|
الأصولية
المسيحية
هي
التي دعمت الصهيونية
ورفعت
صورة اليهود إلى مرتبة التقديس
مقابلة*
مع الشاعر النرويجي هوفارد ريم
لا
أعرف مستقبلاً
طريقي
هو الخطوة التالية
كلُّ
مرحلة هي رحلة
وكلُّ
لحظة هي رهن إشارتي.
هذا هو الشاعر
النرويجي هوفارد ريم. اسكندنافي السمات
والملامح، شرقي الروح والهوى. بَهَرَهُ الشرقُ، بقصصه
وسحره، منذ طفولته المبكرة.
تسكنه بداوةٌ تدفعه للترحال أبداً. وبالنسبة
له فإن الحالة الطبيعية للإنسان ليست حالة
الفلاح المقيم في مكان ثابت، ولكنها حالة
البدوي المرتحل باستمرار. أما المرأة القديمة
فلم تكن فلاحة في قرية، وإنما نبي مقدس في
بابل. والرجل القديم كان صياداً يدوياً يعشق
العيش في خيمة. أمضى ريم نصف عام في
خيمة جنوب فرنسا. وفي العام 1977 نشر مجموعته
الشعرية الأولى نادوا الأبطال التي
جعلتْه في مصاف الشعراء النرويجيين البارزين
في عصره. وعندما أرسل مخطوط مجموعته الشعرية
الأولى تلك إلى دار النشر أرفقها برسالة قال
فيها: "ولدت في أوسلو، في السابع من شباط
عام 1959، ومن الواضح أن السنوات التي لم تأتِ
بعدُ تثقلني بغيابها. عملت خمسة أعوام موزعاً
للصحف، وأستخدم وقتي الآن للسفر. لا مركز، لا
وظيفة، بل على باب الله، ومن أبناء الله." *** يقول ريم: "كان
والدي أصولياً. وأنا كنت أصولياً حتى الثامنة
عشرة من عمري. أشكر والديَّ لأنني موجود؛ فقد
رفضا الإجهاض عندما علما أن هناك خطراً على
حياتي وأنني سأعيش معوَّقاً. أشكرهما لأنهما،
بسبب أصوليَّتهما، رفضا تركي أموت بالإجهاض؛
وكذلك لأنهما جعلاني أعيش بطريقة معينة.
عندما أسافر وألتقي مسلمين ويهوداً فإني،
بسبب نشأتي المسيحية، أشاركهم القصص
والثقافة، وكأن المسيحية تحتوي على مراجع
وأصول مشتركة مع ملياري مسلم ويهودي. اليوم لا
يعرف الأطفال النرويجيون إبراهيم واسحق
وإسماعيل؛ ولذلك فإنهم، إذا سافروا في
المستقبل إلى لبنان، لن يجدوا قصصاً وتاريخاً
يربطهم بلبنان وفلسطين مثل تلك التي أمتلكها
أنا. لست أصولياً ولا متديناً اليوم، ولكني
أملك حكايات وقصصاً." هل
تنقلها إلى طفليك؟
أنا أعلِّمهما
وأقرأ عليهما من هذه القصص الرائعة. فالعهد
القديم مثل قصص الساغا النرويجية القديمة
الفاتنة، الممتلئة بالإيديولوجيا في الوقت
نفسه؛ ذلك أنها تخبر القارئ عن الملك، وعن
النرويج، وعن الاعتزاز بالطبيعة، وأن هذا
البلد هو للنرويجيين. أما الآن فإن هذه القصص
لا تعني غير القصة والمتعة والمرجع الخيالي.
كذلك العهد القديم يخبر عن البلد الذي يعود
لأصحابه. الآن لا يعني ذلك شيئاً في أفقنا
الفكري الحالي. ما أريد قوله هو
أن هذه النصوص هي إيديولوجيا. ففي مراحل
الأمية لا يمكن مطالبة الناس بالإيمان
اللاحرفي والتأويل. والآن اختلف الأمر؛
وعلينا أن نفهم النصوص بشكل آخر. فعندما أقرأ
قصة إبراهيم واسحق وإسماعيل في العهد القديم
لطفليَّ عليَّ أيضاً أن أقرأ القصة لهما كما
جاءت في القرآن. ولكن
أي إله هذا الذي يدعو إلى تدمير بلاد وملاحقة
شعبها وطرده؟ عندما كان عمري
عامين أرسلني والدي إلى مدرسة الكنيسة،
وعلَّموني قصص الكتاب المقدس. كان المسيحيون
يكرهون اليهود. لكن الأصولية المسيحية هي
التي رفعت صورة اليهود إلى درجة التقديس،
باعتبارهم شعب الله المختار. كانوا يقولون لي
إن الإسرائيليين لهم أرض التوراة، وعلى
الفلسطينيين الذهاب إلى الأردن... هكذا
علَّمونا، وهكذا نشأنا. الآن... كان خطأ
كبيراً جمع العهدين في كتاب واحد. فالعهد
القديم قومي؛ أما العهد الجديد فهو كوني،
ينادي بالمساواة، على الرغم من اختلاف العروق
والطبقات والقوميات. وما حدث أن الجزء
البروتستانتي من المسيحية في أوروبا وأمريكا
وجد نفسه، بظهور الحركة الصهيونية، أمام واقع
جديد. فهؤلاء قرأوا الكتاب المقدس وآمنوا
بنهاية العالم [القيامة] ووجدوا أنه، بحسب
النبوءات، فإن اليهود سوف يعودون إلى وطنهم –
إسرائيل – قبل نهاية العالم. وبذلك دعمت
الأصوليةُ المسيحيةُ الحركةَ الصهيونية دعماً غير مباشر. وقد انحسرت
الأصولية المسيحية البروتستانتية في أوروبا
الآن؛ وبهذا تراجع الدعم لإسرائيل. أمريكا
شيء آخر بسبب اللوبي اليهودي. أما أصوليات
أوروبا فإنها صارت "غيتوات"، وتلاشى دعم
إسرائيل. عملياً
لا ترى انعكاساً قوياً لذلك على أرض الواقع. قبل أسابيع رأينا
في التلفزيون النرويجي كيف يدمِّر الجنودُ
الإسرائيليون سيارات الإسعاف الفلسطينية. في
اليوم التالي ذهبت 30 سيارة إسعاف بسائقيها
للاحتجاج أمام السفارة الإسرائيلية. الأمور
تتغير بسرعة. الوقت
قصير، وقد يقضي إسرائيل على الفلسطينيين قبل
أن تتغير الأمور على النحو المطلوب؟ لن تستطيع أمريكا
أن تستخدم الفيتو لفترة طويلة؛ وستحصل خلافات
ليس مع العرب، وإنما مع أوروبا أيضاً. بعض
الأصوليين يرون في ما يحدث أمراً طبيعياً،
كما جاء في التوراة. وأظن أن الرأي العام
الأوروبي سيُمهِل إسرائيل فترة قصيرة لخلق
حالة سلام. تقديس
التعذيب
يلاحظ
أنك مهتم كثيراً بالشرق الأوسط وقضاياه؟
هوفارد ريم،
كمشروع مؤلِّف، يبدأ بفهم الشرق الأوسط قبل
ألفي عام. كان الصليب آنذاك جهاز الإعدام؛
واليوم، فإن الصليب هو رمز ديني للمسيحية. في
النرويج نحن نستخدم الصليب رمزاً في العَلَم؛
نستخدم الصليب، كما تستخدمون الهلال، كرمز
لكلِّ ما هو خيِّر وطيب ومقدس وإيجابي. لكن
الصليب هو مشنقة لأنه أداة صلب وإعدام.
وبالنسبة لي فإن هذا يشكل لغزاً: كيف يصبح
جهاز الإعدام رمزاً قومياً؟ عندما أدخلتُ
الأناجيل إلى جهاز الكومبيوتر استبدلتُ في
البرنامج بعبارةٍ تقول "ابحث عن صليب"
عبارةَ "ابحث عن مشنقة". الصليب في زمن
الإمبراطورية الرومانية كان أداة إعدام؛ وهو
كان كذلك في النرويج قبل مائتي عام. والنتيجة
أنني جعلت قمم كنائس النرويج تزيَّن بالمشنقة، وزينت علم النرويج بالمشنقة بدل
الصليب، وجعلت مئات الآلاف من الأطفال
يلوِّحون في يوم التحرير القومي كل عام بعلم
المشنقة. حضارتنا اليوم تمجد جهاز الإعدام
كرمز ديني وقومي، ويمكن أن تستبدل بالمشنقة
أيضاً الكرسيَّ الكهربائي! وأتساءل: كيف يمكن
لحضارة بكاملها أن تمجِّد جهاز إعدام ولا
يثير الأمرُ استغرابَها! لقد زرت توليدو [طليطلة]
في إسبانيا. توليدو كانت جزءاً من الأندلس.
عندما كان العرب في إسبانيا كانت لليهود حرية
إقامة شعائرهم الدينية في الكُنُس. ولما احتل
المسيحيون الأندلس وطردوا العرب بدأتْ محاكم
التفتيش. واليوم يوجد في توليدو أكبر متحف
يجمع أجهزة التعذيب والإعدام. دخلت إلى هذا
المتحف، تجولت فيه قليلاً، فشعرت بالوحشة
والرعب؛ وفي النهاية كان عليَّ أن أنزل من
المتحف وأخرج راكضاً... عبرت الشارع إلى
كاتدرائية كي أجد فيها السلام والطمأنينة.
ولكن عندما دخلت إليها، رفعت رأسي لأجد كل
أجهزة الإعدام حولي داخل تلك الكاتدرائية
المليئة بالصلبان. وهذا ما جعلني أفكر: أن
يعبد المرء تقديس التعذيب والإعدام شيء موحش.
أنا أمقت المازوخية والسادية في المسيحية
الغربية، لكنني أحب في المسيحية تقديس الضحية، المهزوم. فيسوع خسر
المعركة، وصُلِبَ
وصار ضحية. وبهذا قدَّستْ المسيحية الهزيمة... صلب
المسيح رمز موجود في ديانات أخرى: إبراهيم ذبح
ابنه. وهذه التضحية التي تعني غسل الخطايا
بالدم رمزٌ ديني شرقي معروف. على المثقفين
الآن أن ينكأوا النص الديني الذي آمن به والدي
ووالدتي بوصفه ليس نصاً فقط بل إيديولوجيا.
العهد القديم صهيوني. وهذا في ذلك الزمن
القديم أمر طبيعي؛ لكننا نجد في العهد الجديد
نصوصاً ضد الصهيونية. الجحيم
النرويجي
في
مجموعتك بلاد المشنقة تتحدث عن الجحيم
النرويجي. ماذا تقصد بذلك؟
إنه الطقس.
فالصيف قصير جداً، جميل جداً، ولكن لا يمكنك
الوثوق به. وعندنا عشرة أشهر من الشتاء. هي
ليست إرادة الله أن يعيش الناس في هذا الجو
البارد. معظم الناس يعتقدون أن الجحيم هو مكان
حار جداً؛ والواقع أن الجحيم هو مكان بارد جداً! وفي اللغة اللاتينية تعني
كلمةُ "شتاء" الشتاءَ والجحيم. وربما لهذا السبب فإن أعلام
الدول في شمال أوروبا تتزين بالصليب. ثمة
نكران للحياة في الأجواء الباردة، مما ينعكس
على الحياة السياسية والثقافية، وحتى على
المعتقد الديني. كيف تسمي
مجموعة شعرية بـالمحجر؟
أنا هو "المحجر"،
حيث تحطِّم الأجيالُ صخورَها، وتحطِّم
الثقافاتُ ثوابتَها، وتحطِّم المفاهيمُ
محتواها. وكتاباتي، منذ كنت في سن الثامنة
عشرة حتى الآن، خير دليل على عملية الحفر
والتهديم هذه... وأعتقد أن الكثيرين من
المثقفين العرب مروا بهذه العملية، وقد يرون
تجربتهم في شعري. وكيف هو نمط حياتك؟
أنا أكره المال،
ولا أجهد نفسي في الحصول عليه. وهذا ما
تعلَّمته من والديَّ: فقد كانا يؤمنان بأن
رزقهما يأتيهما من الله. أنا أعمل كثيراً.
أكتب وأبدع وأخلق. فإذا كان عملي هذا لا
يعطيني المال فالخطأ في رأس المال وليس في
رأسي. الرسول بولس قال: "إن حب المال هو أصل
الشر." وأنا أتفق معه. وأرى اليوم كيف أنه
أفضل العقول في جيلي تكرس حياتها لكتابة نصوص
دعاية لطعام فقط من أجل المال. صورة
العربي
ماذا
عن صورة العربي لديك؟
مثل الكثيرين،
كوَّنتُ صورة عن العالم العربي بوصفه عالماً
مسكوناً بالفوضى، ومحكوماً بالخارجين عن
القانون! ثم اكتشفت لاحقاً أنه لا أساس لتصوري، وأنه خاطئ.
ولكنه، مع الأسف، هو
التصور الذي ربما مازال بعض النرويجيين
يحملونه. أما اليوم، وبناء على تجربتي
الشخصية، فإن الصورة تغيرت كثيراً. والعرب
الذين أعرفهم هم أناس متميزون. المهم أن يكون
الإنسان منفرداً، بلا أقنعة القومية والدين
والعنصر – وهي الأمور التي ترعب الآخرين. القناع الوحيد
الذي أريد من البشرية الاحتفاظ به هو قناع
الجنس. فالمرأة امرأة، والرجل رجل. والحياة
تصبح مملة، بل تنقرض، من دون هذا القناع. في
قناع الجنس تتحقق الجنة على الأرض: مجتمع بشري
واحد، ينتجه رجل وامرأة! هل
اطَّلعتَ على التاريخ العربي؟ بالطبع، من خلال
أصدقائي العرب، ومن خلال بعض الكتب المترجمة.
علاقتي بهذه المنطقة قديمة جداً، بدأتْ عندما
كنت أسمع القسيس يتلو علينا يوم الأحد أخباراً عن القدس والجليل وأريحا. حياتي بدأت
مع تلك القصص من الأرض المقدسة. أنت
مطَّلع، كما أعرف، على الأدب العربي. ماذا
قرأت منه وعنه؟ بالتأكيد قرأت ما
توفر لي باللغة النرويجية، أي الكتب المترجمة.
قرأت لنجيب محفوظ، وأنا من قدَّم لثلاثيَّته
باللغة النرويجية. كما قرأت لمحمد الماغوط
مختارات جميلة صدرت بعنوان الفرح ليس مهنتي،
من ترجمة الكاتب النرويجي العربي وليد
القبيسي. كذلك قرأت غيمة على سفر لمنعم
الفقيد. قرأت لجبران خليل
جبران، وأمين المعلوف؛ كما قرأت ما تُرجِمَ
من أعمال الروائي عزت الغزاوي. كما أن لي
اطلاعاً على قصص ألف ليلة وليلة التي
أسَرَتْ الغربَ بسحر الشرق. كما أنني قرأت
القرآن. أستطيع الادعاء بأني مسلم بالتاريخ
العربي إلى درجة أنني أستطيع أن أتحدث في هذا
الموضوع. ما سبب
هذا الاهتمام بالتاريخ والأدب العربي؟ إنه ببساطة جزء
من مشروع حياة، أمارسه يومياً لأفهم لماذا
تشكَّل جزءٌ كبير من عقلي بواسطة الساميين.
أما سبب اهتمامي بالفن اللغوي في القرآن فهو
آتٍ من أنني أحاول أن أجعل الكتاب المقدس
باللغة النرويجية يترنَّح عند قراءته كما
تتأرجح لغة القرآن عندما يُرتَّل، وذلك كوني
مستشاراً شعرياً للنسخة الجديدة من الكتاب
المقدس. ***
*** *** أوسلو
أجرت
المقابلة: حنان بكير عن
المستقبل، الأربعاء 15 أيار 2002 *
شكر خاص لجبران سعد على تزويدنا
بنص المقابلة من أرشيفه الشخصي.
|
|
|