حرب ثقافات

 

باروخ كيمرلنغ*

 

ثمة من يقول إن الحرب الحالية ضد الفلسطينيين هي "حرب شارون من أجل سلامة المستوطنات"؛ لكنها في الحقيقة أكثر من ذلك بكثير. فالاستيطان في المنطقتين المسماتين يهودا والسامرة ليس هدفاً قائماً بذاته، وإنما هو، بالنسبة إلى الإيديولوجيا الدينية–القومية، وحتى القومية العلمانية، وسيلة هدفها إعداد أمة ذات ثقافة سياسية تستحوذ على قلوب كل اليهود، ومن شأنها أن تحوِّل إسرائيل إلى دولة يهودية تُقاطِع كلَّ من لا يُعتبَر "يهودياً" بحسب مفهومها. ومعظم هذه الثقافة لا يقوم على اعتبار الحرب المستمرة شراً لا بدَّ منه، بل يعتبرها وضعاً طبيعياً، وحتى سامياً، كما عبَّر عن ذلك أخيراً الزعيم الجديد لحزب "مفدال" إفِّي إيتام.

وبما أن اليمين اعتبر، في عهد رابين وباراك، تجربة صنع السلام والتسوية بين اليهود والعرب إجمالاً، ومع الفلسطينيين في صورة خاصة، بمثابة إخضاع وحسم في الحرب الثقافية داخل إسرائيل، كذلك علينا أن ننظر إلى سياسة الحكومة الحالية والجيش في ما يتعلق بالعلاقة مع الشارع. ومن المحتمل أن هذا لم يخطَّط له تخطيطاً مسبقاً، لكن سياسة الحكومة في الأشهر الأخيرة، وفي صورة خاصة بعد عملية "السور الواقي"، إنما تسعى إلى تحقيق حسم استراتيجي مزدوج: فخارجياً، هدفُها تدمير البنية السياسية المؤسَّسية الفلسطينية؛ أما داخلياً فهدفُها تدمير الأسس العالمية والإنسانية في المجتمع والثقافة الإسرائيليين.

تخلق الحرب عموماً وضعاً مريحاً لإحداث تغييرات اجتماعية تحت غطاء تهديد الوجود. وكل تفكير نقدي يوضَع بسهولة جانباً، وأحياناً يُعتبَر ذلك قريباً من الخيانة. وهكذا تبدأ "مطاردة السحرة" ضد كل من لا ينحاز إلى المزاج القومي: من يافيه يركوني، إلى أصحاب صحيفة ليبرالية حذرة مثل عاموس شوكين [رئيس تحرير هآرتس]، إلى محاضرين مؤيِّدين لتلامذتهم رافضي الخدمة، وحتى إبعاد أعضاء عرب في الكنيست عنه قانونياً.

ترتبط بهذا كلِّه المحاولاتُ الناجحة جداً لإضعاف مؤسَّسات أساسية في الثقافة المدنية، مثل الجامعات والمحاكم العليا أو شبكات الإعلام. وفي مثل هذا الوضع تبرز أفكار مثل النقاء الإثني والنقاء الثقافي. وكلما ازداد اليأس، وتزعزعت الثقة بالنفس، وظهر من جديد تهديد "المارد الديموغرافي"، تتسلل هذه الهواجس من هوامش الخطاب العام إلى وسطه.

أوجدتْ هذه المرحلةُ من النزاع اليهودي–الفلسطيني الظروفَ لحربٍ ثقافية تدور في إسرائيل منذ السبعينات بين "اليمين" و"اليسار". وفي هذا النزاع يقدم اليمين ما يعتبره حالياً الحلَّ الحاسم. وفي حال تحقق الحسم الذي يريده اليمين العلماني والديني فإنه سيؤدي إلى تجربة إعادة السيطرة على كامل أرض إسرائيل وعلى الثقافة السياسية أيضاً.

وفيما بدا المجتمع الإسرائيلي في العقد الأخير أكثر انفتاحاً وليبرالية، ومتجهاً نحو التعددية الثقافية الأقل عسكرة والأقل قومية، انقلبتْ الوقائع اليوم انقلاباً مأسوياً، وبدأ إسرائيل يسير قدماً نحو مجتمع فاشي، يقدِّم فيه الفردُ حقوقه الأساسية قرباناً من أجل أفكار جماعية غامضة من شأنها أن تؤدي إلى الخسارة.

ولكن مثل هذا الحسم النهائي غير ممكن، لأنه من الصعب تغيير الحقائق الديموغرافية والإثنية والطبقية الموجودة في إسرائيل وفي المنطقة. بالإمكان تفكيك السلطة الفلسطينية وتصفية زعاماتها وسحبهم وطردهم، ولكن لا يمكن خنق مقاومة استمرار الاحتلال. إن التطهير العرقي الذي كان ممكناً في العالم عام 1948 لا يمكن تطبيقه اليوم. وفي كل الأحوال، لا يمكن القيام بذلك من دون تدمير أخلاقي وسياسي للذين يقومون به وتحويلهم إلى شعب مكوَّن من مجرمي حرب.

يكاد استمرار فقدان الثقة بالنفس أن يتحول أمراً روتينياً. فهو بعد أن يتجاوز عتبة معينة سيؤدي إلى نهاية الحكم القائم، كما جرى مع بيريس ونتنياهو وباراك.

رويداً رويداً تُظهِر الطبقة الوسطى مؤشرات تحرر، وتبدأ في تنظيم نفسها من جديد لمواجهة التهديد المتربِّص بمكانتها السياسية والاقتصادية، الذي يتهدد أيضاً البنية الأخلاقية للمجتمع بأسره. ونجاح إعادة التنظيم هذه مرتبط بتجديد التحالف مع العرب مواطني إسرائيل؛ وهذا مرتبط أيضاً بإعادة بناء الشخصية الإسرائيلية والإطار التعددي الثقافي الذي بدأ بناؤه في السبعينات، وانهار مع الحرب بين الثقافات الإثنية.

*** *** ***

عن النهار، الأربعاء 5 حزيران 2002

عن يديعوت أحرونوت


* عالم اجتماع إسرائيلي.

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود