حوار الثقافات

شعاراً للقمة الفرنكوفونية

بين متاريس الهوية وسياسة المداولة

 

علي حرب

 

الحوار بين الثقافات بات العنوان الأبرز للكثير من المؤتمرات والندوات التي تُعقَد في غير مكان من العالم لمواجهة مقولة "صدام الحضارات". من هنا اتخذه الفرنكوفونيون المجتمعون في بيروت شعاراً لقمتهم التاسعة.

هذا الشعار يجد أساسه النظري في مبدأ التعددية الثقافية؛ ومفاده أن الهوية المجتمعية والثقافية تُنسَج من اختلاف ثقافاتها الفرعية والتحتية أو الهامشية، كما تتشكل من تعدد طوائفها وفئاتها، القديمة أو الحديثة؛ مما يعني أن الاعتقاد بوجود هوية ثقافية واحدة وموحَّدة أو صافية ومنسجمة، في بلد ما أو مجتمع ما، إنما ينطوي على قدر كبير من الوهم والخداع.

إن مفهوم التعددية قد تشكَّل وجرى تداولُه في الشمال الأمريكي، في ضوء ما شهدتْه الولايات المتحدة، في الستينات من القرن الماضي، من الحركات السياسية والاجتماعية ذات الطابع الاحتجاجي والمحتوى الطوائفي. بذلك جسَّد هذا المفهوم شكلاً جديداً لوعي مغاير لدى الأمريكيين، من حيث علاقتهم بأصولهم الثقافية وخصوصياتهم المختلفة، إن في اللون والجنس أو في الدين والعرق.

ويعود الفضل في صياغة هذا المفهوم، بنسخه المختلفة، إلى فلاسفة وعلماء، أبرزهم جون راولنز، وتشارلز تايلور، ومايكل وولزر، ومايكل ساندل، وسواهم من الذين أسهموا في إطلاق أفكار وخلق نقاشات خصبة سوف تسفر عن تجديد الفلسفة السياسية والخلقية. والنقاش الذي بدأ أمريكياً، سوف ينتقل إلى أوروبا لكي يتغذى بمعطيات جديدة مع يورغن هابرماس، وأنطوني غيدنز، وآلان تورين، وبول ريكور، خاصة بعد أن أثيرت في فرنسا مسألة الحجاب الذي ترتديه الطالبات المسلمات في مدارس الجمهورية.

ومحصلة ذلك إعادة النظر في منظومة المفاهيم المتعلقة بالحريات المدنية والحقوق الأساسية، وذلك بفتح الهوية الفردية على كينونتها المجتمعية وأبعادها الثقافية. وهذا ما نجده، بشكل خاص، لدى الفيلسوف الفرنسي آلان رينو الذي أسهم في إغناء مفهوم الحقوق الفردية بصياغة مفهوم "الحق الثقافي". بذلك يجري تجاوز مقولة الحقوق، بمعناها المجرَّد والشكلي والمتعالي، بقدر ما تعاد صياغة مفهوم الهوية بمعناها التعددي المركَّب والملتبس.

لا شك في أن فرنسا هي أبرز المعنيين بمؤتمر الفرنكوفونية الذي ينعقد تحت مظلتها الثقافية واللغوية. وفرنسا هي بلد الثورة والجمهورية والمواطنية بقدر ما كانت بلد الفلاسفة والعلماء الذين أسهموا في انطلاقة الحداثة الفكرية والتنويرية في العصور الحديثة. لذا كانت تقدِّم نفسها، في هذا الطور، بصفتها العالمية، حاملة شعار الثورة المثلث: حرية، مساواة، إخاء، وذلك باستبعاد أي منزع تعددي أو طوائفي يتعلق بحقوق الجماعات أو الأقليات. وذلك هو شأن العالمية بأشكالها المجردة والأحادية التي مارست من خلالها فرنسا توسعها الثقافي وحضورها الإمبريالي على مسرح العالم.

ولكن الأمور تغيرت في ما بعد، وعلى نحوٍ تغيرت معه علاقة فرنسا بذاتها ونظرتها إلى مشروعيتها العالمية. حدث ذلك بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، أي بعد الضعف الذي اعترى أوروبا وبروز الولايات المتحدة زعيمةً للعالم الغربي والمعسكر الرأسمالي. مثل هذا التطور أدى إلى نشوء منافسة خفية أو ظاهرة بين الأمريكيين والفرنسيين الذين باتوا يخشون على لغتهم من انتشار اللغة الإنكليزية، وعلى ثقافتهم من هيمنة النموذج الأمريكي.

وهكذا فإن تطور الأفكار وتغير الواقع والصراع الثقافي مع الأمريكيين جعل فرنسا تغير نظرتها إلى الهوية الثقافية، وتفكر في ما لم تكن تفكر فيه، بحيث تطرح مسألة التعدد اللغوي والتنوع الثقافي على ما كان شعار قمة الفرنكوفونية السابقة.

ولا بأس من الأخذ بفلسفة التعدد، بل هذا هو المطلوب، لأن العالمية، مجردةً من أبعادها الثقافية والطوائفية، هي خواء أو خدعة تمارِس من خلالها إحدى الهويات توسعَها وهيمنتها. فلا يوجد في النهاية سوى الخصوصيات، والعالمية هي قدرة إحداها على ممارسة توسعها وانتشارها على صعيد من الصعد الاقتصادية أو الثقافية أو العسكرية.

لا يعني ذلك أن تمارَس التعددية كغرق في العزلة والهامشية والنرجسية، وإنما هي محاولة الفكاك من براثن الطرفين الأقصيين – العنصرية والإمبريالية – بحيث تمارَس العلاقة بالهوية بعقلية الشَّراكة والتوسط والمداولة، وبصورة تؤدي إلى توسيع إمكانات التعايش والتواصل أو التبادل والتفاعل بين الجماعات البشرية، خاصة بعد أن باتت المصائر والمصالح متشابكة في مواجهة المشكلات الأمنية والاقتصادية والبيئية.

على كل حال، أثبتت فرنسا، راعية الفرنكوفونية، جدارتها في الدفاع عن القيم الديموقراطية والحريات العامة، بقدر ما نجحت في ممارسة التعدد، فكراً ومسلكاً. والانتخابات الرئاسية الأخيرة هي شاهد حي وبليغ الدلالة: لقد انتخب الاشتراكيون الرئيس جاك شيراك، خصمهم اللدود، حفاظاً على مكتسبات الجمهورية، لمواجهة حركة لوبين ذات التوجه العنصري.

من الشواهد الأخرى أن تسير في فرنسا تظاهرة دفاعاً عن المهاجرين أو عمَّن هم من أصول عربية أو أجنبية، تأكيداً على التعامل معهم لا كأعداء يريدون الحلول مكان الفرنسيين، بل بوصفهم جزءاً من المجتمع الفرنسي. والشاهد الأخير يقدِّمه الرئيس الفرنسي بسلوكه التداولي والديموقراطي وبعقله التعددي، كما تجلَّى ذلك في قدرته على التعايش مع وزيره الأول الذي ينتمي إلى حزب مختلف سياسة ومذهباً، أو كما تجلَّى في تصريحه عند فوز المنتخب الفرنسي بمونديال كرة القدم لعام 1998، حيث قال: لقد انتصر الفريق المتعدد الألوان، بتعدد الأصول الأوروبية والأفريقية والعربية لأعضاء هذا الفريق، مما يُعَدُّ تجسيداً لمبدأ الاعتراف بالآخر المختلف.

لا مراء أن لبنان هو أيضاً من أبرز المعنيين بقمة الفرنكوفونية، ليس فقط لأنها تُعقَد على أرضه، بل لأن لبنان هو هبة الاختلاف من حيث تركيبته الطائفية المتعددة؛ مما يعني أن أحوج ما يحتاج إليه هو إتقان لغة الحوار والتمرُّس بسياسة الاعتراف.

والسؤال الذي يملي نفسه هنا: ما الذي يمكن لنا – كلبنانيين وعرب – تعلُّمه والإفادة منه على صعيد الوعي والفكر والثقافة من استضافة هذا المؤتمر والمشاركة في حواراته وصوغ أطروحاته وتوصياته؟

ومسوِّغ السؤال أننا لم ننجح حتى الآن في إثبات جدارتنا في إدارة حوارات خلاقة وخصبة في ما بيننا، على الصعد السياسية والدينية والثقافية، يستوي في ذلك الفلاسفة والساسة، الشعراء والفقهاء.

ولهذا الإخفاق سببه المزدوج: الأول هو النرجسية ونزعة التأله والعقلية الأحادية التي تتحكم في إدارة الأفكار والسجالات، مما يفضي إلى الاستبعاد المتبادل وتقليص فرص الحوار الفعال والمثمر؛ والثاني أن الثبات هو سيِّد المواقف عندنا، بمعنى أننا لا نقبل النقد لكي نتراجع ونتعلَّم من الأخطاء والإخفاقات، على عكس الغربيين الذي نجد بينهم من ينبري لنقد حكومته وثقافته دفاعاً عنَّا أو تضامناً معنا.

وهكذا فالغربيون يمارسون نقد الذات. أما نحن فننتقد الغرب على انتهاكه المبادئ والقيم والحقوق في تعامله مع قضايانا؛ في حين أن ما نتمسك به عندنا وما ندافع عنه قد يكون الأكثر سوءاً وفساداً أو ظلماً وبربرية، أي الأكثر مرارة ومضاضة؛ مما يجعلنا نفتقد المصداقية في ما ندَّعيه أو ندعو إليه.

إن التعددية التي هي أساس الحوار لا تعني فقط الإقرار بالاختلاف والتعدد داخل المجتمع الواحد، أو داخل المجتمع البشري، وإنما تتخطى ذلك في مفهومها؛ إذ هي تعني، على مستوى أول، قبول الآخر بوصفه مختلفاً من حيث خصوصيته ومساوياً، في آن، من حيث الحقوق والحريات. كما تعني، على مستوى آخر، تعامل المرء مع هويته لا بوصفها ثابتة أو بسيطة أو نقية، بل بوصفها توليفة مركبة ومفتوحة على التغير، ولا تخلو من التهجين والالتباس أو التعارض، بحيث إن من نعتبره "الآخر" قد يكون رافداً يُغني ثقافتنا، أو الوجه الآخر الذي نخفيه ولا نعترف به، أو الطور الذي نتمنى بلوغه ولا نقدر عليه.

الأمر الذي يحتاج إلى التمرس بسياسة عقلية مغايرة لإدارة الأفكار، نتحرر بها من ديكتاتورية الحقيقة، وإمبريالية المعنى، وإرهاب الأصل، وصفاء الهوية، وبساطة الوحدة. من غير ذلك، تتحول الهويات والمواقع والمناصب إلى متاريس تنتج الحوارات العقيمة، أو تلغِّم البرامج والمشاريع، أو تقود إلى النزاعات والحروب.

*** *** ***

عن السفير، 19/10/2002

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود