|
دور
اللاوعي في المعالجة النفسية
نبيل
محسن
لا
يستطيع الإنسان أن يدرك شيئًا بتمامه. فهو،
وإن كان يسمع ويرى ويتذوق ويلمس، إلا أن
المعلومات التي تنقلها حواسُّه تتعلق في
النهاية به وبطبيعة حواسه، وكثيرًا ما تعطيه
صورةً مجزوءة أو مشوهة أو مغلوطة، وتحدُّ،
بالتالي، من إدراكه للعالم الذي يحيط به. وقد
لجأ الإنسان إلى الوسائل الموضوعية والعلمية
من أجل توسيع مدى إدراكه، فاستطاع أن يرى أبعد
بواسطة المنظار، ويسمع أفضل بفضل مكبِّر
الصوت، إلخ. لكنه كان دائمًا يصطدم بحدود
اليقين الذي لا تستطيع معرفتُه الواعية
تجاوزَه. إضافة لذلك،
يتضمن إدراكُنا للحقيقة مظاهر لاواعية. إذ
ينتقل الإدراك الذي تزوِّدنا به حواسُنا إلى
ميدان العقل، حيث يتحول إلى حقائق نفسانية لا
يمكننا إدراك طبيعتها النهائية، لأن النفس لا
تستطيع إدراك كنهها الطبيعي. وكما أن الحقائق
الملموسة مازالت مجهولة بالنسبة إلينا من بعض
النواحي، ومثلما نحن عاجزون عن إدراك الطبيعة
النهائية للمادة، كذلك تتضمن كلُّ تجربة
عددًا من العوامل اللاواعية المجهولة. نضيف إلى هذه
العوامل اللاواعية التي تلعب دورًا في
إدراكاتنا الواعية أحداثًا لم يسجِّلها
الوعي، ولكنها سُجِّلتْ تحت عتبة الوعي من
حيث لم ندرِ، وهي قابلة لأن تنبثق إلى وعينا
في لحظة حدس أو تفكُّر عميق – رغم أننا لم
نقدِّر أهمية تلك الأحداث عند حدوثها، ولا
التفتنا إلى أهميتها الانفعالية والحيوية. قد
تعبِّر هذه الأحداث عن نفسها من خلال حلم.
فالحلم هو الذي يكشف عن المظهر اللاواعي
للأحداث، معبِّرًا عن نفسه بشكل صور رمزية،
لا بشكل تفكير عقلاني. ونستطيع أن نقول، من
وجهة نظر تاريخية، إن دراسة الأحلام هي التي
سمحت للنفسانيين ببدء استكشاف المظاهر
اللاواعية للأحداث النفسية الواعية. لقد اعترض بعضهم
على وجود نفس لاواعية لأن ذلك يعني، كما
يعلِّلون، وجود كيانين في الشخصية الإنسانية.
والحق أن هذا هو المقصود بالضبط. فالإنسان
المعاصر يعاني بوضوح من هذه الثنائية؛ وهذا
الأمر طبيعي أكثر من كونه مَرَضيًّا، خاصة
وأن الإنسان لم يصبح واعيًا إلا وفق سيرورة
متدرِّجة استمرت قرونًا طويلة، ومازال وعيُه
يتضمَّن قطاعات كبيرة محاطة بالظلمات. إن من يرفض وجود
اللاوعي أو ينكره يفترض أننا نعرف كلَّ شيء عن
النفس. إن نفسنا جزءٌ من الطبيعة، وسرُّها لا
حدود له. ولابدَّ لنا من الاعتراف بتواضع
بأننا لا نستطيع تحديد الطبيعة ولا تحديد
النفس. أما إنكار اللاوعي فمردُّه إلى خوف
الإنسان من كلِّ جديد مجهول، خاصة وأن الوعي
حديث النشأة، وهو مازال مرهفًا وضعيفًا
ومهدَّدًا. لقد كان الإنسان
البدائي يعتقد أنه يتألف من نفسين: نفس خاصة
به، ونفس تحلُّ في حيوان أو شجرة يتماهى هو
معها. وتعتقد بعض القبائل أن للإنسان أكثر من
نفس. وهذا يعني أنه لا غرابة في قولنا إن النفس
الإنسانية بعيدة عن أن تكون قد توحَّدت بشكل
نهائي؛ بل هي، على العكس، تهدد بالتفتت إلى
أجزاء تحت وطأة صدمات عاطفية غير مسيطَر
عليها. والمعالجة النفسية ترمي، من بين ما
ترمي إليه، إلى شفاء الإنسان من هذا الانفصال، وتحقيق وحدة النفس بما فيه تعبير
عن فردية الإنسان وعن نفس إنسانية كلِّية. ما هي
العناصر اللاواعية؟ وكيف يتم التوصل إليها؟
يتألف
اللاوعي، وفق النظرية الفرويدية، من محتويات
ذهنية تقمعها التربية منذ الطفولة، فتُدفَن
تحت حاجز الكبت الذي يمنعها من الوصول إلى
الوعي. تستمر هذه المحتويات في التأثير على
الوعي، وهي قابلة لأن تشكل جزءًا منه. وقد
توصَّل فرويد أيضًا إلى أن هذه المكبوتات تضم، إلى جانب الدوافع الجنسية
والعدوانية،
كل المعتقدات والأحكام والمشاعر والمواد
النفسية التي لم تبلغ بعدُ درجة تؤهِّلها
لعبور عتبة الوعي. وكان يعتقد أن المكبوتات
والدوافع الغريزية والعدوانية التي تشكِّل
اللاوعي تتصارع باستمرار، وأن السلوك
الإنساني يتحدَّد من خلال تفاعلاتها. وقد رأى
في وقت لاحق أن الإنسان يستطيع التحكم بعالمه
اللاواعي إلى حدٍّ ما؛ إذ إنه يحتفظ بدوافعه
الغريزية مكبوتة لأن التعبير عنها قد يشكِّل
خطرًا أو خوفًا من الفشل أو المهانة. إن المهمة
الأساسية للتحليل النفسي، في الحالتين، هي
إزالة المكبوتات ومساعدة المريض على التعرف
إليها والتخفيف منها وعلى مواجهتها. وقد
اعتمد فرويد في البداية على تداعي الأفكار
الحرِّ free
association، وجعل
من الحلم محور هذا التداعي، ومن التعليقات
عليه طريقةً لاستدعاء أفكار وصور وذكريات
تساعد على فهم دوافع المريض من خلال ما يذكره،
ومن خلال ما يخفيه أيضًا؛ وهو ما يجب أن
يتبيَّنه المحلِّل. وكان فرويد يعتقد أن
تشجيع الحالم على التعليق على أحلامه
والتعبير عن الأفكار التي تقترحها يكشف عن
خلفية اضطراباته اللاواعية، حتى لو بَدَتْ
الأفكار التي يعبِّر عنها مفكَّكة ولامنطقية
في البداية. أما يونغ فقد رأى
في نظرة فرويد إلى الأوهام والموارَبات التي
يبديها المريض دليلاً على ذهنية سيئة، فيها
ابتعاد عن الحقيقة، وتوصَّل إلى أن استخدام
الحلم للقيام بتجربة تداعيات الأفكار
الحرَّة ليس ضروريًّا لأننا نستطيع الانطلاق
من صور أو رموز أو حروف أو كتابات غامضة أو ذكر
أشخاص إلخ، أي نستطيع بلوغ المركز انطلاقًا
من أية نقطة من نقاط الدائرة. ومع ذلك تبقى
للحلم أهميتُه الخاصة. فنحن نستطيع بلوغ
المركَّبات النفسية من خلال التداعي الحر
وتسلسل الأفكار وغيرها من الوسائل، ولكن
الحلم يفيدنا أكثر في فهم النفس الإنسانية
ككل. ففي الأحلام معنى ليس في غيرها؛ إنها
تحتوي صورًا وبنى وتسلسلات أفكار لم تتدخل
القصديات الواعية في تشكيلها؛ ومع ذلك فلها
قصديَّتها الخاصة التي قد لا تظهر للوهلة
الأولى. فهي تعبِّر عن فعالية نفسية منفلتة من
عسف الوعي. لذلك قرر يونغ التركيز على
الأحلام، مقتنعًا أن الحلم يعبِّر عن شيء
نوعي يحاول اللاوعي أن يبلِّغنا إياه. وهذا
التغير في النظرية قاد إلى التركيز أكثر على
مظاهر الحلم المتنوعة. ولكن هل
يؤدي تحليل الأحلام إلى إزالة المكبوتات فقط،
أم أن دوره يتجاوز ذلك؟
يؤدي التحليل،
بحسب فرويد، إلى معرفة المواد المكبوتة
والتعرف إلى محتويات اللاوعي، وبالتالي
إزالة الكبت وتوقف الإنتاج النفسي اللاواعي.
لكن الواقع والتجربة أثبتا أن اللاوعي يستمر
في تشكيل أحلامه، مع أن هذه الأحلام، إذا
تتبَّعنا منطق فرويد، يجب أن تنضب لأنها تأتي
أساسًا من المكبوتات الشخصية التي تحرَّرتْ.
إن متابعة المراقبة والتأمل في نتائج التحليل
تفيد أن اللاوعي لا يهدأ أبدًا: إنه في حالة
نشاط وفعالية دائمين؛ فهو يخلط محتوياته
ويمارس نشاطه بشكل مترابط مع الوعي، ولا
ينفصل عنه إلا في الحالات المرضية. وهو يحتوي،
إضافة إلى المكبوتات، على مواد لم يحتفظ بها
الوعي بتوتر كافٍ، فانزلقت من تلقاء نفسها
إلى اللاوعي. تتألف محتوياته عمومًا من
المواد الشخصية التي تمتُّ إلى الحياة
الفردية ومن عناصر محمَّلة بتلميحات تتجاوز
المستويات الشخصية. لذلك استنتج يونغ أن من
الضروري أن نميِّز في اللاوعي طبقتين: طبقة
يمكن أن نسميها اللاوعي الشخصي personal unconscious، وهي تمتلك
المعلم الذي يمكِّنها أن تصبح واعية، وطبقة
أخرى فيها العناصر اللاشخصية أو الجمعية وهي
تعبِّر عن نفسها بأنماط موروثة وأنماط بدئية archetypes. لقد توصَّل يونغ
إلى استنتاجاته بمتابعة حالات عدد كبير من
المرضى، أذكر منها حالةً أورَدَها في كتابه جدلية
الأنا واللاوعي، ويتحدث فيها عن مريضة
مصابة بعصاب هستيري يرتكز إلى مركَّب أبوي.
كانت علاقة المريضة بأبيها فريدة ووطيدة،
لدرجة أنها عرقلت طريق نموها وتطورها النفسي،
خاصة أن والدتها توفيت في سنٍّ مبكرة. لقد
كانت العلاقة بينهما وجدانية، وترافقت
بنموٍّ خاص للوظائف الفكرية، وكأن المريضة
سَعَتْ، من خلال هذه الوظيفة، إلى تجاوز
الروابط العاطفية التي تربطها بأبيها. وقد
أظهرت دراسةُ أحلام المريضة أن معظمها يتعلق
بشخصية الطبيب فيما يُدعى بالتحويل transfer. ولكن الطبيب كان
يظهر في الحلم مشوهًا، يشبه والد المريضة
أحيانًا، كما في الحلم التالي: وفي
الحلم أن والد المريضة كان يقف معها على هضبة
يغطيها حقل قمح. كان كبيرًا جدًا، بينما هي
صغيرة جدًا. أخذها بيديه وحملها مثل طفلة
صغيرة واحتضنها على إيقاع تمايُل السنابل
التي أخذت تتموَّج عندما نفخ الهواء. اعتقد يونغ في
البداية أن هذا الحلم يعبِّر عن استمرار حالة
التحويل، وكاد يصل إلى حالة من التسليم
واليأس؛ ولكنه عاد فاستعرض سلسلة الأحلام هذه
وتأمل في مغزاها. لقد كان مقتنعًا أن هذا
الإصرار الذي تعبِّر عنه الأحلام يشير إلى
معنى غائيٍّ ما. فاكتشف أن التحويل هو تبلور
خاطئ للاوعي، وأن اللاوعي يميل ظاهريًّا نحو
شخصية إنسانية (هي الطبيب في الحلم)، ولكنه في
حقيقة الأمر يبحث عن الألوهة. وقد تأكدت
توجُّهات يونغ عندما اكتشف أن التحويل قد
تفرَّغ بشكل ما من خلال تطور علاقة المريضة
بأحد الأشخاص. وقد عبَّر تبدُّل الحالة
الذهنية للمريضة عن نفسه بظهور هدف تجاوزي
يعبِّر عن نفسه رمزيًّا بشكل تصوُّر عن
الألوهة. لقد شوَّهت أحلام المريضة شخصية
الطبيب من أجل بث الحياة في تصوراتها، فمنحت
الطبيب مقاييس فوق بشرية: فهو عملاق ومسنٌّ
وهو الهواء الذي ينفخ. إن صيغة "الله روح"
موجودة في اللغة اليونانية (إنجيل يوحنا 4: 24)،
حيث يُعبَّر عن الروح بكلمة pneuma،
أي الريح أو الهواء؛ كذلك في العربية لدينا
"الريح" في مقابل "الروح" و"النَّفَس"
في مقابل "النَّفْس". ولا نستطيع أن
ندَّعي أن هذه الصور ظهرت في أحلام المريضة
انطلاقًا من تذكُّر خفي لأن الفتاة كانت
بعيدة جدًا عن التعاليم الدينية. وإذا
اعتبرنا الأمر تذكُّرًا خفيًّا يبقى علينا
تفسير الاستعداد المسبق الوجود الذي انتخب
هذه الصور وبقيت مثبتة لكي تعبِّر عن نفسها في
لحظة ما. إن صورة الألوهة التي تمتلك وجودًا
تاريخيًّا وانتشارًا عالميًّا عدَّلتْها
النفسُ في عملها الطبيعي وأعادت تشكيلها.
فالأمر يتعلَّق بنموذج بدئي أعادت طريقةُ
تفكيرنا إحياءَه. إنها طريقة تفكيرنا
القياسية analogical
القديمة التي لا تزال حية في أحلامنا. ما هي
طبيعة النماذج البدئية؟ كيف تتبدَّى؟ وكيف
يلعب الرمز دورًا أساسيًّا في هذا التبدِّي؟
إن أول
من أشار إلى ظهور بقايا قديمة أو ترسُّبات
قديمة في أحلام المرضى هو فرويد. فقد اكتشف أن
الحالم يقدِّم في الأحوال الطبيعية تداعيات
تساعد على فهم الحلم واستكشاف مظاهره. أما في
الحالات الأخرى، أي في الأحلام الاستحواذية
والهوسية أو التي تمتلك شحنة عاطفية قوية،
فالتداعيات التي يقدِّمها الحالم لا تكفي؛ إذ
نشاهد في الحلم عناصر لا تعود للتجربة
الشخصية، هي الترسبات القديمة التي لا
يفسِّرها أي حادث حصل في أثناء الحياة
الشخصية، ويبدو أنها فطرية بدئية وتشكل إرثًا
للعقل الإنساني عمومًا. وهذا ما عبِّر عنه
يونغ بصيغة النماذج البدئية. ولننتبه إلى أن
مصطلح "نموذج بدئي" لا يشير إلى صور
وحوافز أسطورية محددة؛ فهذه الأخيرة تعبيرات
واعية من العبث الاعتقاد أنها تنتقل
بالوراثة، وهي صور متبدلة ومتغيرة. النموذج
البدئي يكمن في الميل إلى تمثيل مثل هذه
الحوافز بصورة متغيرة، دون أن تفقد هيكلها
الأساسي. وغني عن الذكر أن
هذه الأنماط البدئية التي تظهر في الحلم تظهر
بشكلها الرمزي، مما يعني ضرورة أن يتمكن
المحلِّل من التعامل مع هذه الرموز وفهم ما
ترمي إليه والكشف عن الشحنة النفسية الكامنة
وراءها. وقد قسَّم يونغ الرموز إلى فئتين
أساسيتين: الرموز الطبيعية، والرموز
الثقافية. تتأتَّى الأولى من المحتويات
اللاواعية للنفس، وتمثل، بالتالي، عددًا
هامًّا من تغيرات الصور النموذجية الأساسية.
أما الرموز الثقافية فتُستعمَل للتعبير عن
حقائق أبدية، وهي حاضرة في العديد من
الأديان؛ وقد خضعت لبعض التعديلات بحيث أصبحت
صورًا جماعية يقبلها المجتمع المتحضر. وهذا
لا يعني إهمال هذه الرموز؛ إذ يؤدي كبتها إلى
ضياع طاقتها في اللاوعي وإلى تضخم بعض الميول
التي لم تسنح لها حتى الآن فرصةُ التعبير عن
نفسها. أما الرموز
الطبيعية فتظهر في الأحلام وتسعى لتعويض
الخسارة الضخمة التي سبَّبها انفصالُ
الإنسان عن الطبيعة وما تلاه من ضياع طاقة
عاطفية ووجدانية. وبالتالي فإن هذه الرموز
تكشف لنا طبيعتنا البدئية وغريزتنا وطريقتها
الخاصة في التفكير؛ وهي رموز غير مفهومة
لأنها تعبِّر عن نفسها بلغة الطبيعة التي
بتنا نجهلها، ولذلك فنحن مجبرون على ترجمتها
إلى مفاهيم عقلانية. إن شرح أيٍّ من
الرموز يتطلب التأكد مما إذا كان يعبِّر عن
تجربة شخصية صرف أو أنه يرمي إلى هدف محدد. ومن
أجل إيضاح ذلك نأخذ مثالاً عليه أحد الأحلام
التي يظهر فيها الرقم 13. لابدَّ لنا قبل تأويل
الحلم من التأكد مما إذا كان الحالم نفسه يؤمن
بالخاصية الضارة لهذا الرقم أو أن الرقم يشير
ببساطة إلى أشخاص آخرين متطيِّرين. نفهم في
الحالة الأولى أن الحالم مازال تحت سحر الرقم
13، وأنه سوف ينزعج كثيرًا من وجوده في غرفة
فندق رقمها 13 أو من وجود 13 شخص في غرفة أو على
طاولة طعام إلخ. وفي الحالة الثانية قد لا
يتعدَّى الرقم 13 كونه إشارة أو ملاحظة جارحة. يُظهِر لنا هذا
المثال الطريقة التي تتجلَّى بها النماذج
البدئية في الخبرة العملية. إنها صور
وانفعالات في الوقت ذاته. ولا يمكن لنا التحدث
عن نماذج بدئية إلا عندما يتبدَّى لنا هذان
المظهران معًا. إذا كان الأمر مجرد صورة فهو
وصف قليل الأهمية؛ لكن عندما يتعلق الأمر
بعاطفة وجدانية، تكتسب تلك الصورة طاقة نفسية
وتصبح صورة ديناميَّة وتؤدي بالضرورة إلى
نتائج واستتباعات. ليست النماذج
البدئية مجرد مفاهيم أسطورية. إنها لا تكتسب
معناها إلا عندما نجتهد في صبر لأن نكتشف
لماذا لهذا النموذج البدئي معنى بالنسبة لهذا
الشخص وكيف. ويبدو أن أحد الجوانب الهامة التي
تجعل الأشخاص يخافون من محتوياتهم اللاواعية
هي الطاقة النفسية الكبيرة التي تحملها
مكوِّناتهم تلك. يجب أن تبقى
القيمة الوجدانية ماثلة في أذهاننا خلال كل
عملية تحليل للأحلام تحليلاً فكريًّا. ويجب
الانتباه كذلك أن ضياع هذا الحس أمر سهل لأن
الإحساس والتفكير وظيفتان متقابلتان
متنافيتان. إن علم النفس هو الوحيد بين العلوم
الذي يأخذ باعتباره قيمة الإحساس لأنه صلة
الوصل بين الوقائع النفسية والحياة؛ ولهذا
غالبًا ما يُتَّهم هذا العلم بأنه ليس
علميًّا. إن ما لا تفهمه هذه الانتقادات هو
الضرورة العلمية والعملية التي تتطلب إعطاء
الإحساس المكانة التي يستحق. ما هي
العموميات الضرورية التي يجب أن يعرفها
النفساني ليستطيع تصنيف وتوضيح المواد التي
يجمعها في دراسته لعدد من الأفراد
والمعاوِدين؟ من
المستحيل صياغة نظرية وتعليمها إذا اقتصرت
دراستُنا على وصف عدد كبير من الحالات دون
التحدث عما يتشابه بينها وما يختلف. هناك فرق
أساسي وجلي يجب أن نلحظه بين الشخصيات
الانبساطية extravert
والانطوائية introvert؛
وهو يحيلنا مباشرة إلى الصعوبة التي نواجهها
عندما يكون الطبيب من أحد النمطين. ويقول يونغ
إن لهذا الأمر أهميته وتأثيره عند القيام
بتحليل الأحلام. فإذا كان الاثنان ينتميان
إلى لنمط ذاته حَدَثَ بينهما تعاون لفترة
طويلة؛ وإذا كانا مختلفين فلابدَّ من
التنبُّه للصعوبات التي ستظهر. يعتمد
الانبساطي وجهةَ نظر الأغلبية؛ وهذا ما يرفضه
الانطوائي. وقد كان فرويد ينظر إلى الانطوائي
على أنه شخص لا يهتم إلا بنفسه بشكل مَرَضي؛
أما يونغ فيرى في الاستبطان إحدى القيم
العليا. بالطبع لابدَّ للمحلِّل أن يمتلك
التجربة العملية والمعرفة بعلم النفس؛ وهما
ميزتان ترفعان من أسهمه، ولكنهما لا تضعانه
فوق المعترك الذي يدخله إلى جانب مريضه، بحيث
يكون الانتباه إلى ما إذا كانت الشخصيتان في
انسجام أو صراع أو تكامل ضروريًّا. إن
الانبساطية والانطوائية نمطان فقط من أنماط
النفس الإنسانية. أما إذا نظرنا إلى كلٍّ من
الانبساطي أو الانطوائي على حدة فإننا نكتشف
خصوصيات أساسية أخرى. ويذكر يونغ أنه، بعد
مراقبته لعدد كبير من الحالات، صار بديهيًّا
لديه أن الذين يستخدمون فكرهم هم الذين
يفكرون باللجوء إلى ملكاتهم الفكرية من أجل
التكيف مع الأشخاص والظروف، في حين أن
الأذكياء الذين لا يفكرون يبحثون ويجدون
طريقهم بالاعتماد على مشاعرهم. هكذا توصل يونغ
إلى وجود أربع وظائف هي الحدس intuition والتفكير thinking والإحساس sensation والعاطفة feeling، وهي الوظائف
التي تمكِّن وعينا من التوجُّه في تعاملها
المباشر وغير المباشر مع المحيط ومع الذات.
فالإحساس أو الإدراك الحواسي يكشف لنا أن
شيئًا ما موجود، ويكشف لنا التفكير هوية هذا
الشيء؛ أما العاطفة فتقول لنا ما إذا كان هذا
الشيء مرغوبًا أم لا، ويكشف لنا الحدس مصدر
هذا الشيء وإلى أين يميل ويتجه. يجب أن نفهم أن
هذه المعايير التي تحدِّد أنماط السلوك ليست
إلا وجهات نظر من بين وجهات أخرى، كالإرادة
والمزاج والتخيُّل والذاكرة إلخ. وهي مفيدة
عندما يتطلب الأمر تفسير ردَّات فعل الأهل
تجاه أولادهم والأزواج تجاه زوجاتهم أو
العكس؛ وهي تساعدنا على فهم أحكامنا الخاصة
المسبقة. لذا يجب التضحية بكل أحكامنا
المسبقة إذا ما أردنا فهم حلم الآخر. الأمر
ليس بهذه السهولة؛ فهو يتطلب مجهودًا
أخلاقيًّا لا يتناسب مع أذواق الناس جميعًا.
ولكن إذا لم يجتهد المحلِّل لتبنِّي موقف
نقدي تجاه وجهة نظره الخاصة والاعتراف
بنسبيَّتها فلن يحصل على معلومة صحيحة، ولا
على تعمق كافٍ لفهم ما يجول في عقل مريضه. لذا
نستطيع أن نؤكِّد، من وجهة نظرٍ علاجية، أن
فهم المريض أهم من حصول الطبيب المحلِّل على
تأكيد على افتراضاته النظرية. إن المقاومة
التي يبديها المريض لتأويل المحلِّل ليست
دائمًا ردَّة فعل خاطئة: إنها تدل على أن
شيئًا ما ليس على ما يرام، أو أن المريض لم يصل
بعدُ إلى النقطة التي تمكِّنه من الفهم، أو أن
التأويل ليس مناسبًا. ويزعجنا في
الجهود التي تُبذَل من أجل تأويل الرموز التي
تظهر في أحلام الآخرين لتغطية مواضع النقص في
عملية الفهم ما نسميه الإسقاط projection،
أي افتراض أن ما ندركه ونفكر فيه كمحلِّلين
يدركه الحالم ويفكر فيه. ومن أجل تجاوز مصدر
الأخطاء هذا ألحَّ يونغ على أهمية سياق كل حلم
خاص، مع استبعاد كل الفرضيات النظرية عن
الأحلام عمومًا. ينتج عن ذلك أن من
المتعذر وضع قواعد صالحة عمومًا لتأويل
الأحلام. أما الافتراض الأساسي بأن للحلم
وظيفة معاوَضة compensation النقص وانضغاطات
الوعي فهذا الافتراض يوفِّر الطريقة الأغنى
لمقاربة دراسة الأحلام الخاصة. ويروي يونغ أن
أحد مرضاه كان معتدًّا بنفسه لدرجة كبيرة،
ولم يكن يعي أن كلَّ من حوله قَلِقٌ من طباعه
الفوقية. وقد راجع يونغ لأنه رأى في حلمه
متسكعًا سكِّيرًا يتدحرج من على حافة جبل. وقد
علَّق المريض على هذا المشهد بإبداء تعجُّبه
من الدرجة التي يمكن أن ينحدر الإنسان إليها.
من البديهي أن الحلم يشكل، على الأقل
جزئيًّا، محاولة لتعديل الفكرة المتطرِّفة
التي كوَّنها ذلك الشخص عن نفسه. ولكن يونغ
اكتشف وجود أمر إضافي: اكتشف أن للمريض أخًا
سكيرًا؛ وبالتالي فقد كشف الحلم أن في موقف
المريض معاوَضة للأخ. وفي حالة أخرى حلمت إحدى
النساء اللواتي يدَّعين تفهُّمًا ذكيًّا
لعلم النفس بامرأة أخرى من معارفها على مرات
متكررة؛ وهي في الواقع لم تكن تحب تلك المرأة،
وكانت ترى أنها فضولية وكاذبة تافهة؛ ولكنها
في الحلم كانت الأخت والصديقة اللطيفة
والمحببة. ولم تتوصل المعاوِدة إلى أن تفهم
لماذا ترى شخصية تكرهها بهذا الشكل المحبب في
الحلم. وكانت المريضة تعاني من صعوبة كبيرة في
أن تفهم أن مردَّ هذا الحلم هو مركَّب قدراتها
ودوافعها الخفية التي سبَّبت لها مشاكلها مع
صديقاتها، وكانت دائمًا تلوم الآخرين ولا
تلوم نفسها أبدًا. وكان شخص آخر يلتقي في
أحلامه بنابليون وأحيانًا بالاسكندر
المقدوني، بلا تكلف. كانت هذه الأحلام تدل على
شعور سرِّي بالعظمة يحاول معاوَضة شعور
بالدونية. كانت هذه الفكرة اللاواعية تعزله
عن محيطه؛ ولم يكن يشعر أبدًا بضرورة أن يثبت
لنفسه أو للآخرين أن فوقيته تأتي من استحقاق
علوي. والحقيقة أن هذه الأحلام تميز أشخاصًا
مصابين بمركَّب نقص. ولكن
السؤال الذي يطرح نفسه هنا هو: لماذا لا
يستطيع الحلم أن يكون واضحًا ومباشرًا؟ لماذا
لا يقول ما عليه قوله دون لبس وغموض؟ الحقيقة
أن الطريقة التي تتجنب بها الأحلام إعطاء أية
معلومة دقيقة أو تجنب نقطة نهائية وواضحة هي
طريقة مدهشة. لقد افترض فرويد لتفسير هذه
الخاصية وجود وظيفة للنفس دعاها بالرقابة censorship. وكان يعتقد أنها
تشوِّه صور الحلم وتجعلها مجهولة أو مضلِّلة
من أجل أن تخفي عن الوعي موضوع الحلم؛ وبهذه
الطريقة تحمي الرقابةُ نومَ الحالم من صدمة
التذكُّر المرفوض. لكن يونغ كان
يشكك في هذه النظرية التي تجعل من الحلم "حارس
النوم"، لأن الأحلام كانت تستمر في إلحاق
الاضطراب بالنوم. وكان يعزو هذه الحالة إلى
وجود المحتويات القابعة في ما تحت عتبة
الوعي، وهي محتويات يُحتفَظ فيها بتوتر أقل
بكثير مما هي عليه في الوعي. لذا تفتقد هذه
المحتويات الحدود الواضحة، والعلاقات فيما
بينها قليلة الترابط، وترتكز إلى تماثلات
مبهمة. إنها أقل عقلانية، وبالتالي أكثر
استعصاء على الفهم. ويمكن أن نلحظ هذه الظاهرة
في الحالات القريبة من الحلم التي قد تعود
للإرهاق أو الحمى، عندما يرتفع توتر هذه
الصور فتقترب من عتبة الوعي وتصير أكثر
تحديدًا. إن الأحلام لا ترمي إلى حماية النوم
من الرغبة اللامتوافقة كما يقول فرويد. إن ما
يدعوه فرويد بتشوُّه الحلم ليس إلا الشكل
الذي تأخذه حوافزنا في اللاوعي. ولو قدَّم
الحلم ما يريد قوله بشكل واضح لتجاوزت الصور
عتبة الوعي ولما عاد الحلم حلمًا. لذا تتناول
الأحلام المواضيع التي يراها الوعي هامة أو
التي يعلق عليها أهمية كبرى، ولو لم يبدُ
الأمر كذلك. إنها مثل التماعات ضعيفة للنجوم
في سماء مظلمة أو أثناء كسوف كامل للشمس. ولكن ما
هي نتائج التحليل؟ وماذا يحدث عند استيعاء
المريض عناصرَه اللاواعية؟
يبدي
بعض الأفراد في أثناء إدراكهم لموادهم
اللاواعية، بمساعدة المحلِّل، وعيًا لأنفسهم
وشعورًا بالأنا يصدم المحيط بمظهره المفرط،
ويتظاهرون في كل جلسة أنهم أكثر ثقة بأنفسهم
وأنهم يعرفون أكثر مما يعرفه المحلِّل. وهناك
أشخاص آخرون تصدمهم غرابةُ عناصرهم
اللاواعية، ويقعون في حالة من الخضوع الكئيب
لها. والحق أن المقارنة بين الحالتين تفيدنا
بأن أصحاب الفريق الأول يخفون قلقًا لا يقل
عمقًا عما يبديه الآخرون الذين يُظهِرون
الكثير من الانقياد والخضوع، رازحين تحت وطأة
الكشف. كما أن أصحاب الفريق الثاني يخبِّئون،
رغم انقيادهم، إرادة مصرة على السيطرة تتجاوز
الثقة وتأكيد الذات. إن الشيء الأول
الذي يسعى إليه الخاضعُ للتحليل هو استخدام
معارفه الجديدة لخدمة موقفه العصابي، تدفعه
رغبةٌ سرِّية في استمراره، إلا إذا كان قد
خطا، منذ البداية، خطوات على طريق الشفاء
والتخلص من أعراضه. يستخلص الانبساطي في
أثناء هذا الجزء من التحليل، ومن واقع معرفته
لذاته، ما هم عليه الآخرون ويشعر بمسؤولية
كبيرة تدفعه إلى إبلاغ اكتشافه للآخرين. أما
الانطوائي فيشعر أنه موضوع للآخرين أكثر من
كونهم موضوعه؛ وغالبًا ما ينتابه شعور
بالإحباط. وتقوى العلاقة الباطنية مع الموضوع
في الحالتين: عند الأول في اتجاه فاعل وعند
الآخر في اتجاه منفعل. إن المعارف التي
يكتسبها الفرد في أثناء التحليل موجودة فيه،
ولكنها لاواعية بالنسبة له. وسرعان ما يلجأ
إلى تطبيقها على محيطه، فيميِّز عند غيره
دوافع ومواقف ومحركات سلوك لم يكن ليفطن لها
أبدًا. ومثلما يرى أن معرفته الجديدة مخلِّصة
ومفيدة له فهو يفترض أنها كذلك بالنسبة
للآخرين. وقد تصبح المعارف المكتشَفة مؤلمة
بعض الشيء؛ فالنفس الإنسانية تحتوي مناطق
ومكوِّنات مظلمة. والقاسم المشترك بين
الحالتين هو اللاتيقُّن من حدودهما، إذ
تتلاشى الشخصية وحدود الأنا في الحالتين. إن
ما ذكرناه عن سعي بعضهم لإعلان اكتشافهم على
الملأ، معتدِّين بما اكتشفوه، إنما يخفي
شعورًا بالدونية وقلقًا وشكوكًا مضنية من
سقوط وشيك؛ وهم غير مطمئنين لما اكتشفوه بحيث
يرغبون البقاء فيه وحيدين. كما أن الإنسان
الذي يشعر بالإحباط أمام معرفة كموناته يبدي
أمام الآخرين شعورًا بالدونية ويستسلم له،
لكنه في قرارة نفسه لا يؤمن به. وفي الحالتين
هناك تجاوز للأبعاد الإنسانية. لهذا نستطيع
أن نتحدث عن تضخم نفسي inflation،
خاصة أن الشخص المتضخم يمتلك محتويات وصِفات
تتجاوزه، وبالتالي فهي خارجة عنه. وظاهرة التضخم
النفسي هذه ليست ظاهرة يختلقها التحليل فقط؛
فهي تحدث في الحياة اليومية أيضًا، عندما
يتماهى الإنسان مع لقبه أو وظيفته
الاجتماعية، فيصبح القبول الاجتماعي الذي
تأسَّست عليه وظيفته هو المحرِّك الرئيسي
لشخصيته. والمعرفة أيضًا تسبب تضخمًا نفسيًّا.
يذكر يونغ أن أحد مرضاه كان حدَّادًا مصابًا
بعته زَوَراني paranoiac dementia يزيد من حِدَّته
جنونُ العظمة. كان هذا الحدَّاد يعتقد أنه
يقيم اتصالات هاتفية مع شخصيات مقدسة وأن
العالم كتابه المفتوح الذي يتكشف له كيفما
أدار رأسه. والواقع أن الأمر ليس إلا رؤيا
حدسية تشبه ما يراه ويعانيه كثير من المفكرين
والفلاسفة. لكن الفرق بين الحالتين يكمن في
الاستخلاص الفلسفي الذي يُخرِج الحدس البدئي
الأولي من سراديبه المظلمة إلى نور الوعي؛ في
حين يبقى التمثيل عند الكثيرين في طور مخطط
بسيط لم يكتمل. إذًا يمكن أن
يعود التضخم لأسباب غير عوامل الجذب والضغط
الخارجية، أي المقامات والألقاب والأدوار
الاجتماعية؛ إذ قد ينتج عن عوامل لاشخصية أو
جماعية تخص الوعي المشترك للكل. فوراء الفرد
يوجد المجتمع، وتوجد خلف نفسيتنا الشخصية
نفسٌ جماعية هي اللاوعي الجمعي collective
unconscious الذي
يمتلك، كما أظهر مثالُنا للتو، بؤرًا جاذبة
ذات قدرة فائقة. إن استشفاف إحدى الصور
العظيمة التي تبهر وتمنح العالم وجهًا آخر
وطريقة وجود أخرى قادرٌ على أن ينتزع الفرد
خارج الواقع. وهذه الصور هي التي تنتج
التعابير الشاعرية واللغة الدينية والرمزية
على أعلى المستويات. يذكر يونغ قصة
شاب آخر، كان أبعد ما يكون عن الشاعرية، يعتقد
أن صديقته مغرمة به مثلما كان هو. وعندما
اكتشف أن هذه الفتاة لا تستطيع حتى أن تسمع
اسمه توجَّه إلى أقرب نهر كي يرمي نفسه فيه.
وبينما هو يتأمل الماء قبل أن يقفز رأى النجوم
الملتمعة في قبة السماء تنعكس على صفحة
الماء، بل تراءى له أن النجوم تنزل مثنى مثنى
إلى الماء متشابكة حالمة. وفجأة تغير كل شيء
من حوله وتحوَّل، ولم يعد مسكونًا بحبه
وخيبته، وأمست ذكرى الفتاة بعيدة عنه. لقد
حوَّلته الرؤيا، واستغرقه الحدسُ الغني الذي
انفرض عليه. نخلص من خلال
الأمثلة التي قدَّمناها إلى أن بعضهم يبتلعُه
دورُه الاجتماعي، وبعضهم الآخر تبتلعه رؤيا
داخلية. وتنتج تغيرات الشخصية غير المفهومة
من الجاذبية التي تمارسها صور جمعية. وهي
جاذبية يمكن أن تحتِّم تضخمًا متقدمًا لدرجة
تصبح معها الشخصية كأنها منحلَّة. والحال أن
مثل هذا التحلُّل للشخصية يشكل مرضًا
عقليًّا، عابرًا أو دائمًا، أو انفصامًا
للنفس أوجد بلويلر من أجل تسميته كلمة schizophrenia.
بالطبع يرتكز مثل هذا التضخم المخيف على ضعف
خلقي في الشخصية في مواجهة سيادة العوامل
الجمعية، اللاواعية في أغلب الأحيان. ومثلما أن الفرد
ليس كائنًا مفردًا ومعزولاً عزلاً مطلقًا، بل
هو كائن اجتماعي، كذلك ليس العقل الإنساني
ظاهرة معزولة وفردية، بل هو أيضًا ظاهرة
جماعية. ومثلما تذهب بعض الوظائف الاجتماعية
وبعض الاندفاعات عكس مصالح الفرد المعزول،
يُؤوي العقل الإنساني بعض الوظائف أو الميول
التي تقف، بسبب ماهيَّتها الاجتماعية، في وجه
الاحتياجات الفردية. إن لاوعي الشعوب
والأعراق الأكثر بعدًا أحدها عن الأخرى يبدي
تماثلات وتقاربات ملحوظة تتجلَّى في التطابق
الهائل للأشكال والمواضيع الأسطورية
المحلِّية في ظل المناخات الأكثر تنوعًا. ومع
ذلك توجد فوق قاعدة النفس الجمعية العالمية
مستويات للنفس تتعلق بمحدوديات العرق
والقبيلة والعائلة. لذلك يشدِّد يونغ
على أن مساعدة شخص على استيعاء ودمج لاوعيه
الشخصي بواسطة التحليل يجعله أكثر إدراكًا
للتصرفات والعوامل التي تحرِّكه والتي كان
أدركها عن الآخرين. لكنه يصبح، بفعل معارفه
الجديدة، أكثر جماعية؛ وقد يؤثر هذا في
تخليصه من حالة عصاب. لكن يونغ ينظر إلى هذه
الحالة على أنها نصف مرض ونصف شفاء، خاصة إذا
لم يتوصل المريض إلى تمييز ذاته عن المحيط.
فإذا شعر الفرد أن النفس الجمعية ملكية خاصة
أدى هذا إلى تكبيل شخصيته؛ وبالتالي لابدَّ
من التركيز على تكامل الشخصية وإقامة تمييز
بين المحتويات الشخصية ومحتويات النفس
الجمعية. وهذا التمييز في غاية الصعوبة لأن
هناك صعوبة في الجزم أية محتويات هي شخصية
وأية محتويات جمعية. فكل الرموز التي تظهر في
الأحلام جماعية، وكل الغرائز الأساسية وبنى
الفكر والشعور جماعية، وكل ما تعارَف الناس
على اعتباره عالميًّا أو عامًّا جماعي؛ وكذلك
كل ما هو معطى ومفهوم ومُقال ومصنوع بصورة
شائعة وجارية. نندهش، عند النظر إلى الأشياء
عن قرب، كم يتضمَّن علم النفس الفردي من عناصر
جمعية. ولكن بما أن التفرُّد individuation
ضرورة نفسية محتمة تمامًا فإن العامل الجمعي
الساحق والكلِّي القدرة يجعلنا نتنبَّه
للأهمية الخاصة التي يجب أن نوليها لتلك
النبتة الرقيقة التي ندعوها "فردية". آفاق
دراسة اللاوعي في علم النفس التحليلي
يقول
يونغ في كتابه الإنسان يبحث عن نفسه
متحدثًا عن المعالجة النفسية: إن
إمعان النظر في المرض المرئي لا يشكل شيئًا
إذا لم تشمل نظرتُنا الفرد بكلِّيته. ذلك أن
علينا الإقرار بأن المعاناة النفسية لا تنحصر
تحديدًا في ظواهر متموضعة ومحدَّدة بدقة، بل
بأن هذه الظواهر أعراض لموقف خاطئ في الأساس
اتخذته الشخصية برمَّتها. لعلنا إذا لم نحجم
عن توقع شفاء صحيح من خلال معالجة الأعراض
وحدها فما من أمل لنا إلا بمعالجة الشخصية
برمَّتها. هكذا
تحيلنا طريقة يونغ إلى مبدأ المعالجة
الكلِّية التي تأخذ النفس بكلِّيتها وتعطي
العناصر اللاواعية التي كشفت التجربة غناها
الموقعَ الذي تستحق. إن الأحلام التي أمضى
يونغ خمسين عامًا في دراستها ليست غبية ولا
تافهة ولا مجردة من المعنى، بل هي، على العكس،
توفِّر لنا، إذا ما تقصَّدنا فهم رموزها،
معارفَ هامة. في هذه الفترة من
التاريخ الإنساني، حيث كل الطاقة الإنسانية
مكرَّسة لدراسة الطبيعة، نجد أن هناك قليلاً
من الاهتمام بماهية الإنسان، أي نفسه. لقد
أُنجِزَت دراسات عديدة فيما يتعلق بوظائف
الإنسان الواعية؛ ولكن مازالت هناك مناطق
مركَّبة ومجهولة من النفس تنبثق منها الرموز
الأغنى، وهي مازالت بحاجة للاستكشاف. يصعب
التصديق أنه، مع كل هذه الإشارات التي تصلنا
يوميًّا، يجد بعض المحلِّلين صعوبة في فك
رموز هذه الرسائل ويجدونها مزعجة ومضجرة
لدرجة أن لا يهتم لها أحد. تتمتع النفس – وهي
أهم أداة إنسانية – باعتبار قليل، وهي غالبًا
ما تُعامَل بحذر واحتقار. ويتأتى هذا الحكم من
أننا مشغولون دائمًا بما نفكر به، ولكننا
ننسى أن نتساءل عما يعتقده لاوعينا عنه. إن أفكار فرويد
هي التي وطَّنت الناس على الاحتقار الذي
يكنِّونه لمقوِّماتهم اللاواعية. لقد كان
اللاوعي مجهولاً قبله، ومعه أصبح "سلة
نفايات" أخلاقية. مما لاشك فيه أن وجهة نظره
هذه محدودة وغير عادلة، وهي لا تتوافق مع
الوقائع المعروفة. إن معرفتنا الحالية عن
اللاوعي تبدي أنه ظاهرة طبيعية، وأنه حيادي
مثل الطبيعة. إنه يحتوي كل مظاهر الطبيعة
الإنسانية: النور والظل، الجمال والقبح،
الخير والشر، العمق والسطحية. إن دراسة الرمزية
الفردية والرمزية الجماعية هي مهمة صعبة لم
نسيطر عليها حتى الآن تمامًا، ولكننا بدأناها.
وهي تنبئ بأجوبة كثيرة على ما تطرحه
الإنسانية اليوم. ***
*** *** مصادر
-
Jung, C.G., Dialectique du moi et l’inconscient,
Gallimard, Folio 46, Paris, 1993. -
Jung, C.G., Essais sur l’exploration de
l’inconscient, Gallimard, Folio 90, Paris, 1995. -
Marx
and Hillix, Systems and theories in Psychology, Chicago, 1979. -
بودوان، شارل، علم النفس
المركب: تفسير أعمال يونغ، بترجمة سامي
علام، دار الغربال، دمشق. -
فرويد، سيجموند، الموجز
في التحليل النفسي، بترجمة سامي محمود علي
وعبد السلام القفاش، دار المعارف بمصر. -
يونغ، كارل، الإنسان يبحث
عن نفسه، بترجمة سامي علام وديمتري
أفييرينوس، دار الغربال، دمشق. -
يونغ، كارل غوستاف، جدلية
الأنا واللاوعي، بترجمة نبيل
محسن، دار الحوار، اللاذقية.
|
|
|