قراءة في وصيتي الفلسفية

محاورات فلسفية ليلة الغياب

 

باسكال تابت

 

من أجمل ما قرأت حديثاً كتاب للفيلسوف الفرنسي جان غيتون عنوانه وصيتي الفلسفية.* يحقق فيه الكاتب حلماً من أعذب الأحلام البشرية وأقدمها: أن يكون الإنسان شاهداً على موته، وينظم بنفسه مراسم جنازته، متبادلاً الأحاديث الفكرية مع الأصدقاء! غريب فعلاً كم أن مخيلة هذا الفيلسوف واسعة ومثمرة؛ إذ لم يشأ أن يعبِّر عن أفكاره العميقة والناضجة في أسلوب عادي، تقليدي، بل عبَّر عن أبرز المشكلات والمسائل الفلسفية على نحو شائق يذكرنا بأسلوب المعلِّم سقراط.

 

هذا الكتاب من أعمق الكتب. تلفتنا فيه عقلانية الكاتب وروحه النقدية، من ناحية، وإيمانه وروحانيته، من ناحية أخرى. وهو في ثلاثة أقسام: في القسم الأول يعرض الكاتب لأمور غريبة حصلت في شقته الباريسية ليلة وفاته، وقد نيَّف على المئة، محتضراً في سريره بلا ألم أو كآبة، بل مفكِّراً ومنتظراً. يتوافد إليه الزوار... وأول من طرق بابه هو إبليس، وبدأ الحوار بينهما. سأله إبليس: "كيف توافق على الحوار معي؟ ألست أنا عدوك اللدود؟!" فأجابه غيتون: "عدوي اللدود هو أفضل صديق لي. لا شيء ينفعني أكثر من عدو." فالكاتب يدفعُه عدوُّه إلى البحث عن الحقيقة التي أمضى حياته يبحث عنها. وبقدر ما يجد يبحث. وحين يتوقف الإنسان عن البحث يفقد ما وجده.

ثم يستقبل بليز باسكال الذي يسأله عن أسباب إيمانه بالله. فيطرح غيتون المسألة طرحاً فلسفياً عميقاً. يبدأ بتقديم تعريف للإنسان: فهو "حيوان مادي وحيوان ديني. وكم من الأحيان تطغى على الإنسان تلك النزعة المادية، فيصير الدين وسيلة لخدمة المادة فقط، ويفقد الله دوره ومكانته الحتمية والأولية في حياة الإنسان، لأن هذا الأخير استبدل به التكنولوجيا ولم يبقَ في حاجة إليه في حياته اليومية".

وينتقل ليميز بين المطلق والله: فالمطلق هو المبدأ الأساسي للكائن والروح؛ إنه أزلي أبدي. والله يحمل في ذاته صفات المطلق، إلى كونه كائناً ذا فكر وإرادة ومحبة. والجميع يعترف بوجود المطلق، كل بحسب نزعته. فالمطلق بالنسبة إلى الماديين، مثلاً، هو المادة، تلك "الصيرورة الأبدية" [...]."

جان غيتون مفكِّر ذو نزعة أفلاطونية مسيحية، أي أوغسطينية، يبيِّن كيف توصل إلى أن يبرهن عن وجود الله. فهو يرى أن ثمة حقائق متعددة تكمن بذورها في حقيقة أولى ومطلقة؛ وتلك الحقيقة هي الكائن الحقيقي: إنها أبدية، إنها الله. ينطلق جان غيتون من أبسط الأمور في هذه الحياة فتوصِلُه إلى الله.

وبعد رحيل باسكال، يقابل برغسون ويتحدثان عن المسيحية. فهي التي طورت فكرة الشخص وفكرة الحرية. الله العليُّ المتعالي نزل من سمائه إلى الأرض وصار إنساناً. يا لها من عجيبة! عجيبة ليست سوى ظاهر لسرٍّ مستتر. إنه الحب! وقيامة المسيح من بين الأموات أعظم تجلٍّ لهذا الحب. إنها موضوع آمالنا ومقوية إيماننا. أساس المسيحية وركيزتها. إنها البشرى السارَّة. لا نستطيع أن نفسر المسيحية إلا من خلال هذا الحدث أو هذه الحقيقة التاريخية. ما أضعف إيماننا! إنه ضعيف لأنه بسيط؛ والإنسان تعوَّد على الأمور المعقدة، فلم يعد يفهم ويقبل سواها.

ما أحب زيارة البابا بولس السادس إلى قلب جان غيتون! وكم تتضح لنا من خلالها الكاثوليكية التي تعترف بحرية الإنسان، وتطلب منه طاعة الله؛ تقدِّر العقل، وتطلب الإيمان؛ تعرِّف الإنسان إلى السعادة؛ تعيد الاعتبار إلى المرأة والحب الإنساني والجسد وحتى الجنس، وتعلِّمنا الطهارة؛ تعترف بعظمة الإنسان، وتسأله الارتماء على رجلي الله؛ تريد أن ترفع الإنسان إلى الله. ولكن كيف، وبأية وسيلة؟ إنها مسألة بسيطة، غير معقدة. يرتفع الإنسان إلى الله بواسطة الإنسان الآخر.

في القسم الثاني يروي الكاتب قصة دفنه، وكيف كان حاضراً في مراسم جنازته. هنا يستمع إلى أحاديث الحاضرين، من أصدقائه وممَّن لا يعرفهم. ثم يدور حوارٌ بينه وبين ديغول حول مسألة الشر والألم الذي يتجسد في هذه الحياة. ينال الإنسان دوماً عكس مبتغاه: يطلب اللذة ويحظى بالقرف؛ يطلب الحب ويلقى الكراهية والبغض؛ يسعى إلى الحقيقة ولا يبلغ إلا الشك؛ ينادي الله والله لا يجيب. فالألم تعبير عن ثورة في داخل الإنسان.

وما أجمل لقاء غيتون بسقراط الذي يعترف بحرية الفكر المكبَّل في أيامنا هذه! يعيد إلى الفلسفة اعتبارها بعدما أضحت لدى بعض المفكرين تاريخاً فقط، تاريخ التيارات الفلسفية. ولكن كلا! الفلسفة حية! تبحث في أمور كثيرة أساسية، كالسياسة والاقتصاد والدين والعلوم والأخلاق. هي هذه التساؤلات التي يطرحها الإنسان على ذاته ويبحث عن أجوبة لها. الفلسفة هي الإنسان، والفيلسوف العظيم هو العبقري الذي يحض الآخرين على أن يصبحوا عباقرة. وكم من الفلاسفة لم ينالوا حقهم! همَّشهم التاريخ ونسيهم – ومنهم موريس بلونديل الذي تحاوَر مع غيتون حول مسألة قديمة قدم الإنسان: مسألة خلود النفس.

يعتبر جان غيتون أن الله وحده يعلم ما يحصل للنفس بعد الموت. فبقدر ما يصعب علينا تخيُّل خلود النفس بعد الموت يصعب علينا أن نتخيل وجودها الحالي. فكل ما يبدو لنا حقيقة مادية هو خطأ روحي.

في القسم الثالث يخبرنا الكاتب عن دينونته، وكيف أن القديسة تيريز من ليزيو تشفَّعت له لدى الله. وهنا أيضاً لا يتوقف الكاتب عن تحليل مسائل حياتية فلسفية شغلت الإنسان منذ زمن بعيد. ما هو الموت؟ هل هو العطاء الكلِّي؟ هل هو الحب؟ هل هو تقدمة الذات؟ لِمَ الموت محزن؟ وبالنسبة إلى مَن هو محزن؟

من الشهود على دينونته فرانسوا ميتران الذي كان على علاقة مميزة جداً به. يستعيد أحاديث دارت بينهما حول مسائل تتعلق بمصير الإنسان. هنا أيضاً، على الطريقة السقراطية، يتناولان مسألة جهنم وعذابها. سبب هذا العذاب هو البعد عن الله وعدم الوجود في الجنة؛ فجهنم هي الخطيئة في الأبدية، كما أن الخطيئة هي جهنم في الزمن. ويتناولان أيضاً مسألة الأخلاقيات، أو الأخلاق والحرية، فضلاً عن مفهوم الخطيئة.

من أعظم الأعمال الأخلاقية وأنبلها إزالة ألم الآخرين بمنحهم معنى لحياتهم. وهو أكثر ما يلفتنا في القسم الأخير من الكتاب. فكم من البشر يعيشون اليوم بلا هدف أو معنى! حياتهم فارغة، سقطوا تحت وطأة الضجر والألم الفارغ من المعنى. بمساعدة هؤلاء نستطيع تلبية إرادة الله وندائه. من خلال هؤلاء البشر نستطيع التقرب من الله. أليست الخطيئة هي البعد عن الله والعمل ضد مشيئته أو عكسها؟ علينا، إذن، التوفيق بين حبِّنا البشري والحب الإلهي.

وما أروع وصف الكاتب لشعوره في أثناء الحكم الأخير: "نور الله فتَّتَ كياني."

*** *** ***

عن النهار، الأربعاء 18 كانون الأول 2002


* Jean Guitton, Mon testament philosophique, Pocket.

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود