترعرع فرويد في ظلِّ هذه الفكرة التي نحتتْها ثقافتُه – ليست ثقافة أوروبا في نهاية القرن التاسع عشر[2] وحسب، بل وتلك الثقافة التلمودية العبرية التي تجعل الرجل يقول في صلاته اليومية: "الحمد لك يا رب أنك لم تخلقني امرأة"، فتردِّد المرأة وراءه في صلاتها خانعة: "الحمد لك يا رب أنك خلقتني بحسب مشيئتك"!

كانت والدة فرويد امرأة جميلة، وزوجة لينة العريكة لرجل يكبرها بمرتين. وكان والده "ربًّا" للأسرة، يتمتع بالسلطة المطلقة، التقليدية في الأسر اليهودية في تلك الفترة التي كان ما يزال للرجل فيها اليد الطولى على كلِّ ما يتعلق بشؤون أسرته. كانت الأم تعبد تسيغموند الفتى، بكرها، وكانت بحدسها الصوفي تتنبأ له بمستقبل مجيد؛ ويبدو للناظر أنها لم تكن موجودة إلا لتلبية أتفه رغباته. ولعل ذكريات الغيرة الجنسية التي شعر بها فرويد نحو والده (الذي كانت الأم تلبِّي رغباته هو الآخر) هي أصل نظريته في المركَّب الأوديبي. ومع زوجته، مثلما مع أمِّه وشقيقاته، كانت حاجاته ورغباته وأمانيه هي الشمس التي تطوف حولها حياة الأسرة. فعندما كان بيانو شقيقاته يزعجه في أثناء دراسته "كان البيانو يختفي"، كما تتذكر آنا فرويد بعد سنوات، و"بزوال الآلة [...] يتلاشى كل أمل لشقيقاته في أن يصبحن موسيقيات".

لم يكن فرويد يرى في ذلك أية غضاضة من شأنها أن تؤثر في النساء بصورة من الصور. لقد كان من الطبيعي على المرأة أن يكون الرجل "قوَّامًا" عليها وأن تحسده حتى المرض. إن قارئ رسائل فرويد التي كتبها إلى خطيبته وزوجة المستقبل إبان سنوات خطوبتهما الأربع (1882-1886) لا بدَّ أن يتميَّز فيها نبرةَ تورفلد المتعطِّفة عينها في مسرحية بيت الدمية، عندما يأخذ على نورا إرادتها أن تنال كرامتها الإنسانية. كان فرويد آنذاك يشرع في سبر أسرار المخ البشري في مختبره في فيينا، وكان على مارثا – "طفلته الحلوة"، كم كان يسميها – أن تنتظر أربع سنوات في كنف أمِّها قبل أن يأتي لأخذها إلى بيت الزوجية. وهذه الرسائل تُشعِرنا أنه كان يرى في زوجته مدبرة منزل–طفلة، في حين أنها كانت آنذاك قد تخطَّت مرحلة الطفولة ولم تكن بعدُ قد أصبحت مدبِّرة منزل! من هذه الرسائل نقتطف المقطع التالي:

أعلم بالطبع كم أنتِ حلوة، وكيف أن في وسعك أن تجعلي من المنزل جنة، وكم ستشاركينني اهتماماتي، وكم ستكونين مرحة، وإلى ذلك مجتهدة. سوف أترك لك تدبير المنزل كما تستحسنين، ولسوف تكافئينني بحبِّك الحنون، وأنتِ تترفعين عن هذه السخافات التي كثيرًا ما تستجلب الزراية على النساء. وبقدر ما تسمح لي نشاطاتي سنطالع معًا كتبًا تتفق مع ذوقينا، ولسوف ألقِّنك أشياء لا يمكن لها أن تهم فتاة مادامت لم تدخل كنف زوجها.

إن الخليط "الفكتوري" من الكياسة والتعطف الذي نقع عليه في نظريات فرويد العلمية في النساء يتضح في رسالة 5 تشرين الثاني 1883 التي تسخر من أفكار جون ستوارت مِلْ حول "تحرر النساء ومسألة المرأة عمومًا":

لعل تغييرات في التربية قادمة يومًا لتضع حدًّا لحنان المرأة هذا الذي يطالب بالحماية، مع كونه بهذا السلطان؛ ولعلها تكون عندئذٍ قادرة على كسب قوتها كالرجل. ولعله كذلك، ضمن هذه الإمكانية، ليس ثمة سبب يدعو إلى لبس الحداد على أشهى ما يمكن للعالم أن يقدِّمه لنا، ألا وهو مثالنا عن الأنوثة. لكني أظن أن كلَّ إصلاح قانوني أو إداري جهيضٌ لا محالة من جراء أن الطبيعة، حتى قبل أن يبلغ الكائن البشري سنَّ شغل موقع في المجتمع، سبق لها أن عيَّنتْ مصير المرأة بلغة الجمال والفتنة والرقة. فللقانون وللعرف أيضًا أن يمنحا النساء جملة من الأشياء التي كانت ممنوعة عليهن حتى الساعة؛ ويبقى مع ذلك أن قَدَر المرأة سيبقى على ما هو عليه: قَدَر شيء شهيٍّ مرغوب في الشباب؛ وقَدَر زوجة محبوبة في سنِّ النضج.[3]

وبما أنه من الجليِّ أن نظريات فرويد في جملتها تقوم على التحليل النفسي الذاتي النافذ والمتواصل الذي كان يُخضِع نفسه له، وبما أن الجنس كان في نظره المفتاح إلى نظرياته كافة، يحسن بنا أن نقف على عدد من المفارقات المتعلِّقة بحياته الجنسية نفسها. لقد لاحظ العديد من الجهابذة أن كتاباته تدور حول الجنس الطفلي أكثر منها حول جنس الإنسان الراشد. ويشير إرنست جونز، مؤرخ سيرته، أنه كان، بالقياس إلى عصره حتى، استثنائي التعفف والتزمت والأخلاقية. لم يكن الجنس يحظى منه إلا بالقليل من الاهتمام. وهو فتى صغير، لم يتعلق بامرأة سوى أمِّه؛ وفي الثالثة عشرة، كَلِف بـ"أميرة بعيدة"، فتاة اسمها جيزيل؛ وفي السادسة والعشرين خطب ودَّ مارثا. بيد أنه خلال الأشهر التسعة التي صرفها بالقرب منها في فيينا لم يُصِبْ نجاحًا يُذكَر لأنها، على ما يبدو، لم ترتح إليه ولم تستطع أن تكون على سجيَّتها معه؛ إنما لم تكد تُباعِد بينهما مسافةٌ مريحة حتى نشأ بينهما واستمر أربع سنوات "هوى كبير"[4]، انشرح في تسعمائة رسالة حب. وبعد زواجهما، يبدو أن الهوى تخامَد، على الرغم من أن غالبية مؤرِّخيه يُجمعون على أنه كان أكثر تشددًا من أن يفتش خارج نطاق الزواج عن أية متعة جنسية.[5] ولعل الأصح أن نقول إن امرأة واحدة – مارثا – بَلْوَرَتْ في حياة فرويد كراشد إمكانات الحبِّ والكره إبان السنوات الأولى من خطبتهما. ومن بعدُ انصرف إلى تركيز ملَكاته الهوائية على الرجال. إن جونز – مؤرِّخه المُجِلَّ – يؤيِّد وجهة النظر هذه بقوله:

لعل انحراف فرويد عن المعدَّل في هذا المجال، كما وازدواجيته الجنسية الذهنية البارزة جدًّا، أثَّرا بعض الشيء في نظرياته.

ويشير مؤرِّخون أقل إجلالاً، كما يشير جونز نفسه، إلى أن المرء لا يملك، إذ يفكر بفرويد، إلا أن تخطر في باله امرأةٌ عانس متزمِّتة ترى الجنس في كلِّ مكان!

إن في حوزتنا لمحات عن "نوايا" فرويد حيال مارثا: "نوايا جهيضة دومًا في جعلها كائنًا على صورته"، عندما يكتب إليها في أنها يجب أن "تبقى على براءة طفلة عمرها بضعة أسابيع وأن تسارع إلى نسيان كل لذوعية". لكنه إنما يخاطب نفسه بهذه المآخذ:

على المحبوبة ألا تصير لعبة، بل رفيقة قادرة ما تزال على قول الكلام العاقل عندما يفقد السيد الصارم كلَّ حكمة. وأنا قد أردت كسر عفويتها لإرغامها على الاحتفاظ برأيها حتى تصير متأكدة من رأيي.[6]

لقد ساء فرويد أن يرى أنها لم تكن تتجاوب مع الاختبار الأساسي، ألا وهو "مواحدة تامة معه، مع آرائه، ومشاعره، ونواياه". لم يكن يحس بها "له" مادام لا يستطيع أن يتعرف فيها إلى "سمته". ويتابع جونز:

أغلب الظن أن مارثا كانت تخاف هذا العاشق اللجوج؛ فكانت تلجأ، كما يحدث غالبًا في الحالات المماثلة، إلى الصمت.

بيد أنه كتب إليها أخيرًا:

إني متخلٍّ عما كنت أطالب به. لستُ في حاجة إلى رفيق السلاح الذي كنتُ آمل أن أجعلكِ إياه. أنا من القوة بحيث أجاهد وحدي. [...] ستبقين محبوبتي الغالية المعبودة.

بذا تنتهي، كما يعلِّق جونز، "اللحظة الوحيدة من حياته التي تثبَّتتْ فيها انفعالاتٌ كهذه (من حبٍّ وكره) على امرأة" بعينها.

كان زواجه بمارثا زواجًا تقليديًّا، لم يتكلَّل بحبٍّ كبير. ويصفه جونز كما يلي:

كان زواجهما ناجحًا كما قلما تنجح الزيجات. كانت مارثا بالتأكيد زوجة وأمًّا ممتازة. وقد أسفرت عن كونها منظِّمة جديرة بكلِّ إعجاب – من هذا النوع النادر من النساء اللواتي كن يستطعن الاحتفاظ بالخَدَم إلى ما شاء الله –، لكنها لم تكن قط Hausfrau [ربة منزل] ممَّن كنَّ يصادَفن في المجتمع. كانت راحةُ زوجها ولذته يأتيان دومًا في المقام الأول. بيد أنه لا يُنتظَر منها أن تتبع تحليق مخيِّلة زوجها بأكثر مما كان يتبعه بقية الناس.

كان الوسط الذي عاش فيه فرويد يقبل خضوع المرأة غير المشروط للرجل كمسلَّمة في جملة المسلَّمات السائدة. ويبدو أن غياب إمكانية الفعل المستقل أو الحياة الشخصية كثيرًا ما ولَّد ضيق المرأة وتثبُّطها وغيظ الزوج – وهي سمات تميِّز زواج فرويد. فموقف فرويد حيال النساء عمومًا، كما يلخِّصه جونز بدقة، "كان يمكن أن يوصف نوعًا ما بالبِِلى؛ ومن اليسير عَزْو ذلك إلى بيئته وعصره، لا إلى عنصر شخصي".

أيًّا كانت آراء فرويد الفكرية بهذا الخصوص، فإننا نجد في كتاباته ومراسلاته إشارات عديدة إلى موقفه العاطفي. على أن من الغلوِّ القول إنه كان يعتبر الذَّكَر سيد الأرض، لأن طبيعته كانت خالية من أيِّ أثر واضح للغطرسة؛ إنما لسنا نجانب الصحة في قولنا إنه كان يرى في الجنس اللطيف "ملائكة" أنيطت بهنَّ مهمةُ السهر على راحة الرجال وتلبية حاجاتهم. إن رسائله، كما واختياره لحبِّه، يبيِّنان أن ذهنه كان خاليًا إلا من نموذج موضوع جنسي واحد، ألا وهو نموذج المرأة الطيِّعة.

وليس ثمة مجال للشك في أن فرويد كان يجد النفسانية المؤنثة أشد إبهامًا من نفسانية الرجال. لقد أسرَّ ذات يوم إلى تلميذته ماري بونابرت:

إن السؤال الكبير الذي لم يلقَ جوابًا قط، والذي لم أقدر بعدُ على الإجابة عليه إبان ثلاثين عامًا من دراسة النفس المؤنثة، هو: ما هي رغبات المرأة؟

وعلى الرغم من أهمية الجنس في النظريات الفرويدية، يساورنا ونحن نقرأه انطباعٌ بأن الجماع يبدو له فعلاً مخزيًا؛ فمادامت النساء يظهرن له بهذا الصدد متدنِّيات في نظر الرجال، كيف يمكن للأمر أن يكون غير ذلك؟ هذه النظرات، بالطبع، لا نقع لها على أثر في نظرياته؛ بيد أن فكرة الزنا بالمحارم incest، بحسب فرويد، هي التي كانت تجعل الرجل "يعتبر الجماع شيئًا مخزيًا، من شأنه أن ينجِّس ويدنس أكثر من الجسد نفسه".

على كلِّ حال، كان من البديهيات، عند فرويد، أن النساء كائنات متدنِّيات؛ وهاهنا نجد مفتاح نظريته في الأنوثة. فالقوة الفاعلة لشخصية المرأة – بحسب نظريته – هي "اشتهاء القضيب" التي تنتقص من شأنها في نظر نفسها إلى حدٍّ لا يستهان به، "كما وفي نظر الصبي الصغير وفيما بعد، ربما، في نظر الرجل". هذه الرغبة تقودها في الحالات السوية إلى تشهِّي قضيب زوجها؛ وهي رغبة لا يتم إشباعها قط مادامت لم تنجب ابنًا ذَكَرًا. وباختصار، فهي ببساطة "رجل ناقص" يعوزه شيء ما.

يتأسَّس مفهوما "عقدة الخصاء" castration complex و"حسد القضيب" penis envy، اللذان هما فكرتان أساسيتان في المذهب الفرويدي، على مصادرة أن "النساء أدنى بيولوجيًّا من الرجال". فماذا كان فرويد يقصد على وجه الدقة بمفهوم "اشتهاء القضيب"؟ إنه يقول في محاضرة حول "نفسانية النساء":

لدى رؤيتها الأعضاء التناسلية للجنس الآخر تكابد البنتُ الصغيرة عقدة الخصاء هذه. إنها سرعان ما تلحظ الفارق وتخمن قطعًا منطوياته. إنها تشعر بالإحباط، وتصرح تكرارًا أنها تتمنَّى أن يكون لديها عضو مماثل، وتقع بذلك ضحية الرغبة بامتلاك قضيب، الرغبة التي تترك آثارًا لا تمَّحى في نفسيتها وتكوين طبعها. وهذه الرغبة، حتى في أحسن الأحوال، لا تنكبت بدون صرف طاقة ذهنية كبيرة. إن تعوُّد البنت الصغيرة على عدم امتلاك قضيب يخصُّها لا يعني أنها تقبل بطيبة خاطر حرمانها منه. إنها، على العكس، تقلع مدة طويلة عن الرغبة في امتلاك واحد وتظن، عددًا مدهشًا من السنين، أنها ستتمكن من إشباع هذه الشهوة؛ وحتى عندما تبرهن لها وقائعُ الحياة منذ أمد بعيد على بطلان رغبتها، يبيِّن تحليلٌ معمَّق أن هذه تلبث مدفونة في الخافية وتبقى مركز تراكم للطاقة.

يقود هذا الوضع إما إلى تثبيط جنسي تام وإلى عُصاب، وإما إلى "مركَّب رجولة" مردُّه إلى رفض التخلِّي عن نشاط "قضيبي" [أي نشاط يميز الذكر عادة]، وإما أيضًا إلى "أنوثة سوية" تجعلها تكبح نشاطاتها هي وتحيل "اشتهاءها للقضيب" إلى أبيها. على أن وضع المرأة لا يستقر إلا عندما تُستبدَل بهذه الرغبة في القضيب الرغبةُ في طفل – حيث يحل الطفل محلَّ القضيب.

لكن تخطِّي عوزها الطبيعي واشتهاء القضيب الذي ينجم عنه هو من الصعوبة بحيث إن الأنا الأعلى للمرأة – وعيُها، مُثُلها العليا – لا تتحدَّد قط بالوضوح والتمام الذي يتحدَّد به وعيُ الرجل ومُثُله العليا. لهذه الأسباب عينها، يقل اهتمام النساء بالحياة الجماعية شدةً عنه لدى الرجال، "وإمكانياتهن على تصعيد الغرائز تكون أضعف". وأخيرًا لا يستطيع فرويد إلا أن يذكر "انطباعًا يتجدد بلا توقف خلال عمل التحليل"، ألا وهو أن التحليل لا يستطيع الكثير من أجل النساء، من جراء العوز الملازم لأنوثتهن!

عندما يُؤوَّل اشتهاءُ القضيب هذا، كما أُوِّلت المفاهيم الفرويدية الأخرى، على ضوء المعارف الحديثة، لا بدَّ أن يتضح أن ما عزاه فرويد إلى البيولوجيا يعود، في الأعم الغالب، إلى التطويع الناجم عن الثقافة؛ وإن لَمِنَ المفهوم أن البيئة الثقافية–الاجتماعية المحيطة في القرن التاسع عشر تعطي النساء أسبابًا عديدة ليحسدن الرجال؛ فوضعهن كان الوضع عينه الذي حاولت أن تتصدى له الحركة النسوية. فعندما تتوق امرأة سرًّا إلى الحرية، إلى المنزلة، إلى الملذات التي يتمتع بها الرجال، يمكن لأحلامها أن تختصر لها الطريق، فتجعلها تتمنَّى أن تكون رجلاً وترى نفسها مزوَّدة بذلك "الشيء" الذي يجعل الرجال بلا مراء مختلفين عنها، ألا وهو القضيب. بالطبع، يتعين عليها عندئذٍ أن تخفي هذه الرغبة، هذا الغضب الدفين؛ يتعين عليها أن تحاكي الأطفال، أن تقبل اعتبارها مجرد "دمية"، مجرد ألعوبة، لأن مصيرها متوقف على الفتنة التي تمارسها على الرجال.

لكن هذه الرغبة، في قرارة نفسها، يمكن أن تفسد وتجعلها تتقزز من الحب. ولئن كانت تحتقر نفسها سرًّا، وتحسد الرجل على كلِّ ما ليس لديها، في وسعها أن تعرف مختلف مراحل الحب، أو حتى تهيم حتى العبادة (= العبودية؟). لكن أنَّى لها أن تعرف الحبَّ الطَّلْق الفَرِح؟! إن من الحيف أن نكتفي بتفسير سطحي لذلك الحسد الذي تحس به المرأة نحو الرجل – لاحتقارها لنفسها – يختزل المسألة برمَّتها إلى مجرد عدم قبولها لفارقها الجنسي – اللهم إلا إذا اعتقدنا فعلاً بأن المرأة أدنى من الرجل. إن رغبتها في المساواة، والحالة هذه، مردها بالطبع إلى عُصاب مستحكم.

من المقبول اليوم عمومًا بأن فرويد لم ينكب بجدية قط (حتى عند الرجال) على دراسة الأنية أو الأنا ego، بما هي هذا النزوع إلى الانضباط، إلى بلوغ علاقات مُرضية مع المحيط. وإن المحلِّلين الذين أفلتوا من عقال الرؤية الفرويدية واهتموا بدراسة حاجة الإنسان الماسة، دائمًا وأبدًا، إلى التفتح والنمو، توصلوا إلى الاعتقاد بأن هذه الحاجة هي أصل الحاجات الإنسانية الأخرى جميعًا، وبأن أيَّ تدخُّل مشوِّش على هذا الصعيد، مهما تكن طبيعته، من شأنه أن يحرض اضطرابات نفسية. إن الحاجة الجنسية ليست إلا بُعدًا واحد من الأبعاد الكامنة في الإنسان. ولا ننسينَّ أن فرويد كان يعتقد أن كافة الأعصبة neuroses ذات منشأ جنسي حصرًا؛ من هذا المنطلق تناول نفسانية النساء من منظور علاقاتهن الجنسية مع الرجال. بيد أن كافة النسوة اللواتي استشف لديهن مشاكل جنسية كنَّ، بلا ريب، واقعات فرائس مشكلات حادة ذات علاقة بنموٍّ نفسي تعرَّض لكبح ولتضييق شديد عليه، بحيث حيل بينهن وبين بلوغ حالة امتلاء إنساني حقيقي، مما جعلهن يُبدين "أنا" قاصر وطفولي. فالمجتمع الأوروبي آنذاك، بحرمانه القاطع للمرأة من كلِّ فرصة للتعلم والاستقلالية، حال دونها وبلوغَ الامتلاك الحقيقي لزمام أمورها، والسعيَ إلى اهتمامات ومُثُل من شأنها أن تحثَّ قُدُمًا نموَّها النفسي. لقد عاين فرويد النواقص – وهذا أمر لا يُنكَر عليه –، لكنه لم يرَ فيها إلا عواقب اشتهاء القضيب، وفسَّر حسد المرأة للرجل بداء جنسي يستحكم فيها من بعد أن تدرك الفارق الجنسي الذي يميِّزها عن الرجل. لكنه، بعَزْوِه إلى اشتهاء القضيب توقَ النساء إلى المساواة مع الرجال، ألم يكن بذلك يطرح وجهة نظره الشخصية: ألا وهي أن النساء ليس بمستطاعهن البرهنة على مساواتهن مع الرجل إلا إذا توصَّلن إلى امتلاك قضيب!

لئن كان فرويد ومعاصروه يحكمون بتدنِّي المرأة من جراء مشيئة إلهية لا رجوع فيها، فإن العلم اليوم لم يعد يسوغ مثل هذا التصور. لقد بتنا نعلم الآن أن هذا التدنِّي كان ناجمًا عن غياب التربية الجنسية الصحيحة وعن حَجْر المرأة في بيت الزوجية. أما وقد ثَبَتَ اليوم علميًّا التكافؤ بين ذكاء الرجل وذكاء المرأة، بين القدرات الذهنية لكلٍّ منهما، وتمَّ الاعتراف بتكافؤ الاستعدادات من حيث المبدأ لدى كلٍّ من الجنسين – اللهم إلا في مجال القوة العضلية المحضة –، فإن أية نظرية قائمة في أساسها على التدنِّي الطبيعي للمرأة بالقياس إلى الرجل لهي من قبيل المهزلة، إن لم نقل الرياء الديني. بيد أن هذا التصور مازال قائمًا في أساس النظرية الفرويدية في النساء، وذلك على الرغم من قناع الطبيعة الجنسية الدائم الذي تتوارى خلفه.

لا مراء في أن المجتمع البشري قد تطور إلى حدٍّ كبير بالقياس إلى ما كان عليه في القرن التاسع عشر. لكننا مازلنا نرى تلامذة فرويد، رجالاً ونساءً، يطبقون نظرية اشتهاء القضيب إلى يومنا هذا تطبيقًا أعمى. يمكننا القول، في ضوء المعارف الجديدة ومسيرة الثقافة والتفتح الإنسانيين، أن النساء اللاتي نشأن على الحقوق والحرية النسبية والثقافة، التي كانت النساء شبه محرومات منها في القرن التاسع عشر، هن مختلفات عن النساء اللواتي حاول فرويد مساعدتهن. ولعل الأسباب التي كانت تدعوهن إلى حسد الرجال قد تراجعت نظريًّا إلى حدٍّ كبير. بيد أن تأويل النظريات الفرويدية واستعمالها استعمالاً حرفيًّا يدعو للعجب قد جعلا مفهوم اشتهاء القضيب يُحاط بهالة خاصة، وكأنه موجود بمعزل عن النساء اللواتي رُصِدَ لديهن، وكأن رمز المرأة في العصر الفكتوري ينطبق على النساء كلِّهن، في كلِّ زمان ومكان.

ليس قصدنا فيما ذهبنا إليه القول إن استعمال النظريات الفرويدية، الذي أفضى عمليًّا إلى غسل أدمغة عدة أجيال من النساء "المثقفات"، إنما هو جزء من مؤامرة فرويدية! فبصرف النظر عن الأخطاء التي وقع فيها فرويد نتيجة تأثُّره بروح العصر الذي عاش فيه، يتحمل مسؤولية هذا الأمر كذلك المتحمِّسون للنظرية الفرويدية الذين روَّجوا بكلِّ حسن نية لآراء معلِّمهم، كما والمدرِّسون المهمِلون الذين زيَّفوا الأفكار، والمعتنقون الجدد الذين أضحوا "مَلَكيين أكثر من الملك"، على حد قول المثل الفرنسي، ومهووسو الانتهازية، معذَّبين ومعالِجين ومستفيدين من هذا العذاب. على أن المسألة برمَّتها قد تيسَّرت بتضافُر قوى الناس وحاجاتهم في وقت من الأوقات.

لقد كتبت إليَّ فرانسواز كلواريك، المحلِّلة الفرنسية الفرويدية المولَعة بسوريا:

خلال سنوات ممارستي للتحليل كثيرًا ما وجدت نفسي مضطرة إلى تطبيق النظريات الفرويدية في المرأة على الحياة النفسية لمعاوِداتي بما لم يكن يرضيني قط. ولقد توصَّلتُ إلى نتيجة مفادها أن "حسد القضيب" هذا ببساطة غير موجود أصلاً. فلقد صادفتُ نساء راضيات تمامًا على الصعيد الجنسي والمهبلي، لكنهن، مع ذلك، لم يبلغن لا النضج النفسي، ولا التكيف الاجتماعي، ولا حتى الحدَّ الأدنى من التفتح. لقد تعيَّن عليَّ أن أصغي ما يقرب من السنتين إلى امرأة شابة قبل أن أتلمَّس مشكلتها الحقيقية: لقد كانت أمًّا وربة منزل، لكنها ما كانت لتكتفي بذلك. لقد حلمتْ ذات يوم بأنها تدرِّس في إحدى المدارس. لم يكن في وسعي أن أربط هذه الحاجة الماسة التي انكشفت لنا إلى اشتهاء القضيب؛ إذ لا ريب أنها كانت تعبيرًا عن نضج يفتش عن توكيد لذاته. عندئذٍ أسقط في يدي. قلت لها صاغرة: "لا طاقة لي على تخليصك من هذا الحلم بالتحليل. عليك أنتِ أن تفعلي شيئًا."

قالت لي هذه المحلِّلة الموهوبة أيضًا إن خبرتها هَدَتْها إلى ضرورة "رمي الكتاب جانبًا والإنصات إلى المريض" إذا لم تجد في الكتاب تفسيرًا مقنعًا لحالته. لكن شجاعة هذه المحلِّلة التي جعلتْها، على إخلاصها لطروحات فرويد الأساسية، تنصاع للواقع الملموس أكثر من التجريد النظري، مازالت، بكلِّ أسف، حالة نادرة بين المحلِّلين، من فرويديين وسواهم. وكانت النتيجة أن غالبيتهم اكتفوا بالكتاب، وتمسَّكوا بالنظريات الفرويدية بحذافيرها – حتى لقد تبنَّتها نساء "مثقفات" لم يستلقين قط على أريكة التحليل، مكتفيات ببعض القراءات والنقاشات العامة.

إن الجمهور العريض مازال حتى الساعة يجهل أن هذا التفتح الحاذق للشعور بالإحباط، الذي ما فتئ يقض مضجع نساء كثيرات، قد لا يمت إلى الجنس بصلة. ولئن صحَّ أن عددًا من المحلِّلين لا يتردد في تقويض بعض النظريات، إخلاصًا منهم للحقيقة وحرصًا على فهم معاوِديهم، لا تصل نتائجُ أبحاثهم إلى الجمهور العريض دومًا.

يفسَّر هذا القبول الأعمى للمذهب الفرويدي – جزئيًّا على الأقل – بالأهمية التي يعوِّله هذا المذهب على المسائل العويصة التي تطرحها الوقائع الموضوعية. فلقد بات علم النفس الفرويدي في نظر الناس، بعد الأزمة الاقتصادية، وبعد الحرب، العِلْم الذي يضع في متناولهم الخطوط الناظمة للسلوك البشري، ويقدم الدواء للمعذَّبين منهم. حتى إنه صار في نظر الكثيرين في الغرب (ولاسيما في الولايات المتحدة) الدواء الإيديولوجي الشافي من كلِّ الأدواء، والدين الجديد القادر على تفسير خفايا النفس البشرية (بما فيها الشعور الديني نفسه). وبذلك أمسى هدفُه، بدلاً من أن يكون علاجيًّا، تسلية ذهنية وترفًا فكريًّا في حياة الذين باتتْ همومُهم تتعدى القضايا الدينية والقومية والمالية، وملُّوا إحساسهم بالمسؤولية عن إبادة الهنود الأمريكيين وشنق الزنوج واستعمار بلاد العالم الثالث ومعسكرات الاعتقال ومجاعات الصومال وأوبئة أفريقية. هؤلاء وجدوا في العقيدة الفرويدية مهربًا عمليًّا من كلِّ المسائل المقلقة التي من شأنها أن تفسد عليهم مذاق وجبة شهية أو لذة نزهة في السيارة أو مشاهدة مباراة بيسبول منقولة مباشرة بالأقمار الصنعية. لقد هوَّن عليهم تدبُّر أفكار فرويد التنصل من المسائل المزعجة والتنعُّم بلا وازع من "ضمير" (= أنا أعلى أبوي ضاغط) بالبحبوحة ووسائل الرفاهية. ولئن كان هذا التيار النفساني الذي يضع الجنس في منزلة الفضيلة يحلِّل كلَّ الخطايا بتسويغها، ويشكك في قيمة أسمى الأشواق والتطلُّعات العقلية والروحية للإنسان، بوصفها تعويضًا عن "أفعال خائبة"، ولئن عاد هذا "الدين" الجديد بِضَرَرٍ على النساء أكبر منه على الرجال، ما من أحد تعمَّد ذلك!

بيد أن التحليل النفسي، بما هو علاج، لا يتحمل وحده مسؤولية هذا الوضع. فقد انتشرت النظريات الفرويدية والفرويدية الكاذبة كالنار في الهشيم، واخترق الفكرُ الفرويدي علمَ الاجتماع والأنثروبولوجيا والتربية والأدب، محولاً إياها تحويلاً جذريًّا في بعض الأحيان، وفَعَلَ الأنا الأعلى (كما هو شأنه دائمًا بحسب فرويد) في عدد كبير ومتنامٍ من النساء الشابات القابلات للتأثير، وبذلك ظلَّ الماضي حيًّا.

إن البشرية لا تحيا قط في الحاضر تمامًا: فتقاليد شعب أو ثقافة لا تخضع لتأثير الاكتشافات الجديدة إلا ببطء شديد؛ ومادامت هذه تفعل في الأنا الأعلى، فإنها تؤدي دورًا هامًّا في حياة الإنسان، في معزل عن العوامل والشروط الاقتصادية.

لقد كانت النظرة الاختزالية reductionist إلى المرأة – تلك النظرة التي رفعتْها النظرية الفرويدية إلى منزلة الحقيقة العلمية – أول حجر في الجدار الدفاعي الذي ضيَّق على المرأة حياتها وحدَّ من مستقبلها. ذلك أن فتيات ممَّن تابعن تحصيلهن العالي، وأصبحن من الاستقلالية والأهلية بحيث يلعبن دورًا فعالاً في الحياة الإنسانية، وَجَدْنَ عددًا من أكابر عقول عصرنا الحالي ينصح لهنَّ بالعودة إلى الدار، وبالعيش فيها حياة مختزَلة إلى أبعاد "بيت الدمية"!

*** *** ***


[1] هذه النعوت كلها ليست من اختلاقي؛ فلقد سمعتها فعلاً على ألسنة بعض الرجال.

[2] راجع مسرحية هنريك إبْسن بيت الدمية للاطلاع على وضع المرأة في المجتمع الأوروبي آنذاك.

[3] E. Jones, The Life and Work of Sigmund Freud, a one-volume edition, edited and abridged by L. Trilling and S. Marcus (1961).

[4] بالفرنسية في النص: « une grande passion ».

[5] غير أن بعض المؤرخين يرون غير ذلك.

[6] Jones, op. cit.