|
القصيدة كائن
حيٌّ
قيصر
عفيف
تثير فينا ظاهرةُ القصيدة الدهشةَ تلو الدهشة. كيف تأتي؟ من أين؟ ما تأثيرها على القارئ أو السامع؟ ما حقيقة هذه الظاهرة المدهشة؟ تتألف القصيدة، مثل كل ظاهرة فنية، من مادة تتخذ أشكالاً: من ألوان، كلمات، أصوات، ومن شيء يتجاوز المادة. تقف أمامنا، تحاورُنا، تواجهُنا، وتفرض ذاتها علينا. تظهر القصيدة لنا في ماديتها؛ إلا أنها تقول شيئًا أكثر من المعاني التي تحملها كلماتُها. ذلك أنه في فعل الكتابة نَفََخَ الشاعرُ نَفَسه على الحروف، وألبس الكلماتِ الماديةَ العاديةَ المعاني شيئًا من نَفْسه، فأعطاها حياةً من حياته وكيانًا من كيانه. يتألف
الجسم الحيُّ من خلايا وأعضاء تعمل في تناسق
تام لتتمِّم وظيفة الجسد النهائية. إنها
الوحدة العضوية في علم الحياة. وكذلك دَرَجَ
بعض النقاد على الكلام عن الوحدة العضوية في
القصيدة. تتناسق الكلمات وتترابط، يكتمل
الشكلُ بالمعنى، والإيقاعُ بالنغم الداخلي.
وكما أن للجسد الحيِّ أعضاء داخلية من قلب
وكبد ورئتين، كذلك للقصيدة أعضاء غير مرئية،
لكنها قائمة. ففيها القلب الذي يضخ الدم في كلِّ
كلماتها، وفيها الرئة التي تنقِّي مجاريها، وفيها الكبد الذي يحوِّل. هذا
الكلام عن الوحدة العضوية صحيح، لكنه ناقص؛
لا يكتمل إلا إذا نظرنا إلى الكائن الحي
بمنظار آخر. الكائن الحي لا يوجد بمعزل عن
سواه من الكائنات، بل يرتبط بسلالته
وموروثاته؛ يأخذ من والديه الكثير من صفاته
الجسدية والخلقية؛ يرتبط بجدوده جسديًا
وروحيًا كما يرتبط بكل الأشياء الحية. فلا فصل
بين كائن حيٍّ وآخر، إنما حركة دائمة من أخذ
وعطاء لتستمر الحياة. هكذا القصيدة أيضًا
ترتبط بكل الشعر الذي سبق وجودها. تأخذ من
المعاجم كلماتها المادية ومعانيها، لكنها لا
تكون مطابقة لهذه الكلمات، كما لا يطابق
الولد أبويه، ولا النبتة الجديدة الشجرة التي
أعطتها. ومثلما
لا معنى لكائن حيٍّ جديد إلا في معنى محدد،
كذلك لا وجود لقصيدة جديدة إلا في معنى محدد
أيضًا. وكما لا فصل بين إنسان وآخر، أو بين
كائن حيٍّ وآخر – إذ يترابط الجميع في الحبل
الخفي الذي يجمع الموجودات – كذلك لا فصل بين
قصيدة وأخرى. كل القصائد في كل اللغات تترابط.
كل قصيدة ريشة في جناح نسر الشعر الواحد؛ كل
قصيدة خلية حية في جسد الشعر. ومثلما يولد
الكائن الحُّي من كائن حي، وتبدأ السلالة
وترسم شجرة العائلة، هكذا القصيدة أيضًا. ليس
من قصيدة تولد خارج التراث البشري. كل
السلالات الماضية تتآلف، في وعي ومن دون وعي،
لخلق القصيدة. وإذ
لا كائن حيًّا إلا من ذكر وأنثى، كذلك شأن
القصيدة. اللغة التي تحفظ القصيدة التراث هي
الأم التي تلد القصيدة؛ والشاعر هو الذكر
الذي يلقِّح. ويأتي الأولاد على ألوان وأشكال
وأنواع مختلفة. وإنك لا تجد شقيقين متطابقين
تمامًا؛ كذلك لا تجد قصيدتين متطابقتين
تمامًا. وكما في كل كائن حي يقيم عنصرا
الذكورة والأنوثة معًا، كذلك في القصيدة
الواحدة أنوثة تشدك نحوها، وذكورة تدفعك إلى
الانطلاق. القصيدة الواحدة منبع ومصب، بداية
ونهاية، سلب وإيجاب. الكائنات
الحية زمنية في جوهرها. تبدأ في لحظة زمانية،
تكبر، تنمو، وتميل إلى أفولٍ بعدما تترك
بصماتها على الوجود. وهذا شأن القصيدة أيضًا:
تبدأ حياتها الزمنية في لحظة الكتابة، وتكبر
مع كل قراءة جديدة. غيرها من الكائنات الحية
تعرف الموت؛ أما هي فلا تعرفه إلا متى توقفتْ
قراءتُها. لكنها سرعان ما تنتفض فوق الزمان مع
كل قراءة جديدة. والكائنات
متبدِّلة في وجودها الزماني، مغروزة أبدًا في
الماضي والحاضر، تتطلَّع دائمًا إلى
المستقبل. وهذا أيضًا شأن القصيدة: تمتد
جذورها في الماضي، لغةً وتراثًا وتجربة فردية
وجماعية؛ إلا أن أغصانها ترتفع في سماء الآتي، تبشِّر بالعصافير الجديدة. القصيدة
أمامنا تحاورنا، مثل أيِّ كائن حي. أن تقرأ
قصيدة يعني أن تبدأ حوارًا. عليك أن تجيد
الإصغاء؛ وكي تجيد الإصغاء عليك الاعتراف
بالآخر الذي يحاورك. قراءة القصيدة قراءة
جيدة تستدعي الاعتراف بها كائنًا حيًّا
موجودًا أمامنا يدعونا، يحاورنا، يقول لنا
شيئًا. لو أحسنَّا الإصغاء لسمعنا ما تقوله
القصيدة، إذ تحمل نَفَس الشاعر وحياته،
ولأنها حياة وقطعة من حياة. هل
نغالي لو نقول إنها حياة تزيد حياتنا معنى؟ ***
*** *** النهار، الأربعاء 23 تشرين
الأول 2002
|
|
|