عمل بلا نهاية

 

ديمتري أفييرينوس

 

 

منزلة الوسيلة من الغاية منزلة البذرة من الشجرة.

غاندي

 

الفعل الذي يحوِّلنا كبشر، الذي يجلب التجديد، الافتداء، التحوُّل – سمِّه ما شئت – مثل هذا الفعل لا يتأسَّس على فكرة. إنه فعل بصرف النظر عن تتابع الثواب والعقاب. مثل هذا الفعل فعلٌ لازمنيٌّ، لأن الذهن، الذي هو السيرورة الزمنية، السيرورة الحسابية، السيرورة التقسيمية، العازلة، لا يتدخل فيه.

ج. كريشنامورتي

 

ما برح العمل في حياة الإنسان مشكلة.

ما برح واحدُنا غير قادر على العمل في بساطة، وبالتالي، على حسم مشكلة العمل. كل فعل يقوم به يستغرق فكرَه، وأهواءه، وذهنه. وبما أن هذه متداخلة في ساحة وعيه فإن العمل يتضمن مسألة الصواب والخطأ، مسألة النتائج الطيبة والنتائج السيئة، مسألة الغايات والوسائل. وعندما يعيد واحدُنا النظرَ فيما فعل ينتابه أحيانًا شعور بالندم على أخطاء ارتكبها؛ لكنه في أغلب الأحيان يهنئ نفسه، واجدًا الأعذار والمسوِّغات، وملقيًا بالمسؤولية أو التبعات على الآخرين أو على الظروف.

ذاكرة الأفعال الماضية تستحضر انفعالات وخواطر عديدة. فكأن لدى كلٍّ منَّا، في رأسه، مقبرة سرية يحرص عليها، فيوقظ، بين الفينة والفينة، أمواته من سباتهم، ويُسِرُّ إليهم بمكنونات صدره، وينتزع منهم كلمات هي أصداء لرغباته، قبل أن يعود ويُلحِدهم من جديد. هناك، بين أشباح الماضي، نعيش جلَّ تلك الفسحة التي ندعوها العمر.

والإنسان ينظر أيضًا إلى الأمام. إنه يخلع العمل على المستقبل، متخيلاً نفسه قائلاً أو فاعلاً أشياء معينة، متغلبًا على الآخرين، فائزًا بالنجاح، مصوِّبًا الأمور أو جاعلاً إياها مريحة له. وهذا الخلع للعمل في مخيِّلته ينطوي هو الآخر على حركة ذهنية معقدة. فقد يغشاه خوف مما قد يعقب اتخاذ مسار معين في العمل؛ وقد يحدوه أملٌ وترقب؛ وقد يتناوب هذان الإحساسان. وبما أن المرء آمِلٌ حينًا، وخائف حينًا، ليس ثمة عمل بسيط بساطة الحياة. فما يظنه نتائج طيبة أو سيئة يتوقف على الخواطر والانفعالات التي تنتابه: عندما يكون احتمال تلبية رغباته واردًا فإن النتيجة "طيبة"، وإذا خاب أمله فإن النتيجة "سيئة". النتيجة، إذن، مرتبطة بالنوازع في الداخل، بالأمزجة العابرة العديدة، بالرغبات، وبأماني التحقق الذاتي. من هنا فإن العمل يتداخل مع كلِّ ما يحتدم في دخيلة النفس؛ فلا يمكن للعمل الخارجي أن ينفصل عن الشروط الذهنية والانفعالية الداخلية.

*

المجتمع الإنساني معقد، والعمل يعني التماشي مع ذلك التعقيد. هناك قوى لا عدَّ لها فاعلة في البيئة المحيطة بنا: الانتماء الطائفي أو العقائدي لمجتمع معيَّن، الأعراف الاجتماعية السائدة، نوعية التربية التي يتم تلقينها للأفراد، الضغوط الأسرية، وهلم جرا. وهذه القوى ليست متَّسقة؛ فهي تتنازع الفرد في اتجاهات مختلفة، كثيرًا ما تكون متعاكسة، وتضغط عليه من زوايا عديدة. والعمل يعني الاستجابة الآنية وسط كل هذه القوى.

الفعل الصادر عن أحد الأفراد يولد ردَّات فعل في البيئة وفي المجتمع الإنساني المحيط به. وقد تكون ردَّات الفعل، من وجهة نظره، مواتية أو غير مواتية. من هنا يكاد يكون التوقع المسبق لردَّات الفعل الصادرة على عمل معين متعذرًا. ومجال الفعل، في آنٍ معًا، هو سيرورة عمل الشخص المحرِّض أفعالاً في العالم الخارجي وسيرورة هذه القوى الفاعلة في المجتمع والمتطلبة استجابات من الفرد. ولأننا نحيا في عالم معقد، مترابط، متشابك (كما بات يعي ذلك العديد من العلماء والإيكولوجيين)، ليس ثمة فعل ليس في الواقع تفاعلاً.

هناك دومًا تفاعل، حتى مع العناصر غير البشرية، لأن عملنا يولد عواقب محتمة تؤثر في الخارج، كما بتنا نتبيَّن ذلك الآن. إننا، على سبيل المثال، ندمر أشجار غابات العالم – رئة الأرض – بسرعة مخيفة، وأغلب الناس ليسوا على دراية مباشرة بالعواقب: ثاني أكسيد الكربون في الجو يتزايد فيما كمية الأكسيجين تتناقص بحيث سيصل بنا الأمر قريبًا إلى عسر في التنفس.

لسنا على ترابط مع البيئة الطبيعية وحسب، بل كذلك مع البيئة الإنسانية، مع الخواطر والانفعالات، ومع "جو" العالم بأسره. لذا فإن الفرد كثيرًا ما يجد نفسه مكرَهًا على توجُّه معين بتأثير الجو النفسي المحيط به، بسُحُب الخواطر والمشاعر، بـ"الهالة" الأسرية أو العشائرية أو القومية، إذا جاز التعبير، أو بالمناخ الطائفي الذي يطوِّقه. فلئن كان الناس، في ألمانيا النازية مثلاً، قد قبلوا الانصباب في قالب جعل بعضهم يفعلون طوعًا أشياء فظيعة، ليس هذا لأنهم كانوا مختلفين عني وعنك، بل لأن جو بلادهم برمَّته كان يؤثر فيهم سلبًا.

من المهم، والحالة هذه، أن ندرك بأننا نحيا في حقل معقد من العلاقات المتعددة الأبعاد – أو من السببية المتعددة multiple causality، إذا جاز القول – لأن الحياة شبكة متواشجة من العلاقات. ومع أننا لا ندرك بحواسنا قسطًا كبيرًا من هذه العلاقات فإن في وسعنا، إذا حرصنا قليلاً على المراقبة والاستشعار، أن نتأكد أن مثل هذه العلاقات موجود فعلاً. وبما أننا جزء من تلك الشبكة الكلِّية من العلاقات المتبادلة – انفعاليًا، فكريًا، وعلى المستوى الحواسي أو الجسماني – فإننا لا نستطيع أن نبقى منعزلين – مهما فعلنا.

هناك وقائع معينة مثيرة للاهتمام سلَّطتْ عليها الضوءَ الأبحاثُ العلمية الجارية حاليًّا. يقال، على سبيل المثال، إننا، رغم ظنِّنا أننا "نملك" أبداننا وأن البدن عبارة عن واحدة قياسية، فإنه في الواقع عبارة عن مستوطنات من الكائنات الحية المجهرية غير المرئية، بحيث إن من حقِّنا أن نتساءل جديًّا عما إذا كان بدننا "لنا" أصلاً، أم هو في الواقع تكتل من مستوطنات كائنات أخرى! وهذا يبين طبيعة العلاقات التي نحيا فيها بدون أن نعي ذلك. لكن ثمة أمرًا واحدًا لا ريب فيه هو أن العزلة مستحيلة لأننا جزء لا يتجزأ من شبكة متواشجة.

القعود عن العمل أيضًا مستحيل لأن هناك حركة وتغيرًا مستمرين في شبكة العلاقات. إننا قد نتذهًّن حالة البقاء "على حدة"، أو الهرب، أو التغير، لكن إمكانية السكون أو الانعزال غير واردة. فما نتخيَّله هربًا إلى السكون هو في الواقع نوع مختلف من الفعل متولِّد عن الخوف، وعن الرغبة في تجنب ما في خارجنا أو في داخلنا؛ وهذه الرغبة في الهرب تجعلنا ننكفئ على أنفسنا ونزعم أننا نستطيع أن نتنحَّى جانبًا. لكن الفعل الناجم عن الخوف أو عدم الأمان ليس قعودًا عن العمل. هنا نتذكَّر الآية الشهيرة في الـبهغفدغيتا: "ولا حتى لبرهة قصيرة يمكن لأحدهم أن يلبث قاعدًا عن العمل؛ كل واحد منقاد حتمًا للعمل بفعل الخواص المتولدة عن الطبيعة."

*

أذهاننا نتاج لمؤثرات لا عدَّ لها. هناك أولاً تأثير البيئة: الذهن يتغير بحسب ما إذا كنَّا في بيئة صعبة أو أخرى سهلة. فالذين يعيشون في أرض خصبة قد يميلون إلى الكسل؛ إذ حسبهم أن ينثروا البذار بلا اكتراث فينمو المحصول من تلقاء نفسه.

هناك أيضًا عوامل البيئة البشرية. إن موروثنا الإثني يَسِمُ أذهاننا باستعدادات وبميول معينة. هناك، على سبيل المثال، التصنيف العريض المطروح (المبالَغ فيه قطعًا) القائل بأن الإنسان الغربي ميال بطبعه إلى الموضوعية، بينما ذهن الشرقي أميل إلى الذاتية. لكن الخصائص الإثنية، تأثير التعليم، نمط التربية الذي يُنشِئ عليه الوالدان أبناءهما، التأثير المبكر للمدرِّسين – كل هذه العوامل تساهم في تشكيل الذهن. ويقال إن الطفل، قبل أن يتعلم الكلام، حتى في سنيه الأولى، يكون قد تشرَّب أنماطًا متنوعة من الموقف والسلوك. فالوالدان الحريصان حرصًا مرضيًّا على أن يصير طفلُهما ناجحًا يعلِّمانه – وهو بعد أصغر من أن يتكلم أو يقرأ – كيف يصير تنافسيًّا. من هنا فإننا، على غير علم منَّا، مشروطون مقيَّدون منذ حداثة سنينا.

إلى جانب كل ما تقدَّم، فإن تجاربنا السابقة، والمصاعب التي قاسيناها، والملذات التي تمتَّعنا بها، وردَّات فعلنا عليها، ورغباتنا وخيباتنا – تؤثر في الذهن تأثيرًا لا ينقطع. فهي، وغيرها من العوامل النابعة من الذهن نفسه، تلوِّن الذهن وتوجِّهه. "لون الماء من لون الإناء"، كما يقول ابن عربي. كلما قال واحدنا، على غير تمعُّن، "هذا عقلي"، "هذا أنا"، "هكذا أشعر"، فهو لا يعي أن ما يشعر به ليس بالضرورة شعوره فعلاً، بل ما تشكَّل في ذهنه، أو بالحري ما تقولب ذهنُه على الشعور به، من خلال مؤثرات شتى، ليست حميدة كلها. الذهن نتاج العديد من العوامل التي تشكِّله، تقلِّصه، وربما تختزله إلى جملة إشراطات قاتلة. ونحن، إذ لا نعي هذا الخطر، نتصرف ونحاول أن نحرز نتائج – نصنفها طيبة أو سيئة – من شأنها أن تستجلب سلسلة من العواقب الأخرى غير المتوقعة لأننا نحيا في حقل من السببية المتعددة.

بذا فإن النتيجة هي عاقبة عملية تشكيل أو قولبة (هي غالبًا مشوِّهة) يتعرض لها الذهن؛ وهي أيضًا نتاج ماضيه. الهدف يُخلَع على المستقبل، لكن مصدره هو ماضٍ سحيق غير مَوْعي. إننا، ونحن نفكر وحدنا، نمارس تمييزًا واختيارًا في الحاضر. لقد كان على حق من قال إن الآلهة إذا شاءت أن تقتص من أحدهم فإنها تستجيب لصلواته! فعندما يسعى أحدهم بإلحاح لاستجلاب "خير" قد يكون هذا من قبيل الجنون المحض ومجلبة لمآسٍ لا تنتهي. إن الأشياء التي يسعى إليها الناس في الظاهر قد تكون خيِّرة ظاهريًّا، لكنها في الواقع تُنتِج غير ما يتوقعون، وربما عكس ما يرغبون فيه. فكما قال أفلاطون، يفكِّر الجميع ويتصرف من وجهة نظر ما يعتبره خيرًا. فحتى عندما يقترف أحدهم جريمة ويؤذي أحد الناس فإنه يظن أنه يجلب خيرًا على نفسه! والنتيجة ما هي إلا استجابة لأوهام الذهن أو لقصوره عن الإحاطة بكافة أبعاد القضية التي يتناولها.

المجتمع والفرد، على ما رأينا، لا يني الواحد منهما يفعل في الآخر ويردُّ عليه الفعل. من هنا فإن ما يظنه الفردُ هدفَه، الغاية التي يرمي إليها، هو في الواقع ما تَبرمَج عليه ذهنُه ليس إلا. هناك علماء نفس ومفكرون آخرون يؤكدون الآن على أهمية إعمال الخيار. لكن الذهن الذي شُكِّل وتَبرمَج على أن يكون ما هو عليه غير قادر، في الواقع، على إعمال أي خيار على الإطلاق. فما نظنه "خيارًا" هو شيء معيَّن سلفًا: إنه نتاج الشرط الحالي للذهن وللمؤثرات التي تعرَّض لها في الماضي. إن شخصًا يرمي إلى هدف معيَّن يتخيل أن ذهنه يتصف بالجلاء؛ لكن هدفه، في الواقع، هو هدف المجتمع الذي يعيش فيه. اليهودي، المسيحي، المسلم، الهندوسي، الشيوعي، كل امرئ، ضمن حدوده الضيقة، يظن أن لديه هدفًا واضحًا. لكن ذلك الهدف المفترض، في جملة طموحاته وأطماعه (كلمتان مترادفتان في الواقع، ومدلولهما فعلاً "رغباته")، هي جزء من برنامجه الذهني ليس إلا.

فما الذي يجعل الذهن البشري بهذا الاكتظاظ بالأهداف – سياسية، دينية، اقتصادية، اجتماعية، شخصية، أسرية، إلخ؟ ألم ننشأ على الاعتقاد المشروط بأن لا مناص لنا من اتخاذ أهداف لحياتنا ومن السعي إلى بلوغها؟ لعل المجتمع، الذي نخلقه بمجموعنا، هو الذي جعلنا نظن بأن هذا جزء جوهري من الحياة، لا تكتمل بدونه. والغايات التي نسعى إلى تحقيقها قد تكون مجرد نتاج للتجربة الفردية والجماعية التي قد تكون مفجعة في خيبتها. والإنسان، إذ يحصد ما يظنه عِبَرَ التجربة ودروسَها – الذكريات، البغض، الأحكام الاعتباطية، والرضوض النفسية –، يولِّد في نفسه دوافع تحضُّه على بلوغ "غايات" محددة.

في جملة هذه الدوافع لا توجد الأفكار المتشكِّلة من جراء المؤثرات والانفعالات وردَّات الفعل المختلفة وحسب، بل والمواقف المجيَّرة لحساب المنفعة الشخصية والدافع البدائي للبقاء الذي فُطِر عليه الدماغ. ذلكم هو ميراثنا "الحيواني" الذي يتخذ أشكالاً معقدة عديدة في المجتمع الحديث، بما يسوِّغ طروحات الدارونية الاجتماعية. إن ما نظنه دافعًا طيبًا ليس، في الأعمِّ الأغلب، أكثر من طريقة مواربة للخلع (= الإسقاط) الذاتي self-projection. كل الدوافع، بما أنها متناقضة، شخصية – يحاول كلٌّ منها إنجاز شيء لمنفعته الشخصية، لمنفعة أسرته، أو فئته، أو طائفته، إلخ – ومن شأنها أن تولِّد التوتر والنزاع.

*

عندما نعيش تحدونا النوازع وحسب لا نحصد إلا الإرهاق؛ وحيثما وُجِدَ طموح، رغبة في الإنجاز، هدف ينبغي بلوغه، نجد الإنهاك المتواصل. عندئذٍ يتبلَّد الذهن، يتثلَّم، إذا جاز التعبير، ويصير أقل حساسية. ويقال إن أنسجة الدماغ نفسها تتدهور من جراء الإنهاك – ذلك أن تحميلُ ذلك الجهاز البديع الحساس بالذاكرات، بالمعلومات العقيمة، وبالانفعالات السلبية، من شأنه أن يسرِّع في عملية التدهور هذه.

والذي يحدث، في أغلب الأحيان، أنه كلما اشتدت الرغبة في بلوغ غاية واستأثرت بالطاقة النفسية الإجمالية للمرء تناقَصَ جلاءُ الذهن وحساسيتُه. عندما يوظِّف المرء طاقته كلَّها في محاولة الحصول على ما يرغب فيه فإنه لا يعبأ بأيِّ شيء آخر ولا يلحظه في الأصل حتى. فـ"العلماء" الذين يقومون بأبحاث علمية متقدمة غالبًا ما يكونون غير مبالين بمجال توظيف المعرفة الحاصلة وبكيفية استخدامها. قد تكون النتيجة قنبلة نووية تقتل ملايين الناس، لكن مثل هذا العالِم – والعلم المعرفي منه براء! –، المسؤول عن وضع هذه المعرفة موضوع التطبيق لخدمة إجرام دولة منظَّم، لا يبالي بنتائج عمله. المواد الكيميائية قد تدمر الأرض لكن هذا الأمر لا يخص مخترعها ولا يحرِّك فيه ساكنًا.

روى لي صديق كبير تابع تحصيلاً علميًّا في البرمجة المتقدمة في الولايات المتحدة أنه تلقى عرضًا مغريًا جدًا للعمل لصالح البحرية الأمريكية، لكنه رفض بدافع أخلاقي محض. في المقابل، عندما سأل زميلاً له مهندسًا عمل لصالح الجيش الأمريكي في فييتنام عما حدا به لقبول هذا العمل كان جواب هذا الأخير بالحرف الواحد: "إنه عمل كأيِّ عمل آخر!"

كذلك لا يبالي الباحثون بتعذيب ملايين الحيوانات في التجارب "العلمية" التي يقومون بها. بل إن بعضهم لا يتورع عن التصريح بأن الحيوانات لا مشاعر لها! – مع أنه حسب المرء أن يراقبها، فيشعر بفرحها عندما تلقاه، وبالوفاء والعطف اللذين تبديانهما، لكي يدرك بأن شعورها يفوق شعور الكثير من البشر ووفاءهم.

يتذكر كاتب هذه السطور سني الدراسة الأولى في كلية الطب، حيث كان الطلاب في مختبر الفسيولوجيا يُلقَّنون كيفية تخريب الجهاز العصبي المركزي (الدماغ والنخاع الشوكي) للضفدع باستعمال إبرة خاصة، يلي ذلك شق قفصه الصدري وربط قلبه، بعد تحريره من الشغاف، بأوسيلوغراف (= مقياس تذبذب)، حتى يروا بأمِّ أعينهم تأثير مادة الأستيل كولين المبطئ للنظم القلبي. فكانت الآلاف المؤلَّفة من تلك البرمائيات المسكينة تباد كل عام للتوصل إلى نتائج معروفة سلفًا! هذا عن الضفادع؛ أما مأساة الأرانب في مختبر الفارماكولوجيا فلها قصة أخرى!

المتعصب الطائفي، والإيديولوجي المتزمِّت، والسياسي الوصولي، وغيرهم من فئات الناس، لا يقلون عن سابقيهم جحودًا وقصر نظر. فعندما ننبهر بهدف ما، ويستبد بنا هاجس الوصول إليه، لا نولي انتباهنا لأيِّ شيء آخر، فنفقد حساسيَّتنا، وقوة ملاحظتنا، وشعورنا بالأشياء، وجلاء تفكيرنا.

*

عندما يكون الدافع قويًا، والرغبة شديدة، تصير النتيجة من الأهمية بحيث إن وسيلة الإنجاز لا تعود مهمة. هكذا جرى قتل ملايين الناس من أجل بلوغ المجتمع "الشيوعي" الذي زعم المنظِّرون له أنهم يعملون لوضع حدٍّ لاستغلال الإنسان للإنسان! وهكذا شُرِّد مئات ألوف الفلسطينيين من ديارهم حلاً لمشكلة اضطهاد اليهود في أوروبا. إن احترام الحياة ينتفي عندما تكون النتيجة من الأهمية بما يجعل البشر، والحيوانات، والأشجار، والجبال، تصير مجرَّد "أشياء". لم يتورع رَشْ لمبو، اليميني الأمريكي المتطرف، عن القول في معرض تعليقه على ضرورة حماية غابات الأرض: "الشجرة الجيدة كرسي أجلس عليه!" فالمستقبل، كما يخلعه الذهن، يتطاول بعيدًا وكلُّ شيء في الحاضر يُضحَّى به في سبيل مستقبل متخيَّل.

عندما تكون النتيجة كلِّية الأهمية تنفصل الوسيلة عن غايتها. الناس يشنون الحرب لجلب السلام! فهل من شيء يفوق ذلك عبثًا ولامعقولية؟! يستمر سباق التسلُّح (على الرغم من انتهاء "الحرب الباردة") ويتواصل تصنيع أحدث الأسلحة، بينما يتكلم الناس على السلام! ونحن الأفراد نقوم بالشيء نفسه، لكنْ على صعيد شخصي: نقاتل من أجل "تسوية" مشكلة ما. على النحو نفسه، قد يلجأ الأب أو الأم إلى معاقبة الطفل أو إخافته من أجل مصلحته ومصلحة الجميع! لكن الخوف يقمع الطفل، يجعله ينكفئ على نفسه، ويغرس البغضاء والمخاوف في لاوعيه. ذلكم هو النظام المعتمَد في العديد من المؤسسات "التربوية"، وفي البيوت، وفي كل مكان. الأديان، هي الأخرى، تُشرِط الذهن حتى تحرِّره، تحرِّم عليه نعمة الشك المعرفي بحجة إرضاء الإله! يتكلمون على آخرة فيها انعتاق وخلاص ونجاة، ويوضع فيها حدٌّ لكدح الحياة الدنيا؛ لكن الذهن يجب أولاً أن يتعطل تمامًا في الدنيا – يصير أعمى – قبل أن "يتنعم" في الآخرة!

لقد أمست عبثية ولاأخلاقية الفصل بين الغايات والوسائل تصفع صفعًا. "محور الشر"، "عدالة بلا نهاية"، الضربات العسكرية "الجراحية"، "الجدار الواقي"، إلخ، كلها تسميات مدروسة تستهدف تقسية القلب بـ"تطبيع" الإجرام. فكيف يمكن للقاسية قلوبُهم أن يصنعوا السلام؟! وإذا طبَّق الناس تجارب مريعة على الحيوانات والبشر وصارت قلوبُهم من حجر، أي فائدة يمكن للإنسانية أن ترتجي من ذلك في المآل الأخير؟!

الغاية هي الوسيلة، والنتيجة متضمنة في السبب، ولا يجوز الفصل بينهما. لذا فإن الـبهغفدغيتا – كتاب الحكمة الهندية الخالد – يعلِّم بأن على المرء ألا يهتم للغاية أو للنتيجة: "شأنك أن تهتم للعمل وحده، وليس أبدًا لثماره. فلا تكوننَّ ثمرةُ العمل هي دافعَك إليه، ولا تتعلَّق كذلك بالقعود عن العمل."

المسألة الهامة هي كيفية إيلاء انتباهنا للعمل وليس للغاية الواجب بلوغها – إذ إن الغاية غير موجودة في الواقع أصلاً. المستقبل غير موجود أبدًا بالفعل لأنه مجرد تصور أو صورة مخلوعة من الذهن. عندما نكون زمنيًّا في المستقبل فإننا في الواقع نكون في الحاضر. الأهداف والغايات والنتائج هي من بنات خيالنا، وتنتمي، بالتالي، إلى عالم غير واقعي؛ إنه خلعٌ للذهن على شاشة المستقبل. وحدها طبيعة العمل، أخلاقيَّته (= دوافعه)، خاصيته، التناغم فيه أو خلوُّه من التناغم، هي الواقع الملموس. لذا فمن الأهمية بمكان أن ندرك بأن الحاضر وحده حقيقي وبأن كل ما عداه من بنات مخيِّلتنا الشاردة.

فقط من خلال الانتباه المتأني للعمل – ولما ستكون عليه الغاية – يمكننا أن نفهم شرط الذهن وطبيعة الدافع (إن كان ظاهرًا ومقبولاً أو نازعًا لاواعيًا حاذقًا). عندئذٍ يتبين لنا أن الدافع ليس أكثر من خلع ذاتي، أيًّا كان الشكل الذي يتَّخذه. الرغبة في البقاء، في الأمان، في اللذة، في الإنجاز، كلها نابع من حسِّ الأنية ego (أهمكارا أو أهمبهافا في حكمة الفيدنتا الهندية) في العمل: بدون تلك الذات الصغرى، ينتفي كلا الدافع والسعي إلى النتيجة. لذا وحدها يجب أن تراعى خاصيةُ العمل في الحاضر، في "الآن".

جاء في الـتاو ته كنغ – كتاب الحكمة الصينية: "تناقَصْ، تناقَصْ، واصِل التناقص." وهذا يشير إلى إنقاص المعرفة، التخفيف من تراكم التجارب التي تثقل على الذهن – وبعبارة أخرى، القيام بما أوصى به ميخائيل نعيمه: "بدأت أتعلم يوم نسيت كلَّ ما تعلمت." كرشنا يقول شيئًا مشابهًا في تصريحه الشهير: "العمل هو من أجل تطهير الذهن، وليس من أجل بلوغ هدف." إن جلاء الذهن لا يمكن أن يتحقق ما لم يُولَ الانتباهُ كلُّه للحاضر.

*

من مشكلاتنا أننا نظن أن انعدام الدافع يعني غياب العمل: نحسب أن العمل لا يتم إلا بوجود باعث على القيام بشيء، على بلوغ غاية أو تحقيق إنجاز. لذا يقول ج. كريشنامورتي: "في بلوغ الغاية موت." لكننا نروم حركة معينة في الفكر والذهن: فهذه وحدها تمنحنا الشعور بأننا ننجز شيئًا ما.

غير أن العمل الحقيقي قد يكون من طبيعة مختلفة كل الاختلاف. فإذا تسنى لنا أن نرصد أن الدافع والخيار يتكوَّنان فينا، وأن مصدرهما صرَّة الذاكرات والتجارب الماضية التي أطلقنا عليها اسم "أنا"، نجد أن المشكلة تكمن ههنا وليس في أي مكان آخر. إذ ذاك يتحقق الجلاء في الداخل، ويزول الشواش المخيِّم على الذهن، فيتحرر من الضغوط والمؤثرات والإشراطات المختلفة. وعندئذٍ يصير العمل الحقيقي ميسورًا.

عندما تبث زهرة أريجها، فهذا ليس عملاً بالمعنى العادي للكلمة، لأن هذه العملية محض تعبير عن ماهية الزهرة. هو عمل من نسق مختلف، يجمِّل حياة العابرين. وبالمثل، فإن من شأن الذهن المتحرر من كل دافع أو غرض، الذهن الذي لا يسعى إلى نتيجة، بل يولي انتباهه كلَّه للحاضر، من شأن ذهن كهذا ومن طبيعته أن يطلق في الفضاء المحيط به أريج لاأنيَّته.

من هنا ليس للإنسان المستنير من دافع بالمعنى العادي للمصطلح. قد يعلِّم، أو لا يعلِّم؛ قد يتكلم، أو يلزم الصمت؛ كيانه بحدِّ ذاته عمل، وذلك العمل بركة تطال كلَّ شيء حي. إنه كالشمس تشرق بنورها وحرارتها، والكل يحيا بها وينمو. إنه يفعل ذلك بمجرد أن يكون نفسه.

هناك، إذن، عمل عندما يتحرر الذهن من الرغبة في الأهداف. لكنه عمل مختلف تمامًا عن كلِّ ما عهدناه، عمل ليس مختلفًا عن الكينونة. وتلك الكينونة كينونة عاقلة. عندما تنعدم المطامح (= المطامع) والأهداف، يسود العقلُ الأرفع وجلاءُ الفكر ساحة الوعي. وبهذا المعنى تصير الكينونة هي العقل، وكل عمل يتم يكون عملاً عاقلاً.

العمل الحقيقي، الفعل الذي ليس ردة فعل، هو تجلٍّ مباشر للكيان الداخلي. فحيثما يكون الفكر طاهرًا، حاضرًا في "الآن"، لا هدف له ولا غرض، فإن العمل لا بدَّ أن يكون نبيلاً.

هو عمل لا نهاية له.

*** *** ***

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود