العاصفة

 

أميمة الخش

 

هذه القصة مهداة إلى الصحافي الذي أصيب بالعمى بعد حادثة تفجير حافلة للركاب عام 1997 بعيد إشاعة سرت في البلاد عن قدوم عاصفة طبيعية هوجاء.

 

قدماي تسبقانني باتجاه النافذة. أفتحها وأطلُّ برأسي. يرتفع صوب السماء الزرقاء. ألمح قرص الشمس عالياً. أحدِّق في عينيه. أحدق طويلاً. يمرُّ الزمن. أحس بالقرص ينزل من عليائه. يقترب مني. يصبح فوق الرأس تماماً. تتسرَّب أشعتُه إلى خلايا الجمجمة. أشعر بالدفء. يتسلَّل الدفء إلى موضع الحنجرة. يغمر صدري، ذراعيَّ، بطني، ساقيَّ، أخمص قدميَّ. خدرٌ لذيذ يملأ كياني ويسلمني للسكينة. تتباطأ دقات قلبي، ويمتد بصري على مهل خلف المشاهد المرسومة.

الطبيعة ساحرة هذا اليوم، وشجرة الدفلي مبتهجة بولادات جديدة. وهذه شجيرات البرتقال مثقلة بأحمالها، يتعالى نداؤها المغناج مشوباً برائحة أنثى تفتَّحتْ رحمُها على الخصوبة والعطاء.

جسمي مخدَّر بدفء الشمس، وذكريات الماضي البعيد تحتل موطنها في ركن لا يزال مكانُه غائباً عن معرفتي القاصرة!

فتى يمتلئ حيوية ونشاطاً يلتحم مع أساتذة القرية وطلابها في مناقشات وحوارات تبدأ ولا تنتهي حول معانٍ وتعاريف لا يجد أجوبة شافية لها على أرض الواقع القاحلة. يحس بأصابع غليظة تمتد إلى عينيه وتغلقهما بقسوة، لتمتد مساحاتُ السواد إلى غير ما نهاية. مساحة الضوء الوحيدة تنطلق من قلب البستان، من خلف عيون البرتقال المتلامعة، من مهجة شجرة الدفلي الوردية، من رحم التراب الأسمر، ومن بريق عينين سوداوين تعكسان صفاء الداخل شعاعاً يطغى على سوادهما ويحوِّله ضياءً يزيح العتمة عن كلِّ شيء يقع عليه.

يلتحم ظهري بجذع شجرة البرتقال. تلتف يدي اليمنى حول الجذع، تحضنه بشوقِ مسافرٍ عائد، وفي صدره قلبٌ يمور بالأشواق. تمتد يسراي إلى الثمار اليانعة. أبدأ أقضمها بنَهَمِ مَن صام دهراً قَتَلَه فيه الجوعُ والعطش.

تصيح أمي وهي واقفة أمام المصطبة: "نحن نتعب وأنت تأكل!" أدسُّ رأسي بين نهديها متشمِّماً رائحة الحليب. "وأنا متعب أيضاً يا أمي. عقلي يؤلمني! ألا يكفيك هذا؟!" تضمني بقوة وتمسِّد شعري بيدها الحانية فيتغلغل دفء الشمس في خلاياي كلِّها. تهمس في أذني متوسِّلة: "ابقَ معنا يا بني. المدينة باردة ومعتمة وقاسية. سيتعب جسمك وعيناك وقلبك." أزداد التصاقاً بها كطفل: "ستكونين ملجئي يا أماه كلما اشتاقت روحي إلى الضياء والدفء، وستكون ثمار البرتقال زادي كلما جعت أو عطشت."

في مدينة الثلوج السوداء تروح قدماي تنزلقان كلما وطئتُ أرضاً. أحصِّنهما بسلاسل حديدية، لكن الهوة أعمق من أن تثبتا أمامها. من يومها وأنا أشتاق إلى الدفء والنور والحنان! من يومها وأنا أقف عارياً يلسعني الصقيع، أبحث عن سترة تقيني، وعن عود ثقاب. الصقيع تغلغل في عروقي فتحوَّل الدمُ الفوار فيها إلى طبقة واخزة. عيناي المفتوحتان تحوَّلتا إلى عينين زجاجيتين لا تعكسان إلا السواد والعتمة.

مهمتي الكتابة. ولقد تحولت إلى مقاطع للغات قديمة لا تُفَك طلاسمُها. عمَّ أكتب؟ وبماذا أبدأ؟ يعلِّمني الحلم الذي يزيح الستار ليلاً عن ذاكرتي الخفية أن الكلمة هي البداية. ولقد كنت تلميذاً سميعاً!

حملت دفاتري وأقلامي ورحت أجوب المدينة طولاً وعرضاً. تستوقفني الهمسة، ويدفع قدميَّ قبسٌ ألمحه عن بعد آلاف الأميال. يودِّعني من بيده الحلُّ والربط كل صباح. يربت على كتفي، ويبتسم في وجهي بلطف أشم فيه رائحة الرياء. يودِع في أذني عبارته الرشيقة: "أنا أنتظر اجتهادك."

تستقبلني الأماكن المغلَّفة بأسوار الكذب. يهش مُلاَّكها في وجهي. يفردون أمامي عيِّناتهم المزوَّقة الملونة. يقدمون لي الخمر والسجائر والحلوى. يتحرك في داخلي، على غفلة مني، شيء لا أفهمه. تتسرب إلى أنفي رائحة نفايات ودهاليز عفنة مغلقة. أجوب الشوارع دهراً وأنا أفتش عن المفتاح الضائع. وعندما أجده تطالعني مقابر جماعية لجثث مذبوحة بحدِّ المقصلة.

تُركَن صفحاتي المكتوبة بدماء الشهداء شهوراً بغير عدٍّ على مكتب المنتظر الحنون، ثم تُطوى وتوضع في الأدراج الخفية، بعد أن يُكتب على نهاياتها عبارة ممهورة بالخاتم الرسمي "اللغة غير مقروءة"!

في أصباح تالية تودِّعني الابتسامة ذاتها، وتودِع الشفتان في أذني الجملة ذاتها: "النصر في النهاية للمجتهدين!"

أفرح لأنني مجتهد! أحمل أوراقي وقلمي وأعدو. أربض قرب المعسكر أياماً. تمتد يدٌ عبر باب جانبي وتقذف كيس قمامة. أركز نظري عليه عن غير وعي. أراه يتحرك. يتقدم نحوي ببطء. تعتريني قشعريرة. أمد يدي المرتجفة وأفتح الكيس. تندفع من داخله كتلة بشرية بلون الدم. أشهق بقوة. "ما الذي فعلته؟!" أسمع صوتاً مخنوقاً. "أنا لم أفعل شيئاً. هم الذين فعلوا!" تتابع الكتلة الحمراء حشرجة مخيفة. "رميتُ في حربنا مع العدو خمس طائرات. مُنِحتُ وقتها وساماً استردُّوه مني الآن!" أسأل بغباء مفتعل: "ما السبب؟" تفتر شفتاه المدمَّيتان عن شبه ابتسامة استخفاف. "هل تريد أن تكتب عن السبب؟" يقهقه، فيزيد نزف دمائه. "إذن فلتعرف أني في يوم غَمَرَ أرضَه الصقيعُ أُبعِدتُ عن موقعي كما يُبعَد كلبٌ جَرِبٌ. كنت صلباً فلم أبكِ على ما فات. لكني بكيت طويلاً عندما أرادوا مني تحويل مركز عملي الجديد في فندق متواضع إلى ماخور. بكيت وحيداً، وواجهتُهم، مستعيناً برموزي الماضية كلها."

-       وهكذا طحنوك!

-       لكنهم لم يطحنوا روحي. اكتبْ هذا، ولا تنسَ حرفاً!

أقف أمام المسؤول عن لقمة عيشي. أسأله بلهفة: "هل أنا غبي وفاشل إلى هذه الدرجة يا سيدي؟!" يتنحنح مستنهضاً همَّته، ويعاود رسم ابتسامته الشفافة. "أنت مجتهد، وأنا أحب المجتهدين!"

أنظر إليه مشدوهاً. أبحث عن كلمات راحت تفر مني. أتلعثم وأنا أطرح سؤالاً آخر لم يصل مسمعه. يربت على كتفي بقوة هذه المرة. "لا داعي للعجلة. الوقت أمامك طويل. لا تستعجل الشهرة." الشهرة؟! شيء ما يئن في داخلي. ومتى كانت الشهرة هدفي؟! أنا أكتب عما أرى. ويبدو أنني في النهاية رجل أعمى، لم تُخلَق عيناي إلا لتكونا مفتوحتين على السواد!

أنكفئ إلى جُحري. يغزوني الصقيع والعتمة. أبحث عن أسمال أدفئ بها جسدي المتجمد وعن بصيص نور يتسلل إلى جَوَّاي. ألبث دهراً وأنا متوحش كبشر بدائي وقع على كوكب تحجبه عن الشمس طبقاتٌ كثيفة سوداء، يتلفع بالصمت يطبق على حواسه فيعزله عن كل ما يمكن أن يُرى أو يُحَس. الزمن عنده نبض قلب يتأجج في الداخل ويفور بمشاعر لاهبة كحمم بركان تتلمس طريقها نحو السطح.

في لحظة من عمر الزمن الجليدي تندهني نسمةٌ منسرقة من كوكب دافئ. تنزاح عن قدميَّ كتلُ الجليد فأفتح باب الكوة وأعدو. أسمع صوت تكسُّر الجليد. تجتاحني فرحة الانتصار. أندسُّ بين الناس. أشم دفء أنفاسهم. يعدون في اتجاه آخر! واحد منهم يمشي وئيداً. وعندما يلتصق كتفي بكتفه، يمد يده ويصفعني بقوة. أقع على الرصيف تحت قدميه. يمد إصبعه ويشير. ألتفت إلى جانبي. أصطدم بجسم أُفرِغَ ما في جوفه. أشعر بقوة مفاجئة. أضع أذني على صدره. أحس بنبض ضعيف. أقرِّب وجهي إلى وجهه. تزكم أنفي روائح سُكْر وقيء. أحمل جسمه الضئيل وأعدو. أدفع بقدمي باباً خشبياً ساقتْني إليه كلماتُه المتقطعة، وألقي بحملي فوق أريكة مهترئة. يفتح عينين متعبتين، ويرفع أمام وجهي سبابته النحيلة. يشير إلى صورة أنثى مركونة فوق طاولة صغيرة. تخرج من صدره حشرجة تكاد لا تُفهَم. "تركتْني من أجل سيارة فخمة وسائق مهندم. كانت حياتي... وعندما فقدتُها قتلني الصقيع."

"وهذه القصة، يا سيدي، ألن تنشرها في جريدتك الغراء؟" ترتسم الابتسامة اللطيفة من جديد. "أنت أكبر من هذه التوافه. هل تعتقد أن إنساناً في عصرنا هذا يموت من الحب؟" "لا يا سيدي، لكنه يموت من الصقيع! وأنا يا سيدي..." أقول بصوت لم يُسمَع: "يقتلني الصقيع!" يقهقه بصوت عالٍ. "أنا أحس بالدفء، وأرى الشمس ساطعة دوماً. انتبه! الصقيع يكمن جَوَّاك. تخلَّصْ منه وعد إليَّ برواية أكثر حرارة!"

أصغي باهتمام. تحضر في ذهني رواية دموية. أنتشي. ينتفخ صدري. يحركني الانفعال. أضرب بكفي على الطاولة الفاصلة بيننا. "إذن ما رأيك بهذا التحقيق؟" أمدُّ أوراقي إليه. ينظر فيها. يحدِّق. يحدق طويلاً. "عن أيِّ طبيب تتكلم؟!" "لقد شهدت الواقعة بأمِّ عيني. قتلها، ثم خرج من غرفة العمليات وطالب أهلها المترقبين ببقية ثمن الجراحة! عندما رأيته يعدُّ النقود بيديه الملطختين بدمائها النازفة قفزتْ إلى مخيلتي صورةُ جارنا الجزَّار وهو يقطِّع لحم ذبيحته المعلقة ويعد النقود أمامه بأصابعه الملطخة!"

يزمجر رئيسي وقد تبدلتْ هيئتُه الساكنة. يقذف بأوراقي جانباً. "انتبه! أنت تحوِّل عملاً إنسانياً إلى مجزرة! إذن فأنت ترى الحقائق معكوسة، وهذه أخطر أخطاء مهنتك يا بني." "أنا لم أحوِّل شيئاً يا سيدي. أنا أنقل ما رأيت. لقد قتلها! كان يعرف أن قلبها لا يحتمل الجراحة. هذه هي الحقيقة. وهي ليست معكوسة كما تظن!"

تتحرك أصابعه بنزق فوق مكتبه لتطال أوراقي المركونة في الزاوية. تلكزها بحركة مفاجئة فتهوي في السلة القريبة. ترتد الأصابع تفرك الجبهة ومقدمة الرأس. "اسمع يا بني. عيناك تريان أبعد مما يجب. في نهاية شارعنا طبيب عيون ماهر!"

حرارة جوفي تصل السطح. وهو ذا البركان. لم أتكلَّم. المارد في داخلي هو الذي فتح القمقم وزأر بأعلى صوته. "أنا لا أرى شيئاً يا حضرة المدير. أنا أعمى منذ دهر، وعيناي لا تعكسان إلا العتمة!"

أندفع باحثاً عن النور ودفء الشمس. تلوح أمام عينيَّ أشجار البرتقال، وشجرة الدفلي، وعينا أمي المضيئتان. أحس بالجوع والظمأ والحنين.

أندفع صوب الحافلة. أنتظر لاهفاً لحظة انطلاقها. وعندما يهدر المحرك يصمُّ أذنيَّ دويٌّ خرافي وتتلبَّد السماء بغيوم سود. الغيوم ذاتها التي وقفت حاجزاً أمام ناظريَّ منذ دهر. الغيوم التي كانت هديتي من مدينة الصقيع والعتمة.

وتثور العاصفة فجأة لتقتلع كل شيء أمامها. الصقيع، والثلوج السوداء، والأجسام الفائرة كالبراكين، والقلوب المتعطشة للأمان، والعيون التي ترى أبعد مما يجب أن ترى! وفي لحظة هدوئها تنقشع الغيوم السود، وتصفو السماء، وأشياء كثيرة مدفونة خلف الذاكرة.

لا شيء تغير ظاهرياً. اللون واحد قبل الإعصار وبعده. السواد لا يقبل تداخل الألوان. أما الحقيقة فتقول إن كل شيء قد تغير، وفي الوقت المناسب تماماً.

ليس أجمل من أن ينطلق النور من داخلك فيطغى على حواسك كلِّها ليتوغل سمعُك في الأمداء مستشفاً همس أضعف كائنات الطبيعة صوتاً، ويمتد بصرُك إلى ما وراء الحجب فيرى الحقيقة جليَّة واضحة، ويلتحم قلبُك العامر بالدفء بكلِّ جزء في هذا الكون اللامتناهي.

أمام نافذة بيتي المشرعة على بستان البرتقال والدفلي ينده إنسانٌ تاه طويلاً في عالم الصقيع والعتمة السوداء باحثاً عن بصيص ضوء ينير دربه. يخفت صوتُه تدريجياً ليتغلغل إلى أعماقه التي بدأت تفيض بالنور الأسنى.

*** *** ***

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود