عولمة الرعب

أميركا تقود العالم إلى نهاية التاريخ

 

أنور خطار

 

لو قُيِّض لكتاب عولمة الرعب الصدور قبيل 11 أيلول، كما كان مقرراً، لاعتُبِر في نظر الكثيرين أشبه بالنبوءة؛ ليس لأن مؤلفه يوسف الأشقر كان يتوقع هذا الحادث المروِّع تحديداً، بل لأن كتابه كان يهدف إلى التحذير من كارثة أمنية ستحلُّ بالمجتمع الأميركي قبل نهاية ولاية الرئيس بوش. لكن الحدث الأميركي سبقه، كما يقول يوسف الأشقر في مقدمة كتابه. أما وقد تأكدتْ هذه المخاوف فقد لجأ الكاتب إلى إعادة صوغ بعض فصول الكتاب بغية التركيز على المرحلة الجديدة، مرحلة البحث في الخيارات الأمنية والحضارية المقبلة، وكيفية التصدي للخطر الذي يواجه الإنسانية برمَّتها، للمرة الأولى في تاريخها.

الكتاب الذي استغرق عامين ونصف بحثاً يضاف إلى سجل يوسف الأشقر، السياسي الملتزم [...]، والباحث في التاريخ الاجتماعي والثقافي، والمتميز بالقدرة على رصد التحولات السياسية الكبرى في لبنان والمنطقة واستشرافها واقتراح حلول لها، بدءاً بدعوته إلى قيام "مجتمع الحرب" في دول المواجهة شرطاً لمواجهة المجتمع الحربي الإسرائيلي (1974)، وصولاً إلى كتابه عن السلم الإسرائيلي والحرب اللبنانية (1990)، إلى كتاباته في مسألة "الأمن في المتوسط"، إلى مشروعه الأخير (1992) حول "المجتمع المدني" في لبنان. ويأتي كتابه الأخير عولمة الرعب ليتجاوز في موضوعه وأهميته ما سبقه، أي يتعدى الأطر والمشكلات المحلِّية والإقليمية، ليطرح الصوت بأننا "قد نكون في هذا القرن نواجه مفترقاً حقيقياً في حياة هذا الكوكب، لاستمراره أو زواله"، على ما يورد في مقدمة كتابه.

العولمة، كما يراها الكاتب، عولمتان: الأولى واقع حُكْمي تتمثل في "ضغط الزمان والمكان" بفضل التقدم العلمي، وتحتمل خيارات لامتناهية، ولا يمكن الرجوع عنها؛ والثانية مشروع نظام عالمي جديد، سياسي وعسكري واقتصادي وثقافي، تقوده الإمبريالية–النيوليبرالية [الليبرالية الجديدة] المتمثلة بثالوث: الولايات المتحدة الأميركية، وقوة السلطات العظمى المالية، وإسرائيل. وهذه العولمة، تحديداً، هي مصدر الخطر على الإنسانية اليوم، وهي التي يجب مواجهتها قبل فوات الأوان.

وأخطر ما في هذه العولمة الجديدة أنها تأتي في لحظة تمتلك فيها القوى العظمى، أي الولايات المتحدة، إمكاناً لامتناهياً على التدمير العسكري المادي وتدمير اقتصاديات الدول والشعوب خلال أيام وأسابيع معدودات. يضاف إلى ذلك الخطر إمكان قيام شخص، أو عدة أشخاص، بعمليات إرهابية في الولايات المتحدة الأميركية تُستخدَم فيها أسلحة الدمار الشامل وتصيب عشرات أو مئات الألوف من الأميركيين الأبرياء. كما يمكن أن تحصل العملية هذه في إحدى المدن الإسرائيلية، وقد تتطور إلى محرقة كبرى في الشرق الأوسط، وتنتشر منه في العالم.

يجهد الكاتب في النسخة الأولى من كتابه في التنبيه إلى إمكان حصول مثل هذه العملية، ليس بالطائرات المدنية، كما حصل في نيويورك وواشنطن في 11 أيلول، بل بأحد أسلحة الدمار الشامل. كما يؤكد على وجود مثل هذا الخطر، بل على تزايد احتمالات حصوله، معبِّراً عنه بـ"عولمة الرعب"!

فما هي المعطيات الحسية والتحليلية التي يعتمدها الكاتب للوصول إلى مثل هذه المخاوف والتوقعات؟

أولُّها، في نظره، النظام العالمي الجديد الذي يمارس عنفاً مفرطاً، غير مسبوق في تاريخ البشرية، ضد الدول والمجتمعات في مختلف أرجاء العالم. ويرى أن العالم لن يستطيع تحمل هذا العنف طويلاً، ولا سيما المجتمعات المغلوبة على أمرها، التي قد تلجأ إلى الرد على العنف بالعنف وبأسلحة الدمار الشامل.

ثانياً، إن الولايات المتحدة ترى في العنف المضاد دليلاً على أنها لا تمارس القدر الكافي من العنف في وجه الإرهاب؛ وسوف تلجأ إلى ممارسة مزيد من العنف لاستئصال العنف الذي يهدِّدها، مما يؤدي حتماً إلى تصاعد العنف المقابل، وبالتالي، الوصول إلى حافة الكارثة.

ثالثاً، العقيدة الاعتدائية المتخلفة السائدة في دوائر السلطة الأميركية التي تعود مفاهيمها وخلفيَّتها إلى الإرث الإمبراطوري الروماني والى فلاسفة شركة الهند البريطانية. وهي عقيدة سلفية، اعتدائية بامتياز، ترى في الآخر الغريب والمجهول والبعيد وجهَ "البربري"، وتحاول، على غرار الإمبراطورية الرومانية، أن تختصر العالم إلى قرية كونية خاضعة لأحكام سلمها. وأخطر ما في هذه العقيدة أنها تخطئ عصرها؛ إذ لا أحد اليوم خاضع للأقوى مطلقاً، كما لا أحد هو الأقوى؛ فشريعة الغاب تغيرت معادلاتها.

رابعاً، إن السلطات المالية التوتاليتارية الجديدة المتحالفة مع القوة العظمى الأميركية لا تقل تعسفاً وعنفاً، وهي تمتلك قوة مالية ضاربة تسمح لها بتدمير اقتصاديات بلد وهزِّ استقراره ورهن مصير الملايين من المواطنين.

خامساً، الشراكة الأميركية–الإسرائيلية في هذا النظام العالمي الجديد تضاعِف من أخطار هذه العولمة على المنطقة العربية والدول الإسلامية، متجاوزة حتى المصالح الحيوية للشعب الأميركي نفسه، خاصة في الحرب الأميركية–الإسرائيلية المعلنة على الإرهاب التي تدور رحاها الآن في أفغانستان وفلسطين والعراق.

وتعود جذور هذه العلاقة في مسألة الإرهاب إلى اللائحة الأولى للدول المارقة التي أعلنتها واشنطن بعيد حرب تشرين عام 1973 والتي تواظب على إصدارها كل عام. ولا شك في وجود تنسيق أميركي–إسرائيلي في إعداد هذه اللائحة واختيار الدول الواردة فيها، التي هي، في معظمها، عربية أو إسلامية (خمس دول من أصل سبع).

ما نراه اليوم في أفغانستان وسواها إنما هو النسخة الأميركية لعقيدة مكافحة الإرهاب الإسرائيلي. فالولايات المتحدة اقتبست المشروع الإسرائيلي حرفياً ونقلته من المستوى الإقليمي إلى المستوى العالمي، وخيَّرت دول العالم بين معسكرين: معسكر الإرهاب ومعسكر مكافحة الإرهاب، تماماً كما يفعل شارون في الأراضي الفلسطينية المحتلة. لكن هل ضمنت سياسة شارون أمن إسرائيل لكي يضمن بوش أمن الشعب الأميركي باتباعه السياسة نفسها؟ "لا – يقول الكاتب – بل إن العالم سيكون أقل أمناً منه في أي وقت مضى، وإن أميركا لن تكون إلا جزءاً من هذا العالم المهدَّد في وجوده، إن لم نقل الجزء الأول المهدد."

وتحت عنوان "الحرب الأميركية بالنيابة عن إسرائيل" يتحدث الكتاب عن كيفية قيام الولايات المتحدة بالحرب الإسرائيلية، لا الحرب الأميركية، على العالمين العربي والإسلامي، على حساب مصالح أميركا، وبالتناقض مع قيم حياتها. ويتساءل عن المصلحة الأميركية في الحملة الإعلامية والسياسية التي تشنُّها واشنطن على المملكة العربية السعودية، أقرب حلفائها في المنطقة، أو على مصر، حليفتها الأخرى، متبنِّية المقولات الإسرائيلية فيها والحملات التشويهية ضدها؟ بل ما هي المصلحة الأميركية بالحرب المعلنة على العراق والاستمرار في حصاره حتى إعادته إلى العصر الحجري، كما وعد الرئيس بوش الأب؟ ويتساءل أيضاً كيف تم اختزال الدول الإسلامية إلى دول "مارقة" والمسلمين إلى منظمات "متطرفة"، كأن الإسلام يدين "الصدام" مع الآخر والاعتداء عليه! وكيف تخوض واشنطن معركة الصفاء العنصري الإسرائيلية ضد التعددية الدينية والحضارية في المجتمعات العربية والإسلامية: "ماذا يحصل في المجتمع الأميركي المُصْهِري لو أن جميع فئاته ذات الأصول المختلفة قررت أن تتبع مبدأ الحياة الإسرائيلية، فأقامت متَّحداتها على قاعدة الصفاء الإسرائيلي؟"

وفي الوقت الذي تتعزز فيه سطوةُ الولايات المتحدة على دول العالم، كبيرها وصغيرها على السواء، وفي الوقت الذي تجوب فيه أساطيلُها البحار والمحيطات، مما يعزِّز الاعتقاد بأن زعامة العالم كُتِبَت لها لقرون، يخلص يوسف الأشقر إلى استنتاج مغاير تماماً، إذ يقول: "إن هذا النظام قد يكون أقصر الأنظمة العالمية عمراً في التاريخ [...] والطريق التي اندفع إليها فيها هي سلسلة مطالب لا يستطيع التخلِّي عنها إلا إذا تخلَّى عن طريقه، ولا يستطيع الآخرون تلبيتَها إلا إذا أنكروا أنفسهم؛ والمأزق قائم منذ الآن، والطريق إلى نهاياتها القريبة."

خُصِّص الفصل الأخير من الكتاب للردِّ على مفهومي "الأمن" و"صدام الحضارات" اللذين يشكلان العمود الفقري الفكري للنظام العالمي الجديد. ويستعرض فيه المؤلف كيف أن الأمن الفيزيائي كان هاجس الإنسان الأول والحافز الثقافي الأول في التاريخ؛ وكيف أن هذا الحافز نفسه يعود اليوم بقوة إلى الواجهة نتيجة الطلاق الحاصل بين الأمن والثقافة والأخلاق في ثقافة الإمبريالية الأميركية الجديدة؛ وكيف أن هذا الافتراق يعود إلى قراءة خاطئة للتاريخ الذي كاد يُختزَل إلى تاريخ الحروب والقوى السياسية والعسكرية المتصادمة، بحيث بدا الأمن وليد الحرب والقوة العسكرية، بينما الأمن الحقيقي لم تؤمنه الجيوش ولا الأسلحة على اختلافها، بل العلاقات الإيجابية بين الناس والشعوب. إن هذه العلاقات هي التي نشأ بفضلها الوجدان الاجتماعي والوجدان الإنساني العام، وقد شكَّلت أهم الإنجازات الأمنية في التاريخ. وإن الأسلحة المادية، سواء كانت حجرية أو نووية، إنما هي وسائل تنضوي في النظام الأمني الأم وتكتسب منه جدواها ومعناها. والفرق بين أمن العلاقات وأمن الجيوش أن الأولى تفترض وجود "الآخر" شريكاً، بينما تراه الثانية غريباً ينبغي إخضاعه بالقوة أو طرده. وهذا المفهوم الأخير هو مفهوم الإمبراطورية الرومانية، وتعتمده القوة العظمى الأميركية في حربها ضد الإرهاب (البرابرة) أو بين قوى الخير وقوى الشر في العالم.

هذه الرؤية الخاطئة للأمن، وهذا الفكر المنغلق على الآخر، شكَّلا الأرضية الفكرية لنظرة صدام الحضارات، بل إن الصراعات أو الحروب هي النتيجة الحتمية لتلك الرؤية. وأخطر ما في هذه النظرية أنها جعلت من المسيحية دينين متصادمين: شرقي أرثوذكسي وغربي كاثوليكي–بروتستانتي–يهودي، وربطت المسيحية الغربية باليهودية لضمان مستقبل الصدامات المسيحية–المسيحية بالرعاية اليهودية. أما الإسلام فقالوا بحربه على الجميع، وبحرب الجميع عليه. لكن الحروب الدينية، متى اندلعت، لا تبقى متقيِّدة بحدود مصدرها، بل تصبح مولِّدة لغرائز ونزعات لا يمكن تصورها سلفاً، بل تضيق بمن حولها، فتفكِّك عالمها الصغير إلى مجموعة "آخرين" تصادمهم على أعنف مما تصادم "الآخر" البعيد.

ويخلص الكاتب إلى أن مستقبل الإنسانية يفترض نظرة أخرى إلى الإنسان والحياة والكون، داعياً إلى الصراع الداخلي داخل المجتمعات بالمعارضة، مع قوله بـ"صدام الحضارات" ما بين الشعوب والأديان والقارات؛ إذ ليس ثمة مجتمعات وحضارات خيِّرة وأخرى شريرة، بل ثقافات خيِّرة وثقافات شريرة وثقافات وسيطة في كل مجتمع. وبالتالي لا يكون إنقاذ البشرية في انتصار شعب على شعب ودين على دين، بل في انتصار ثقافة الخير على ثقافة الشر في قلب المجتمعات والأديان. فالظلاميَّات واحدة، أياً كانت أسماؤها، لكن ظلاميَّات العتاة والمتقدِّمين والأغنياء هي الأخطر لأنها قادرة على تغيير وجه العالم وعلى صنع ظلاميَّات أخرى – وبالجملة. وينهي يوسف الأشقر كتابه بالقول: "خلاصة صرختنا في هذا الكتاب أن هذا القرن لا يحتمل هذه الحروب؛ فقرن الحروب هذا قد يصبح آخر قرون التاريخ."

*** *** ***

عن النهار، الخميس 3 كانون الثاني 2002

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود