الشاعر والشعور...

والشعر الحديث*

 

موسى ديب الخوري

 

أريد أن أوضِّح، وأنا أتناول موضوعاً تشكَّل في القلب، مكمن الشعور، وليس في العقل، ثم أنضَجَه الفكرُ المتحرر من قيود الأنا، المنطلق في رحاب الكلِّ، أنني لا أضع هدفاً يحتِّم عليَّ الانسياق في إطار محدَّد، حين أشرع في الكتابة، أي في ترجمة الشعور الداخلي إلى كلمات ومفاهيم.

وبشكل آخر، أفضِّل أن أكون – وليت ذلك يتحقق لي دوماً – ريشةً في يد الشعور الذي يعتمل في أعماقي والذي هو عينه شعور الكلِّ الإنساني المستيقظ فيَّ، فيرسم ويخط بي ألواناً وعباراتٍ من ذاته المفعمة بشعر الحياة.

وعلى ذلك، فأنا لا أكتب عموماً، ولا أحاول أن أكتب، عندما يلوح لي موضوع معيَّن ينطلق من مقدمات ليصل إلى نتائج محددة، بل ونهائية، وأصرُّ دائماً على أن يكون ما أحاول طرحه تعبيراً عن البوتقة الجماعية المشتركة التي أحيا فيها مع الإنسانية جمعاء، في السيرورة المتحررة دوماً من قيود الزمان والمكان لوجودنا اللانهائي! إن ذلك يضعني حقاً في إطار ما، لكنني في الحقيقة لا أكون فيه وحدي، وبذلك أُشرِك قارئي معي، كوننا، في الجوهر، فعلاً متبادلاً ضمن تلك البوتقة العظيمة، حيث تنضج، شيئاً فشيئاً، حياةٌ أكثر حرية وأكثر انتظاماً، وتتبلور فكرةٌ لا تخضع لمقاييس العقل، وتفلت حتى من مفهوم اللانهاية، ضمن عوالم أكثر شفافية وجمالاً! أليست تلك هي حقاً لمسات الشعر الحقيقية ونفحات الشعور المحلِّق في عوالمه؟!

إن اللحظة التي نغيب فيها، فنعاين ذلك النور البعيد الذي يزداد ألقُه كلَّما أوغلنا في الاستغراق بعبق الحضور الآني والتجلِّي الكلِّي، لهي لحظة الشعور الكامل، الطافحة بالحياة والنابضة بطاقة الوجود وبحقيقته.

من هنا، وعند هذه النقطة، تتحول دراسةُ العلاقة بين الشاعر وشعره إلى العلاقة الجوهرية بين الشاعر وقارئه – أي الإنسان. وفي اللحظة التي نستشفُّ فيها إمكانية اكتمال الشاعر وامتلائه بشعره، نكتشف أن ذاته تغيب في أفق حياة الآخرين لتمثِّل المجموع المشترك للمعاناة الواحدة التي تظهر بأشكال مختلفة عند كلِّ إنسان. وإذا كان صحيحاً أن الإنسان قد جرَّ على نفسه صعوباتٍ كثيرةً يعاني منها، لكنه – وهذه الفكرة ليست مجرَّد نظرة خاصة لأنني أعاينها في جميع الذين أعرفهم وفي نفسي – كان دائماً لا يغفل عن تعميق معاناته الداخلية، وكأنه يدرك أن فيها تكمن – وستنضج بالتالي – روحُ الفكرة الحرَّة الكاملة. لا شكَّ أن مثل هذه العملية عملية واعية، لكنها تتم ضمن البعد النفسي أو الداخلي الذي ينظِّم كافة عمليات الفعل وردِّ الفعل على مستويي الكون والإنسان. ولذلك لم يدرك الإنسان حقيقة هذه العملية التي ليست في الواقع إلا تعبيراً عن الشعور الداخلي الجماعي – الشعور الكلِّي، الشعور الفاعل في كلِّ إنسان، والمعبِّر عن وحدة الإنسانية في الجوهر.

إن حاجة الإنسان إلى التعبير عما يعتمل في أعماقه تشير إلى محاولته المتواصلة رسمَ الصورة الكاملة للحقيقة الصافية التي يعاينها حيناً، وتغيب عنه أحياناً، والتي تبقى دائماً دافعه الرئيسي إلى التأكيد على قيمة وجوده وعلى عظمة الكون المحيط به. لكن حاجة الإنسان إلى التعبير لا تتوقف على نقله الصورةَ التي يرى فيها سبراً لذاته واقتراباً من الحقيقة الشفافة الكامنة فيه وحسب، إنما تتسامى هذه الحاجة ليصبح الإنسان نفسه أداةً لها! وفي حين نحاول أن نكشف عن صور الداخل فينا، نتكشَّف نحن عن تلك الصور، ونعبِّر عنها بتطوُّرنا وبتفتحنا وبتسامينا؛ فإذا ببحثنا عن الحقيقة يصبح اكتناهاً لها، وشعوراً بها، واقتراباً لا حدود له منها.

إن التعبير الإنساني يبدأ بالبحث عن الحقيقة في أُطُرِ مفاهيم عامة مختلفة، كالجمال والمحبة والطبيعة، لكنه ينتهي إلى لحظة يتجلَّى فيها الإنسان ذاتُه بحقيقة الوجود. وتكون تلك اللحظة هي لحظة الشعور بالاتحاد مع كل شيء؛ وفيها تنبع في الإنسان، وتتدفق منه، نغماتُ الشعر الصادق الحي.

في اللحظة التي يصبح فيها الشاعرُ هو الشعر يتسنَّم الشعورُ ذروةَ تألُّقه. وتلك هي اللحظة الشعرية الخاطفة؛ اللحظة التي يكون فيها الإنسانُ كلمة وأغنية وتعبيراً حياً؛ اللحظة التي يحيا فيها الإنسان شعورَه العميق الكامل بصدق وبنقاء؛ اللحظة التي ينسى فيها نفسه ويستيقظ فيه معنى الأخوَّة الإنسانية الشاملة الكلِّية والوحدة مع كلِّ ما في الكون.

هكذا تتبدَّى لنا التجربة الشعرية: تجربة داخلية، ومعاناة جَوَّانية، تُفصِح عن نفسها بإقصاء نفسها وبإطلاق طاقة الشعور لتعبِّر عن فعل الحياة، بنا وفينا. وإن دلَّت هذه التجربة على شيء فإنها تشير بالتأكيد إلى عملية الإبداع وإلى الوعي المنطلق، اللامشروط، الذي لا يحدُّه منهجٌ أو فكرٌ أو عقيدة. إن ما نتيقَّن منه، ونؤكِّد عليه في سياق إدراكنا لهذه العملية على الذات، هو أن فعل الشعور الداخلي فينا هو فعل كلِّي جماعي، لا يمكننا فصلُه عن الفعل الداخلي في الآخرين، لأننا ننتبه إلى المعنى العميق الذي ينطوي عليه هذا الفعل، المتمثِّل في الحياة المشتركة الواحدة للإنسانية مع كل ذرة من ذرات الوجود. ذلكم هو امتداد الشاعر في الإنسان من خلال شعره. إنها عملية إبداع مشترك يحققها الفعل الكلِّي في الفرد، ويجنيها الفعل الكلِّي بين الفرد والمجتمع.

قد تبدو هذه الفكرة غريبة في الظاهر، غير مألوفة. لكنني أراها تشمل جميع فنون الإنسان وأعماله الإبداعية، على جميع المستويات. بل أرى أيضاً أنها أساس كلِّ عمل أدَّى إلى تطور الإنسان وإلى تفتُّحه. من هنا أحب أن أنظر إلى الشعر – إلى الشعر الحديث خصوصاً – وإلى دور الشعر العربي الحديث في مسيرة الشعر العالمي على وجه التحديد.

***

علينا أن نقرَّ ونعترف – والأمر ليس صعباً – أن ما يحدِّد قيمة العمل الإبداعي هو قدرته على التعبير عن قيمة الحياة والحقيقة، وليس، كما نظنُّ ونزعم غالباً، أن المقاييس الفنية المتوارثة، أو التي لا تزال في طور الصياغة، هي التي تحدِّد في النهاية القيمة الحقيقية للعمل الخلاق.

في الشعر يمكننا الاستغناء، كما يحاول الشعر الحديث أن يفعل، عن القوالب العتيقة وعن القوافي المقيِّدة، فتتحول الألحان الرتيبة في القصيدة إلى غنائية داخلية. لكن من الصعوبة بمكان الاستغناء عن الشعور في الشعر – وإلا لما عاد شعراً!

لسنا مجبرين على تقويم شعرنا الحديث؛ لكن من واجبنا أن نقول الحقيقة حين يتعلَّق الأمر بالشعور بالمسؤولية المشتركة، كأبناء وطن واحد، تجاه العالم. لقد تحدَّثتُ عن الشعور في الشعر وعن الشعور المشترك في تحقيق العملية الإبداعية؛ لكن لا يظنَّن أحدٌ أنني قد أسقطت كلامي ذاك على ما نراه حالياً ونقرأه من قصائد "شعرنا الحديث".

يجب عليَّ ههنا أن أميِّز بين الشعور الصادق، الصافي، المنطلق من أعماقنا القصيَّة، الذي يعبِّر عن تجلِّي "الكائن–الحقيقة" فينا بامتداده في الإنسانية جمعاء، وبين الانفعال العاطفي المضطرب والأحاسيس والرغبات غير المتوازنة التي تشكِّل بمجموعها، فيما أرى، الجزء الأعظم من "شعرنا الحديث"!

عندما يعي الشاعرُ الفكرةَ يكون قد اقترب من الإفصاح عنها والتعبير عن جوانبها المختلفة، بأسلوبه وبطريقته الخاصة. لكن ما لم يشعر الشاعر بمضمون الفكرة، وما لم يترك شعورَه ذاك يعبِّر عن ذلك المضمون الباطني الذي لا يختلف عن مضمون شعوره ويفصح عنه فإن وعيه للفكرة يبقى ناقصاً، ويبقى شعرُه مجرَّد كلمات مفكَّكة وأفكار غير منسجمة وصور باهتة وموسيقى مفتعلة، وتظهر فيه، بدون شك، العواطف المنفعلة التي ليست سوى محاولة لملء ذلك الفراغ وتعويض ذلك الجفاف. كلُّ ذلك – وهو ظاهر جليٌّ – في شعرنا الحديث، لا يُعَدُّ شيئاً أمام ما يجتاح "قصائدنا" هذه الأيام من إشارات ورموز وأعداد لا ندري أيَّ بركان فجَّرها، ولا أيَّ زلزال بعثرها؛ إنْ هي إلا رُقَع فوق رُقَع، وقيود على سلاسل!

يحاول "شعرنا الحديث" أن يتحرر من قيود الشعر القديم، ويحاول، كذلك، أن يجد لنفسه موضوعات جديدة تناسب عصره وتتَّفق وواقعَه، بعيداً عن الموضوعات المعتادة التي تناولها سلفُه. لكنه، مع الأسف، لمَّا يعرف كيف يتحرَّر من قيود الماضي، فكبَّل نفسه من جديد، ولمَّا يعرف كيف ينطلق في عصره وواقعه، فيعي مشكلات الإنسان وصعوباته في هذه الأيام، فيعبِّر عن معاناته الحقيقية، فضاع بين الماضي والحاضر.

كيف نبحث عن حرية في الشعر، وشعورُنا لمَّا يزل مغلَّفاً بالأوهام؟! وكيف نبصر دورنا الحقيقي في المجتمعات الإنسانية المعاصرة، ونحن، حيناً، نتغزَّل بالماضي، وحيناً، نفاخر بأخذ قشور الحاضر؟! هل نحن حقاً نريد شعراً حديثاً، أم أننا لا نعي ما نريد؟!

كثيراً ما يتردد في هذه الأيام أن الشعر الحديث لمَّا يزل "يتلمَّس" طريقه. لكنني أعجب وأدهش لهذا المتلمِّس، بماذا يتلمَّس، وماذا يتلمَّس! حريٌّ بنا أن نقرَّ بالحقيقة وأن نعترف بأن معظم شعرنا الحديث ليس شعراً، وبأنه ليس إلا تعبيراً صادقاً وحقيقياً عن الضياع الذي نعاني منه! إني لا ألمس فيما يسمُّونه شعراً حديثاً إلا تشتتاً وضرباً من الصراع الداخلي في ذات خائفة من الانهيار! بلى، إننا نتعذب ونتألم لأننا لسنا ندري ما الذي نريده وما الذي نبحث عنه.

والغريب هو أنه على الرغم من أن الشعر الحديث لا يَلقى الصدى والتجاوب الكافيين لدى القرَّاء، بل إنهم ليجدونه غريباً، لا يعرفونه ولا يعرفهم – حتى إنني لمست في حالات كثيرة نفوراً منه – لكننا، مع ذلك، لا نزال نطالع في وسائل إعلامنا جديدَه الكثير وأخبارَ تطوُّره "المتلمِّس" الحثيث! إن شعراء الحداثة لا يدركون الفرق بين الشاعر الذي يصبر على نتاجه، وينتظر ويتروَّى قبل نشره، فيعمد إلى محاكمته ونقده وغربلته، ثم إلى مقارنته مع سيرورة تطوره وتطور فكره وشعوره، ويتأكد أنه يعبِّر عن معنى عميق يعتمل في كل جارحة من جوارحه ويمثِّل معاناة أوسع للبيئة المحيطة به، وبين الشاعر المتسرِّع، المنفعل، الذي يتوهَّم أنه يعبِّر بشعره عن آمال الناس جميعاً وآلامهم، وليس هو بقريب منهم، ولا حتى يعرف معاناتهم ويشعر بها، بل إنه لا يعبِّر إلا عن أنا–ه التي تأبى السكون والصمت؛ فتراه، إذا ما سمع نقداً كان أصماً، وإذا ما سمع إطراءً كان متفهِّماً منتبهاً! إن الأمر الصعب الذي يواجهنا هنا هو تأثُّر الشباب ببدعة الشعر الحديث تلك، وإقبالهم على كتابته بكلِّ يسرٍ وعلى نشره بكلِّ حماس.

إن الفرق بين الشاعر الأول والشاعر الثاني كالفرق تماماً بين من يبدع، ثم يطرح إبداعه، بصمت وترقب ولهفة، على الآخرين، آملاً أن يجد التجاوب لديهم، ومن لا يبدع، ويتوهم أنه يبدع، فيفرض نتاجَه على الآخرين بكل ثقة، معتقداً أنه لا بدَّ سيلقى تجاوباً رائعاً لأن كتابته، كما يظن، معاناة حقيقية وشعور صادق! يتيقَّن الشاعر الأول من إبداعه ومن عطائه، لأنه عاين التجربة الداخلية أثناء كتابته؛ بينما يثق الشاعر الثاني بنفسه وبـ"إبداعه" لأنه وجد نفسه في التيار المتَّبع السائد، وهو بالتالي سيلقى، بلا أدنى شكٍّ، ما لَقِيَه غيرُه من الإطراء! إن الشاعر الأول قد بحث عن ثبات داخلي في معاناته، وهو بذلك أراد أن يكون مستقلاً وحراً في إبداعه، بقدر ما هو فاعل ومنفعل بروح الجماعة؛ بينما لم يبحث الشاعر الثاني عن ثبات أصلاً، إنما بحث عن التيار الأكثر جَرْفاً ليزجَّ بنفسه في دوَّاماته، وهو بذلك أراد أن يكون مكبَّلاً بالإشراط الذي بدا له أنه طريق الولوج إلى الحرية والذي ظهر له أيضاً طريقاً سهلة للانخراط في الانفعال الظاهري للمجتمع.

يصعب عليَّ حقاً، وأنا أُجبَر على إدراج مثل هذه المقارنة، أن أوقِع نفسي بين حدَّين، فلا أنتبه إلى خصوصية كل تجربة شعرية، تبقى، رغم كل شيء، معاناة إنسانية حقيقية، لأن للفرد، في أعماقه، صلة وثيقة وكلِّية بالإنسانية جمعاء؛ حتى إنه لا يستطيع هو نفسه، مهما تجاهل تلك الصلة، ومهما حاول أن ينفيها، التهرُّب منها ورفضها تماماً. لكنني، في الحقيقية، أجدُني أمام حدث هو، في جوهره، تعبير جماعي عن إرادة الإبداع والحرية والتعبير المنطلِق غير المحدود، وهو الشعر الحديث. ويؤلمني، في الوقت نفسه، أن أرى هذه الإرادة الثائرة لا تعرف لنفسها طريقاً واعياً يقظاً؛ فلا هي تصغي لصوتها الداخلي الكفيل بإرشادها إلى دربها الصاعدة، ولا هي تبصر تجربتها في التجربة الإنسانية المتكاملة والواحدة، فتجد عندها المنارة التي تنقذها من الضلال في محيط تلاطَمَ موجُه واكفهرَّ جوُّه.

إن ما يحدِّد طريق التجربة الشعرية هو، أولاً، التناغم الذي يبدعه الشاعر بأسلوبه الخاص بين شعوره الداخلي الكامن فيه والإمكانية التعبيرية المتفتحة في أعماقه، من جهة، وبين الإطار الواسع الذي يمنحه المجتمع، بكلِّ تجاربه ومعاناته، للنشاط الإنساني الفردي لكي يعبِّر عن المعنى العميق للتجربة الإنسانية الداخلية، من جهة أخرى، ومن ثَمَّ السمو، ثانياً، بهذا التناغم – تناغم الداخل والخارج وطرق التعبير – ليصبح إفصاحاً عن الفعل الكلِّي للشعور المشترك. وهكذا تصبح كلُّ كلمة من كلمات الشاعر منبِّهاً يوقظ الشعور الكامن في الآخرين. ولا أغالي إن قلت إن التجربة الشعرية الحقيقية تبدأ عند هذه النقطة تماماً، وليس قبلها.

لو شئت أن أوضِّح هذه النقطة أكثر، مشدداً عليها، لما أمكنني ذلك إلا بتناول بعض الأمثلة والشواهد من "شعرنا الحديث". لكنني، مع الأسف، لمَّا أجد مطلبي في كل ما قرأت حتى الآن. ولست أعزو ذلك إلى طفولة شعرنا الحديث بالتأكيد، بل إلى عدم ولادته بعد! ولكي أكون منصفاً، فإنني أصرُّ على أن بعض التجارب الواعدة، مع القليل من الشعر الذي ينقل تجربة شعورية، لا يُعَدَّان انطلاقة مبشِّرة. ولنقل إن ما نراه اليوم ليس إلا مخاضاً صعباً لا نضمن أبداً أن يأتينا بمولود صحيح!

عليَّ، إذن، إن أَمِلتُ بشعر حديث، بكل ما تعنيه الحداثة من حرية وانفتاح ومشاركة في الشعور، أن أوضِّح خصائص هذا الشعر من خلال الشاعر؛ ولا أكون بذلك ناقداً للشاعر نفسه، لكنني لا أكون أيضاً قد وقعت في مطبِّ فصل الشاعر عن شعره. إن كان عليَّ أن أكون صادقاً فيما أشعر به وأعقلُه من منطلق محبتي للإنسان، فعليَّ، إذن، إنهاء شعوري ذاك – وبكل الصدق – إلى الآخرين، فأتمِّم بذلك واجبي. لكنني، قبل أن أميِّز بعض النقاط الهامة حول الشعر والشاعر، أريد التأكيد على نقطة أساسية، ألا وهي أنني لا أضع ميزاناً للشعر ولا أحدِّد له سبلاً معيَّنة. إن ما يهمني هو الشعر المنطلق من الشاعر، أي من الإنسان الذي يُفصِح عن شعوره؛ وليس لي أن أهتم بغير ذلك من "الشعر". ولهذا أركِّز فيما يلي كل اهتمامي على علاقة الشاعر بشعره.

إن أهمَّ ما يميِّز التجربة الشعرية–الشعورية هو النظرة الشاملة والمتكاملة للواقع من منطلق شخصي، يحافظ على حرية الفرد وعلى خصوصيته في التجربة والرؤيا، لكنْ ضمن منظور جماعي يحافظ على القدرة على السمو، بالنفس وبالمجتمع، فوق سراب التعدُّدية، لتحقيق المعنى والدور الإنسانيين في الوجود. وإني لأتساءل: ماذا يعني أن "نكتب" الشعر ونحن غافلون عن هذه النقطة؟ أليس أن كلَّ انجراف في تيار ما يُعَدُّ تقليصاً للإمكانية التعبيرية الشعرية، إن لم نقل إشراطاً لحرية التجربة الخاصة وإمعاناً في الاعتماد على تحليل الظروف الخارجية – عقلياً فقط – دون إفساح المجال لأية مبادرة ذاتية في الانفتاح على الآخرين وبَلْوَرَة الفعل المتبادل معهم – الفعل الذي وحده، في شموله، يتيح للحرية الداخلية أن تشعر فتُبدِع!

من المؤكد أنني لا أطالب – وذلك ليس من حقي – بعدم اعتناق العقائد والمذاهب والأفكار. إنما أردت التلميح إلى نقطة نغفل عنها غالباً، ألا وهي أنه لا يجوز، بأيِّ حال من الأحوال، الخلط بين الحرية الفكرية – وهي ليست إلا شكلاً بسيطاً للاشتقاق الذاتي الخاص، أي لإسقاط الطرق التعبيرية الذاتية للمنطق الفردي على بوتقات فكرية مختلفة، بل متناقضة أحياناً – وبين الحرية التعبيرية للداخل، وهي حرية فنِّية إبداعية قبل كل شيء. على ذلك، يمكنني الاستنتاج بأن الشاعر قد يعتنق مبادئ معينة، لكنه لا يقيِّد نفسه بها، لأن عقل الشاعر حرٌّ من دوَّامة الفكر نفسها، قبل أن يكون حراً من التقيُّد بمنهج أو من التعصُّب لعقيدة.

إنني لا أدعو بالنتيجة إلى رأي خاص، ولا أطالب – كما يمكن أن يعتقد بعضهم – بمثالية غريبة، لكنني أجزم أن الشعر ليس وسيلة للتعبير عن الفكر فحسب – عن الفكر المحدود المقيَّد خصوصاً – ولا عن العواطف والانفعالات والنزوات، ولا حتى عن الآلام المكبوتة أو عن ثورات النفس الجامحة الهائجة التي لا تعرف مطلبها ولا تعي كيف يمكن لها أن تحصل عليه. فالحرية الشعرية حريةٌ شعورية، أي امتدادٌ للشاعر في المعنى العميق للفكرة التي يريد طرحها، واتِّحادٌ شعوري داخلي مع الموضوع الذي يتناوله، أو فلنقل، يشعر بالحاجة إلى الإفصاح عنه. عندما يكون الشعر إفصاحاً عن الشعور الداخلي المتَّقد والمتفتِّح فينا يصبحُ قادراً على التعبير عن عواطفنا وأفكارنا التي تخلو عندئذٍ من التشويش والانفعال.

ألا نسمع معاً ذلك الأنين وتلك الشكوى ينبعثان من الشعر الحديث، وكأني بهما يعبِّران عن الضياع والتخبط اللذين نعيشهما هذه الأيام؟ ثمَّ ألا نلمح سويةً ذلك الهروب أو عدم القدرة على طرح الحلول للمشاكل وللصعوبات التي يعاني منها الشاعر والمجتمع؟ إن واقعنا صعب، والعالم يمرُّ بفترة من أحلك الفترات التي مرَّت على كرتنا الأرضية؛ وفي حين تتفاقم المشكلات الفردية والجماعية للإنسان، تتضح حقيقةُ ترابطها وتداخُلها، وتنبثق من ذلك الصعوبةُ المشتركة التي يعاني منها كلُّ إنسان بطريقة مختلفة عن الآخرين. أمن الممكن أن ما كان ينبغي أن يجعل الشعرَ الصادق الحيَّ يتدفَّق من أعماق "الإنسان–الشاعر" لا ينفكُّ يشوِّش عليه ويُضنيه، حتى ينفثه دخاناً تَرَكَ في الداخل، هناك في الأعماق البعيدة للكائن الإنساني، سموماً لم نجد ترياقاً لها بعد؟

لا. إن ما يمكن أن يعتمل في قلب الإنسان لهو غير ما يتبطَّن عليه الإنسان في الحقيقة. ويجب علينا، إنْ نحن أردنا أن يتجلَّى الباطنُ فينا، أن ننقِّي مشاعرنا وأفكارنا وعواطفنا. عندما قلت إننا لا نعرف ما نريد عنيتُ أننا لا نزال نتخبَّط في البحث عن حلول لا تنبع من داخلنا، فتكون بالتالي غير قادرة على الثبات أمام تقلُّبات الخارج وعواصفه. هل يفكر "شعراء" اليوم بالبحث في الداخل عن حلول للمشكلات التي تبدو ظاهرياً مشكلات خارجية؟ أم ترى "شعراء" اليوم غير مهتمين إلا بـ"إثبات وجودهم"، كما هو التيار السائد هذه الأيام؟ أيعتقد "شعراء الحداثة" أنهم سيجدون الطمأنينة والسلام والحرية والحقَّ في تمسُّكهم بتعبيرهم عن تلك الأنا التي لا حدود لمطامعها، أو بالغرق في تيار الوصولية والشهرة والمجد الزائف؟ هل يدركون ما معنى أن يكون الإنسان شاعراً؟ هل شعروا بواجبهم الإنساني وعرفوا معنى القيمة الإنسانية، فعاينوا الطاقة الأزلية الخلاقة المتجلِّية في الإنسان، فالتهبوا واتَّقدوا وسكروا بنشوة ذلك الشعور – الشعور بالحياة الإنسانية الواحدة، الماضية قُدُماً على درب الوجود؟

هل يريد شعرنا الحديث أن يتخلَّى عن الموضوعات القديمة البالية التي تناولها الشعراء قبله؟ ألا يرى أن ثمة في شعرنا القديم ومضاتٍ رائعةً لشعر وجداني وشعوري وعاطفي وفكري وصوفي تضيء درب الداخل وتعبِّر عن وحدة الإنسان الجوهرية؟ مرحى له إن شاء أن يضيف إلى موضوعات شعرنا القديم أفكاراً جديدة؛ لكن أين يجد موضوعات غابت حتى الآن عن الفكر والشعور الإنسانيين عبر تاريخ الحضارات؟! إن الشعر يعبِّر، أولاً وأخيراً، عن الطبيعة والحياة والوجود، وعن هذا الإنسان المتفاعل معها؛ فهل سيرى شاعر اليوم ما لم يَرَهُ ويبصره سلفُه من قبله؟ هنيئاً له، إذن، ثقته وشغفه بالمعرفة الكاملة وبالرؤيا المتكاملة! لكني لا أراه، في الحقيقة، يبلغ حتى شبراً واحداً من جبال الحكمة التي بلغها سلفُه. أما رؤيته – وليس رؤياه – فإنها لا تطال أن تبصر قمم المعرفة التي حققها الأقدمون. أليس حرياً بشاعر اليوم أن يبدأ من حيث بدأ سلفُه – إن لم يبدأ من حيث انتهى – فلا يتخلَّى عن الغزل، مثلاً – وهو يجب ألا يتخلَّى – إنما يعطيه، لو شاء، من روحه النقاء والعفَّة والجمال، فيبلغ به مراتب الشعر الكامل؟ لكني، مع الأسف الشديد، أرى شعرنا الحديث – ومعظمه غزلٌ في غزل – يتهتَّك فلا يرعوي، ويفضح فلا يخجل! أم ترى أن شعرنا الحديث عمل صالحاً فتخلَّى عن المدح والهجاء، وعن القيل والقال – وهذه مواضيع يجمُل به حقاً ألا يرثها عن سلفه؟ ما كان أحلى المديح في الشعر القديم بالقياس إلى ما نراه اليوم من مدحٍ للذات ومن تذلُّل للأنا وللآخرين! يحاول أحياناً "شعرنا الحديث" – وإني لمرغَمٌ على تكرار هذه العبارة – أن يُفلت إلى نطاق الإنسانية، فيتحدث عن الصراعات في العالم، وعن الظلم والاضطهاد، ويندِّد بالاستعمار، ويحاول أيضاً "البحث" عن التأثيرات على النفس الإنسانية و"تصويرها"، سلبية كانت أم إيجابية. لكنه في النهاية ينكفئ تعباً من هذا الضجيج النفسي الذي يكتنفه، وسط أشكال مبهمة من رموز وصور غريبة عجيبة، يتوه بها وتتوه به؛ فإذا، بدلاً من الوضوح والحلول والرجاء، ضبابٌ وسخطٌ ويأسٌ وإشاراتٌ... وإشارات!

ما أكثر الموضوعات التي بوسعنا التعبير من خلالها عن تلك الفكرة الواحدة، عن تلك العاطفة الوجدانية، عن ذلك العبق بالشعور المشترك بالوحدة مع كل شيء. حريٌّ بنا أن نتسامى بالأفكار القديمة، بدلاً من الضياع في متاهات البحث عن موضوعات فريدة! وحريٌّ بنا، من أجل ذلك، أن نتسامى بعواطفنا وبأفكارنا لكي نعبِّر عن حقيقتنا أكمل تعبير.

هل يريد الشعر الحديث أن يتخلَّى عن القوافي والأوزان ليصبح أكثر حرية في التعبير عن شعوره الدفَّاق؟ فما أجمل ذلك وما أحلاه! أجل، جميل أن يتحرر الشاعر من قوالب الشعر القديمة – وهذا من حقِّه. لكن ليس جميلاً، ولا من حقِّه، أن يقع في فخِّ عبودية التحرر الزائف. أن نُسقِط الشكل الخارجي أمرٌ مقبول، ما دمنا نحافظ على روح الشعر في قالب جديد، متحرر، منطلق، متماسك وجميل، لا يعكِّر أبداً صفو الصورة الشعرية الصادقة. إن كنَّا نستبدل بالشكل القديم الرتيب شكلاً جديداً أكثر تحرراً من القيود الظاهرية، هل نقع من جديد أسرى قيود اللاانتظام والفوضى والتشتت؟! أليس غريباً أن الشعر الحديث، الذي يحاول نقد استيراد القشور من الغرب، يصير هو نفسه المستهلك الأول للطريقة الغربية الغريبة في التعامل مع الفن؟! ألا يحق لي أن أخشى من تحول "شعرنا" إلى بدعة متجددة وإلى "صرعة" مفتعلة؟

إذاً، حين أطالب بنظرة شاملة متكاملة فذلك لكي أبذر بذار الرؤيا الكلِّية، النابعة من شعور كلِّي، التي منها وحدها يمكننا جني الشعر الحديث.

أستطيع تلخيص ما سبق حول تحقيق النظرة الشاملة بالنقاط التالية:

-       التوازن الداخلي، أي ثبات النفس وهدوء العقل، مما يفسح المجال لوعي ما يعتمل في داخلنا، ولتمييز المشاعر الصادقة، النابعة من الداخل، عن الأحاسيس المزيفة التي تأتينا من الخارج والتي لا تحمل في طيَّاتها إلا القلق والشك.

-       الوضوح في تعاملنا مع نفحات الشعور الداخلي، مما يؤدي إلى جلاء رؤيتنا لعلاقاتنا بكلِّ ما يحيط بنا؛ إذ علينا أن نكون مدركين لأهمية التأثر والتأثير بين الشاعر والمجتمع. فإذا كان شعرنا جلياً واضحاً كان وصوله أكثر شفافية وتأثيره أكثر عمقاً. إن في وضوح أنفسنا لنا وجلائها تحريراً عظيماً لإمكانياتنا الشعرية وإفصاحاً عن حقيقة شعورنا الدفين!

-       التجربة والمعاناة والعمل على بلورة شعورنا الداخلي بعدم التهرُّب من بوتقة الصعوبة. إن أهم ما يميِّز التجربة الشعرية هو الثبات في الشدة، واحتمال الألم ووعيه، والانسياق في سيرورة الكفاح الجماعي من أجل تحقيق القيمة والدور الإنسانيين. إن التجربة الداخلية للإنسان هي طريق انعتاقه من تيارات الخارج؛ ومعاناتُه هي التي تلهب شعورَه بالوحدة مع الآخرين.

***

أريد التوقف هنا عند الرمز في الشعر وما يقابله من غموض في شعرنا الحديث.

قلت إن الشعر شعور وتجربة داخلية تنتهي إلى الإفصاح عن نفسها بالكلمات وبالتعابير. لكن الشاعر، في تعبيره عن تلك التجربة، لا يحاول أن ينقل للآخرين صورتها وفكرتها وحسب، بل وفعلها فيه، كما وشعوره بها الذي يصبح هو نفسه، في لحظة التألُّق الشعري خلال التجربة، الملهِم والشاعر. فكيف يعبِّر الشعور عن نفسه؟ وكيف يُعبَّر بالكلمات عن تجربة شعورية؟ هنا تظهر إمكانية الصورة والتشبيه في رسم الإطار العام للتجربة. لكن المعنى العميق الذي ينقل الشعور والمعاناة يبقى في حاجة إلى إمكانية أخرى تتجلَّى في الإطار العام بكامله، فتحييه وتكشف فيه التألق الكامل للنور الذي عاينَه الشاعر في تجربته. وهذه الإمكانية هي الرمز.

لا يهمني تعريف الرمز، إنما أهتم أكثر لدوره في الشعر. ولهذا يجب أن أؤكد ههنا على أن الرمز ليس مجرَّد إسقاط لفكرة ما على حادثة طبيعية أو على عملية مألوفة، فنحمِّلها أكثر مما تطيق احتماله، ونحمِّل الشعرَ بالتالي عبئاً هو في غنى عنه. علينا ألا ننسى أن كلماتنا وتعابيرنا وجملنا هي، في الأصل، رموز ومفاهيم؛ وبالتالي فإن شعرنا في النهاية هو تآلف هذه الرموز والمفاهيم التي تزداد حيوية كلما كان تآلف كلماتنا متناغماً وتجربتَنا.

إن الرمز، في حدِّ ذاته، مجرَّدٌ وجاف؛ وهو لا يكتسب المعنى ولا يصيرُه، إنما ينقله فقط. فالرمز ليس غاية، كما أنه ليس بداية! حين يعبِّر الرمزُ، بالكلمة وبالمفهوم العام في القصيدة، عن المعنى العميق الذي يريده الشاعر فإنه يكون قد أدَّى دوره على أكمل وجه. وعلى هذا، فإن الرمز ليس شعوراً، أي أنه ليس هو الشعور؛ وعلينا أن ندرك هذه النقطة تماماً. إن الرمز يأتي من الشعور – أو هكذا يجب أن يكون الأمر – الذي يسري فيه نسغاً يحيي القصيدة بكاملها، فيكون الرمز بذلك وحياً شعورياً وتجاوزاً للكلمة إلى المعنى.

مما لا شكَّ فيه أن الرمز لا يعني الغموض. وعندما يريد الشاعر أن يشير في قصيدته إلى معنى عميق في نفسه من خلال الرمز فإنه يتوخَّى الإفصاح عن ذلك المعنى بأسلوب ينقله كاملاً ويحافظ على نقائه وعلى صفاء شعوره به. إنه يدرك أن الكلمات المتراصَّة وحدها لا تفي ولا تعبِّر إلا عن إطار خارجي؛ لذلك فهو يضمِّن تلك الكلمات رمزاً يحرِّك فكر الآخرين ويهزُّ مشاعرهم، بل وينقل لهم، في الوقت نفسه، عين تجربته، فيلتهب فيهم شعورُه بهم.

هكذا أفهم الرمز وأرى دوره في الشعر. فلنقل إنه انتقالٌ من التعبير عن مفاهيم مختلفة إلى التعبير عن فكرة كاملة؛ وإنه لَيتسامى في الشعر ليفصح عن تجربة وعن معاناة ولينقل شعوراً داخلياً عميقاً بشفافية وعذوبة.

ومما لا شكَّ فيه أيضاً أن النظرة الواضحة الشاملة والشعور الصافي الكلِّي يَهَبان الشاعرَ شفافية رمزية معبِّرة ويُبعِدانه عن كلِّ غموض ولَبْس وتشويش في المعنى. إن الرمز هنا ينقل تجربة الشاعر ومعاناته كلَّها مع صفاء فكره كلِّه، ويفسح بذلك لرؤاه أن تشرق في لحظة الكتابة، لحظة الاستغراق في الشعور الكلِّي الجماعي، إذ تنتفي القيود الشكلية للجُمَل وللصور وللمفاهيم، وبذلك تتحرر، في إطار الرمز العابق بالفكرة الكاملة الحرة، إمكانياتُ الداخل نفسها للتعبير بأدوات الخارج.

في "شعرنا الحديث" لا نلمح الهروب من قيود الوزن إلى سلاسل الألغاز الجهنمية والصور المعتمة والتراكيب الفارغة وحسب، بل ونبصر أيضاً – وذلك ما نخجل غالباً من البوح به – الهروب إلى الرمز من المعنى ومن التجربة الحقيقية ومن الشعور الصادق. لقد صار الرمز في شعرنا هو الهدف، بل هو الشعر! هل قلت "الرمز"؟! لقد أخطأت إذن، وعليَّ أن أصحح فأقول: لقد صار الإبهام في شعرنا هو الهدف، بل هو الشعر!

ما لنا نخشى الحقيقة، ونفضِّل عليها السقوط في "بئر الشعر المظلمة" والغرق في لُجَج العواطف الهائجة؟! لم لا ندعو الأشياء بأسمائها، ونقرُّ بواقع حالنا، فنغربل الذي عندنا، ولا نُبقي إلا على الصالح والقليل – ومنه نبدأ غير متعجِّلين؟ لِمَ نجعلُ الشعرَ غاية في حدِّ ذاته، أو طريقاً إلى قمم الوهم، والشعرُ حقاً ليس إلا تعبيراً عن شعور داخلي. إذا لم تتحقَّق تجربةُ الشعور فمن أين ينبع الشعر؟! يقول الياس أبو شبكة في مقدمة ديوانه أفاعي الفردوس: «وعندي أن الشعر ينزل مرتدياً ثوبه الكامل، وهذا الثوب جزء من الشعور لا يتجزأ.»[1] والياس أبو شبكة – ذلك الشاعر المغترب الذي عاش بعيداً عن وطنه وأهله – أدرك هذه الحقيقة البسيطة ونَقَلَها في كلِّ بيت من شعره. وإن كان سابقاً على هواة الشعر الحديث فهذا لا يمنعنا من الأخذ بتجربته على أنها منارة حقيقية لنا، نهتدي بها في تجربتنا المعاصرة، نحن الذين نريد أن يكون لنا دورُنا في المجتمع الإنساني الكبير.

هكذا نعود مرة أخرى إلى الشاعر، إلى التجربة الداخلية، إلى الشعور، فلا نتردد في القول إن الرمز إفصاحُ الشاعر عن شعوره وعن تجربته الداخلية بصدق وبنقاء.

فلنلجأ إلى الرمز؛ فهو اللغة المتنامية أبداً من أجل التعبير عن الحقيقة. ولنبتعد عن "الرمز–الغموض" الذي صار هدف شعرنا والذي بتنا نتوهَّم أنه الشعر. أليس هذا هو فعلاً واقع شعرنا الحديث؟ ألا نرى شعراءنا يلهثون وراء "الرمز" من أجل يكتبوا شعراً؟ وفي النهاية، ألا نرى الطلاسم تملأ كتيِّباتٍ، تسمى "دواوين"، ملقاة هنا وهناك في الواجهات، وعلى طرفي دربنا الشعرية الحديثة؟!

ويُطرَح السؤال مرةً أخرى – السؤال المتضمن إجابته: هل نريد شعراً حديثاً حقيقياً يضعنا على الدرب الإنسانية الواحدة؟ هل نعرف ما نريد ونعيه؟!

***

لا بدَّ من كلمة أخيرة في النقد.

إن النقد وحده يتفرَّد دوماً بالمهمة الصعبة: قول الحقيقة! أو لنقل إنه على النقد تقع مسؤوليةُ وضع النقاط على الحروف – وهي المهمة التي تحتاج حقاً إلى الهمَّة؛ أو لنقل، مرة أخرى، إنها المهمة المسؤولة، تماماً كالشاعر والأديب والفنان، في عملية الخلق أو الإبداع.

إن كان إطار الموضوع لا يسمح بالتوسع في موضوع النقد فهو يسمح، على الأقل، بالتأكيد على النقد الصادق، النابع من الداخل، الواعي لتطور الشعر، والسابر الشعرَ في الشعور. فما أحوجنا، في مثل هذه الأيام، إلى مثل هذا النقد! وما أجمل أن نرى نقَّادنا يسارعون إلى إصلاح الاعوجاج في مسيرة شعرنا، فينبِّهون ويوجِّهون، وينقدون فلا ينقضون، بل يبنون ويرفعون.

إن المشكلة الكبرى التي تواجهنا هي أن معظم نقَّادنا انساقوا في تيار "الشعر الحديث"، فأخذوا على عاتقهم مهمة شرحه أو "تشريحه" لكي يصل إلى القرَّاء واضحاً سلساً؛ فزادوا الغموض غموضاً، وعملوا على تطوير نقد حديث يلائم الشعر الحديث ويجاريه في إبهامه وتفكُّكه وضياعه، فاستحقوا بذلك شرفَ تثبيت أركانه، وتعزيز صموده، وحثِّه على الاستمرار قُدُماً في مجاهل الضلال المظلمة!

أعود فأطرح السؤال مجدداً، لكنْ على النقَّاد هذه المرة: من أين لنا النقد الهادف والبنَّاء، وليس ثَمَّ شعورٌ واعٍ للدور، للواجب، وللمسؤولية الإنسانية؟

إن نقد الشعر ليس تحليلاً للكلمة أو للحرف، ولا هو إمعانٌ في تجزئة الجُمَل والكلمات أو حتى الحروف؛ نقدُ الشعر، أولاً، نظرةٌ كلِّية لكلِّية القصيدة، ونظرةٌ إنسانية للإنسانية في القصيدة، ونظرةٌ شعورية للشعور في القصيدة. إن النقد، في جوهره، وعيٌ لدور الشاعر ولرسالته في شعره؛ ولهذا يجب على الناقد أن يكون واعياً لدوره ولرسالته في النقد. يقول ميخائيل نعيمه:[2]

أما النقد الذي لا غنى للأدب عنه، فهو النقد الذي يقيم للأدب أهدافاً تتناسب وعظمة الإنسان من حيث هو كائن لا نهاية لما في كيانه من الأسرار والقوى التي تجعله يصبو دائماً أبداً إلى الانعتاق من القيود والحدود والسدود مهما يكن نوعها. وهذا النقد لا يتغافل عن أن الإنسان لا يزال من لحم ودم وأن للَّحم والدم متطلَّباتهما ومشكلاتهما. ولكنه يأبى على الأدب أن يكون مرآة لا تعكس من الإنسان أكثر من لحمه ودمه فتوهمه أن الذي يراه فيها من ذاته هو كلُّ ذاته. وهكذا تقعد به عن الطموح إلى ما هو أبعد وأسمى وأبقى من حاجات اللحم والدم، فتُحكِم عليه قيودَه وحدودَه وسدوده بدلاً من أن تساعده على الانفلات منها.

والناقد الذي يُحسِن ذلك النوع من النقد هو الناقد الذي سَبَرَ من الإنسان أعمق أعماقه، وتسلَّق أعلى أعاليه، فبات يحسُّه كائناً قدماه على الأرض أما رأسه ففي السماء. وهذا الناقد لا ينظر إلى الكلمة نظرة القارئ العادي ولا نظرة الكاتب المتعنت. فهي عنده أكثر من أداة للتعبير، وأكثر من وسيلة للوشي وللتنميق والتمويه والتسلية والبهرجة والحذلقة. إنها المجمرة التي فيها يحرق الإنسان بخور أشواقه. وإنها المصباح الذي ينير له طريق الحق والجمال، والمفتاح الذي يلج به الأبواب الموصدة في وجهه. وهي لا نفع منها ما لم يتجلَّ الصدقُ في كلِّ حرف من حروفها. والكلمة الصادقة جميلة أبداً. أما الكلمة الكاذبة فهي البشاعة بعينها، وقد استعارت أثواب الجمال. وهي السمُّ في الدسم لقائلها ولكاتبها، ولسامعها ولقارئها بالسواء.

ذلك هو النقد الذي أجلُّه، وما عداه فأكثره هباءٌ في هباء.

ولقد أسعدني أن أقرأ مؤخراً مقالاً للناقد السوري عبد الفتاح قلعه جي في جريدة تشرين اليومية، يتناول فيه إمكانية سبر الناقد للشعر الرؤيوي وأهمية العبور من الخارج إلى الداخل، من الظاهر إلى الباطن، في عملية "نقد" القصيدة المفعمة بالشعور الداخلي. جاء في ذلك المقال:

العبور من البرَّاني إلى الجَوَّاني ضرورة بالنسبة للناقد؛ وهو الدخول الحقيقي في طقس الأشياء. ولكن هذه المهمة لا يستطيع أن يضطلع بها إلا من يملك الذائقة الجَوَّانية والقادرُ على الاستبصار بالحدس. كيف يستطيع ناقدٌ تجزيئي برَّاني أن يتخلَّص من شباك النسيج اللغوي ومن ثوابت النقد الجمالي في منهجه الشكلاني – وربما القوالب النقدية الجاهزة – ويتماهى في تائية ابن الفارض، أو حكايات العطَّار الشعرية في منطق الطير، أو إبراقات ابن عربي في ترجمان الأشواق، يحلِّق فيها الروح في مدار أبدي؟!

ويستطرد موضحاً أهمية التكامل بين البرَّاني والجَوَّاني في الرمز والتعبير:

والعبور إلى الجَوَّاني لا يكون إلا عن طريق البرَّاني. فالناقد الذائق العرَّاف يدرك أن الألفاظ والعبارات والبديعيات والصور، حسية كانت أو تخيُّلية، ونثار العواطف والمعاني ما هي إلا رموزٌ ومعالم طريق إلى جَوَّانية القصيدة.

"الدخول في طقس القصيدة–الفتح أو القصيدة–الإشراقة أمرٌ مجهد بقدر ما هو ممتع للناقد لأنه يتطلَّب منه حالةَ ارتقاء روحية، واستخداماً لأدوات نقدية جديدة تستطيع أن تحيط الجوهر في أناة ودقة، وتقوم بإبرازه في جلاء، مضيئةً إيَّاه من جميع جوانبه، مع مجانبة كل تجزيء يفتِّت كلِّية العمل الشعري الرؤيوي.

إذاً، أمام نُقَّادنا مهمتان أوَّليتان: أولاً، فرز العمل الشعري الشعوري، أو كما أسماه الأستاذ قلعه جي، "الرؤيوي"، من بين الكم الهائل من الشعر المقيَّد والضائع؛ ومن بعدُ نقد هذا العمل الإبداعي بأسلوب إبداعي. وإذن، لا يتمُّ سبرُ أعماق العمل الداخلي والكلِّي إلا بالقدرة على الاستبطان وبالكلِّية في النظرة النقدية. وهذا يتطلب من الناقد عملاً معمَّقاً على الذات هو عينُه العمل المطلوب من الشاعر تحقيقُه. بغير هذا الجو يصعب على القصيدة الحديثة أن تؤدي رسالةً ودوراً في عالمنا المعاصر.

***

لم أحاول في هذه المقالة البسيطة تحديد ماهية الشعر. فمن الخرق، كما يقول أبو شبكة، «أن نحاول بلغة وضعية تحديد لغة المجاز والكناية، لغة الروح، لغة الحسِّ الوجداني العميق».[3] لكنني عبَّرت عن شعوري الصادق تجاه ما أشهد حالياً من "شعر حديث"، وحاولت التمييز ما بين الشعر الذي يوقِد فيَّ الرجاء ويُلهِب فيَّ الحياة وبين الكلمات المتشابكة والمتقاطعة التي لا يمكن دعوتها شعراً وتسمية الذين كتبوها شعراء والتي تشدُّ قلبي بحبال التخبُّط واليأس وتُغرِق روحي في وهم الظلمة والشك والحيرة!

لذاك، نستميحكم عذراً، مع ميخائيل نعيمه، «أن ندعو الأشياء بأسمائها، ولذاك لا تؤاخذونا إذا ميَّزنا بينكم وبين الشعراء، فدَعَوْنا ما تكتبونه صفَّ كلام وما يكتبونه شعراً وفناً»[4]!

*** *** ***

تنضيد: هفال يوسف


* كتب هذا النص في الثمانينات أحدُ أفراد أسرة معابر بروح فتية، ثائرة، في فترة كان فيها مهتماً لمشكلة الشعر في الصميم؛ وقد نُشِرَت مقتطفاتٌ منه في نشرة دورية كان عدد من الأصدقاء الذين يؤرِّقهم الهمُّ الوجودي يصدرونها آنذاك في دمشق باسم "الرسالة". لكن مضمونه لم يزل، في رأينا، طازجاً؛ ولهذا ارتأينا نشره كما هو. (المحرِّر)

[1] الياس أبو شبكة، مقدمة أفاعي الفردوس، دار الحضارة، بيروت 1962، ص 15.

[2] "النقد كما أفهمه"، المؤلفات الكاملة، المجلد السابع: مقالات متفرقة، دار العلم للملايين، بيروت 1979، ص 216.

[3] مقدمة أفاعي الفردوس، دار الحضارة، بيروت 1962، ص 11.

[4] ميخائيل نعيمه، الغربال، مؤسسة نوفل، بيروت 1983، ص 89.

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود