عودة إلى الجزء الأول من هذا الفصل

 محمود محمد طه

الرسالة الثانية من الإسلام

(مقتطفات عُنِيَ باختيارها أكرم أنطاكي)

 

من مقدمة الطبعة الرابعة:

العروة الوثقى

[...] العروة هي المقبض، أو هي اليد التي يُحمَل بها الإناء، أو هي العقدة في طرف الحبل التي يستوثقُ بها القابض على الحبل من قبضة الحبل. فالعروة الوثقى هي مقبض الحبل الوثيق. والحبل هو الدين. قال تعالى: "واعتصموا بحبل الله جميعًا ولا تفرقوا واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألَّف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانًا وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون". فالحبل هنا هو الإسلام، وهو القرآن، وذلك معنى واحد. وقد قال المعصوم، في حديث يرويه علي بن أبي طالب: "ألا إنها ستكون فتنة!" فقلت: ما المخرج منها يا رسول الله؟" قال: "كتاب الله! فيه نبأ ما كان قبلكم، وخبر ما بعدكم، وحكم ما بينكم. هو الفصل، ليس بالهزل. من تركه من جبار قصمه الله، ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله. وهو حبل الله المتين، وهو الذكر الحكيم، وهو الصراط المستقيم. هو الذي لا تزيغ به الأهواء، ولا تلتبس به الألسنة، ولا يشبع منه العلماء، ولا يخلق على كثرة الردِّ، ولا تنقضي عجائبه. هو الذي لم تنته الجن إذ سمعته حتى قالوا: "إنَّا سمعنا قرآنًا عجبًا يهدي إلى الرشد". من قال به صدق، ومن عمل به أجر، ومن حكم به عدل، ومن دعا إليه هُدِيَ إلى صراط مستقيم". هذا قول المعصوم. وهذا الحبل إنما تنزَّل من الله في إطلاقه إلى أرض الناس. فأوله عندنا، وآخره عنده تعالى، في إطلاقه. وهذه الصورة محكية أجمل حكاية، في قوله تعالى، من مطلع سورة الزخرف: "حم والكتاب المبين إنا جعلناه قرآنًا عربيا لعلكم تعقلون وإنه في أمِّ الكتاب لدينا لعلي حكيم". وهذا الحبل هو أيضا المسمى بالهدى في قوله تعالى، مخاطبًا إبليس وحواء وآدم: "قلنا اهبطوا منها جميعا فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون". فإن هذا الهدى قد تنزَّل من الله في إطلاقه إلى المهبط الذي هبطه إبليس وحواء وآدم، وهو الأرض. ومن ههنا كانت صورة الهدى. وصورة الحبل عبارة عن أمر واحد؛ ذلك الأمر هو القرآن. والعروة الوثقى التي قلنا عنها إنها مقبض الحبل الوثيق إنما هي طرف الحبل الذي لامس الأرض – أرض الناس. وهذا ما يحكيه ظاهر القرآن الذي تعطينا إياه اللغة العربية، وقد عبر تعالى عنه بقوله: "إنَّا جعلناه قرآنًا عربيا لعلكم تعقلون". عبارة "لعلكم تعقلون" هي التنزُّل لأرض الناس – وهذه هي الشريعة. ولقد تنزَّل هذا الحبل الوثيق من الإطلاق. وقد عبَّر تعالى عن نقطة متنزَّله من الإطلاق بقوله تعالى: "وإنه في أمِّ الكتاب لدينا لعليٍّ حكيم". وقد أشار إلى نقطة متنزَّله من الإطلاق بقوله تعالى: "حم". أشار هنا إشارة فقط، وهي إشارة في غاية الرفعة. وعبَّر هناك عبارة، وهي عبارة في غاية البلاغة. وبين العبارة والإشارة اختلاف مقدار. والمعبَّر عنه والمشار إليه أمر واحد، هو الذات. وإنما جاء اختلاف المقدار لضرورة التنزُّل إلى الأفهام.

فالعروة الوثقى هي الشريعة. والحبل الوثيق هو الدين. وبين الشريعة والدين اختلاف مقدار، لا اختلاف نوع. فالشريعة هي القدر من الدين الذي يخاطب الناس – عامة الناس – على قدر عقولهم. ولقد صدَّرنا هذه المقدمة بآيتين، أولاهما: "لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها والله سميع عليم". العروة الوثقى هنا الشريعة، وهي "لا انفصام لها" من الدين لمن "يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله". فإنها له موسلة، وموصلة. هذا شرط عدم انفصامها عن الدين: الكفر بالطاغوت والإيمان بالله. وهذا يعني أنها منفصمة عن الدين لمن يستمسكون بها بغير كفر بالطاغوت، وبغير إيمان بالله، وهو ما عليه حال المسلمين اليوم. هذه أولى الآيتين.

وأخراهما: "ومن يسلم وجهه إلى الله وهو محسن فقد استمسك بالعروة الوثقى وإلى الله عاقبة الأمور". وهذه الآية في معنى تلك، ولكنها تذهب أكثر منها في توضيح توسيل الشريعة. جاء في هذه بقوله: "ومن يسلم وجهه إلى الله وهو محسن" في مقابلة "فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله" في تلك. وجاء بالفاصلة: "وإلى الله عاقبة الأمور"، ليدل على الرجعى بالصعود على الحبل المتنزَّل من الإطلاق، حيث كان الإنسان، قبل أن يزلَّ ويُطرَدَ بسبب الزلة، ويبعد: "قلنا اهبطوا منها جميعًا فإما يأتينكم منِّي هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون". وورد في نفس هذا المعنى قوله تعالى: "لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم ثم رددناه أسفل سافلين إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلهم أجر غير ممنون". فالأجر "غير الممنون" يعني غير المقطوع. وهو، من ثَمَّ "العروة الوثقى لا انفصام لها".

السنة هي الرسالة الثانية

السنة شريعة وزيادة. فإذا كانت العروة الوثقى هي الشريعة فإن السنة أرفع منها. وإذا كان حبل الإسلام متنزَّلاً من الإطلاق إلى أرض الناس حيث الشريعة، حيث مخاطبة الناس على قدر عقولهم – فإن السنة تقع فوق مستوى عامة الناس. فالسنة هي شريعة النبي الخاصة به. هي مخاطبته هو على قدر عقله. وفرق كبير بين عقله وبين عقول عامة الناس. وهذا نفسه الفرق بين السنة والشريعة. وما الرسالة الثانية إلا بعث هذه السُنَّة لتكون شريعة عامة الناس. وإنما كان ذلك ممكنًا، بفضل الله، ثم بفضل تطور المجتمع البشري خلال ما يقرب من أربعة عشر قرنًا من الزمان. وحين بشَّر المعصوم ببعث الإسلام، إنما بشَّر به في معنى بعث السُنَّة، وليس في معنى بعث الشريعة. قال: "بدأ الإسلام غريبًا، وسيعود غريبا كما بدأ. فطوبى للغرباء!" قالوا: "من الغرباء يا رسول الله؟" قال: "الذين يحيون سنتي بعد اندثارها." ويجب أن يكون واضحًا أنه لا يعني إحياء الشريعة، وإنما يعني إحياء السنة. والسنة، كما قلنا، شريعة وزيادة. السنة طريقة؛ والطريقة شريعة مؤكدة.

السنة ليست خاصة بالنبي

كثيرًا ما نسمع الفقهاء يقولون: إن هذا العمل خاص بالنبي. وهذا خطأ شنيع، وقد كان له سود العواقب في تثبيط الناس. والله تعالى يقول على لسان نبيه: "قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله". ومن ههنا انفتحت الشريعة على السُنَّة وأصبح مطلوبًا من السالك أن يترقى من الشريعة إلى الطريقة، "السنة". بيد أن هذا الترقِّي لم يكن فرضًا مفروضًا على عامة الناس، وإنما كان أمرًا مندوبًا إليه. وما منعه ألا يكون فرضًا إلا حكم الوقت. فقد كانت الفترة الأولى من الدعوة خاصة بأمَّة المؤمنين. وكان عمل النبي، في خاصة نفسه، عملاً في مستوى المسلمين. فلم يكن في الأمة المسلمة غيره. والإسلام مرتبة مترقِّية على الإيمان. وقد وَرَدَ تفصيل هذا في متن الكتاب، فليراجَع في موضعه. والذي يهمنا هنا أن نقرِّر أن وقتنا الحاضر وقت تتهيأ فيه الأرض لظهور أمة المسلمين. وهذه الأمة هي أمة الرسالة الثانية، وشريعتها هي سُنَّة النبي، لا شريعة الأمة الماضية، بكل تفاصيلها، وذلك بفضل الله، كما أسلفنا القول، ثم بفضل تطور المجتمع البشري خلال هذه المدة الطويلة، مما جعله مستعدًّا لتفهُّم التشريع المتطوِّر من الشريعة إلى السنة. فكأن أرض الناس قد ارتفعت خلال هذه المدة، وكأن طرفًا من الحبل قد انطوى من البعد إلى القرب، وأصبحت بذلك العروة الوثقى الجديدة أقرب إلى الإطلاق من العروة الوثقى القديمة، وذلك لقرب أرض الناس – أعني مستوى فهمهم – من الإطلاق، إذا ما قورن بمستوى الفهم القديم.

والأمة المسلمة هي التي سماها النبي الكريم بالإخوان، حين سمَّى الأمة المؤمنة بالأصحاب، وفي ذلك ورد حديثه المشهور الذي قال فيه: "واشوقاه لإخواني الذين لما يأتوا بعد!" قالوا: "أولسنا إخوانك يا رسول الله؟" قال: "بل أنتم أصحابي. واشوقاه لإخواني الذين لما يأتوا بعد!" [...] قالوا: "من إخوانك؟" قال: "قوم يجيئون في آخر الزمان، للعامل منهم أجر سبعين منكم!" قالوا: "منَّا أم منهم؟" قال: "بل منكم!" قالوا: "لماذا؟" قال: "لأنكم تجدون على الخير أعوانًا، ولا يجدون على الخير أعوانًا". وعن الإخوان قال في موضع آخر: "الأنبياء أبناء أمٍّ واحدة"، يعني هم إخوان لأنهم جميعًا يرضعون من ثدي واحد هو ثدي "لا إله إلا الله". وفي ذلك إشارة إلى أن أمة المسلمين يكون الناس فيها، لكمال معرفتهم بالله، كأنهم أنبياء، وليسوا بأنبياء.

ومما يدحض القول بأن السنة خاصة بالنبي قول الله تعالى: "لقد جاءكم رسول من أنفسكم، عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم". وروح هذه الآية في عبارة: "من أنفسكم". يشير إلى أن ما اتصف به النبي من كمالات هو لكم، إذا اتبعتم طريقه، لأنه من عنصركم، وليس من عنصر غريب عليكم، والاختلاف بينكم وبينه اختلاف مقدار، لا اختلاف نوع. وقول من يقول بأن هذا العمل خاصية من خاصيات النبي يخطئ الحكمة في إرسال الرسل إلى البشر من البشر لا من الملائكة. فإذا كانت الأرض اليوم، بكل هذه الطاقة المادية الهائلة والتقدم البشري الرفيع في وسائل الدنيا، ثم بكل هذه الحيرة المُطبِقَة على عقول الناس وقلوبهم، إنما تتهيأ لظهور أمة المسلمين عليها، فقد أصبح واجبًا على ورثة الإسلام – على ورثة القرآن – أن يدعوا إلى الرسالة الثانية، تبشيرًا بالعهد الجديد الذي أصبحت البشرية تشعر بالحاجة الملحة إليه، ولكنها تخطئ طريقه. وإنما طريقه في المصحف، ولكن المصحف لا ينطق، وإنما ينطق عنه الرجال. قال تعالى في ذلك: "بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم وما يجحد بآياتنا إلا الظالمون". ومما تنطق به صدور الذين أوتوا العلم أن طريق العهد الجديد – طريق المسلمين على الأرض – ترسم خط سيره آيات الأصول (الآيات المكية)، تلك التي كانت في العهد الأول منسوخة بآيات الفروع (الآيات المدنية)، وإنما نسخت آيات الأصول يومئذ لحكم الوقت. فقد كان الوقت وقت أمة المؤمنين؛ وآيات الأصول تخاطب أمة المسلمين، وهي أمة لم تكن يومئذٍ. وإنما نُسِخَتْ آيات الأصول في معنى أنها أرجئت، وعُلِّقَ العمل بها فيما يخص التشريع إلى أن يحين حينها، ويجيء وقتها – وهو الوقت الذي نعيش نحن اليوم في تباليج فجره الصادق. وإنما من ههنا وظَّفنا أنفسنا للتبشير بالرسالة الثانية.

الرسالة الثانية من الإسلام

 الإسلام دين واحد، وهو دين الله الذي لا يرضى غيره. قال تعالى فيه: "أفغير دين الله يبغون وله أسلم من في السموات والأرض طوعًا وكرهًا وإليه يرجعون"؟ وهو، بهذا المعنى، إنما هو الاستسلام الراضي بالله ربًّا. وبالإسلام جاء جميع الأنبياء من لدن آدم وإلى محمد. قال تعالى في ذلك: "شرَّع لكم من الدين ما وصى به نوحًا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه... كبر على المشركين ما تدعوهم إليه... الله يجتبي إليه من يشاء ويهدي إليه من ينيب". "شرَّع لكم من الدين" هنا لا تعني الشرائع، وإنما تعني "لا إله إلا الله"؛ ذلك بأن شرائع الأمم ليست واحدة، وإنما هي مختلفة اختلاف مقدار، وذلك لاختلاف مستوياتها. وإنما "لا إله إلا الله" هي الثابتة، وإن كان ثباتُها في مبناها فقط، وليس في معناها. وإنما يختلف معناها باختلاف مستويات الرسل. وهو اختلاف مقدار أيضًا. قال المعصوم في ثبات مبنى "لا إله إلا الله": "خير ما جئت به أنا والنبيون من قبلي لا إله إلا الله." واختلاف شرائع الأنبياء الناتج عن اختلاف مستويات أممهم لا يحتاج إلى طويل نظر. ويكفي أن نذكر باختلاف شريعة التزويج بين آدم ومحمد. فقد كان تزويج الأخ من أخته شريعة إسلامية لدى آدم. وعندما جاء محمد أصبح الحلال في هذه الشريعة حرامًا. أكثر من ذلك أصبح التحريم ينسحب على دوائر أبعد من دائرة الأخت. قال تعالى في ذلك:

حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم وعماتكم وخالاتكم وبنات الأخ وبنات الأخت وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخواتكم من الرضاعة وأمهات نسائكم وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن فإن لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم وأن تجمعوا بين الأختين إلا ما قد سلف إن الله كان غفورًا رحيما.

فإذا كان هذا الاختلاف الشاسع بين الشريعتين سببه اختلاف مستويات الأمم – وهو من غير أدنى ريب كذلك – فإنه من الخطأ الشنيع أن يظن إنسان أن الشريعة الإسلامية في القرن السابع تصلح، بكل تفاصيلها، للتطبيق في القرن العشرين، ذلك بأن اختلاف مستوى مجتمع القرن السابع عن مستوى مجتمع القرن العشرين، أمر لا يقبل المقارنة، ولا يحتاج العارف ليفصل فيه تفصيلاً، وإنما هو يتحدث عن نفسه. فيصبح الأمر عندنا أمام إحدى خصلتين: إما أن يكون الإسلام، كما جاء به المعصوم بين دفتي المصحف، قادرًا على استيعاب طاقات مجتمع القرن العشرين فيتولَّى توجيهه في مضمار التشريع وفي مضمار الأخلاق؛ وإما أن تكون قدرته قد نفدت وتوقفت عند حدِّ تنظيم مجتمع القرن السابع والمجتمعات التي تلته مما هي مثله، فيكون على بشرية القرن العشرين أن تخرج عنه، وأن تلتمس حلَّ مشاكلها في فلسفات أخريات – وهذا ما لا يقول به مسلم. وهم يظنون أن مشاكل القرن العشرين يمكن أن يستوعبها، وينهض بحلِّها، نفس التشريع الذي استوعب ونهض بحلِّ مشاكل القرن السابع – وذلك جهل مفضوح.

 المسلمون يقولون إن الشريعة الإسلامية شريعة كاملة. وهذا صحيح. ولكن كمالها إنما هو في مقدرتها على التطور، وعلى استيعاب طاقات الحياة الفردية والاجتماعية، وعلى توجيه تلك الحياة في مدارج الرقي المستمر، بالغة ما بلغت تلك الحياة الاجتماعية والفردية من النشاط والحيوية والتجديد. هم يقولون، عندما يسمعوننا نتحدث عن تطوير الشريعة، يقولون: الشريعة الإسلامية كاملة؛ فهي ليست في حاجة إلى التطوير. فإنما يتطور الناقص. وهذا قول بعكس الحق تمامًا. فإنه إنما يتطور الكامل. فالكُمَّل من العارفين مثلهم الأعلى أن يتخلَّقوا بما وصف الله تعالى به نفسه حين قال عزَّ من قائل: "كلُّ يوم هو في شأن". فهم يجددون حياة فكرهم وحياة شعورهم كل يوم. واليوم عندهم هو يوم الله، وليس هو هنا أربعًا وعشرين ساعة، وإنما هو وحدة "زمنية" التجلِّي؛ وتلك "زمنية" أصغر من الدقيقة، بل أصغر من الثانية، بل أصغر من الثالثة. إنها "زمنية" قد تنقسم فيها الثانية إلى بليون جزء، حتى إنها لتكاد أن تخرج عن الزمن في المفهوم الذي يتصوره العقل للزمن. فهم قد ينطلقون، أو قد يحاولون أن ينطلقوا، مع الله في إبداء مظاهره لخلقه، يجددون حياة فكرهم، وحياة شعورهم بهذه الصورة المستمرة. هذا هو الكمال، وليس الكمال التزام صورة واحدة. فالعشبة الضئيلة التي تنبت في سفح الجبل، فتخضرُّ، وتورق، وتزهر، وتثمر، ثم تلقي ببذرتها في تربتها، ثم تصير غثاء تذروه الرياح، أكمل من الجبل الذي يقف فوقها عاليًا متشامخًا، يتحدى هوج العواصف؛ ذلك بأن تلك العشبة الضئيلة قد دخلت في مرحلة متقدمة من مراحل التطور – مرحلة الحياة والموت – مما لم يتشرف الجبل بدخولها؛ وإنما هو يطمع فيها، ويطمح إليها.

 وبالمثل، فإن كمال الشريعة الإسلامية إنما هو في كونها جسمًا حيًّا، ناميًا، متطورًا، يواكِب تطور الحياة الحيَّة، النامية، المتطوِّرة، ويوجِّه خطاها، ويرسم خطَّ سيرها في منازل القرب من الله، منزلة منزلة. ولن تنفك الحياة سائرة إلى الله في طريق رجعاها، فما من ذلك بد: "يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحًا فملاقيه". وإنما تتم الملاقاة بفضل الله، ثم بفضل إرشاد الشريعة الإسلامية في مستوياتها الثلاث: الشريعة، والطريقة، والحقيقة. وتطوُّر الشريعة، كما أسلفنا القول، إنما هو انتقال من نصٍّ إلى نص: من نصٍّ كان هو صاحب الوقت في القرن السابع، فأحكم إلى نصٍّ اعتُبِرَ يومئذٍ أكبر من الوقت فنسخ. قال تعالى: "ما ننسخ من آية أو ننسئها نأتِ بخير منها أو مثلها ألم تعلم أن الله على كل شئ قدير"؟ قوله: "ما ننسخ من آية" يعني: ما نلغي، ونرفع من حكم آية؛ قوله: "أو ننسئها" يعني: نؤجل من فعل حكمها؛ "نأتِ بخير منها" يعني: أقرب لفهم الناس، وأدخل في حكم وقتهم من المنسأة؛ "أو مثلها" يعني: نعيدها، هي نفسها، إلى الحكم حين يحين وقتها. فكأن الآيات التي نُسِخَت إنما نُسِخَت لحكم الوقت؛ فهي مرجأة إلى أن يحين حينها. فإذا حان حينها فقد أصبحت هي صاحبة الوقت، ويكون لها الحكم، وتصبح بذلك هي الآية المحكمة، وتصير الآية التي كانت محكمة، في القرن السابع، منسوخة الآن. هذا هو معنى حكم الوقت. للقرن السابع آيات الفروع، وللقرن العشرين آيات الأصول. وهذه هي الحكمة وراء النسخ. فليس النسخ، إذن، إلغاءً تامًّا، وإنما هو إرجاء يتحيَّن الحين، ويتوقَّت الوقت. ونحن في تطويرنا هذا إنما ننظر إلى الحكمة من وراء النص. فإذا خدمت آية الفرع التي كانت ناسخة في القرن السابع لآية الأصل غرضها حتى استنفدته، وأصبحت غير كافية للوقت الجديد – القرن العشرين – فقد حان الحين لنسخها هي، وبعث آية الأصل، التي كانت منسوخة في القرن السابع لتكون هي صاحبة الحكم في القرن العشرين، وعليها يقوم التشريع الجديد. هذا هو معنى تطوير التشريع: فإنما هو انتقال من نصٍّ خدم غرضه، خدمه حتى استنفده، إلى نصٍّ كان مدَّخَرًا يومئذٍ إلى أن يحين حينه. فالتطوير، إذن، ليس قفزًا عبر الفضاء، ولا هو قول بالرأي الفجِّ، وإنما هو انتقال من نصٍّ إلى نص.

من المأذون؟

ولكن رسول الله قد التحق بالرفيق الأعلى وترك ما هو منسوخ منسوخًا، وما هو مُحْكَمٌ محكمًا. فهل هناك أحد مأذون له في أن يغيِّر هذا التغيير الأساسي، الجوهري، فيبعث ما كان منسوخًا، وينسخ ما كان مُحكَمًا؟ هذا سؤال يقوم ببال القارئ لما سلف من القول. والحق أن كثيرًا ممن يعترضون على دعوتنا إلى الرسالة الثانية من الإسلام لا يعترضون على محتوى هذه الدعوة؛ بل إنهم قد لا يعيرون محتوى الدعوة كبير اعتبار. وإنما هم يعترضون على الشكل: هم يعترضون على أن تكون هناك رسالة، تقتضي رسولاً، يقتضي نبوة، وقد خُتِمَتِ النبوة، بصريح نصٍّ، لا مرية فيه. وإنه لحقٌّ أن النبوَّة قد خُتِمَت، ولكنه ليس حقًّا أن الرسالة قد ختمت: "ما كان محمد أبا أحدٍ من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين وكان الله بكل شئ عليما". ومعلوم أن كلَّ رسول نبي، وليس كل نبي رسولاً. ولكن النبوة، ما هي؟ النبوة هي أن يكون الرجل منبَأً عن الله، ومنبئًا عن الله. أي متلقيًا المعارف عن الله بواسطة الوحي، وملقيًا المعارف عن الله إلى الناس، على وفق ما تلقَّى، وبحسب ما يطيق الناس. فبمرتبة التلقِّي عن الله يكون الرجل نبيًا، وبوظيفة الإلقاء إلى الناس يكون رسولاً. هذا هو مألوف ما عليه علم الناس. ولكن هناك شيئًا قد جدَّ في الأمر كلِّه: ذلك هو معرفة الحكمة وراء ختم النبوة بمعناها المألوف. لماذا خُتِمَتِ النبوة؟

 أول ما تجب الإشارة إليه هو أن النبوَّة لم تُختَم حتى استقر في الأرض كلُّ ما أرادت السماء أن توحيه إلى أهل الأرض من الأمر. وقد ظلَّ هذا الأمر يتنزَّل على أقساط، بحسب حكم الوقت، من لدن آدم وإلى محمد. ذلك الأمر هو القرآن؛ واستقراره في الأرض هو السبب في ختم النبوة. وأما الحكمة في ختم النبوة فهي أن يتلقَّى الناس من الله من غير واسطة المَلَك جبريل – أن يتلقوا عن الله كفاحًا. ذلك أمر يبدو غريبًا، للوهلة الأولى، ولكنه الحق الذي تعطيه بدائه العقول؛ ذلك بأن القرآن هو كلام الله، ونحن كلما نقرؤه إنما يكلِّمنا الله كفاحًا، ولكنا لا نعقل عنه. السبب؟ أننا عنه مشغولون. قال تعالى في ذلك: "كلا‍‍ بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون كلا إنهم عن ربِّهم يومئذٍ لمحجوبون". وإنما جاء القرآن بمنهاج شريعته، ومنهاج طريقته، وبأدبه في كليهما، ليرفع ذلك الرَّين، حتى نستطيع أن نعقل عن الله ما يحدثنا في القرآن. فإذا وقع هذا الفهم لرجل فقد أصبح مأذونًا له في الحديث عن أسرار القرآن، بالقدر الذي وعى عن الله.

من رسول الرسالة الثانية؟

هو رجل آتاه الله الفهم عنه من القرآن، وأَذِنَ له في الكلام.

كيف نعرفه؟

 حسنًا! قالوا إن المسيح قد قال يوما لتلاميذه: "احذروا الأنبياء الكذبة!" قالوا: "كيف نعرفهم؟" قال: "من ثمارهم تعرفونهم". [...]

[من] الباب الأول – المدنية والحضارة

[...]

هل المدنية هي الأخلاق؟

هي كذلك، من غير أدنى ريب! وما هي الأخلاق؟ للأخلاق تعاريف كثيرة؛ ولكن أعلاها، وأشملها، وأكملها هي أن نقول إن الأخلاق هي حسن التصرف في الحرية الفردية المطلقة. ولقد قال المعصوم: "إنما بُعِثْتُ لأتمِّم مكارم الأخلاق" – فكأنه قال ما بُعِثْتُ إلا لأتمِّم مكارم الأخلاق. ومن أجل ذلك قلنا إن محمدًا عاش في أوج المدنية التي جاء بها الله عن طريقه، ووصفه تعالى فيها بقوله: "وإنك لعلى خلق عظيم".

وحين سئلت عائشة عن أخلاق النبي قالت: "كانت أخلاقُه القرآن". ومعلوم أن القرآن أخلاق الله، وأخلاق الله إنما هي في الإطلاق. ومن ههنا جاء التعريف بأن الأخلاق هي حسن التصرف في الحرية الفردية المطلقة.

ولقد كان محمد أقدر الناس على حسن التصرف في الحرية الفردية المطلقة، وذلك لشدة مراقبته لربِّه، ولدقة محاسبته لنفسه، على كلِّ ما يأتي، وما يدع، في جانب الله، وفي جانب الناس. أليس هو القائل: "حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا"؟

بل إن حسن التصرف في الحرية الفردية المطلقة إنما هو سُنَّة النبي التي طالما تحدث عنها الناس من غير أن يدركوا حقيقتها. وهذه السُنَّة هي التي أشار إليها في حديثه المشهور عن عودة الإسلام، وذلك حيث يقول: "بدأ الإسلام غريبًا، وسيعود غريبًا كما بدأ، فطوبى للغرباء!" قالوا: "من الغرباء يا رسول الله؟" قال: "الذين يحيون سنتي بعد اندثارها".

 فسُنَّته هي مقدرته، في متقلَّبه ومثواه، وفي منشطه ومكرهه، على حسن التصرف في الحرية الفردية المطلقة. وتلك هي قمة الأخلاق، وهي أيضا قمة المدنية.

وأما الحضارة فهي ارتفاق الحيِّ بالوسائل التي تزيد من طلاوة الحياة ومن طراوتها. فكأن الحضارة هي التقدُّم المادي. فإذا كان الرجل يملك عربة فارهة، ومنزلاً جميلاً، وأثاثًا أنيقًا، فهو رجل متحضِّر. فإذا كان قد حصل على هذه الوسائل بتفريط في حريته فهو ليس متمدِّنًا، وان كان متحضِّرًا. وإنه لمن دقائق التمييز أن نتفطَّن إلى أن الرجل قد يكون متحضِّرًا، وهو ليس متمدِّنًا – وهذا كثير – وأنه قد يكون متمدِّنًا، وهو ليس بمتحضِّر – وهذا قليل. والكمال في أن يكون الرجل متحضِّرًا متمدِّنًا في آن. وهو ما نتطلع إليه منذ اليوم.

[...]

[من] الباب الثاني – الفرد والجماعة في التفكير الفلسفي

[...]

الفرد والكون في التفكير الفلسفي

وعجز الفلسفة الاجتماعية المعاصرة في إدراك العلاقة بين الإنسان والكون أكبر من عجزها عن إدراك العلاقة بين الفرد والجماعة؛ ولكن أثره أقل ظهورًا؛ ذلك بأن علاقة الفرد بالجماعة واجهت التطبيق العملي في السياسة والتشريع والتنفيذ، بينما لا تزال العلاقة بين الفرد والكون في الحيِّز النظري. وما ذاك إلا لأننا لا نزال في قبضة غريزة القطيع، لم يقوَ بنا الفكر حتى نبرز إلى منازل الفرديات. ولكن مما لا ريب فيه أن عهد الجماعة أصبح يُخلي مكانه لعهد الفرد الذي أخذت شمسُه تؤذن بشروق، وسيحلُّ يومُه حين يتم نظريًا، ثم عمليًّا، فضُّ التعارض المتوهَّم بين الفرد والجماعة.

[...]

والفهم الدقيق للعلاقة بين الإنسان والكون ليس أمر فلسفة نظرية يمكن أن تلحق بالترف الذهني، وإنما هو أمر عملي، عليه يتوقف تحقيق الفردية، في مضمار المجهود الفردي، وفي مضمار تنظيم الجماعة لتكون والدًا شرعيًّا للأفراد الذين يُرجى لهم أن يحققوا فرديَّاتهم.

وضلال الفلسفة الاجتماعية عن فهم العلاقة بين الإنسان والكون فهمًا صحيحًا إنما يُلتمَس سببُه في استقراء التاريخ البشري منذ بداياته؛ ذلك بأن الإنسان الأول، عندما وقف على رجليه لأول مرة، واستقبل بعقله البيئة الطبيعية التي عاش فيها، وجدها تزخر بالقوى الهائلة التي، فيما يبدو له، تتركَّب بطريقة تختلف عن تركيبه، وتتصرَّف بأسلوب لا يستقيم مع تفكيره ومع رغباته، وهي بعدُ لا تبالي بحياته أو موته؛ بل إن كثيرًا منها ليسعى في إهلاكه سعيًا حثيثًا. والذين يشاركونه الحياة بين هذه القوى الصماء الهائلة هم بين صيد وصياد – صيد يصيد ويصاد، وصياد يصيد ويصاد. فكأن البيئة كلَّها أنياب زرق ومخالب حمر، وأصبح عليه هو، إذا كان لا بدَّ له أن يحفظ مهجته، أن يكيد أصناف الكيد، وأن يحتال لنفسه ألوان الحيل.

ثم إن هذه القوى الصماء منها الهائل الرهيب الذي يُعجِز حيلته، ويعيي عقله، ومنها ما يغلب منه الضرر، ومنها ما يغلب منه النفع. فهدته حيلته إلى التزلُّف إليها جميعًا، بدوافع الخوف أو بدوافع الحب، فتذلل، وتخشَّع، وقدم الهدايا، وقرب القرابين، ورسم مراسيم العبادات. ومن القوى التي تموج بها البيئة الطبيعية التي عاش فيها قوى تنالها الحيلة وتبلغ منها المناجزة، فاحتال أفانين الحيلة، فبنى البيوت فوق الأشجار، وعلى قمم الجبال، وعلى أعمدة اتخذها من سيقان الشجر، وغرزها في أرض برك المياه وفي الأماكن المحصنة الأخرى. ثم هو باتخاذ الآلة، من فروع الأشجار ومن قطع الأحجار، قد مدَّ في قدرته على المناجزة.

والإنسان، بين العبادة والمناجزة، تغلبُ عليه الوحشةُ، ويساورُه القلقُ بأنه وحيد من نوعه، يحتَوِشُه الأعداءُ من جميع أقطاره، يتحيَّنون منه الغَرَّة، ويتربَّصون به الدوائر. ومن ههنا قام في خلد الإنسان أن مكانه من الكون مكان اللدد والخصومة.

ولقد انتهت الفلسفة ببعض أبنائها الآن إلى أن يقرِّروا أن التديُّن، الذي دفع إليه الإنسان الأول، بالعوامل الطبيعية التي جرى ذكرها آنفًا، إنما هو لازمة من لوازم الطفولة، وأن الدين، حيث وُجِدَ والى اليوم، إنما هو ظاهرة طفولة؛ إذ لجأ الإنسان الأول إلى إله تخيَّله ليسدَّ به حاجة الطفل إلى أب يحميه، وأن الأصل في مواجهة البيئة هو المناجزة، لا التمليق؛ وما دفع الإنسان إلى التمليق إلا العجز عن المناجزة. والآن، وبتطويره لسلاحه الأول، من فروع الأشجار وقطع الأحجار، إلى أن بلغ به القنبلة الهيدروجينية، فإن مقدرته على المناجزة اكتملت، أو كادت، ويجب إذن أن يقلع عن التمليق، أو قُلْ عن التديُّن وعن الأديان وعن الله.

وإلى خروشوف يُنسَبُ قول، زعموا أنه قاله، وهو أن قاقارين عندما دار في الفضاء الخارجي – وكان ذلك لأول مرة في تاريخ تقدم العلم الحديث – لم يجد ذلك الكائن الذي يدعونه الله. فكأن خروشوف لا يتصور الله إلا من نوع المادة التي يزعم أنه يعرفها. وفي الحق أن فلسفتهم، حين عجزت عن تصور شئ وراء المادة، اتخذت من عجزها فضيلة، فأنكرت وجود كلَّ شئ وراء المادة، وذلك لكي يستقيم لها القول بأن الإنسان، أثناء مناجزته لبيئته المادية، يتطور في فهمه لها، ويحسِّن من وسائله في مناجزتها، حتى يتم له قهرُها وتسخيرُها، ويصبح بذلك سيِّدَ مصيره.

إن الضلال في فهم علاقة الإنسان بالكون لم يبلغ، في أي وقت من الأوقات، هذا البعد الذي بلغه على عهد الشيوعية، وباسم العلم والفلسفة. والشيوعية هي طليعة الفلسفة الاجتماعية المعاصرة، وهي صاحبة الدور التقدمي، الذكي، في المدنية الغربية الآلية الحاضرة. على أيسر تقدير، هذا ما يبدو للشعوب الآن.

أم تقولون أن الغرب المسيحي يختلف في مسألة الدين وفي أمر الله عن الشرق الشيوعي.

قد يكون هذا حقًّا من الناحية التقليدية، ولكنه ليس بحق من الناحية العملية. وليس في فكرة الغرب عن الدين وعن الله ما يعصم الغرب من أن يصبح شيوعيًّا. ولقد كانت روسيا، قبل الثورة الشيوعية، مسيحية، وكانت أرثوذكسية في ذلك.

وفي الحق أن الدين، سواء كان مسيحية أو إسلامًا، إن لم يستوعب كلَّ نشاط المجتمع ونشاط الأفراد، ويتولَّى تنظيم كلِّ طاقات الحياة الفردية والجماعية، على رشد وعلى هدى، فإنه ينصل من حياة الناس، ويقل أثره، ويخلي مكانه لأية فلسفة أخرى، مهما كان مبلغها من الضلال، ما دامت هذه الفلسفة قادرة على تقديم الحلول العملية لمشاكل الناس اليومية، أو حتى ما دامت قادرة على تضليل الناس، إلى حين، باسم خدمة مصالحهم المعيشية. فإن الناس، ما داموا أصحاب معدات وأجساد، يجب ألا تهمِل دعوتُهم إلى الفضيلة حاجة معداتهم وأجسادهم. بل إن المعرفة بطبائع الأشياء تقضي بأن تكون دعوتهم إلى الفضيلة عن طريق معداتهم وأجسادهم.

مهما يكن من الأمر بين الشرق الشيوعي والغرب المسيحي فإن المدنية الغربية الآلية الحاضرة ليست مسيحية. وهي قد عجزت عن إدراك العلاقة بين الفرد والجماعة، كما عجزت عن إدراك العلاقة بين الفرد والكون. وهي، من جراء هذا العجز، قد مُنِيَتْ بالقصور العملي عن الجمع بين الاشتراكية والديمقراطية. وذلك أكبر مظاهر فشلها.

ولسنا نحن الآن بصدد الزراية عليها، ولا بصدد التقليل من شأنها، وإنما نحن بصدد دراسة علمية لها، تضعها في موضعها، وتعرف لها حقَّها، وتدعو إلى سدِّ النقص فيها لتغدو مدنية بعد أن أصبحت حضارة.

[...]

[من] الباب الخامس – الرسالة الأولى

[...]

الجهاد ليس أصلا في الإسلام

الأصل في الإسلام أن كلَّ إنسان حر، إلى أن يظهر، عمليًّا، عجزُه عن التزام واجب الحرية. ذلك بأن الحرية حقٌّ طبيعي، يقابله واجب الأداء؛ وهو حسن التصرف في الحرية. فإذا ظهر عجزُ الحرِّ عن التزام واجب الحرية، صودِرَتْ حريتُه عندئذٍ بقانون دستوري. والقانون الدستوري، كما سَلَفَتْ إلى ذلك الإشارة، هو القانون الذي يوفِّق بين حاجة الفرد إلى الحرية الفردية المطلقة، وحاجة الجماعة إلى العدالة الاجتماعية الشاملة. وقد قررنا آنفًا أن ذلك هو قانون المعاوَضة.

هذا الأصل هو أصل الأصول. وللوفاء به بدئت الدعوة إلى الإسلام بآيات الإسماح، وذلك في مكة، حيث نزلت: "ادعُ إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن إن ربك هو أعلم بمن ضلَّ عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين" وأخواتها، وهنَّ كثيرات. وقد ظلَّ أمر الدعوة على ذلك ثلاث عشرة سنة، نزل أثناءها كثير من القرآن المُعجِز، وتخرَّج أثناءها من المدرسة الجديدة كثيرٌ من النماذج الصالحة، من الرجال والنساء والصبيان. وكان المسلمون الأولون يكفُّون أذاهم عن المشركين، ويحتملون الأذى، ويضحُّون، في صدق ومروءة، في سبيل نشر الدين، بكل أطايب العيش، لا يضعفون ولا يستكينون، يبيِّنون بالقول البليغ، وبالنموذج الصادق، واجب الناس في هذه الحياة نحو ربِّهم، بإخلاص عبادته، ونحو بعضهم، بصلة الرحم وإصلاح ذات البين.

والله، سبحانه وتعالى، يقول: "وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون" – ولقد أعطانا من نعم العقل والجسد وأطايب العيش ما يمكِّننا من عبادته وعرفان فضله. ويقول: "إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون". ويقول: "ولا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم وإياهم ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن ولا تقتلوا النفس التي حرَّم الله إلا بالحق ذلكم وصَّاكم به لعلكم تعقلون". كلُّ ذلك جاء به القرآن في الدين الجديد، وبلغه النبي وأصحابه، بالقول وبالسيرة، وفيه لأمر الناس صلاحٌ وفلاح. فإذا أصرَّ الناس بعد ذلك على عبادة الحجر الذي ينحتون، وعلى قطع الرحم وقتل النفس ووأد البنت، فقد أساءوا التصرف في حريتهم، وعرَّضوها للمصادرة، ولم يكن هناك قانون لمصادرتها، فلم يبقَ إلا السيف، وكذلك صودرت. وبعد أن كان العمل بقوله تعالى: "فذكِّر إنما أنت مذكِّر لست عليهم بمسيطر" انتقل إلى قوله تعالى: "إلا من تولَّى وكفر فيعذبه الله العذاب الأكبر". فكأنه قال: أما من تولى وكفر فقد جعلنا لك عليه السيطرة، فيعذبه الله بيدك العذاب الأصغر بالقتال، ثم يعذِّبه العذاب الأكبر بالنار. "إن إلينا إيابهم ثم إن علينا حسابهم". واعتبرت الآيتان السابقتان منسوختين بالآيتين التاليتين، وكذلك نُسِخَتْ جميع آيات الإسماح – وهن الأصل – بآية السيف وأخواتها – وهن فرع أمْلتْه الملابسة الزمانية وقصور الطاقة البشرية، يومئذٍ، عن النهوض بواجب الحرية. ومن ههنا جاء حديث المعصوم حين قال: "أُمِرْتُ أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله. فإذا فعلوا عصموا مني دماءهم وأموالهم، إلا بحقها، وأمرهم إلى الله".

وقد ظن بعض علماء المسلمين أن حروب الإسلام لم تكن إلا دفاعية. وهذا خطأ قادهم إليه حرصُهم على دفع فرية بعض المستشرقين الذين زعموا أن الإسلام إنما استعمل السيف لينتشر. والحق أن السيف إنما استُعمِلَ لمصادرة حرية أسئ استعمالها. وقد تلبث بذلك ثلاثة عشر عامًا يدعو إلى واضحة من أمر الفرد وأمر الجماعة؛ فلما لم ينهضوا بأعباء حريتهم، ولما لم يحسنوا التصرف فيها، نَزَعَ من أيديهم قيامهم بأمر أنفسهم، وجعل النبي وصيًّا عليهم، حتى يبلغوا سن الرشد. فإذا دخلوا في الدين الجديد، فحرَّموا من دمائهم وأموالهم ما حرَّم، ووصلوا من رحمهم ما أمر به أن يوصل، رفع عنهم السيف، وجعلت مصادرة حرية المسيء إلى القانون الجديد. وكذلك جاء التشريع الإسلامي، ونشأت الحكومة الجديدة.

وكل ما يقال عن تبرير استعمال الإسلام للسيف هو أنه لم يستعمله كمدية الجزار وإنما استعمله كمبضع الطبيب. وكانت عنده الحكمة الكافية والرحمة الكافية والمعرفة الكافية التي تجعله طبيبًا لأدواء القلوب. ولقد قال تعالى في ذلك: "لقد أرسلنا رسلنا بالبيِّنات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب إن الله قوي عزيز". قوله: "لقد أرسلنا رسلنا بالبيِّنات" يعني: بالدلائل القواطع على صدق دعواهم؛ "وأنزلنا معهم الكتاب" يعني: "لا إله إلا الله"؛ و"الميزان" يعني: الشريعة لوزن ما بين العبد والرب وما بين العبد والعبد؛ و"ليقوم الناس بالقسط" يعني: ليعدلوا في المعاملة؛ وقوله: "وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس" يعني: وشرعنا القتال بالسيف في مصادرة حرية من لا يحسن التصرف في الحرية، حتى يردَّه بأسُ السيف إلى صوابه، فيحرز يومئذٍ حريته وينتفع بحياته. هذا بالطبع إلى ما للحديد من منافع أخرى لا تحتاج منَّا إلى إشارة. وقوله: "وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب" يعني: يعلم علم تجربة لكم، لأن القتال كره للنفوس، ليعلم من يحتمل مكروه الحرب في سبيل نصرة المستضعفين بإقامة القسط بين كل فرد وبين نفسه، وبينه وبين الآخرين؛ وقوله: "إن الله قوي عزيز" يعني بالقوي: الذي لا يحتاج لنصرة ناصر، و"عزيز" يعني: لا يُنال ما عنده إلا به، وما عنده في هذا المقام هو النصر؛ فكأنه يشير إشارة لطيفة إلى قوله تعالى: "إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم". إن تنصروا الله بنصرة أنبيائه لإقامة القسط، ينصركم الله على أنفسكم؛ وهذا يعني، بعبارة أخرى، إن تنصروا الله في الجهاد الأصغر ينصرْكم في الجهاد الأكبر، حيث لا قوة لكم إلا به، ولا ناصر لكم إلا هو؛ "ويثبت أقدامكم" يعني: يطمئن قلوبكم؛ وتثبيت الأقدام الحسية غير مجحود في مقام النصرة.

ومن الحكمة في طبِّ أدواء القلوب أن تبدأ الدعوة باللين، وألا يُلجأ إلى الشدة إلا حين لا يكون منها بدٌّ؛ فإن الكيَّ آخر الدواء. وما العذاب بالقتل بالسيف في الدنيا إلا طرف من عذاب الآخرة بالنار، وليس لعذاب الآخرة موجب إلا الكفر، وكذلك الأمر في القتال. فإن هو أضاف إلى الكفر دعوة إلى الكفر وصدًّا عن سبيل الله فقد أصبح قتالُه وقتلُه أوجب؛ وإلا فهو مقاتَل بكفره لا محالة؛ قال تعالى: "إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة ثم يغلبون والذين كفروا إلى جهنم يحشرون ليميِّز الله الخبيث من الطيب ويجعل الخبيث بعضه على بعض فيركمه جميعًا فيجعله في جهنم أولئك هم الخاسرون قُلْ للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف وإن يعودوا فقد مضت سنة الأولين وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كلُّه لله فإن انتهوا فان الله بما يعملون بصير". تأمَّلْ قوله تعالى: "والذين كفروا إلى جهنم يُحشَرون ليميِّز الله الخبيث من الطيب" تجدْ أن موجب العذاب هو الكفر: "ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم وكان الله شاكرًا عليما". وقوله: "وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة" يعني: حتى لا يكون شرك، ودعوة إلى الشرك، وصدٌّ عن سبيل الإيمان. وقوله "ويكون الدينُ كله لله" هو غرض القتال الأصلي: "وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه". ذلك أمر الله؛ والله بالغ أمره ولو كره الكافرون.

وقال تعالى في موضع آخر: "وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله فإن انتهوا فلا عدوًا إلا على الظالمين". والظالمون على مستويين: مستوى من يجعل الدين لغير الله ويصرُّ على ذلك؛ ومستوى من يذعن لله بالطاعة، ولكنه يتعدى على حقوق الناس ويحيف عليهم. وفي الآية أمرٌ بمصادرة حرية من يسيء التصرف في الحرية؛ وإنما تكون المصادرة على مستوى الإساءة. فللجاحدين قانون الحرب وبأس الحديد؛ وللمعتدين على حقوق الناس قانون السلام وفصل الحقوق. وهذا معنى قوله تعالى: "فإن انتهوا فلا عدوان إلا على الظالمين)".

والنزول من المعنى الأصلي إلى المعنى الفرعي يعني النزول من مستوى الإسلام إلى مستوى الإيمان. ومن ههنا يجب أن يُفهَم قولُه تعالى: "وأنزلنا إليك الذكر لتبيِّن للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون". قوله: "وأنزلنا إليك الذكر" يعني: القرآن كله، مشتملاً على الأصل–الإسلام والفرع–الإيمان. وقوله: "لتبين للناس ما نزل إليهم" يعني: لتفصل بالتشريع وألوان التبيين للمؤمنين، ما نزل إلى مستواهم. قوله: "ولعلهم يتفكرون" يعني: لعل الفكر، أثناء العمل بالفروع، يقودهم إلى الأصل الذي لم يطيقوه أول أمرهم. وفي ذلك إشارة بالغة اللطف إلى السير في مراقي الإسلام المختلفة، مبتدئًا بالإسلام الأول، صاعدًا بوسائل الفكر الصافي، والقول المسدَّد، والعمل المخلص. فإنه "إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه".

نخلص مما تقدَّم إلى تقرير أمر هام جدًّا، وهو أن كثيرًا من صور التشريع الذي بين أيدينا الآن ليست مراد الإسلام بالأصالة؛ وإنما هي تنزل لملابسة الوقت والطاقة البشرية.

[...]

عدم المساواة بين الرجال والنساء ليس أصلاً في الإسلام

والأصل في الإسلام المساواة التامة بين الرجال والنساء. ويُلتمَس ذلك في المسئولية الفردية أمام الله يوم الدين، حين تُنصَب موازين الأعمال. قال تعالى في ذلك: "ولا تزر وازرة وزر أخرى وإن تدع مثقلة إلى حملها لا يحمل منه شيء ولو كان ذا قربى إنما تنذر الذين يخشون ربهم بالغيب وأقاموا الصلاة ومن تزكَّى فإنما يتزكَّى لنفسه وإلى الله المصير". وقال تعالى: "اليوم تُجزى كلُّ نفس بما كسبت لا ظلم اليوم إن الله سريع الحساب". وقال تعالى: "كلُّ نفس بما كسبت رهينة". ولكن الإسلام نزل، حين نزل، على قوم يدفنون البنت حية خوفَ العار الذي تجرُّه عليهم إذا عجزوا عن حمايتها فسُبِيَتْ، أو فرارًا من مؤونتها إذا أجدبت الأرض وضاق الرزق. قال تعالى عنهم: "وإذا بُشِّرَ أحدُهم بالأنثى ظلَّ وجهُه مسودًّا وهو كظيم يتوارى من القوم من سوء ما بُشِّرَ به أيمسكه على هون أم يدسُّه في التراب ألا ساء ما يحكمون". ومن ههنا لم يكن المجتمع مستعدًا، ولا كانت المرأة مستعدة، ليشرِّع الإسلام لحقوقها في مستوى ما يريد بها من الخير، وكان لا بدَّ من فترة انتقال أيضًا يتطور في أثنائها الرجال والنساء أفرادًا، ويتطور المجتمع أيضًا. وهكذا جاء التشريع ليجعل المرأة على النصف من الرجل في الميراث، وعلى النصف منه في الشهادة. وعلى المرأة الخضوع للرجل، أبًا وأخًا وزوجًا: "الرجال قوامون على النساء بما فضَّل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم". والحق أن في هذا التشريع قفزة بالمرأة كبيرة بالمقارنة إلى حظِّها سابقًا؛ ولكنه، مع ذلك، دون مراد الدين بها.

[...]

تعدد الزوجات ليس أصلا في الإسلام

والأصل في الإسلام أن المرأة كفاءة للرجل في الزواج. فالرجل كلُّه للمرأة كلِّها، بلا مهر يدفعه، ولا طلاق يقع بينهما. ويُلتمَس منعُ التعدد في قوله تعالى: "فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة" وفي قوله تعالى: "ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم". ويُلتمَس منع الطلاق في قولة المعصوم: "أبغض الحلال إلى الله الطلاق" – والإشارة اللطيفة أن ما يبغضه الله لا بدَّ مانعه حين يصير المنعُ ممكنًا وعمليًّا. فإن الله بالغ أمره.

ويُلتمَس عدم إرادة الإسلام، في أصوله، المهرَ في كون المهر يمثِّل ثمن شراء المرأة حين كانت إنما تُزوَّج عن طريق من ثلاثة طرق: إما أن تسبى، أو تختطف، أو تشترى؛ فهو بذلك من مخلَّفات عهد هوانها على الناس. وما ينبغي له أن يدخل معها عهد كرامتها التي أعدَّها لها الإسلام حين تدخل أصولُه طور التطبيق.

ولقد نزل الإسلام، أول ما نزل، على مجتمع لم تكن فيه للمرأة كرامة، على نحو ما رأينا آنفًا؛ وإنما كانت تعامل معاملة تسلكها في عداد الرقيق. ولم تكن العلاقة الزوجية تقوم على الإنسانية واللطف مما ينبغي لها؛ وإنما كان الرجل يتزوج العشر زوجات والعشرين، يستولدهنَّ ويستغل عملهن.

وهناك ظاهرة أخرى وجدها الإسلام في ذلك المجتمع، وهي أن عدد النساء كان يفوق عدد الرجال، لما كانت تأكل الحروب منهم. فشرَّع الإسلام في تقييد الإفراط في التعدد، ولكنه لم يرَ أن يقفز بالناس إلى زواج الواحدة، لأن ذلك لا يستقيم له في ذلك المجتمع الذي مرد على الإفراط في التعدد، ولأنه رأى لأن يكون للمرأة ربع رجل يعفها، ويحميها، ويغذوها، خير من أن تكون عانسًا تتعرَّض لعاديات الأيام وهي مندوحة الذيل. وكذلك قيَّد تعدد الزوجات بأربع، فقال عزَّ من قائل: "فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة". وفي موضع آخر ترد إشارة غاية في اللطف تحدِّثنا عن صعوبة العدل بين النساء، وذلك حين قال تعالى: "ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم فلا تميلوا كلَّ الميل فتذروها كالمعلقة وإن تصلحوا وتتقوا فإن الله كان غفورًا رحيما". نزل من مستوى العدل الذي هو مطلوب الدين، الذي لم يكن وقتُه، بالنسبة للمجتمع وبالنسبة للفرد، من رجل وامرأة، قد حان يومئذٍ، إلى مستوى العدل في الشريعة، فأعقب قوله: "ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم" بقوله: "فلا تميلوا كلَّ الميل فتذروها كالمعلقة". وبذلك أصبح معنى العدل هنا يقتصر على العدل المادي، ولا يتناول ميل القلوب. ولولا هذا التجاوز لما أصبح تشريع التعدد ممكنًا؛ وهو، في واقع الأمر، تشريع ضروري، وبخاصة لتلك الفترة من حياة المجتمع المؤمن.

وطبيعة العدل هنا ألا يُقيَّد بما تُقيَّد به الحرية، لأنه هنا حقُّ يقابله واجب. فمن لا يعرف الواجب يسلب الحق. وكانت المرأة متخلِّفة كثيرًا، ولم تكن في مستوى المساواة مع الرجل. وقد تضافرت عدة عوامل لوضعها ذلك الوضع المتخلف؛ فجاء تقييد العدل في حقها عدلاً، فيه لها خدمة، ولمجتمعها خدمة. ويُعتبَر تشريع التعدد تشريع فترة انتقال إلى فجر المساواة التامة بين الرجال والنساء؛ ويومها يصبح العدل في حقِّها يشمل العدل في ميل القلوب؛ وهو المعني بقوله: "ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم". ويجيء يومئذ القيد من قبل قوله تعالى: "فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة". وهكذا يشرِّع في تحريم التعدد، إلا لدى ضرورات بعينها تُلجِئ إليه، ويُنَصُّ عليها في القانون، ويستأمر فيها الطرفُ المضرور بها.

[...]

الحجاب ليس أصلاً في الإسلام

والأصل في الإسلام السفور، لأن مراد الإسلام العفة؛ وهو يريدها عفةً تقوم في صدور النساء والرجال، لا عفة مضروبة بالباب المقفول والثوب المسدول. ولكن ليس إلى هذه العفة الغالية من سبيل إلا عن طريق التربية والتقويم. وهذه تحتاج إلى فترة انتقال لا تتحقق أثناءها العفة إلا عن طريق الحجاب؛ وكذلك شُرِّعَ الحجاب. فكأن الأصل ما كان عليه آدم وحواء قبل أن يزلا:

ويا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة فكلا من حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين فوسوس لهما الشيطان ليبدي لهما ما ووري عنهما من سوآتهما وقال ما نهاكما ربُّكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا مَلَكين أو تكونا من الخالدين وقاسمهما إني لكما لمن الناصحين فدلاهما بغرور فلما ذاقا الشجرة بدت لهما سوآتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة وناداهما ربهما ألم أنهكما عن تلكما الشجرة وأقل لكما إن الشيطان لكما عدو مبين قالا ربَّنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكوننَّ من الخاسرين قال اهبطوا بعضكم لبعض عدوُّ ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين قال فيها تحيون وفيها تموتون ومنها تخرجون يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباسًا يواري سوءاتكم وريشًا ولباس التقوى ذلك خير ذلك من آيات الله لعلهم يذكرون يا بني آدم لا يفتننَّكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة ينزع عنهما لباسهما ليريهما سوآتهما إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم إنا جعلنا الشياطين أولياء للذين لا يؤمنون.

قوله: "ليبدي لهما" يعني: ليظهر لهما؛ قوله: "ما ووري عنهما" يعني: ما غطي عنهما بلباس النور؛ "من سوآتهما": من عوراتهما؛ قوله: "فدلاهما بغرور": نصحهما بباطل وكذب حتى تورطا في الخطيئة، فلما سقطا "بدت لهما سوآتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة": فأخذا يستران عوراتهما بورق التين؛ ومن يومئذٍ بدأ الحجاب. فهو نتيجة الخطيئة وسيلازمها حتى يزول بزوالها، إن شاء الله. وفي ذلك قوله تعالى: "يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباسًا يواري سوآتكم"، وهو يعني: قد خلقنا لكم وفرضنا عليكم لبس ثياب القطن والصوف وغيرهما مما يواري عوراتكم؛ وقوله: "ولباس التقوى" يعني: لباس التوحيد والعفة والعصمة المودعة في قلوبكم؛ قوله "ذلك": لباس العفة "خير" من لباس القطن؛ "ذلك" يعني: لباس القطن؛ "من آيات الله": من حكمته في تشريعه؛ وكل المعنى في قوله تعالى: "لعلهم يذكرون"، ويعني: لعل الناس يذكرون حالة الطهر والبراءة والعفة التي كان عليها أمرُهم قبل الخطيئة، فتكون منهم الرجعى.

والآية الأخيرة واضحة الدلالة على ما ذهبنا إليه في أمر الحجاب. والسفور في الإسلام أصل لأنه حرية. وقد أسلفنا القول بأنه، في الإسلام، الأصل في كلِّ إنسان أنه حر، إلى أن يسيء التصرف في الحرية، فتصادَر حريتُه بقانون دستوري. وقد سلفت الإشارة إلى القانون الدستوري. اقرأ في حكمة الحجاب قوله تعالى: "واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم فإن شهدوا فأمسكوهنَّ في البيوت حتى يتوفاهنَّ الموت أو يجعل الله لهنَّ سبيلاً"؛ إذا توفرت الأدلة على اعوجاج سلوكها بما لا يرقى إلى الحدِّ تصادر حريتُها بحرمانها من حقِّها في حرية السفور وتُحبَس في المنزل "حتى يتوفاهنَّ الموتُ إن لم يَبْدُ من إحداهنَّ أنها قد انتفعت بالعقوبة، وأنها استقامت، مما يجعلها مرجوةً لحسن التصرف في السفور.

فالحجاب عقوبة حكيمة على سوء التصرف في حرية السفور – هذا في الأصل الإسلامي. ولكنه، في التشريع الحاضر، يمثل مصادرة مستمرة لحرية السفور لأن الشارع أراد به إلى سدِّ الذريعة، حمايةً للقُصَّر من مسئولية باهظة وثقيلة لا ينهض بها المؤمنون، وإنما ينهض بها المسلمون؛ وما لهؤلاء شرع.

[...]

[من] الباب السادس – الرسالة الثانية

الرسالة الثانية هي الإسلام. وقد أجملها المعصوم إجمالاً، ولم يقع في حقِّها التفصيل إلا في التشاريع المتداخلة بين الرسالة الأولى وبينها، كتشاريع العبادات وكتشاريع الحدود. قال تعالى: "اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا". هذا اليوم يوم عرفة من حجة الوداع، في السنة الثامنة من الهجرة، وقد كان يوم جمعة. وهذه الآية هي آخر ما نزل من القرآن، وهي قمة رسالات السماء.

وهو إنما رَضِيَ لنا الإسلام دينًا لنرضاه. فإن أمرًا لا يبدأ من طرفه هو لا يبدأ من طرفنا نحن. قال تعالى: "ثم تاب عليهم ليتوبوا".

وقد ظن كثير من الناس أن قوله تعالى: "اليوم أكملت لكم دينكم" تعني أن الإسلام كَمُلَ عند الناس وانتهى إلى قمة كماله يومئذٍ. وهؤلاء، حين يقرأون قوله تعالى: "وأنزلنا إليك الذكر لتبيِّن للناس ما نزل إليهم" يعتقدون أن تبيين القرآن قد تمَّ، وليس هناك أمر هو أبعد من الصواب من هذا الرأي. فالقرآن لم يبيَّن منه بالتشريع وبالتفسير إلا الطرف الذي يناسب الوقت الذي جرى فيه التبيين ويناسب طاقة الناس.

والقرآن لا يمكن أن يتم تبيينه. والإسلام، كذلك، لا يمكن أن يكمل. فالسير في مضماره سير سرمدي. "إن الدين عند الله الإسلام" و"عند"، هنا، ليست ظرف زمان، ولا هي ظرف مكان، وإنما هي خارج الزمان والمكان. فالسير بالقرآن في مضمار الإسلام سيرٌ إلى الله في إطلاقه. وهو بذلك لم يتم تبيينه، ولن يتم؛ وإنما تم إنزاله بين دفتي المصحف: تم إنزاله ولم يتم تبيينه.

[...]

المسلمون

المسلمون، كأمَّة، لم يجيئوا بعد. ولقد تنبأ المعصوم بمجيئهم في آخر الزمان، وذلك حين يبلغ الكتاب أجله ويجيء موعود الله تعالى في قوله: "ومن يبتغِ غير الإسلام دينا فلن يُقبَل منه وهو في الآخرة من الخاسرين". ويومئذٍ يدخل الناس في الدين كافة ولا يجدون عن ذلك منصرفًا لأن جميع المشاكل لا تجد حلَّها إلا فيه. وما نرى إلا أن الأرض أخذت تتهيأ لظهور شريعة المسلمين التي بها تكون المدنية الجديدة؛ وما بدون المدنية الجديدة للناس خلاص من إفلاس النظم الاجتماعية المعاصرة. وذلك أمر سلفت الإشارة إليه في صدر هذه الرسالة، حيث قلنا إن الإنسانية كلَّها، في هذه الآونة، في التيه، وقد ضلَّ سعيُ المدنية الغربية، واستعلن إفلاسها، وأصبحت قضايا الديمقراطية والاشتراكية والحرية الفردية تتطلب الحلول، وتلح في الطلب، ولا يجيء الحل إلا من تلقيح المدنية الغربية، أو قل، إن أردت الدقة، الحضارة الغربية – بروح جديد، هو روح الإسلام. وإنما رشَّح الإسلام لهذا المقام مقدرتُه على حلِّ الإشكال القائم بين الفرد والجماعة، وبين الفرد والكون – وهو أمر أسلفنا في تفصيله القول.

وما ينبغي أن يلتبس اسم المسلمين المعنيين هنا مع الاسم التقليدي الذي تتسمى به الأمة الحاضرة. فإننا قد أسلفنا القول بأنها لم تتَّسم بهذا الاسم إلا من الإسلام الأول؛ وإلا فهي الأمة المؤمنة. فما من أمة من الأمم السوالف تستحق هذا الاسم. وكل ما ذُكِرَ عن الأمم من إسلام فإنما هو الإسلام الأول؛ إلا ما كان من أمر طلائع البشرية، فإنه الإسلام الأخير، أو قل هو درجة في الإسلام الأخير؛ فما للإسلام الأخير غاية فتبلغ. وهم بذلك طلائع الأمة المسلمة التي لم تجئ إلى اليوم. قال تعالى في ذلك:

وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربَّنا تقبَّلْ منا إنك أنت السميع العليم ربَّنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك وأرِنا مناسكنا وتُبْ علينا إنك أنت التوَّاب الرحيم ربَّنا وابعث فيهم رسولاً منهم يتلو عليهم آياتك ويعلِّمهم الكتاب والحكمة ويزكِّيهم إنك أنت العزيز الحكيم ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه ولقد اصطفيناه في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لربِّ العالمين ووصَّى بها إبراهيم بنيه ويعقوب يا بني إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتُنَّ إلا وأنتم مسلمون أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت إذ قال لبنيه ما تعبدون من بعدي قالوا نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق إلهًا واحدًا ونحن له مسلمون.

قوله: "ربنا واجعلنا مسلمين لك" يعني: الإسلام الأخير، وقد كانا مسلمين من ذلك الطراز؛ وأما قوله: "ومن ذريَّتنا أمة مسلمة لك" فإنه يعني، في المدى القريب: أمة مسلمة على مستوى الإسلام الأول، ثم يتداعى بها الترقِّي والتطور حتى تبلغ، في المدى البعيد، مراقي الإسلام الأخير – وقد استجيب لهما في ذلك؛ قوله: "ووصَّى بها إبراهيم بنيه" يعني: وصَّاهم بالكلمة وهي: "لا إله إلا الله"، وكذلك وصَّاهم يعقوب: "يا بني إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتُنَّ إلا وأنتم مسلمون" يعني: فلا تموتُنَّ إلا وأنتم متمسكون بالملة وبالكلمة "لا إله إلا الله"؛ وقوله: "قالوا نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحق إلهًا واحدًا ونحن له مسلمون" يعني: أيضا الإسلام الأول.

وقال تعالى في ذلك: "وإذ أوحيت إلى الحواريين أن آمنوا بي وبرسولي قالوا آمنا واشهد بأننا مسلمون"؛ فإسلامهم هنا مطابق للإيمان، وهو ما وقع به الإذن بالوحي. فإن الله إنما أوحى إليهم أن يؤمنوا؛ فلما آمنوا وقالوا: "آمنَّا" وقع لهم أن هذا الإيمان إسلام، وكذلك قالوا: "واشهد بأننا مسلمون". والعارف يسمع إجابة القدس إياهم في فحوى: "قل لم تُسلموا ولكن قولوا آمنَّا". لم يسلموا الإسلام الأخير – أعني درجة البداية منه – وإنما أسلموا الإسلام الأول.

ونحن إنما جزمنا بأن إسلام كل هؤلاء هو الإسلام الأول لأن أدنى مراتب الإسلام الأخير الخروج عن الشريعة الجماعية والدخول في الشريعة الفردية، وذلك بإتقان العمل بالشريعة الجماعية حتى يُحسِنَ الفردُ التصرفَ في الحرية الفردية المطلقة. فالإسلام الأخير مرتبة فرديات، والفردية لا تتحقق لأحدٍ وهو منقسم على نفسه؛ فلا بدَّ له من إعادة الوحدة إلى بنيته، فلا يكون العقل الواعي في تعارض وتضاد مع العقل الباطن. وبفضِّ التعارض بينهما تتم سلامة القلب وصفاء الفكر وجمال الجسم، فتتحقق حياة الفكر وحياة الشعور. وهذه هي الحياة العليا: "وإن الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون". فالحيوان هنا ضد الموتان، وهي الحياة الكاملة، غير المؤوفة بالنقص، ولا بالمرض، ولا بالموت.

وإعادة الوحدة إلى البنية تعني أن الإنسان يفكِّر كما يريد، ويقول كما يفكِّر، ويعمل كما يقول. وهذا مطلوب الإسلام، وذلك حيث يقول: "يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون كبر مقتًا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون".

المجتمع الصالح

ولا يبلغ أحدٌ هذا المبلغ الرفيع إلا بوسيلتين اثنتين: أولاهما وسيلة المجتمع الصالح؛ وثانيتهما المنهاج التربوي العلمي الذي يواصل به مجهوده الفردي ليتم له تحرير مواهبه الطبيعية من الخوف الموروث.

والمجتمع الصالح هو المجتمع الذي يقوم على ثلاث مساويات: المساواة الاقتصادية، وتسمى في المجتمع الحديث الاشتراكية، وتعني أن يكون الناس شركاء في خيرات الأرض؛ والمساواة السياسية، وتسمَّى في المجتمع الحديث الديمقراطية، وتعني أن يكون الناس شركاء في تولِّي السلطة التي تقوم على تنفيذ مطالب حياتهم اليومية؛ ثم المساواة الاجتماعية، وهذه، إلى حدٍّ ما، نتيجة للمساويين السابقتين، ومظهرها الجليُّ محوُ الطبقات وإسقاط الفوارق التي تقوم على اللون أو العقيدة أو العنصر أو الجنس، من رجل وامرأة. فإنه يجب ألا يكون هناك تمييز بين الأفراد يقوم على أيِّ اعتبار من هذه الاعتبارات. فالناس لا يتفاضلون إلا بالعقل والخلق. ومحك ذلك العدل في السيرة بين الناس، والنصح، والإخلاص للمواطنين، في السرِّ والعلن، وروح الخدمة العامة، في كلِّ وقت، وبكل سبيل.

والمساواة الاجتماعية تستهدف محو الطبقات، ومحو الفوارق بين المدن والأرياف، وذلك بإتاحة الفرص المتساوية للتثقيف والتمدين، حتى يكون التزاوج بين جميع الأفراد في المجتمع أمرًا عاديًّا. وهذا هو المحك الصادق في مبلغ المساواة الاجتماعية.

[...]

والمجتمع الصالح، بعد أن يقوم على هذه المساويات الثلاث، التي يتكفَّل القانون بتنظيمها ورعايتها، يقوم أيضًا على رأي عام سَمْحٍ لا يضيق بأنماط السلوك المختلفة لدى النماذج البشرية المتباينة، ما دام هذا السلوك لا يعود إلا بالخير والبركة على المجتمع.

وللرأي العام أحكام تصدر من وراء حكم القانون؛ وهي غير مُلزِمة لأحد، ولا منفَّذة بسلطة، ولكنها قد تكون، مع ذلك، أكثر فعالية من القانون في ردع الشواذ والمارقين. ويمكن للرأي العام، بالطبع، أن يصدر حكمُه على أيِّ سلوك لا يوافق عليه. ولكن يجب تجنب العنف في إحداث أي تغيير في ذلك؛ فإن العنف لا يبعث إلا إحدى خصلتين: إما العنف ممَّن يطيقون المقاومة، أو النفاق من العاجزين عنها؛ وليس في أيِّهما خير. ثم، لدى الضرورة، يمكن لأحكام الرأي العام والعرف الجماعي أن تدخل حَرَمَ القانون، وذلك باقتراح التشريعات التي تسدُّ النقص الذي بدا لمن شاء. وبالطبع لن تكون التشريعات غير دستورية؛ ودستورية القانون عندنا معروفة.

[...]

خاتمة

أما بعد، فإن فيصل القول في أمر الرسالة الأولى والرسالة الثانية هو أن للدين شكلاً هرميًّا، قمَّتُه عند الله، حيث لا عند، وقاعدته عند الناس: "إن الدين عند الله الإسلام". ولقد تنزَّلت هذه القاعدة من تلك القمة، تنزَّلت إلى واقع الناس وحاجتهم وطاقتهم البشرية والمادية، فكانت الشريعة. وستظل قمة هرم الإسلام فوق مستوى التحقيق، في الأبد وفي ما بعد الأبد، وسيظل الأفراد يتطورون في فهم الدين كلَّما علموا المزيد من آيات الآفاق وآيات النفوس. والله تبارك وتعالى يقول: "سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبيَّن لهم أنه الحق أولم يكفِ بربِّك أنه على كل شئ شهيد". ويقول: "ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء". وهو – تبارك وتعالى – يشاء لنا الزيادة من علمه كل لحظة؛ وفي ذلك يقول: "كل يوم هو في شأن"؛ وما شأنه إلا إبداء ذاته لخلقه ليعرفوه. وهو – تبارك وتعالى – يعلِّمنا في ذلك فيقول: "ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيُه وقل ربِّ زدني علما"؛ وما الزيادة في العلم إلا ترقٍّ من قاعدة الهرم نحو قمته في تطور مستمر. وحين يتطور الإنسان بفهم الدين في فهم الدين يطوِّر شريعته تبعًا لحاجته ولطاقته، من القاعدة الغليظة إلى قاعدة أقل غلظة.

فالأفراد يتطوَّرون في فهم الدين، فيدخلون في مراتب الشرائع الفردية، والمجتمعات تتطور تبعًا لتطور الأفراد، فترتفع شرائعُها من قاعدة غليظة إلى قاعدة أقل غلظة، وذلك صعدًا في سُلَّم هرمُ قاعدته شريعة الرسالة الأولى.

فإذا كانت قمة هرم الدين، فيما يختص بالمال، هي آية: "يسألونك ماذا ينفقون قل العفو" فإن قاعدته هي آية: "خذ من أموالهم صدقة تطهِّرهم وتزكِّيهم بها وصلِّ عليهم إن صلاتك سكنٌ لهم والله سميع عليم"، وعليها قامت شريعة الرسالة الأولى في الزكاة ذات المقادير، وجُعِلَت شريعة في المال وركنًا في العبادة، وذلك لأن الناس لم يكونوا يطيقون أفضل منها، وتُرِكَ أمر تحقيق قمة الهرم للأفراد، كلٌّ حسب طاقته، ووَرَدَ الترغيب في التسامي في قول المعصوم حين قال: "في المال حقٌّ غير الزكاة"، وورد في قوله تعالى حين قال: "قُلْ إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله"، وذلك لأن شريعته هو في المال، وركنه في العبادة، هو أقرب إلى القمة.

وإذا كانت قمة هرم الدين، فيما يختص بالسياسة، هي آيتا: "فذكِّر إنما أنت مذكِّر لست عليهم بمسيطر" فإن قريبًا من قاعدته آية الشورى: "فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظًّا غليظ القلب لانفضُّوا من حولك فاعفُ عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر فإذا عزمتَ فتوكَّلْ على الله إن الله يحب المتوكلين"، وقاعدته على الإطلاق هي آية السيف: "فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم إن الله غفور رحيم".

وعلى هذه القاعدة قامت شريعة الجهاد، وعلى آية الشورى قامت شريعة الحكم، على أساس وصاية الفرد الرشيد على المجموعة.

فقاعدة الهرم في هذه ليست ديمقراطية، وإنما هي أقرب ما تكون إلى الديمقراطية، في وقت لم تكن الديمقراطية قد عُرِفَتْ، ولم يكن المجتمع مستعدًّا لممارستها. وقاعدة الهرم في تلك ليست اشتراكية، وإنما هي أقرب ما تكون إلى الاشتراكية، في وقت لم تكن الاشتراكية، بمضمونها العلمي، قد عُرِفَتْ، ولم يكن المجتمع مستعدًّا لممارستها.

فإذا كانت البشرية، في مدى أربعة عشر قرنًا، قد قطعت أرضًا شاسعة نحو النضج، وأصبحت تستقبل عهد الرجولة وتستدبر عهد الطفولة، وأصبحت، بفضل الله، ثم بفضل هذا النضج، تطيق، ماديًّا وفكريًّا، الاشتراكية والديمقراطية، فقد وجب أن تبشِّر بالإسلام على مستواهما؛ وهذا يعني الارتفاع من قاعدة شريعة الرسالة الأولى الغليظة إلى قاعدة أقل غلظة، ترتفع هونًا ما نحو القمة. وستظل القمة دائمًا في منطقة الفرديات.

وأدنى منازل القاعدة الجديدة هي المدخل على الاشتراكية، وذلك بتحريم تمليك وسائل الإنتاج على الفرد الواحد أو الأفراد القليلين في صورة شراكة. فإن هذا يفتح أبواب التشريع على الاشتراكية. وأدنى منازل القاعدة الجديدة هي المدخل على الديمقراطية وذلك بوجوب حق الانتخاب لكلِّ مواطن ولكلِّ مواطنة بلغ وبلغتْ سنًّا معينة مثلاً؛ وكذلك حق الترشيح. فإن هذا يفتح أبواب التشريع على الديمقراطية.

 وهذا الصنيع هو ما يسمى بتطوير التشريع. فهو ارتفاع من نصٍّ فرعي، يستلهم أكثر ما يمكن من التسامي، نحو نصٍّ أصلي. هو ارتفاع من نصٍّ إلى نص.

وهناك تشريع متداخل بين الرسالة الأولى والرسالة الثانية، كتشريع العبادات. وهذا لا يدخل فيه من التطوير إلا ما يجعل قمته مفتوحة على منازل الشرائع الفردية لكلِّ فرد تسامى، بفضل الله، ثم بفضل إتقان التقليد، إلى تحقيق فرديته التي ينماز بها عن أفراد القطيع.

فالشريعة الجماعية ليست أصلاً؛ وإنما الأصل الشريعة الفردية، ذلك، وبنفس القدر الذي به الجماعة ليست أصلاً؛ وإنما الأصل الفرد. ولكن الناس، لكثرة ما ألفوا المعيشة في الجماعة ولشدة أثر غريزة القطيع عليهم، ظنوا الأمر بعكس ذلك. فأنت تراهم يستغربون ويستوحشون عندما تكلِّمهم عن الشرائع الفردية. ولأمر آخر أيضًا: فإن الشريعة الفردية مرتبة رجولة ومرتبة مسئولية؛ والناس لا يزالون أطفالاً، يحبون أن يحمل غيرُهم عنهم مسئوليتهم؛ ويطيب لهم أن يظلوا غير مسئولين. أو هم، إن احتملوا المسئولية، فإنما يحتملونها في القطيع وعلى الطريق المطروق. أما أن يكون المسئول وِترًا وأن يطرق طريقًا بِكرًا فإنه أمر مخيف، ولا يجد في النفوس استعدادًا ولا ميلاً.

والمدخل على الرسالة الثانية الرسالةُ الأولى – إلا ما يقع عليه التطوير من تشريعها. ولا يقع التطوير في أمر العبادات إلا على الزكاة ذات المقادير، وما ذاك إلا لأنها ليست ركنًا تعبديًّا إلا لعلَّة أن الناس لم يكونوا يطيقون أفضل منها – وإلا فإن الركن التعبدي إنما هو زكاة المعصوم. ولا يقع التطوير على تشريع المعاوَضة؛ وما ذاك إلا لأنه أصيل، وقد بُنِيَ على الأصول الثوابت من الدين. وإنما يقع التطوير في تشريع المعاملات، كالحقوق الأساسية للأفراد، وكالنظم الاقتصادية والسياسية، إلى آخر ما يرتبط بتحولات المجتمع، وما يسرع إليه التغيير من هذه النظم التي يجب أن تواكب المجتمع في حيوية واقتدار على التجدد والنمو والتطور. وقد سبقت إلى كلِّ أولئك الإشارةُ في هذا الكتاب.

فالأصل في الرسالة الثانية الحيوية والتطور والتجدد؛ وعلى السالك في مراقيها أن يجدِّد حياة فكره، وحياة شعوره كلَّ يوم، بل كلَّ لحظة من كلِّ يوم وكلِّ ليلة، مَثَله الأعلى في ذلك قولُ الله تبارك وتعالى في شأن نفسه: "كلُّ يوم هو في شأن"، ثم هو "لا يشغله شأن عن شأن". فهو، حين يدخل من مدخل شهادة "ألا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله"، يجاهد ليرقى بإتقان تقليد المعصوم إلى مرتبة "فاعلم أنه لا إله إلا الله"، ثم يجاهد بإتقان هذا التقليد حتى يرقى بشهادة التوحيد إلى مرتبة يتخلَّى فيها عن الشهادة ولا يرى إلا أن الشاهد هو المشهود، ويطالع بقوله تعالى: "شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم قائمًا بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم". وعندئذٍ يقف على الأعتاب، ويخاطب كفاحًا بغير حجاب: "قل الله ثم ذَرْهُم في خوضٍ يلعبون". و"قل" هنا تعني: "كن" – وههنا مقام الشرائع الفردية.

وحين يرقى السالك في مدارج الرسالة الثانية من مدخل الرسالة الأولى على النحو الذي بينَّا يكون قد قطع درجات السلم السباعي: من درجة الإسلام، إلى الإيمان، إلى الإحسان، إلى علم اليقين، إلى عين اليقين، إلى حقِّ اليقين، إلى الإسلام من جديد، ثم يبدأ من جديد، على مستوى جديد، دورته الجديدة، وهكذا دواليك.

إن الإسلام سلم لولبي، أولُّه عندنا في الشريعة الجماعية، وآخره عند الله، حيث لا عند، وحيث لا حيث. والراقي في هذا السلم لا ينفك في صعود إلى الله "ذي المعارج". فهو في، كلِّ لحظة، يزيد علمه ويزيد، تبعًا لذلك، إسلامه لله. وتتجدد بكل أولئك حياة فكره وحياة شعوره. ودخول العارج في هذه المراقي، على مرتبة الشريعة الفردية، أمر محتّضم، وليس هو بالمقام البعيد المنال. وإنما محكُّ الكمال، الذي تُقطَع دونه الأعناق، هو أن تكون حقيقتك عند الله وأن تكون شريعتك الفردية طرفًا من حقيقتك هذه. وهيهات! هيهات! فإن ذلك سير في الإطلاق. وليس في هذا القول مثالية لأنه، في طرفه العلمي، قد تنزَّل إلى أرض الناس وأخذ يشدهم إلى المطلق، على تفاوت في التحصيل بينهم، كل حسب مبلغه من العلم. فهم في سُلَّم صاعد، عدد درجاته بعد الأنفس؛ و"فوق كل ذي علم عليم"، إلى أن ينتهي العلم إلى "علام الغيوب".

 إن هذا يعني أن حظ الإنسان من الكمال لا يحدُّه حدٌّ على الإطلاق. موعود الإنسان من الكمال مرتبة الإله. ومع ذلك فإن النهج إلى تحقيقه لا يقوم على المثالية، وإنما يقوم على الواقعية الملموسة في مسلك العبادة وفي مسلك المعاملة [...]. وبحسب الإنسان أن الله قد ادَّخر له من كمال حياة الفكر وحياة الشعور ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.

لك الحمد اللهم كما أنت أهله، حمدًا كثيرًا، طيبًا، مباركًا فيه.

[...]

*** *** ***

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود