العنف واللاعنف

 

محمد الحبش

 

يطغى الحدث الأمريكي وذيوله على سائر الأحداث التي عصفت بالعالم خلال السنين الماضية، وكأن تاريخاً جديداً سوف يجري تدوينه بدءاً من الحدث إياه، وكأنه سوف يؤرَّخ لكل حدث آخر اعتباراً من... قصف أمريكا!

لماذا بدأت أولى حروب القرن أصلاً؟ ومتى ستنتهي؟ وهل يجب أن نطوي الأحلام الوردية التي صوَّرتْ للناس أن الحرب محض رواية تاريخية، وأن لا محلَّ للنشاط الحربي في العالم المتحضِّر؟ هل هذا يعني أن الـ"كبار" لا يعانون من شرور الحرب، وأن أرض الحروب هي فقط المدائن المتعبة، المثخنة، في العالم الثالث؟لة كثيرة مشروعة يطلقها المرء وهو ينتظر تَلاحُق الأحداث. والسؤال الذي لا بدَّ منه الآن هو: ما هو دور الفرد اليوم في عالم المتغيرات العاصفة هذا؟

العنف واللاعنف موقفان من الصراع باتا يطرحان سؤالاً يتردد اليوم في مسمع العالم كلِّه بعد أن أعلن الرئيس بوش انطلاق الحرب الأولى في هذا القرن؛ وهي حرب لا يستبعد عددٌ من الخبراء أن تصير نووية وشاملة بعد أن دفع الطرف الأمريكي سلفاً الخسائر المطلوبة لحرب عالمية كاملة!

لقد صار واضحاً الآن لماذا يقود أهلنا، في الداخل الفلسطيني وفي الشتات، كفاحاً مسلحاً في وجه إرهاب دولة منظَّم، بعد أن أدرك الشعب الأمريكي نفسه أن الإرهاب لا يقاوَم بالخطابات والمواعظ والمؤتمرات الدولية والمحلية، وأن السبيل الأوحد لمواجهة الإرهاب هو القوة، وأن العنف ينبغي أن يقاوَم بالعنف.[1]

ولكن، بعيداً عن الحدث الدولي وذيوله، يسوغ التساؤل: هل قُدِّر على ابن آدم أن يكون سعيُه معمَّداً بالدم؟ وهل ثمة أمل في بلوغ مجد الروح حيث ينبعث الدم نفسه أقحوان حياة من شقائق النعمان؟

في أثناء إحدى خطب الجمعة في مسجد الزهراء، سُعِدتُ بحضور السيد خالد مشعل، وهو رمز من رموز الجهاد الفلسطيني الذين نعتز بهم ونفخر، وهو الشهيد الحي الذي ظل رمزاً حياً للجهاد الإسلامي عدة سنين، وكانت الأمة تتابع جهاده وكفاحه. وهكذا فقد تعجلتُ في خطبتي وتوجَّهت إلى الإخوة المصلِّين وأخبرتهم بوجود خالد مشعل بيننا، الرجل حاضر الحجة، قويِّ العبارة، الذي كتب الله له القبولَ في نفوس الناس، واعتاد الناس في مسجد الزهراء أن يصغوا إليه كلما حضر مشاركاً في الصلاة.

وكان من لطائف التقدير أن العلامة المفكر الإسلامي جودت سعيد كان أيضاً يشارك في صلاة الجمعة نفسها. فكانت مناسبة فريدة أن نستمع من كلا رجلين يبدو أنهما على طرفي نقيض. ففيما يُختصَر مسار خالد مشعل بكلمتين: الكفاح المسلح، فإن العلامة الشيخ جودت سعيد يُعرَف بكونه رجل اللاعنف. وبالفعل طلبتُ إلى الجمهور الكريم أن يشاركنا هذه المناسبة. فها نحن في صحبة شيخ العنف وشيخ اللاعنف، ولا بدَّ أن نتفهم مواجع كلٍّ من الاتجاهين.

وبالفعل تحدث خالد مشعل... وكانت كلمة هائلة، تحدث فيها عن مبررات الكفاح المسلح، مستعرضاً تاريخ الجهاد في فلسطين، ومؤكداً حقيقة واحدة: المجتمع الإسرائيلي كلُّه مجتمع محارب وعسكري، ولا وجود لمدنيين في الكيان الإسرائيلي لأن مجرد وجود المحتل في الأراضي المغتصبة هو موقف عدواني. ومع ذلك فإن المجاهدين في عملياتهم يهاجمون، في المقام الأول، المواقع العسكرية أو التجمعات التي يتزاحم فيها العسكريون [كذا!].

وبدا واضحاً أن الحاضرين جميعاً متعاطفون مع خطاب مشعل وحماسه وعنفه. وهو ما جعلني ألتفت إلى الجمهور الكريم وأطلب إلى أستاذنا جودت سعيد أن يتولَّى الحديث عقب مشعل, وأن يبيِّن لنا الخيار الذي ينتهجه في مقاومة العنف بعد الحجج المفحِمة التي قدَّمها مشعل!

جودت سعيد كان واضحاً وهادئاً. وقد بدأ حديثه بالقول: "إن الأفق الذي تحدث أخي مشعل عن مواجهته هو العلاقة مع العدو – وليس لدي أيُّ تعديل على ما قدَّمه بهذا الصدد. واضح أنْ ليس بيننا وبين العدو إلا الجهاد ما دام لم تكن لديه إرادة السلم. لكني أتكلم على السلام بين المسلم والمسلم، وبشكل أعم، بين العربي والعربي."

ثم سأل السيد خالد مشعل: "كم بلغ حصاد الانتفاضة من الشهداء منذ اندلاعها في 27/9/2000 إلى الآن؟" أجاب مشعل: "نحو خمسمائة وأربعين شهيداً."[2] فقال جودت سعيد: "إن المأساة الجزائرية وحدها حصدت خلال الفترة نفسها ضعفي هذا الرقم! ولو أحصينا مجموع من استشهدوا في تاريخ الصراع العربي–الإسرائيلي، منذ النكبة إلى يومنا هذا، لما بلغوا ما حصدته الحرب العراقية–الإيرانية، أو حرب الخليج الثانية، أو الحرب الأهلية الأفغانية في تصارع "المجاهدين" الأعداء!"

إنها قراءة رقمية دقيقة لقول الحكماء: "لعل أعدى أعدائك هو نفسك التي بين جنبيك"!

وتابع الأستاذ جودت: "إن السلاح العربي، الذي يدفع ثمنه الشعب العربي بالمليارات الآن، لا يُشترى لمواجهة إسرائيل؛ بل إن كثيراً من صفقات السلاح التي يبرمها العرب صارت تنص على ذلك صراحة. وأكثر من ذلك فإن فاعليتها لن تكون، من الناحية الفنية (على الرغم من ارتفاع أثمانها)، قادرة على فعل أي شيء مقابل السلاح الإسرائيلي – على افتراض أن العسكريين العرب قرروا نقض الاتفاقيات ومقاتلة إسرائيل بها. إن علينا أن نعترف أنه شيء يقدَّم لنا بأغلى الأثمان لنقاتل به بعضنا بعضاً فقط، لا لنقاتل به إسرائيل!"

وأضاف: "إن الله وملائكته وآدم والإنسان والشيطان مجمعون أن مشكلتنا نابعة من ذواتنا وأن "كل نفس بما كسبت رهينة" [سورة المدثر 38]. قال الله: "قل هو من عند أنفسكم" [آل عمران 165]، وقال آدم: "ربي إني ظلمت نفسي" [القصص 16]؛ وفي القرآن أيضاً: "بل الإنسان على نفسه بصيرة" [القيامة 14]؛ "وقال الشيطان لما قُضِي الأمر: إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتُكم فأخلفتُكم فلا تلوموني ولوموا أنفسكم" [إبراهيم 22]."

وختم حديثه بقول: "إن أعظم رسالة يمكن أن يوجِّه إليها المصلحون إنما هي إصلاح الذات والتغلب على الشقاق الداخلي الذي ينتج عنه اليوم أكثر الصراع الذي نشهده في هذا العالم "الإسلامي" الساخن!"

لقد كان لقاءً فريداً بين شيخ العنف وشيخ اللاعنف... وهو يعلِّمنا الكثير مما يلزم أن نتعلمه من وحدة المقاصد – وإن اختلفت الوسائل والدروب – وأن الأمة ينبغي أن تكشف أسباب وحدتها على الرغم من اختلاف الوسائل التي تنتجها. وهو ما يُعبَّر عنه بأنه التعدد في إطار الوحدة.

إن الحرب، فيما يبدو، شرٌّ كُتِبَ على البشرية أن تعيشه. وينبغي ألا يؤخَذ المرء بالشعارات البراقة التي تصور له القرن الوليد على أنه قرن الأحلام الوردية!

*** *** ***


[1] مثل هذا المنطق مرفوض أخلاقياً لأنه يعني مسايرة القوة السياسية والعسكرية العظمى في منطقها اللاإنساني المزدوج المعايير وتسويغ ممارساتها الحالية. [أسرة التحرير]

[2] عند صدور المقال أول مرة. [أسرة التحرير]

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود