في "حضارة" اللامعنى

 

أميمة الخش

 

نعيش عصراً ملحمياً ولم يعد فينا شيء ملحمي.

ليو فيريه

 

الحياة الاجتماعية هي القفا. الوجه هو الحياة الداخلية.

جان بومييه

 

لطالما أرَّقني هذا السؤال: هل للحياة معنى؟

بعبارة أبسط: هل لأيِّ شيء معنى؟

عندما أعيتْني إجابةٌ فكرية على هذا السؤال أعدتُ طرحه على نحو مختلف: لماذا يجب أن يكون للأشياء معنى؟ ولماذا يفتش الإنسان عن معنى لحياته أصلاً؟

ثم توالت أسئلة أخرى: هل المعنى معطى أصلي، ذو وجود موضوعي مغروس في الأشياء، أم أن فعل الوعي هو الذي يضفي عليها المعنى؟ وإذا كان المعنى معطى أصلياً مغروساً في الوجود لماذا لا يتفق الناس جميعاً على معنى الحياة، أو حتى على معنى أيِّ شيء؟ وإذا كان المعنى ثمرة اختبار ذاتي، لماذا لا يتساءل عنه، عن كنهه، إلا ثلة من البشر؟

أغلب الظن أن المعنى ليس معطى أصلياً، قابلاً للترجمة إلى منظومة إيديولوجية جاهزة يفصِّل الإنسان الوجودَ والعالمَ على قياسها، بل هو كُنْه مبهم، مجهول الأصل، لكنه مغروس عميقاً في النفس الإنسانية كبذرة قابلة للنمو والتفتح عن ممكنات لانهائية في تعددها وتلاوينها. ومن شأن تفتح النفس، ولو عن جزء من هذه الممكنات، في برهة مباغتة من الحياة، أن يُشعِر المرء بامتلاء، أو فرح، أو رضى عميق، أو بهذه مجتمعة. وهذا الشعور هو، ربما، ما يضفي على الحياة الإنسانية معناها.

إن سيرورة تفتح الإنسان عن الممكنات الكامنة فيه، أي فعل إضفاء المعنى المتجدد أبداً، هي التي تؤول، تدريجياً، إلى عبور الإنسان من محيط وجوده، المرتهن لخبرات الحواس وحسب، إلى مركز هذا الوجود. بكلام أوضح، هذا العبور هو تدرُّج من تماهي المرء مع أناه – أي شخصيَّته المنفصلة التي تدير العالم من حولها وتُسخِّره لإشباع شهواتها – إلى اكتشافه لذاته العميقة، هويَّته الأصلية، أي الكيان الذي يجعل منه، في آنٍ معاً، فرداً واحداً غير منقسم ووجوداً منداحاً في العالم، حاضراً فيه، مستغرقاً في بهائه.

الخبرة الأولى (الأنانية، الشخصية) هي خبرة "اللامعنى" لأنها، في سعيها المحموم إلى التفتيش عن المعنى خارج الذات، تنزع إلى التماهي (بمعنى الحيازة والتملك) مع المفاهيم والموضوعات التي تتوهم أنها يمكن أن تستمد منها المعنى. لكنها، في المآل، لا تحصد إلا الخيبة بعد الخيبة.

الخبرة الثانية (الذاتية، الفردية) هي خبرة "المعنى" بامتياز، لأن المعنى فيها ليس مطلباً في الأساس، بل ثمرة طبيعية لتطور النفس الإنسانية في تفتحها المذكور.

الخبرة الأولى هي تجربة اللذة التي تنتهي بانتهاء الفعل المحرِّض لها، وتفترس الشخصية، جسماً ونفساً، بمقدار ما تمعن هذه في تعاطيها، فيعقبها الإنهاك والخواء والملل.

الخبرة الثانية هي خبرة الفرح الذي لا يرتبط بأي فعل محدد، بل يظل رفيق الإنسان، حتى في أحلك ساعات حياته، ويهبه الشعور بالغنى الحقيقي وبالتعاطف مع كل الكائنات.

إن الأنا الشخصية هي التي تتخذ من "الشخص" قناعاً تستر به حقيقتها، أي فراغها الداخلي، ودرعاً يدرأ عنها كل ما من شأنه أن يهدد وجودها وديمومتها. إن إدراك الأنا الضمني بأن لا وجود حقيقياً لها، وبأنها تستمد وجودها من "حيازة" الموضوعات الخارجية وحسب، يدفعها إلى تهالك محموم على هذه الموضوعات، مادية أو فكرية، لكي تتخذها متكأً ورصيداً للقيمة وللمعنى.

من هنا هذا التماهي العجيب اليوم (ولا سيما عند جيل الشباب) مع كافة المظاهر التي تضفي على الأنا بريقاً وتمنحها مكان الصدارة في المجتمع – "التجمُّعي" وليس الاجتماعي (ندره اليازجي) – ويشد إليها الأضواء: الثياب الفاخرة، التي تضفي مسحة أنوثة على الذكور، أو تفضح أكثر مما تستر عند النساء، المجوهرات الباذخة، السيارات الفارهة أو الحديثة، استعمال وسائل الاتصال الحديثة في غير محلِّها أو ضرورتها، تحيُّن الفرص للظهور المجاني في وسائل الإعلام وغيرها، إلخ...

كذلك، على صعيد الفكر، نجد "المثقفين" يقتتلون على ملكية الأفكار، متماهين مع أفكارهم التي لا تنعكس، غالباً، سلوكاً في حياتهم ومعيشتهم، مشهِّرين، بلباقة أو بدون لباقة، بكل من يخالفهم الفكر أو الرأي.

الجميع يستمد المعنى والقيمة المزعومين من خارج الكيان، دون أن ينتبه إلى أنه بعد أن يتجاوز سنَّ الخمسين، لا بدَّ أن يرتدَّ بنظره إلى الوراء قليلاً، فيبدأ بالتساؤل عما فعل إبان حياته، عما حقق من الممكنات الكامنة في نفسه.

من مظاهر القطيعة بين الفردية والشخصية، بين الذات الحقيقية والقناع "التجمُّعي"، الانفصالُ بين الخبرة الشعورية وبين التجربة الحسية، بحيث بات الشعور يلتبس على غالبية الناس بالإحساس، فيحسُّون وحسب، ظانِّين أنهم يشعرون.

الخبرة الشعورية خبرة فردية بامتياز لأنها ناتجة عن استغراق (يختلف عمقاً بحسب الأفراد) الذات في موضوع ما؛ وهذا الاستغراق، بطبيعته، متجدد دوماً، لا يخضع للتكرار أو الاعتياد.

أما التجربة الحسية المحضة فهي، على العكس، تنتج عن استثارة الحواس واستهلاك الطاقة الداخلية بامتصاصها من المركز إلى المحيط، بما يوهم الشخص أنه يملأ فراغه الداخلي، بينما الواقع هو أن هذه التجربة، التي لا تتعدَّى من وعي الإنسان سطحَه الخارجي، تجعله أسير العادة والتكرار، وتقذف به (ما لم يجرِ استبطانُها) بعنف إلى الخارج.

لقد بات الوعي الإنساني مفتقراً افتقاراً مأساوياً إلى الكثافة والعمق، الأمر الذي ينعكس على حياته تسطيحاً للمعنى والقيم في نوع من النسبوية القيمية التي تجعل من أي شيء مساوياً في القيمة لأي شيء آخر: بذلك تصير أية صرعة فكرية أو دينية مساويةً لأرقى الإبداعات الروحية التي أبدعها الإنسان في علاقته المباشرة مع الحياة، وتصير خربشات مهووس "فني" أهم من إبداعات ليوناردو ورمبرانت ومونيه...

ولأن الكثرة الساحقة من الناس اغتربتْ عن ذاتها وركنتْها بعيداً، فتماهت مع كل ما هو خارج عنها، فقد أضاعت الشعور السوي والعميق بالأشياء لحساب مجرد إحساس سطحي لا ينفذ إلى الطبقات العميقة من النفس. وفي الإجمال، لم يعد ينفذ إلى جَوَّا النفس إلا الشحيح الشحيح من الجوهر – وكأن الدرع الذي ساهمت في بنائه ليفصل فرديتها عن شخصيتها ما انفك يزداد سماكة وكثافة يوماً بعد يوم. وهكذا أضحى معنى كل شيء في الحياة لا يلامس إلا السطح في كيانات بشرية لا تعيش إلا حالة من الخواء الروحي، خواء "اللامعنى".

هذا الدرع السميك الذي يمنع النسغ الداخلي من تغذية الشخصية يحوِّلها إلى جذع خشبي يابس، لا حيوية فيه ولا غنى، بل هشاشة وركاكة، الأمر الذي يجعلها تتجنب كل لحظة صمت أو هدوء من شأنها أن تضعها في مواجهة ذلك الخواء الداخلي المريع. كل لحظة صمت تفضح للأنا مَواتها، فتهلع، وتلجأ إلى كافة الحيل لتغطية هذا الخواء تغطية كاذبة، من موسيقى صاخبة، إلى ثرثرة كلامية أو ذهنية، في شرود يموِّه هذا الخواء ويواريه عن ساحة الوعي.

إن الشعور الأصلي بالوجود، الذي هو امتلاء داخلي، ينعدم اليوم لصالح استثارة حواسية دائمة. كذلك فإن انعدام الشعور بالذات ينعكس حتماً في غياب إحساسها بوجود الآخرين، سواء فيزيائياً أو نفسياً، بحيث يتمدد "المجال الحيوي" للجسم، متطاولاً على مجالات الآخرين، متعدِّياً عليها.

فالشخص الذي يدع موسيقاه المنبعثة من سيارته أو من بيته تصمُّ آذان الناس من حوله، أو الذي يرفع بناء داره حاجباً عن جاره الشمس والهواء، أو الذي يصدمك بحسمه وأنت تسير في الطريق دون أن يحس أنه فعل أي شيء – كل هؤلاء أدلة على انعدام الشعور بالذات، وتالياً بذوات الآخرين، وعلى غياب احترام الذات، وتالياً ذوات الآخرين.

لو دققنا جيداً في الظواهر "الاجتماعية" التي نراها يومياً لراعنا ما يحصل، ولأدركنا أن الانفصال ناجز، وأن الانسلاب عن الذات والاغتراب عنها بيِّن جلي، وأن التهميش والتسطيح يشمل كل ما يُرى ويُسمَع ويُحَسُّ. فما الذي يراه الناس هذه الأيام بعد أن أداروا وجوههم للسماء، للشجرة، للوردة، للبحر، وللجبل؟! – أو لنتساءل، بالأصح، ما الذي يريد لهم الآخرون أن يروا بعد أن فعلوا كلَّ ما بوسعهم لتحويل نظر الإنسان عن ذاته؟!

أقصد بـ"الآخرين" سادة هذا العالم الذي يدَّعي الحضارة والمتحكِّمين فيه. ففي الواقع لم يألُ هؤلاء جهداً في تحويل البشر إلى مجرد مجموع رقمي، يلبس كلُّ رقم فيه لباساً من نمط جمالي واحد، ويأكل نوعاً معيناً من الطعام، ويشرب شراباً موحَّد النكهات، ويرى المشاهد الإعلامية عينها، ويسمع موسيقى من نمط واحد، ويرقص (لو أراد أن يرقص) الرقصة نفسها – والقوم في كل هذا مأخوذون، مستَلَبون، يظنون أنهم بذلك قد بلغوا أوج "الحضارة" والسعادة!

هذا هو الداء العظيم، داء النمط الواحد، داء عدم التمايز والتمييز، داء انعدام الخصوصية، داء المجتمع–القطيع، داء الفرد المستهلِك–المستهلَك، المستقبِل بدون شروط، وبدون أن تتحرك في داخله (الذي صار بعيداً ومحايداً) أية شرارة تنبِّهه إلى الخطر المخيِّمة ظلالُه على كيانه الإنساني؛ إذ إن درع الأنا، المنصوب في أول الطريق بين السطح والعمق، أمسى كتيماً للغاية.

فحتَّام نظل نلصق الطبقة فوق الطبقة، فنزيد في سماكة الدرع الفاصل؟ حتَّام نظل ننظر فلا نبصر، ونسمع فلا نصغي، ونلمس فلا نحس، ونقع في حقول الشوك فلا نحس بوخزه؟! حتَّام نظل نعيش في ثلاجات كبيرة تعزلنا عن حرارة الحياة الحقيقية، حياة الأعماق؟! حتَّام نبقى دمى تحركنا أزرار تتحكم فيها أيادٍ بعيدة وغريبة؟!

في هذه الأرض التي نعيش عليها أسرار، لو تعمَّقنا فيها لعرفنا أن في كل ذرة تراب قلباً ينبض، ونفساً تتوق إلى التجدد والتحرر والتجذُّر في خصوصية ذاتية لا تلغي إنسانيتها وتعطشها إلى الانطلاق وإلى تحطيم كل الدروع الفاصلة بين ما هو حقيقي وما هو مزيف، بين الأنا الحقة والشخصية المتوهَّمة.

فمتى نسترد ذواتنا الضائعة؟ متى نفتح كوى النور لدواخلنا لكي ترى ضياء الشمس وتعرف أنها جزء من كلٍّ في هذا الكون المتناغم الواحد؟!

متى نبدع معنى حياتنا، فنبني حضارة المعنى؟!

*** *** ***

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود