|
طين يُعجَن
بالماء
وتخلِّده النار
تراثاً لا يندثر
التشكيل
وتقنيات الحرفة في مسيرة الخَزَف المعاصر*
آمال
مُرَيْوِد
كثيرون
في
بلادنا ينظرون في حسرة إلى الأعمال الخزفية
المهاجرة أو المنفية وراء زجاج متاحف الغرب،
اعتقاداً منهم أنها تعود إلى تاريخ ضاع في
غياهب التاريخ. غير أن الحسرة تولِّد الصحوة
إن كانت الإرادة لا تزال تنبض بالحياة.
فالملتقيات الفنية تُعَدُّ من الوسائل
الحضارية التي تبعث الحياة في الصلصال من
جديد. وهو ما أشعر به من خلال مشاركاتي في
ملتقيات عديدة، أبرزها "بيينالي القاهرة
الدولي للخزف". وأؤمن
بأن "الملتقى الدولي الأول للخزف في لبنان"
خطوة أولى اليوم في رحلة الخزف المعاصر نحو
المتاحف في المستقبل. ورغم تواضع هذه الخطوة
بدايةً للمشوار فقد حقَّقت من أهدافها أن
اجتمع الخزافون، ومعهم تلاقت الثقافات
والمعارف. ويبقى إنجاحُه في المستقبل رهناً
بجهود مخلصة تسعى إلى تحقيق ما يساعد على جمع
طاقات مبدعة تترك العنان لأصابعها تغوص في
تربة الكون، تعجنه بالماء، وتخلِّده بالنار،
ليبقى حاضراً في تراث لا يندثر.
الملتقيات
السنوية اختصارٌ للتجربة الخزفية المعاصرة،
أينما كانت؛ ومن طموحاتها أن تحمل للأجيال
الناشئة ولجمهور الخزف كل ما تحتاج إليه من
خبرات "على صحن – يقال عادة – من ذهب"،
ونقول نحن "على صحن من خزف"، لتشق طريقها
لاحقاً في ثبات وعلم وتجربة. نريد
لهذا الملتقى دوام التطور، نوعية وعدداً، وأن
يساهم في دعم الخزَّافين المبدعين حصراً. ففي
مجالات الخزف المتنوعة التي تعتمد على تراب
يتحول، بقدرة أصابع ملهَمة، إلى فنجان قهوة
فني، أو إناء يحضن عود زنبق بلدي، أو عمل خزف
تشكيلي أو جداري، المهم أن يحمل العملُ شخصيةَ
مبدعه، وخصائصَ مادته، وهوية بيئته. الطين
أكثر المواد توافراً وأكثرها تواضعاً: يتحمل
خطواتنا وأخطاءنا؛ وهو مادة قابلة للتفاهم
ومطواعة لنقل الأحاسيس والأفكار عبر أسس
التقنيات المتوارثة؛ ومادة قادرة على احتواء
طعامنا وشرابنا. وبالتالي فإن ما يميِّز
الخزف عن سواه من الفنون أنه أكثر التصاقاً
بصانعه؛ وهو مزيج من المعرفة وكشف المجهول في
أعماق مبدعه، لأنه نتاج تجربة وإلهام وبحث
فني وعلمي يتجسَّد إناءً، أو لوحةً تتصدَّر
جداراً، لا فرق بينهما ماداما يحملان المعرفة. ورحلة
العمل الخزفي بين الفكرة والحقيقة – أو
التجسيد – رحلة طويلة شاقة ومحفوفة بالأخطار، ولا يجعلها قصيرة تُطاق سوى خزاف
متمرِّس يعرف ما يريد، فيصل إليه عبر أدوات
حرفته. من هنا فإن الخزف الفني والخزف الحرفي
وجهان لعملة واحدة.
والخزاف
الذي يطمح بتجربته أن تصل إلى نوافذ المتاحف
عليه أن يجمع بين التشكيل وتقنيات الحرفة،
تماماً كالشاعر والأديب والطبيب، وفي مجمل
مجالات الحياة اليومية وحتى أبسطها. إن رغيف
الخبز الذي تبتسم له الشفاه معجونٌ بعرق خباز
فنان – وإلا فماذا يميِّز نتاجَ فرن من نتاج
آخر؟! العمل
الفني الشهي يشد الجمهور دائماً إلى قاعات
المعارض، لا يوم الافتتاح فقط، حين تكتظ
القاعات بلقاءات اجتماعية تترك الأعمال
وحيدة تئن من الضجر والوحدة في ما بعد! للعمل
الخزفي ألا يقتصر على الشكل التقليدي
المتعارف عليه (إناء، جرة، إلخ)، وللخزاف
المعاصر ألا يكتفي بنتاج التراث – وهذا لا
لننكر، بالطبع، قيمة ثروة تراثية نملكها، بل
للحفاظ عليها. يجب أن نستوحي من ألق التاريخ
على الأواني الخزفية وأشكالها، وندخل تلافيف
زخارفها، ثم نضفي عليها تفاصيل حاضرنا،
ونُسقِط عليها ملامح عصرنا، ونحمِّلها هوية
اليوم، بكل خيره وشرِّه.
أدى
اختراعُ الدولاب، الذي سحر الخزافين في
الماضي – ولا يزال – ودارت في فلكه ملايين
الأواني الخزفية، إلى نتاج تقليدي الشكل. لكن
خزافين كثيرين خرجوا من الدائرة المغلقة إلى
تعبير تشكيلي أكثر حرية، وتركوا أصابعهم
تشكِّل الخزف لوحة وجداراً، من دون أن يكسروا
التقليدي بغية الكسر، أو أن يتمرَّدوا
فيعبثوا بالصلصال من دون الدخول في أبجدية
تقنياته. ولطالما
حمل الخزف في مسامه الكثير من هموم الإنسان
وتطلعاته، وهواجسه ومعتقداته، كما تدل
الخزفيات في جعاب المتاحف. فالخزف الفرعوني
حمل الكثير من مظاهر الحياة الأولى إلى مقابر
الحياة الأخرى، فرافق الملوك إلى قبورهم.
والصلصال جسَّد آلهة عند الشعوب القديمة،
وامتزج بغذائهم عندما احتوت الآنيةُ الخزفيةُ
الحبوبَ. هذه العلاقة الحميمة بين
الخزف وصانعه نسيها الإنسان المعاصر، وبدأ
يسلب الخزف أهميته بين الفنون التشكيلية
المعاصرة – وذنبه أن له وظيفة. إن
مسيرة الخزف في التاريخ طويلة ومتشعبة. وهو
مرآة ظلت تعكس تقلبات وهزات، تألقاً وهبوطاً،
حتى بلغت القرن العشرين وسيطرت عليها الحركة
الصناعية. فتعالت صرخة الغيورين، وبدأ الحنين
إلى صناعة خزف يدويٍّ خاص. فعاد الخزف يتصدَّر
مدارس فنية كثيرة منها: Art nouveau،
وArt déco،
والحركة الحديثة، وBauhaus 1919.
وبعد الحرب العالمية الثانية كانت ولادة ما
سُمِّي بظاهرة Studio potter
(الخزف المصنَّع يدوياً في مشاغل خاصة بإشراف
فنان تشكيلي وخزَّاف حرفي لإنتاج عمل متكامل). ثم
جاء من يقول إن على الخزف أن يكون من صنع صانع
فنان، يجمع العقل والقلب واليدين، ليبدع عملاً
فنياً متكاملاً. وأهم من نادى به:
الخزاف برنارد ليتش Bernard Leach
والياباني شوجي هامادا Shoji Hamada. هذا
التجاذب المتواصل في الخزف بين الفن والحرفة
أتعبه وأغناه وأفقره. فالحرفة جعلته في
متناول جميع الطبقات، إنما بقيمة جمالية
وتقنية متدنية. والفن جعله يتصدر واجهات
القصور والموائد الفاخرة، فغاب عن الأسواق
والحياة اليومية ليحتل مكانه البلاستيك
وسواه. مهمتنا
اليوم أن نصنع الخزف الفني متقناً، بعيداً عن
العشوائية والمزاجية، فنتقن أبجدية صناعة
الخزف وتقنيات الحرفة والبحث العلمي؛ وبعدها
نجسِّد أفكارنا وتجاربنا أواني ولوحات خزفية
متكاملة.
نريد
أن نصنع خزفاً نفخر به، شرط أن نكون قادرين
على اختيار الجيد منه واستبعاد السيئ. ولن يتم
لنا ذلك إن لم نملك أسس المعرفة في الخزف. لا
نريد أن نعبث بقدسية هذا التراب، ولا أن
نستغله في صناعات غثَّة تخدم حاجات يومية
عابرة، بل أن يتحول إلى خزف فني لا تنتقص
وظيفتُه من أهميته. فالفنون وُجِدَت لخدمة
الإنسان؛ والخزف أكثر الفنون التصاقاً بهذا
المخلوق الذي من التراب وإلى التراب يعود. وإذا
كان النحت "يُغيِّر الفراغ"، ألا يقوم
الإناء الخزفي، في وظيفته الإنسانية،
بالمهمة ذاتها؟ ***
*** *** *
مداخلة
في ندوة عقدت ضمن "الملتقى الدولي الأول
للخزف في لبنان" الذي أقيم في شهر أيلول
2002 في الشويفات وشارك فيه، إلى آمال مريود،
كلٌّ من تسا مونغ (الصين)، وسوزان صايغ (لبنان)،
ومحيي الدين حسين (مصر)، وإلهام كلاّب
البساط (لبنان)، وحسن بدوي (لبنان)، وفيصل
سلطان (لبنان)، وسيزار نمور (لبنان)، وأدار
هذه الندوة هنري زغيب.
|
|
|