|
خربشات في جسد
الوقت 4
فؤاد
رفقة
في
أعوام
العمر الأولى كان الخريف يُحزِنُه لأنه يفتح
أبواب المدرسة، يُعيده إلى الطبشورة واللوح
الأسود وقضيب الرمَّان. وبعد
انقضاء السنين، لا يزال الخريف يُحزِنُه، لكن
هذه المرة لأنه لا يفتح أبواب المدرسة ولا
يعيده إلى الطبشورة واللوح الأسود وقضيب
الرمَّان. يُحزِنُه الخريف هذه الأيام لأنه
يفتح الطريق إلى شيء آخر. *** في
العاشرة قبل الظهر يستقبل رئيسُ البلاد جمعية
الصناعيين. في الأولى بعد الظهر يستقبل جمعية
التجار. في الخامسة عصراً يستقبل جمعية
المصارف. في العاشرة ليلاً يستقبل باعة
الهيكل. وفي
عزلته يستقبل كاتب هذه السطور حمرةَ الشفق
عند الفجر، وعند المغيب زهرةَ القمر. *** مأساة
العبقرية أنها تُثمِر بعد فوات الأوان: فان
غوغ، هولدرلِن، نيتشه، بودلير... *** في
صفاء الذاكرة يفيق شريط الصور. بعضه في الظلمة
وبعضه ضبابي أو رمادي أو ساهر بين العينين:
رفاق المدرسة، أسماؤهم، ملامحهم... تفاصيل
حياته معهم أعمق خضرة من نجمة الصبح. لا
يعرف مكانهم، ولا كيف ابتعد عنهم. كل شيء حصل
في صورة طبيعية كالفطام. بينه
ورفاق المدرسة الآن عشرات السنين. يخاف أن
يسأل عنهم، يخاف أن يعرف. *** السفر
مؤونة الذاكرة، خزَّان العمر في انحداره إلى
اليباس. لذا هو دائم الالتفات إليه في الآونة
الأخيرة. في
القطار إلى مدينة نوريتش في بريطانيا، قبالته
رجل غير عادي الملامح، ترشح منه رائحة عَرَقٍ
مزمن. يسحب من كيسه ورقة كبيرة بيضاء ويشرع في
الرَّسم. يلاحظ
أنه يرسم وجهه. ينزعج بادئ الأمر. ربما في
هيئته شيء غير طبيعي. ورغم ذلك كان يشعر
داخلياً بالفرح لأن اختياره وقع عليه من بين
الجميع. كان
يأمل في أن يهديها إليه. لم يفعل. لفَّها،
وضعها في كيسه، نزل من القطار وغاب بين الرؤوس. *** إلى
يساره في المقهى رجل غارق في القراءة كما في
صلاة الفجر. ينظر إليه، يتأمَّله، يغبطه على
هذا الانفصال عن الآخرين، عن العالم الخارجي،
وعلى هذا الاكتفاء الذاتي الذي يعرفه الفلاح
بعد القطاف. *** قليل
الحركة، قليل الكلام، حذاؤه بقايا حذاء،
رداؤه بقايا رداء، في الصيف تحت الشجرة، وفي
الشتاء تحت الجسور وأقبية المترو. إلى جانبه
زجاجة نبيذ، كسرة خبز، وعربة تنقل أشلاء كيس
ينام فيه. قديماً
كان يحلم بأن يعيش مثله، أن يتشرَّد على طرقات
هذه الأرض. غير أن الحكمة تنقصه لهذا الفعل
الكبير. والجرأةَ كذلك. *** خلع
عباءة العزلة. خرج إلى مناسبة ثقافية. نظر إلى
الوجوه، إلى الألبسة، إلى الشفاه الآلية، إلى
الحركات. لم يلمح سوى الأقنعة الكثيفة الخيوط، فانزوى. عرف أن مملكته في رائحة
التراب وهديل المطر. في
غفلة من العين ترك المكان، وفي صدى خطواته فرحُ الابن الضائع لدى رؤيته العتبة. *** "فلان
يحب أن يتعرف إليك." عبارة يسمعها بين الحين
والآخر. يجهلون
أنه لم يبقَ قادراً على التأقلم مع الوجوه
الجديدة، وأن كلَّ ما يحتاج إليه للسنين
المقبلة وسادة، مسبحة، وصديق قديم. *** يخاف
أن يمدَّ يده إلى القلم، إلى الورقة، ويكتشف
أنه لم يبقَ قادراً على الكتابة. ماذا ينقذه
عندئذٍ؟ خير له أن يتزنَّر بالرَّحى، وأن
يتناثر في مغاور الحيتان. *** أعطِه
القدرة يا ألله على محبة الغناء، لأنك أنتَ
القوس والوتر. أعطِه
القدرة يا ألله على محبة الوجود، لأنك فيه
نشيد الأناشيد. أعطِه
القدرة يا ألله على محبة الزوال، لأنه العبور
إليك، إلى نورك الوسيع. أعطِه
القدرة يا ألله على محبتك، رغم أودية الظلام
ومكامن الذئاب. أعطِه
القدرة يا ألله، فيشرد إليك، ولا رفيق سواك. *** سابقاً
كان يزور المدافن. يتمشَّى بين القبور كما لو
في نزهة. ينظر إلى الشواهد. يقرأ الأسماء
والتواريخ. على مقعد في الظل يجلس، يتأمل،
يسأل، يتساءل ولا جواب. كان يفعل هذا من دون
خوف، ربما لأنه كان مطمئناً إلى الحياة.
فالموت يصيب الجميع، أما هو فالوقت أمامه. في
المدة الأخيرة تغيَّر. يخاف أن يفتح عينيه
فيرى الشواهد والأسماء والتواريخ. يعرف أن
الوقت صار وراءه كالظلال عند الغروب. *** نرجسة
مغسولة بالشَّفق. قبَّرة مسكونة بالفضاء.
كرزة مخمورة بالشمس. سمكة عاشقة معشوقة. أن
تكون هذه الروائع تحت سلطة البشريِّ – هذا
الكائن الدموي الأنياب – أمر تجهله السماء
وأهل السماء. *** التاريخ؟
أمطار من الدموع في أنهار الدماء... أمطار من
الدماء في أنهار الدموع... *** كعادته
في مثل هذا الوقت، قاعدٌ في المقهى، أمامه
فنجان قهوته. بخاره يتسرَّب إلى أنفه، فترتخي
الأعصاب وتسرح الأفكار. رائع
عالم المقهى! إنه الهرب من العزلة إلى الآخر.
ومن الآخر إلى العزلة. *** زمنَ
الأنياب المفترسة أوقفه حاجزٌ عند المعبر.
سألوه عن وجهته فأخبرهم بالحقيقة. عندها
أمروه بالتوقف إلى جانب الطريق. وفيما هو في
حال الانتظار المرعب تقدم من سيارته شابٌ في
صورة لا تستلفت النظر، طالباً منه الهرب في
سرعة. تردَّدَ. ربما كان في الأمر حيلة. غير أن
الشاب عاد وقال في نبرة جدية: "أنا
عَمْقلَّك اهرُب!" تطلَّع في المرآة أمامه،
رأى عناصر الحاجز منشغلين عنه بسواه، داس على
البنزين وعبر إلى القاطع الآخر في سرعة
عمياء، كما لو أنه يعبر أسوار الجحيم. في
صباح اليوم التالي كانت الأنسام ترشح دماً
على رصيف ذاك المعبر. زمن
الأنياب الغريزية كان ذاك الشاب شعاعاً في
غابة، زهرة في دغل. *** مع
الفصول، على
كتف الأرض، أبداً
يتنزَّهان. في
يده قنديل لا ينطفئ، في
يدها قنديل لا ينطفئ. رفيقان
قديمان: عكَّازة
الموت، عكَّازة
الحياة. *** بلا
نَفَسٍ يستلقي البحر في
حضن الأبدية. أعماق
على أعماق، غبطة
خرساء. *** من
شهور مع الأوجاع يعرف أنه والخريف رفيقان.
قريباً، على مشاتل العمر، يُطبِق الشتاء.
شتاء لا يزيحه الربيع. شتاء أخير. يعرف
ذلك، ويقوى على الضحك! *** من
شروق العمر إلى غروبه في اتجاه المنبع أبداً
يمشي ولا يتحرك. كالزرع
ينحني للرياح وفي مكانه يبقى. *** في
يقظة الشفق عرف الطريق والاتجاه بالحدس. تحت
جذوع واسعة الظلال أسند الرأس إلى صخرة
الأمان والراحة. في
احمرار الظهيرة تعثَّر. زاغت خطاه. تحولت
عيناه إلى علامتي استفهام، أذناه إلى أصداء
مبهمة، كلماته إلى هلوسات. في
برودة المساء تجمَّد. من يده سقط العكاز
وانطفأ الفانوس. في ظلمة التقنية الحديثة صار
برغياً يدور على نفسه، جثة بلا رأس، بلا قلب. *** بعد
أجواء عاصفة، على سَرْوةٍ يمامةٌ تتشمَّس،
تفلِّي ريشها تحت أنسام فاترة. ماذا
تعرف هذه اليمامة عن الرعود الكامنة في أشواق
البحر؟ *** القلق
عافية فكرية، أسئلة تلاحق أسئلة، وهكذا... بلا
تخوم أخيرة. الأرق
شيء آخر: من المخدَّة، من الفراش واللحاف، من
ثقوب الجدار ومن شقوق النافذة، من لا مكان،
يتسرب الأرق إلى العين، معلناً رائحة شتاءات
كثيفة تحت العتبة. منذ
مدة يأرق، يحيط به خوف وسيع، خوف الفريسة عند
اقتراب الكواسر. *** الوقت
ضبابيَّة الذاكرة الوقت
غشاوة العين الوقت
طنين الآذان الوقت
شحوب الصوت الوقت
زيزقة المفاصل الوقت
رجفة الكلمات الوقت
تجاعيد تحت الثلوج الوقت
جسد يخربش الجسد. *** وراءه
عالم قديم، أمامه عالم حديث. على جسر بينهما
يقف، غير قادر على استعادة عالم الحدس
والأساطير والخيالات الواسعة، ولا هو قادر
على التكيُّف مع عالم العلم والحقائق الضيقة
حتى الاختناق. إنه خارج العالمين، وربما خارج
التاريخ. *** في
البدء كانت اللغة. لغة البدء كانت بدائية. في
بدائيَّتها كانت لغة البدء إشارات تبرق على
شفة الأفق. يلتقطها الشاعر الرَّائي،
يفسِّرها، يحوِّلها إلى كلمة نقية. حروفها
خيمة الحقيقة، حركاتها رنين. أين
هي الكلمة النقية الآن؟ أين بريقها وأين
رنينها؟ غريبة، غائبة ومنسيَّة، تحوَّلت إلى
رياضة للتسلية، إلى تمارين في قواعد الصرف
والنحو، إلى حالة فردية عابرة لا تتعدَّى
صاحبها، وفي أحسن الحالات تعكس مرحلة سياسية–اجتماعية–حضارية. والحقائق
الكونية؟! تبقى خارج الإطار، عشبة في غير
أوانها. *** في
الظلِّ وتحت الشمس، "عالسَّكْتِ"، أبداً
تلتهم الأجساد ولا
تشبع، أيها
الوقت، يا
عريس الوليمة. *** إلى
زرقة المنابع يُسند
الرأسَ، في
غَبَش البحر يمدُّ
الأقدام، بينهما
في السهول يبذر
الأجراس، وآخر
الصيف بالرنين
يُدفئ السلال. *** حياته
سَفَرٌ مستمر إلى الأبعد من اليد، من البصر،
من الأفق. لن يصل. لا بأس. المهم هو السَّفر، لا
النتيجة. النتائج كلُّها خاسرة. *** حادثة
ظنَّها عابرة، لكنها تحوَّلت إلى ساقية في
أراضي العمر. من
زمنٍ كان في مطار هيثرو. صدفةً وقعت عينُه على
صبيَّة تنظر إليه. تبسَّمت، حملت حقيبتها،
وغابت بين الجموع. ربما
تبسَّمت لسواه وظنَّها له. ربَّما لصورة عبرت
أفق الذاكرة. ربما له تحديداً. كل ذلك تفاصيل.
المهم تلك الابتسامة النقيَّة، تلك
الابتسامة الواسعة الشَّفق، ما يعيدها؟ *** في
المدن الغريبة يتسكَّع الغريب كما فعل
البارحة، فانتهى إلى "حديقة المدينة".
وفيما هو على مقعد يستريح تحلَّقت حوله
الطيورُ وحامت فوق رأسه، فخجل منها لأنه لم
يحمل إليها من الطعام شيئاً كما يفعل الآخرون. تمدَّد
على المقعد في نعاس اليقظة. سمع أصداء الرصاص
فوق صنين يخترق أعناق البجع في رحيله الموسمي
إلى مناطق الأنهار والغابات. *** المبدع
هدية الأقدار للبشر. يتناولها الأكاديمي،
يمزِّقها، يفرِّغها من بريقها، يسطِّحها،
يمتصُّ دماءها، وما تبقى من أشلائها يعرضه
للطلاب. إنه ضحية الأقدار. *** في
أزمنة الضيق كان الحنين إلى الرغيف. فتخرج
سارة إلى البرية، في يدها سكِّينة أقدم من
حجارة البيت. من النهر تحلش القرَّة
والجرجير، من الحقل تقتلع الهندبة وقرص
العنَّة، من "جبل السيِّدة" تلملم
العكُّوب، ومن "القليعة" تجمع البصل
والفول الأخضر. وعند الغروب تعود بالغلَّة،
تفرشها على حصيرة هرمة، تنقِّيها، تغسلها،
وفي طنجرة مطعوجة تغلي ما تختار منها. وأخيراً
تدعو الصغار، فيركضون إلى الملاعق، وبخيرات
الأرض يحتفلون. *** في
عبوره الأرضيِّ سكن المدارس، سراديب
الجامعات، قبور التاريخ. سكن كل شيء، عدا
بساتين الحياة. يُعوِزُه
الطريق إلى فاوست، إلى الجنون الجحيمي، إلى
نعمة الجنون. والآن؟ تأخر. *** في
مقدورك أيها الوقت أن تحرم الحطَّاب من شعره
الأسود، من أذنيه وعينيه، من منجله
وفرَّاعته، من فأسه وحباله، ومن كوخه. شيء
واحد لا تقوى عليه، هو حرمانه من بيته. *** على
حافة الشيخوخة يتذكر أنه كان يحلم زمن الشروق.
كان يحلم بتغيير العالم، فأمضى العمر من دون
أن يتمكن من تغيير نفسه. كان يحلم بالسفن
وبالأسفار، فأفنى العمر على كرسيٍّ في مكتبه
بين الكتب يتأمل البحر من بعيد. كان يحلم
بقصيدة تكون السهم والاتجاه، فأهدر العمر
متعثراً في جوار الكلمة. وكان يحلم – آه! –
كان يحلم بالحبِّ الذي يجتاح الجسد، يدمِّره،
يرمِّده، فصرف العمر في أبجدية العقل والمنطق
والنظريات الشاحبة. على
حافة الشيخوخة يكتشف أن الفجوة بين الحلم
والواقع جرح تخدِّره الأحلام. *** في
جنَّته كان آدم ملتحماً بالكون. أرادتْه حواء
أن يلتحم بها، فكان السقوط. من يومها والمرأة
دموع الرجل. *** -
أين
كنتِ أيتها الغيمة؟ - في البحر. - وإلى أين؟ - إلى الينابيع. - ومنها؟ - إلى الأنهار. - ومنها؟ - إلى السهول والزنابق. - ومنها؟ - إلى البحر. - وفي النهاية؟ -
لا
نهاية. *** نهار
الأحد، الرابعة والنصف بعد الظهر، في مكتبه.
سكينة في حَرَم الجامعة، رذاذ خفيف، برق، صدى
رعود في الأفق. آه، ومع ذلك، لا قلمٌ في يده
ولا ورقة. خائف حتى الشلل، مثل خاطئ تحت مقصلة
الدينونة. *** شارع
للمشاة، في زاوية منه رجل، لحيته بلاَّنة
يابسة، يعزف على الأكورديون أغنية روسية لا
أحد يفهم كلماتها. ومع ذلك، كانت الأغنية أعمق
في القلب من دقات القلب، وفي العيون أعمق من
دمع العيون. *** يهرب
من وحدته إلى مقهى برويننغر. يجده مزدحماً
بالزبائن. يكتشف أنه ليس الأوحد بين الهاربين
تحت الشمس. يجلس.
إلى يساره رجل يعزف على البيانو، أغاني
إيطالية ربما. وعلى مسافة منه امرأة تتحدث مع
كلبها. كعادته
في مثل هذه الحالات يتراجع إلى وجهه، يغرق في
الحسابات، يتساءل: ماذا لو كانت حياته كلها في
الاتجاه الخاطئ؟! لكن، ما همَّ؟ لا أحد يربح.
فالنتائج كلها خاسرة. ومع ذلك يشعر بأنه
محظوظ، لا شيء يُعْوِزه. بلى، شي واحد يعْوزه،
يحنُّ إليه. إنه النعاس، النعاس الكثيف
الأهداب. *** في
1986 كانت رائحة الأشلاء في بيروت تُفزِعُ
الذئاب. فحزم الحطاب حقائبه وهرب إلى بيت
شباب، وفيها سكن شقة جبلية بسيطة في بناية
يسكنها رياض فاخوري. كانت
بينهما صداقة قديمة تعود إلى أوائل الستينات.
غير أن هذه الصداقة ترسَّخت بحكم الجوار،
فصارت لقاءاتهما شبه يومية، يتحدثان خلالها
عن الشعر والسياسة والفلسفة، وعن أمور عابرة
عبور الأنهار إلى الوديان. وهكذا تدحرجت
الأيام حتى اللحظة الحاسمة. قبل
انزلاقه إلى الحفرة الدهرية سهرا معاً إلى
كأس من الويسكي، وكالعادة جرت الأحاديث.
لكنْ، هذه المرة، وتر يائس كان يرتفع بين
الحين والآخر في نبرته كما لو أنه كان يلمح
المصير بحدسه الشعري. وفي صباح اليوم التالي،
بينما كان يمارس رياضة المشي هرباً من الموت،
فاجأه السقوط على حافة الدرب التي كانت له
رفيقة عمر. صحيح
أنه رافق الشعر في حياته. رافق اللون والصحافة
والنقد. رافق العائلة حتى الالتحام. لكن هذه
الأمور، على أهميَّتها، تبقى جانبية. الأهم
تلك اللحظة الحاسمة، الفاصلة بين الوجود
واللاوجود، لحظة السقوط على الأرض، اللحظة
المتأرجحة بين الهُنا والهناك. في تلك اللمحة
الخاطفة، لحظة العبور، أي أحاسيس، أي أفكار،
أي صور كانت تتراكم في عينيه؟ وفي تلك
الغيبوبة – غيبوبته الجسدية في المستشفى –
أين كان؟ وأي رؤيا كان يعيش؟ في
وحشته الباردة يتذكر الحطاب رفيقه. يغبطه،
ربما، لأنه يجلس الآن إلى مائدة الأسرار مع
الرفاق الراحلين. في
الموت تكتمل التجربة الشعرية. فيها يهمس
الشاعر: "لقد أُكمل، يا أبتي." *** مرفأ، مركب
يُقلع، في
ضباب البحيرة، يرتجف
القنديل، ينوص، ينطفئ، لا
أحد يعرف متى يعود، متى
العاصفة. *** يحبها
حتى البكاء، يحنُّ إليها كما الينابيع إلى
السهول. آه، ومع ذلك، كل صيف يحل به الجنون،
فيمضي إلى المطار، وفي الطائرة إلى بقاع
الأرض، إلى عزلة قدرية وراء الكلمة. لماذا
يا ألله، لماذا أبداً هذه المواجهة بين
الحياة والإبداع؟ ولِم َعليها هيَ هيَ أن
تكون الضحية؟ *** الحوادث
لا تموت، تترسب في سراديب الجسد القاتمة،
لكنها تطفو على سطح المياه وقت الراحة
والاسترخاء. من
سنين كان في القطار إلى عشيقة الفكر، توبنغن.
وأمامه جلست امرأة شقراء، جديلتها سنابل
القمح أوان الحصاد. محطة، محطتان، محطات،
ونظرت إليه أخيراً في خجل. سألته: "هل أنت
شاعر؟" أجابها: "كيف عرفتِ؟" فردَّت:
"هكذا شعرت." وفيما هو مرتبك تحت وهلة
المفاجأة توقف القطار، فنهضت وخرجت منه إلى
متاهات العالم. إلى
بار في مطعم يوناني يجلس. رائحة البيرة، ضجيج
الهاربين، وأنغام بلا هوية. في تلك الوحدة
الحديدية يتذكر الحادثة ويفرح: ثمة في
النهاية من يعرفه على هذه الأرض! ما
أعمق هذا الوجود، وما أغناه! زهرة برية تفاجئ
العين، ساقية تحت العشب، برعم أول الربيع،
لمسة جسد لحظة الحب: أن تنفتح الحواس على هذه
الموجات المتسربة من شفاه الكون! *** في
العزلة أبداً تنتعش الأسئلة: ماذا لو كان
فلاحاً في ضيعة لا دروب إليها ولا جسور؟ ماذا
لو كان حطاباً في غابة، رفاقه الزواحف
والكواسر؟ ماذا لو كان معَّازاً، عباءته جلود
الماعز، رغيفه العسل البري والجراد؟ ماذا لو
كان شريداً، على ظهره كيسه وفي يده العكاز؟
ماذا لو كان نسمة، موجة، حورة عند مياه غزيرة،
وصفصافة الدموع؟ ماذا لو كان غير ما هو: متعب
في المسير إلى نجمة غير مرئية؟ *** في
مدينة شتوتغارت الألمانية مكان يدعى "ساحة
القلعة". في هذه الساحة تتمسرح الحياة: رجل
يعرف ما يريد، في خطى ثابتة يسرع إلى وظيفته،
يتطلع إلى ساعته ويسرع. وآخر يتردد في خطاه،
يتعثر، يدور على نفسه كطائر فاجأتْه العاصفة،
وأخيراً يعود ويستلقي على مقعد في طرف الساحة.
وآخر يعزف على كمانه، ينقذ العابرين من جروح
الذاكرة، فيما تنزف جروحه ولا من سامريٍّ.
وآخر متشرد مع كلبه، إلى جانبه طاقيَّة دهرية
في انتظار المحسنين. وآخر مع عشيقته عند حوض
الماء، معاً في الغياب الكبير، في الغياب
الذي يتحسَّس الأبدية وإليها يحدِّق. وآخر
على كرسيٍّ كرَّاج تصحبه امرأة قديسة. وآخر
على حافة البركة جامد كحجر. وآخر يشاهد هذا
المسرح، وحده يشاهده في الصف الأمامي، يشاهده
في انتظار دوره. *** في
عذريَّتها كانت الأرض برية. في جوار النعجة
كان الذئب، وفي جوار الأرانب كانت الثعالب،
مثل عائلة واحدة، حتى ظهر البشريُّ الأول من
رحم الطين والماء. ذات
يوم كان هذا البشري يتمشى متأمِّلاً ربيع
البراعم وفتنة الوجود، فعثر على جسد متوهِّج
الأرداف، مكتنز الصدر والشفاه، فكان منهما
قايين وهابيل. ويحكى
عن قايين أنه كان جمرة غريزية، فانقلب على
أخيه هابيل غارزاً في رأسه حجراً بينما كان
هذا الأخير يسقي زهور الحقل. وهكذا تملَّك
قايين وحده مشارق الأرض ومغاربها. غير أن الذي
يغتال أخاه يرتدُّ في نهاية الأمر على
الوالدة الإلهية التي منها انبثق إلى الوجود،
كما فعل أبناء قايين بها لهاثاً وراء السلطة
والسيطرة، فاستغلوا الأرض، نبشوها، مزقوها،
وبخروا عصيرها، وهي تنظر إليهم نظرة الأمومة
إلى رضيعها الكسيح. ولكن،
إلى متى السكوت؟ بين وقت وآخر تبث الأم
الحزينة إنذاراتها: مرة بالزلازل، مرة
بالبراكين، مرة بالجفاف واليباس، مرة
بالكوارث غير المتوقعة، كالطوفان الذي يمسح
في هذه الآونة مساحات من العالم في ظهيرة
الصيف. وإذا لم تحصل المعجزة قريباً سيكون
الانفجار الذي يعيد قايين وكل أملاكه إلى
الماء والطين. وربما
كان ذلك المطلوب. *** "دومينو،
دومينو"... أغنية رومانسية قديمة، سمعها
للمرة الأولى من صبية تتزلج على ثلوج ضهر
البيدر. كان آنذاك في نحو الثامنة عشرة من
العمر. ومرة ثانية سمعها من صبية بوليفيانية
أيام دراسته اللغة الألمانية في بلدة غرافرات
القريبة من ميونيخ. كانت هيأتُها أشبه
بالهنود الحمر، وكان صوتها مشتعلاً بالحزن،
كأنين الرياح بين الجبال. ومرة ثالثة سمع فيها
هذه الأغنية كانت البارحة في مقهى "باستا"
في شتوتغارت، بينما كان مستنداً إلى البار
وأمامه كأس من النبيذ الأبيض. نحو
الساعة الأولى بعد الظهر يجلس على كرسيٍّ
معدني في "بيت الكتَّاب" الشتوتغارتي،
يستعيد رنين هذه الأغنية، يتمنى لو يعرف مصير
صاحباتها الثلاث. لكنه لن يعرف. وربما
هذا أفضل. "دومينو،
دومينو هكذا
دائماً كان هكذا
دائماً يكون." *** "إيمانك
شفاك، يا امرأة"، فنهضت وقامت كنخلة تحت
الشمس. أنتَ منحتَها الإيمان أيها السيد،
فعادت إلى بيتها، إلى زوجها وأولادها، إلى
غبطة الوجود. وبيدر؟
صديقك بيدر، أيها السيد، متى تفتح أمامه
بوابة الهيكل، فيدخل ويغتسل، وبالدموع يمسح
قدميك؟ *** من
ساعات على الكرسيِّ في المقهى، يهمُّ مراراً
بالخروج، لا يتحرك، لا يعرف إلى أين. لكن مَن
يعرف إلى أين؟ مَن يملك هذه البصيرة؟ *** -
ماذا
تفعل؟ - أقرأ. - أمضيتَ العمر في القراءة! - ومع هذا لا أزال أتهجَّأ الكلمة الأولى من الكتاب. - أي كتاب؟ - كتاب الحياة. - وماذا ترى؟ - خربشات. - ماذا تقول هذه الخربشات؟ - تقول الكثير. - كوجه ميت؟ -
كوجه
ميت. *** على
فراش رحيله تطلَّع إليه بعينين شبه مفتوحتين،
وبصوت يكاد لا يُسمَع قال: "بتعرف؟ هالعالم
مجنون." كلماته الأخيرة إليه. صدى
هذه الكلمات يلاحقه. كنجمة عارية يرتفع بين
الأنقاض، يتساءل: ما كان المقصود؟ هل أدرك بعد
فوات الأوان أن الوجود تجارة خاسرة، وأن
أعماله، قصائده، مجلته ودروب حياته كلها كانت
بخاراً في العاصفة؟ هل أدرك بعد فوات الأوان
أن "الكل باطل وقبض الريح"؟ هل أدرك
الحقيقة؟ لكن، ما هي الحقيقة التي تكشَّفت له
في نهاية المطاف؟ لا أحد يعرف. وحده الآن يعرف
كل شيء. وحده يوسف الخال. *** مساء
البارحة سهر مع الشعر في "بيت الكتَّاب"...
بين الحضور كان رجل في انحناءة العمر، اجتاز
في القطار مئات الأميال للمشاركة في هذه
السهرة. أمَّة
في تربتها رجل كهذا لن يصيبها اليباس. جذورها
عميقة في منابع الجبال وفي سراديب الأرض. *** على
مسمار في مكمنه قوسُه
ونشابه، لم
يعد قادراً على الصيد. غبشٌ
في عينيه، رجفة
في الأيدي، وفي
الأدغال زعيق الكواسر. على
أنقاضه، على
أنقاض مربضه، غداً
يضيء القمر. *** في
شارع رئيسي جمهرة من الجماجم تتحلَّق حول
مهرِّج يقوم بألعاب بهلوانيَّة. وقريباً منه،
على مسافة أمتار، امرأة وحيدة مع أوتارها
تعزف للفراغ. *** في
عزلتِه الحديديةِ النوافذِ والأبوابِ يكتشف
أن طبيعته أقرب إلى الكائنات البدائية
المفترسة منها إلى أهل الخبز والنبيذ. لا شيء
يجمعه بها سوى هيئته، ربما. قريباً
يفقد القدرة على الكلام. وقد يكون ذلك أفضل له
وللآخرين. *** تحت
جذوع الليل يلقي برأسه على المخدَّة. لا أفكار
لديه ولا أحاسيس. وحين يستفيق عند الصبح تفيض
غابة من الصُّوَر والأنغام من الجسد. لا يعرف
من أين. ربما من نجوم خفية، من كائنات هوائية
تجوب الفضاءات تحت عباءة الظلمة، تلامس
الأجساد، تبثُّ في خلاياها إشارات من مناطق
نائية خلف هلوسات العلم والفلسفة وشعلة
الإشراق. آه،
أيتها القوى المظلمة! أبداً في السرِّ
تتسرَّبين وفي الأحلام، وعند الشفق ترحلين
كأرواح خائفة، تاركة لنا في الأنسام أصداء
تسحرنا، وفي قلوبنا بحيرات من الخوف. *** الموت
زائر على رأسه طاقية الإخفاء. من دون استشارة
أحدٍ يدخل البيت، يقيم مع أفراد العائلة في
المطبخ، في غرفة النوم، في فسحة الجلوس.
دائماً صامت كما لو أنه غير موجود. لكن عندما
يحين الوقت يومئ للضحية، تحت سماء مصيرية.
تتبعه النجوم خلسةً حتى الأنهار الهادرة.
يتوقفان، يتعانقان. وحدها الضحية إلى القاطع
الآخر، في وادي الطقوس مع الأشباح، تقيم
الشعائر. *** قضية
مركزية في التاريخ البشري. إنها قضية الموت.
الأديان تجابه الموت بالحياة بعده. الفلسفات
تجابه الموت بالحكمة، باحتضانه والانفتاح
عليه حتى الالتحام. والفنون تجابه الموت
بالإبداع الذي يكفل لصاحبه ديمومة في نهر
الوجود. والعلوم تجابه الموت بالاكتشافات
التي تطيل العمر إلى ما بعد الأعمار. والزواج
يجابه الموت بالاحتماء منه مع الآخر في
الشتاءات الكبيرة. والحب يجابه الموت باختراق
الزمنية إلى فسحة الكون. ولكن
ما فائدة هذه المحاولات جميعها؟ إنها تخدِّر
الجرح ولا تشفيه. *** أمضى
نهار البارحة في توبنغن. كل شيء كما كان من
عشرات السنين. ساعة الكنيسة تدقُّ. يبلغ صدى
دقاتها قبور الراحلين قبل أوانهم. برجُ
هلدرلِن يتذكر أربعين سنة أمضاها شاعر الشعر
في غيبوبة سماوية. صفصاف الدموع يسدل جدائله
حتى النهر. تحت شمس فاترة طيور برية تفلِّي
أعناقها، تتأمل ظلالها في الماء، وعلى الجسر
بشر يعبرون، كلٌّ إلى همومه. بلى،
شيء واحد تغيَّر: شعره الأسود، مسرَّاته
القديمة. أكثر هرباً من غبش الوديان عند
الشروق ومن الأشباح عند صياح الديك، أنتِ،
أيتها المسرَّات، أيتها المسرَّات الهوائية. *** في
الحلم يتحول إلى شاعر والشاعر
إلى كاهن والكاهن
إلى قديس والقديس
إلى شجرة تحت
فروعها يركع ويحرق
البخور. وعند
الشفق؟ يفتح
عينيه يرى
أنه حطَّاب في
رأسه ريشة من
قنافذ الهنود الحمر. *** لن
يعرف الوحدة بعد الآن ولا العزلة. فوق رأسه
غيوم الشيخوخة تبثُّه الأخبار. *** تقوده
الطرقات آخر النهار إلى مطعم الأوديسيه
اليوناني. يجلس إلى البار مع النبيذ الأبيض
وأنغام زوربا حتى النعاس، ثم يعود إلى غرفته
في "بيت الكتَّاب". في
المدة الأخيرة بدأ يلاحظ رجلاً في طلعة العمر
يقصد المكان مساءً، يجلس إلى يساره، يطلب
البيرة، يشرب ويغرق في عالمه، ثم يسحب قلماً
ودفتراً من جيبه ويبدأ في الكتابة، حيناً
يستمر بها، وأحياناً يتعثر، فيرخي القلم
جانباً، يمد يده إلى بيرته، يبلع جرعة كبيرة
ويترك رأسه بين يديه. خلسةً
ينظر إليه، إلى الورقة أمامه. يرى الكتابة
شعريَّة الملامح. يتذكَّر أيامه العتيقة
عندما كان يكتب القصائد في مطعم فيصل، في
العمِّ سام، وفي كافتيريا الجامعة. يعود
ويختلس النظر إليه، إلى شعره الخفيف، إلى "سكسوكته".
يتساءل في سرِّه: هل يعرف هذا الوجه الطافح
بالنجوم ما ينتظره؟ هل يعرف أن حياته الأرضية
مرة واحدة، واحدة لا غير. وعن هذه المرة
الواحدة عليه أن يغيب في أدغال مجهولة
المصير، لا يعرف منها سوى رفاق القَدَر؟ هل
يعرف أنه يمضي العمر كلَّه في أدغال الشعر من
غير العثور على الكلمة المضيئة؟ هل يعرف أنه
سيعرى في البراري ولا ورقة تين، سيجوع ولا
جرادة، وأنه في نفق الظلمات سيصرخ: "لماذا
تركتني؟" ورغم هذه الأوجاع عليه أن يقول:
"لتكن مشيئتك؟" ماذا يعرف هذا الرقيق
الجسد عن الصيد في المحيطات، عن الصراع مع
الحيتان والزوابع، وعن المراكب المتناثرة؟ وحين
تعب من هذه الأسئلة استفاق، فرك عينيه، نظر
إلى يساره. كان المكان فارغاً. وفي شوارع آخر
الليل كانت خطى رفيقه الشاعر تحت النوافذ
المغلقة تصدِّي. ***
*** ***
|
|
|