|
ذاكرة
الباطن
أكرم
أنطاكي
الفصل
الخامس
مرحلة
انتقالية...
(1961-1963)
آ
مدرسة الآباء
العازريين (3)...
طائر
الليل:
لويس أراغون كان الانقلاب
الذي قامت به القيادة الثورية العليا للقوات
المسلحة "... لإزالة الفساد والطغيان وإعادة
الحقوق الشرعية إلى الشعب" بدايةَ عهد كان
الأقصر والأكثر اضطراباً في تاريخ سورية
الحديث، ذاك الذي عُرِفَ بـ"الانفصال"! وقد بدأ
الاضطراب منذ اليوم الأول. فالعمل الذي أقدمتْ عليه هذه المجموعة من "الضباط
الشوام" (نسبة إلى الشام)، التي ضمت كلاً من
السادة العميد عبد الغني دهمان (812)، العميد موفق
عصاصة (813)، المقدم عبد الكريم النحلاوي
(814)، المقدم
حيدر الكزبري (815)، المقدم مهيب الهندي
(816)، والمقدم
هشام عبد ربه (817)، كان
كبيراً جداً، لا لأنه أجهز،
بضربة واحدة، على التجربة الوحدوية العربية
الأهم في هذا القرن وحسب (فتلك "الوحدة"
المتعثرة والمفرغة من مضمونها كانت تنتظر ما
حصل)، بل لأنه أعاد، عن غير قصد، سورية
المدنية والمتحضرة، لكن الضعيفة والممزقة
والمضطربة وذات الموقع الجيوسياسي الهام،
إلى مسرح الأحداث في المنطقة... وكان هذا،
بالنسبة لمن قاموا بالانقلاب – وكانوا أصغر
بكثير من أن يتحمَّلوا مسؤولية ما فعلوا –
مرعباً فعلاً. لذلك... نجدهم، منذ
الساعات الأولى لانقلابهم الناجح، وقد
سيطروا، بسهولة فائقة، على مجمل الأوضاع في
البلاد، يتفاوضون مع المشير عبد الحكيم عامر (818)
بهدف التوصل إلى تسوية تمكِّنهم من إنقاذ ماء
الوجه ضمن إطار الدولة الواحدة... فكان "البلاغ
رقم 9"، الذي "تفهَّم [المشير عامر بموجبه]
أمورَ الجيش على حقيقتها واتخذ الإجراءات
المناسبة لحلِّها لصالح وحدة وقوة الجمهورية
العربية المتحدة..."، تسويةً رفضها الرئيس
عبد الناصر (819)؛ فأعلن "البلاغ رقم 10" عن
فشلها... وكانت مظاهرات
"عفوية" لبعض الشارع السياسي، مؤيدة،
كالعادة، لهذه الحركة (كما لأية حركة مباركة!)،
شارك فيها الكثير من "الصادقين"! وتحولت
بعد "البلاغ رقم 9" و/أو قابلتها بعده
مظاهرات "عفوية" أخرى، مؤيدة للوحدة،
شارك فيها "صادقون" آخرون! وجميعها لم
تكن – والحق يقال – بهذه الأهمية. فالشعب
المبعَد عن الأحداث كان سلبياً ينتظر ما
سيأتي ليؤيد الجانب المنتصر (من الجيش) الذي... "... وفاء منـ[ـه]
بالعهد الذي قطعـ[ـه] على نفسـ[ـه] للشعب بأن
توكَل السياسة والإدارة إلى أبناء الشعب
المخلصين..."، كلَّف آنذاك السيد مأمون
الكزبري (820)، الرئيس السابق لـ"الاتحاد القومي"،
بترؤس حكومة تدير شؤون البلاد، توطئة لإعادة
الأوضاع الدستورية إليها. وكان أبرز وجوه هذه
الحكومة (الحلبي) السيد ليون زمريا (821) من الحزب
الوطني... وانعقد في 2
تشرين الأول 1961 اجتماعٌ في دار الشراباتي في
دمشق لعدد من السياسيين السوريين القدامى
الذين كان أبرزهم السادة "أحمد قنبر (822)، أحمد
الشراباتي (823)، صبري العسلي
(824)، خالد العظم
(825)، أكرم
الحوراني (826)، صلاح البيطار
(827)..."، أيَّد فيه
المجتمعون الأوضاع السورية الجديدة... قضيتُ اليوم
الأول من "الانفصال" في المنزل أستمع إلى
إذاعتنا العتيدة وإلى بياناتها الصاخبة وهي
تقارع إذاعات "القاهرة" و"صوت العرب"!
أما في اليوم الثاني فتنزَّهت مع أصدقائي عبر
دمشق، الهادئة جداً رغم ما حصل. كانت الشمس
ساطعة، والأوضاع شبه اعتيادية من حيث النشاط
العام والحركة التجارية في الأسواق. فقط كان
هناك، عند التقاطعات وأمام الأبنية العامة،
بعض المصفحات والعسكر الذين كان بعضهم من
الهجَّانة (قوات البادية). وكان مجال تنزهنا
في عاصمة تلك الأيام محدوداً من جهة حيِّ أبو
رمانة ببساتين ما أضحى يُعرَف اليوم بحيِّ
المالكي، ومن جهة مدرسة اللاييك ببساتين
الأزبكية. بينما كانت حدود المدينة من جهة حيِّ القصاع تتوقف عند "كازية ديوانه"
التي كانت أيضاً محاطة بالبساتين من كل جانب... وتستعيد
ذاكرتي صورة دمشق آنذاك من خلال هدوئها
ونظافتها... حين كان العدد الإجمالي لسكانها
لا يتجاوز الثلاث مائة وخمسين ألفاً من أصل
أربعة ملايين نسمة كانوا يشكِّلون مجمل سكان
سورية. وكان بردى ما يزال نهراً جميلاً
يُتغنَّى به على لسان الشاعر الكبير سعيد عقل
ويصدح بصوت فيروز أنْ... "ردَّ لي من صبوتي يا بردى...
ذكريات..." تعيدني اليوم إلى الحادث الطريف التالي:
حين التقينا فجأة، وكنَّا نتنزه قرب مدرسة
الفرانسيسكان، بعمِّي رزق الله (828) الذي كان
يتدرج ببطء متجهاً إلى مكتبه. فاستوقفنا،
وسألنا مازحاً وموجهاً حديثه إلى كميل (829) : -
ما القصة يا كميل؟ فأجابه هذا
الأخير بعفوية: -
إنه انقلاب يا عمو! فنظر عمِّي
إليه بتعجب وقال له: -
بالله عليك؟! ثم ابتعد عنا
ضاحكاً، بينما انفجرنا جميعاً أيضاً ضاحكين
لما حدث، وأضحى موضوع تندر فيما بيننا.
وعدنا بعد
بضعة أيام إلى مقاعد الدراسة. كان يجب علينا
أن ننجز خلال هذا العام، إلى جانب البرنامج
الدراسي الرسمي، برنامجاً مكثفاً آخر
يمكِّننا من التقدم، في نهاية السنة الدراسية، إلى امتحانات الجزء الأول من شهادة
الباكالوريا الفرنسية. كنَّا ثمانية طلاب
منتقين لهذا الغرض، وكان علينا أن نداوم في
المدرسة ما يقرب من الثماني ساعات يومياً،
وأن ندرس، إضافة لذلك، (في المنزل) ما لا يقل
عن أربع ساعات أخرى كل يوم لنكمل برنامجاً كان
أهم ما يشتمل عليه: الأدب الفرنسي، الرياضيات
والفيزياء والكيمياء، التاريخ والجغرافيا
الفرنسيتين. وأشير هنا إلى أن المادة الأخطر
بالنسبة لنا كانت مادة الأدب الفرنسي، التي
كان علينا في امتحانها النهائي انتقاء موضوع
أدبي من أصل ثلاثة والكتابة فيه، مع الأخذ
بعين الاعتبار أن ارتكاب خمسة أخطاء قواعدية
و/أو إملائية كان كافياً لترسيبنا – الأمر
الذي جعلني أركِّز بشكل أساسي على الدراسة،
ولكن دون أن أخفف، كأيِّ فرد سوري في تلك
الأيام، من متابعتي اليومية (التي لا تقدم ولا
تؤخر) للأمور العامة، وخاصة لأمور البلد الذي
لم تكن الأحوال فيه على ما يرام... فالخلاف كان
على أشده بين الحكام في سورية والحكام في مصر،
التي كانت وسائل إعلامها تهاجم قادة "الانفصال"
بشراسة وتتهمهم (على الطريقة التقدمية) بـ"الرجعية"
و"العمالة"، فترد عليها وسائل إعلامنا
الصاع صاعين... الأمر الذي ترك أثراً سلبياً في
أوساط شارعنا السياسي المراهق عموماً، ولدى
ضباط الجيش، حيث كانت الصراعات على دوائر
النفوذ والمراكز على أشدها، وحيث عُيِّن أحد
أقل الرتب العليا نفوذاً، اللواء عبد الكريم
زهر الدين (830) (من جبل الدروز)،
قائداً للأركان العامة. وكان ما "وصفوه"
هروب السرَّاج (831) من سجنه ولجوئه إلى
القاهرة،
وإبعاد المقدم حيدر الكزبري (832)، أحد أهم ضباط
الانفصال، بداية تفكك ما أسموه كتلة "الضباط
الشوام". تلت ذلك استقالة حكومة الدكتور
مأمون الكزبري (833)، وتكليف (العسكر)
الموظفَ
السيد عزَّت النص (834) بترؤس حكومة تكنوقراطية
مهمتها الإشراف على الانتخابات التي تقرَّر
لها أن تجري في الأول من كانون الأول 1961... تلك
الانتخابات التي تمخضت الإرادة الشعبية من
خلالها عن مجلس نيابي محافظ في غالبيته،
وكانت – لسخرية القدر – آخر انتخابات حرَّة
شهدتْها البلاد خلال القرن العشرين... وكان خوض عمي
رزق الله (835) لهذه الانتخابات في حلب موضوع نقاش
في حلقتنا العائلية. فقد استنكر أبي (836) وعمي جورج
(837)
سلوك شقيقهم، الذي رشح نفسه منفرداً في حلب،
ضمن قائمة جماعة الإخوان المسلمين! "لأنه لم
يُرشَّح هناك هذه المرة ضمن القائمة المشتركة
للحزبين الشعب والوطني، حيث تم استبدال السيد
ليون زمريا (838)
به، فاختلف مع جماعته، و[ربما؟]
بالتنسيق مع صديقه معروف الدواليبي (839) الذي كانت
له علاقات جيدة بالإسلاميين، ترشَّح مع قائمة
الأخوان، الأمر الذي أفقَدَه الكثير من
الأصوات المسيحية والأرمنية التي كانت تدعمه
تقليدياً، مما أدى إلى سقوطه." وكان من أبرز
معالم تلك الانتخابات سقوط (البعثي) السيد
صلاح الدين البيطار (840) في
دمشق، ونجاح السيد
أكرم الحوراني (841) وجماعته (الذين كانوا مازالوا
بعثيين في حينه) في حماه، وفوز السيد عصام
العطار (842) (المرشد العام للإخوان المسلمين في
سورية) واثنان من جماعته في دمشق، التي حصل
السيد خالد العظم (843) فيها على أكثر
الأصوات،
وثاني الأصوات في سورية؛ إذ حصل السيد رشدي
الكيخيا (844) في حلب على أكثر الأصوات في سورية... ثم كان انتخاب
المجلس النيابي للسيد ناظم القدسي (845) (من حزب
الشعب) رئيساً للجمهورية، وللدكتور مأمون
الكزبري (846) (مستقل)
رئيساً لمجلس النواب. وجاءت
حكومة الدكتور معروف الدواليبي (847) (من حزب الشعب)،
التي أبقت نسبياً على الإصلاح الزراعي، لكنها
أعلنت، في نفس الوقت، عبر بيانها الوزاري،
إلغاء تأميمات جمال عبد الناصر (848)
الأخيرة، مما
أدى إلى حدوث مظاهرات طلابية وعمالية صاخبة
في العاصمة وفي بعض المدن السورية الأخرى. فالشارع
السياسي كان ناصرياً... وبالتالي، كان رافضاً
لما حصل، ولما نتج عنه من تغيرات أعادت مظاهر
السلطة إلى الأحزاب التقليدية السورية... هذه
"الرجعية" التي فرَّقت المظاهرات
المعادية لها، من دون اعتقالات ولا ضحايا،
بواسطة شرطة مكافحة الشغب... بينما كانت
إذاعات القاهرة وصحفُها تبالغ، على الطريقة
"التقدمية"، في تصوير أهوال قمعها
والعدد المرتفع جداً لضحاياها! وكنت أتابع
الأخبار من خلال الإذاعة والصحف التي أصبحتُ
مهووساً بقراءتها، وخاصةً منها الصحف
المحلية التي عاد معظمُها إلى الصدور، كـالنصر
والأيام والرأي العام، وخاصة العزيزة
جداً المضحك–المبكي، التي كانت صحيفة
عائلتنا المفضلة، والتي أتذكر من بين
مقالاتها تعليق ذلك "الحمار" الذي كان
يحلِّل، "بمنتهى الذكاء والطرافة"،
الأوضاع السياسية في البلد، كصِدام الأستاذ
أكرم الحوراني (849) مع رئيس
الوزراء، وتلك
المظاهرات المعارِضة للحكومة التي عمَّت
البلد نتيجة إلغاء الحكومة للتأميمات... ولم أشترك
بهذه المظاهرات، رغم أن عواطفي خلالها كانت
طبعاً إلى جانب المتظاهرين. فقط هربت يومها من
المدرسة لمعاينة الأحداث عن قرب. وفي الطريق
التقيت بـ"صديق طفولتي" الذي كنت استعدت
علاقتي القديمة به، فاروق (850) الذي كان شارك في
تلك المظاهرات والذي اكتشفتُ، لعظيم سروري،
أنه كان يشاطرني معظم آرائي وأفكاري "الثورجية".
ففي حينه كانت توجهاتي الاشتراكية قد تجذَّرت
وأضحت أقرب إلى الشيوعية؛ ولكني لم أكن قد
انتسبت بعدُ إلى أي حزب، وإن كان موقفي من
الدين ورجاله مازال مسايراً، وإن أضحى أكثر
سلبيةً... وأتساءل اليوم
حول سبب تفضيلي الشيوعيين عن غيرهم، ولماذا
لم أتقرب يومها من البعث أو من الناصريين،
الذين كانوا يشكلون المعارضة الحقيقية للوضع
الراهن؟ ربما لأني كنت
أصبحت رافضاً بحدِّة للفكر القومي! وقد تأكدت
من هذا، خاصةً بعد أن أعارني أحد زملائي من
المدرسة كتاب كفاحي لهتلر، الذي شعرتُ
بالتقزز فور شروعي بقراءته؛ ولما لم أستطع
تجاوز نصفه الأول ألقيته جانباً، ثم أعدته
شاكراً إلى من أعارني إياه، وقطعت صلتي به منذ
ذلك الحين... وأفكر أن سبب
نفوري الباكر من أيِّ فكر قومي متعصب، الذي
مهَّد من بعدُ الطريق لاختياري العقائدي
اللاحق، كان يعود، من بعض جوانبه، إلى تلك
الثقافة التي رضعتها في منزلي، التي كانت
ليبرالية وإنسانية معاً، والتي كانت تلتقي مع
تلك الثقافة الأخرى التي تلقَّنتها في
المدرسة – وكانت مسيحية وإنسانية معاً. أما الجانب
الثوري فقد كان وراءه رفضُ الأوساط المحيطة
بنا، من عائلية، خاصة، وغير عائلية، عموماً... وأتذكر ذلك
اليوم الذي أتيت فيه إلى منزل عمي رزق الله (851) –
وقد كنت متفقاً على اللقاء مع ابنه كريم (852) –
وكيف استقبلتني امرأة عمي (ماري المعلِّم (853)،
رحمها الله) بجفاء، وقالت لي من دون مقدمات: -
لقد سمعت أنك أصبحت
شيوعياً يا أكرم (854). انتبه! إن هذا لا يناسبنا.
فنحن أغنياء وسنبقى أغنياء! ولم أستطع
إجابتها. فصداقتي لابنها، من جهة، وعمق
المفاجأة، من جهة أخرى، منعاني من ذلك. ولكن
كان شعوري حين تركت منزلها شعوراً عميقاً
بالغضب وبالألم... ذاك الألم الذي كان والدي (855)
أفضل من عبَّر عنه. فحين حدَّثته بما جرى معي
ابتسم بسخرية وعلَّق قائلاً: -
لقد نسيتْ ماري أنها كانت
ذات يوم فقيرة! نعم لقد نسيت
– رحمها الله – وقد صارت غنية على هذه الأرض،
كما نسي سواها ممَّن صاروا أغنياء في عالمنا،
أنهم كانوا ذات يوم فقراء. أما أنا، وإن اختلف
اليوم طريقي، فإني لا أستطع أن أنسى ما يمكن
أن يحمله العوز الإنساني من مذلة، كتلك التي
شاهدتها حين... كنت عائداً في
ذلك المساء إلى منزلي، وكان الشارع خاوياً،
عندما التقيت ذلك الإنسان القابع عند حاوية
القمامة. هو لم يرني لأنه لم يكن بمقدوره أن
يرى أحداً بسبب انهماكه في طعامه الذي كان
يستخلصه من الحاوية. صُعِقْت وكدت أن أتقيأ!
وحين اختليت بنفسي في تلك الليلة لم أستطع
النوم، كما لم أستطع البكاء... وكانت شلتي
المدرسية ما تزال حلقتي الأساسية الوحيدة إلى
جانب عائلتي. وضمن إطار العائلة، كانت شقيقتي
إكرام (856)، التي كان عمرها آنذاك أربعة عشر
عاماً، قد أصبحت كاتم أسراري، وباتت تشاركني
معظم أفكاري. أما سمير (857) الذي
كان تجاوز الأحد عشر عاماً فكان يجاهد بمعونة
عمُّو جورج (858) لتجاوز الصف الثاني الابتدائي في
مدرسة الفرير. وكان وضعه كأكبر من في الصف قد
أضحى مزعجاً بالنسبة لإدارة المدرسة ولباقي
طلاب صفِّه. "اتصل يومها
مدير المدرسة الأخ إيزيدور (859) بوالدك
(860) ودعاه إلى
المدرسة لمناقشة وضع سمير. وبصعوبة استطاع
أريس أن يقنعه بأن يتحملوه، كرمى لنا، سنة
إضافية أخرى... فقط سنة واحدة أخرى، ثم نرى
بعدها ماذا بوسعنا أن نفعل بخصوصه..." وكنَّا مازلنا
نسكن في منزل الجسر الذي كان رائعاً من حيث
موقعه. لكن بسبب صغر مساحته، وانتقال عمِّي
جورج (861) للسكن معنا، أصبحنا نفكر ونبحث بجد عن
منزل آخر أوسع للانتقال إليه... وكان صباح ذلك
اليوم الأربعاء 28 آذار 1962، حين... فوجئت، وأنا
في طريقي إلى المدرسة، بوجود حركة غير
اعتيادية في شوارع العاصمة، وبصوت الراديو،
عبر شرفات بعض المحال التجارية التي كانت
تفتح باكراً، يذيع الموسيقى العسكرية وقد
تجمَّع حوله بعض المارة. وحين وصلت أمام
البرلمان فوجئت بوجود مصفحتين وجنود مدججين
بالسلاح يحيطون بالمبنى. فتيقنت بما كنت شككت
به منذ اللحظة الأولى... أن انقلاباً عسكرياً
جديداً قد وقع! لكني لم أتجه عائداً إلى المنزل، إنما
أكملت طريقي إلى المدرسة، التي صرفنا الرهبان
منها فوراً إلى منازلنا، على أن نستأنف
الدوام في صباح يوم السبت القادم، إن كانت
الأمور هادئة وطبيعية. والطريف يومها أنهم لم
يمنعوا التجول. فعدت وأصدقائي إلى حيِّ
الصالحية، حيث تنزهنا قليلاً في وسط المدينة
لنعاين عن قرب أوضاع الانقلاب الجديد. ثم
ذهبنا إلى منزل كميل، حيث اتصلنا كلٌّ بأهله
لطمأنتهم. وجلسنا، بعد أن فتحنا المذياع
لنتابع من خلاله تطور الأوضاع، نلعب "فتة
بوكر" على شرف هذه المناسبة التي قدَّمت
لنا يومي عطلة مجانيين! وأتوقف هنا قليلاً،
لأنه... مازلت أجدني،
حين أعاود التفكير بما جرى آنذاك، أقف
حائراً، غير قادر تماماً على التقويم الأصح
والأدق. فمن قام بالانقلاب الأخير الذي
استعادت بموجبه "... القيادة العامة للجيش
والقوات المسلحة، تحقيقاً لرغبات الشعب [الذي
لم يستشره أحد] وحفاظاً على مكاسبه [المهدورة]
وأمنه [المستباح] زمام الأمور في البلاد..."
و"... قبلت [بالنيابة عنه وبلا تفويض]
استقالة رئيس الجمهورية..." السيد ناظم
القدسي (862) الذي أضحى سجيناً في المشفى العسكري
في المزة، بينما تحول باقي زملائه من النواب
والسياسيين، الذين حلَّ العسكرُ مجلسَهم،
إلى نزلاء في سجن المزة – من قام بالانقلاب
كان تحديداً نفس الشلَّة من "الضباط الشوام"
الذين قاموا بالانقلاب الانفصالي برئاسة
المقدم عبد الكريم النحلاوي (863)، حيث... يبدو، كما
أصبح اليوم ثابتاً، أن هؤلاء الضباط "الشوام"،
الذين شعروا في حينه بعزلتهم وبضعف مواقعهم،
في جيش كان الهيكل الغالب لبنيته، كما سبق
وأشرنا، من الريف ومن الأقليات، والذين كانوا
في نفس الوقت، غير مقتنعين (إن لم نقل متخوفين)
من التركيبة السياسية التي أعادت، عبر
الديموقراطية والشرعية البرلمانية
المفترضة، الأحزاب التقليدية إلى الحكم،
كانوا أقاموا كسابقيهم، من وراء ظهر الحكومة
الشرعية للسيد معروف الدواليبي (864)، قنوات اتصال
مع الرئيس "المصري" جمال عبد الناصر (865)،
ولاقوا، كما صار واضحاً اليوم، تجاوباً منه
بهذا الخصوص. ولكن... إن كان على
التاريخ أن يعيد نفسه فإن ما ينطبق على حالنا
هنا، هو مقولة ماركس القائلة (مع بعض التحريف
من جانبي) أن: يعتبر تكرار التاريخ مهزلة فيما لو قورن
بمأسوية المرة الأولى! فقد كان الفشل
الذريع لما خُطِّط له أمراً طبيعياً، يعود،
من حيث مسبباته، إلى واقع أن أغلبية ضباط
جيشنا لم تكن ترغب، بكل بساطة ورغم كل
ادعاءاتها الوحدوية، إعادة الوحدة مع مصر... وكانت بضعة
أيام عمَّت الفوضى خلالها قطاعات الجيش...
فكانت تمردات وضحايا في بعض القطعات العسكرية.
ثم انعقد مؤتمر للقادة العسكريين في حمص، تم
الاتفاق فيه على إبعاد "شلَّة النحلاوي (866)
ودهمان (867) وعصاصة
(868) إلخ." عن البلاد، من جهة،
وإبعاد غلاة الناصريين (كجاسم علوان (869) ولؤي
الأتاسي (870)) عن الجيش، من جهة أخرى. كما اتفق
المجتمعون (مؤقتاً) على انتخاب قيادة عسكرية
تمثلهم، وعلى إعادة الرئاسة (مؤقتاً أيضاً)
إلى السيد ناظم القدسي (871)، الذي أُطلِقَ سراحُه
في 13 نيسان 1962 من سجن المشفى العسكري وأعيد
إلى قصر المهاجرين. كما اتفقوا أخيراً على عدم
التطرق لإعادة المجلس النيابي المنحل، إنما
على مسايرة عبد الناصر (872) وعلى تشكيل حكومة
مؤقتة تبزُّه "تقدمية"! وجاءت حكومة
الدكتور بشير العظمة (873)، التي كان السيد رشاد
برمدا (874) فيها وزيراً للتربية والتعليم... و كانت شائعات "الشارع السياسي"
تتحدث عن انشقاقات تمخضت عن المؤتمر القومي
الخامس لحزب "البعث العربي الاشتراكي"،
الذي تركه السيد أكرم الحوراني (875) وجماعته
المعارضين بشدة لإعادة الوحدة مع مصر، وبات
هؤلاء يعرفون بـ"الاشتراكيين العرب" (تسميتهم
القديمة)، بينما احتفظ البعثيون التقليديون (من
جماعة ميشيل عفلق (876) وصلاح البيطار
(877)) بتسمية "البعث
العربي الاشتراكي" وصاروا يبدون، ظاهرياً،
مواقف مؤيدة لإعادة الوحدة مع عبد الناصر (878). وما
بين هذين الجناحين، اللذين سرعان ما أصبحا
أخوة أعداء، كانت مجموعة صغيرة من المدنيين
بقيادة السيد رياض المالكي (879)، من العسكر الأقرب
أصولاً إلى جماعة الحوراني، تطالب بإبعاد
قادة الحزب التاريخيين (عفلق والبيطار
والحوراني)، من جهة، وبإقامة حكم بعثي "وحدوي"،
من جهة أخرى؛ وقد باتت هذه المجموعة تعرف بـ"القطريين"... لكني، وإن كنت
أتابع كل هذا باهتمام، فقد كان شغلي الشاغل هو
تقديم امتحانات الجزء الأول من الباكالوريا
الفرنسية. فالامتحان صار على الأبواب؛ وكان
تقرر أن يكون هذا العام في بيروت، وبالنسبة
للطلاب الشوام في "المدرسة الفرنسية للفتيات" École
française des jeunes filles هناك. وكان تبقَّى
أمامنا حوالى الشهرين فقط للامتحان حين
أُخبِرنا أنه يجب علينا أيضاً التقدم باختبار
في الرياضة، هو عبارة عن بعض التمارين
السويدية وتسلق الحبل وإلقاء الكرة والجري.
فبدأت أهيِّئ نفسي للموضوع من خلال المدرسة
التي لم نكن نمارس فيها بشكل نظامي أي نوع من
أنواع الرياضة... ثم كان أوائل
حزيران 1962، وسفري إلى بيروت لتقديم تلك
الامتحانات التي كانت بالنسبة لي صعبة نسبياً
وطريفة معاً. وأولى
مفاجأتها السلبية غير السارة كان امتحان
الرياضيات، الذي توقعت أن أبدع فيه، فكان
متوسط النتيجة؛ تلاه امتحان الرياضة الذي كان
مأسوياً! ثم جاء امتحان الأدب الفرنسي الذي
كان متوسطاً، فامتحان التاريخ الذي كان فوق
الوسط بقليل... وكنت حللت في
حينه ضيفاً على خالتي أوديت (880) التي كان ابنها
نبيل (881) يتقدم لنفس الشهادة بسهولة فائقة (فمدارسهم
في لبنان كانت دائماً أفضل من مدارسنا
السورية). أما رفاقي فكانوا ينامون في فندق
متوسط الحال في ساحة البرج. وكانت مدة
الامتحانات ثلاثة أيام، أتذكر خلالها جيداً
كيف سألتني خالتي في مساء يومها الثاني: -
هل تعتقد يا أكرم (882) أنك
ستنجح من الدورة الأولى؟ فأجبتها: -
ربما... إن حصلت غداً على
العلامة الكاملة في امتحاني الفيزياء
والكيمياء! فضحكتْ ولم
تعلق... ولكن، كان هذا
ما حصل فعلاً... حيث تقدمت بسهولة لهذين
الامتحانين الأخيرين الذين أضحى يتوقف
عليهما نجاحي من الدورة الأولى. وحين سألتني
خالتي من جديد، وقد عدت إلى منزلها بعد
الامتحان: -
كيف كانت امتحاناتك
اليوم؟ أجبتها: -
كانت رائعة يا خالتي!
أعتقد أنَّي سأنجح، كنبيل، من الدورة الأولى! نجح من
مدرستنا يومها، من الدورة الأولى، أنطون نصري
(883)
وأنا (884)؛ ثم نجح أربعة طلاب آخرون، هم كميل لكح
(885)
وأطناس بقلة (886) ونواف نصير
(887) ووسيم عبد الله
(888) في "شفهي"
الدورة الثانية. وهكذا أصبح مجموع من نجح هذا
العام في امتحانات الباكالوريا الفرنسية –
جزء أول – ولأول مرة في تاريخ العازرية منذ
أكثر من عشر سنوات – ستة طلاب من أصل ثمانية...
الأمر الذي كان مدعاة سرور واعتزاز كبير
لإدارة المدرسة، عامة، ولنا ولأهالينا، خاصة... وكان يجب
علينا خلال هذا الصيف الذي يلي الصف الحادي
عشر أداء معسكر "الفتوة" الذي كان يقام،
بالنسبة للطلاب "الشوام"، في سهل
الزبداني قرب نبع بردى. وكانت خمسة عشر يوماً
طريفة انقضت بسرعة فائقة ما بين الرياضة
والتمارين شبه العسكرية والمحاضرات "العقائدية"
والمسيرات النهارية والليلية...
وجاء أبي (889) وأمي
(890)
ذات مرة لزيارتي خلال هذا المعسكر... وسألتني
والدتي: -
كيف انطباعك عن المعسكر يا
"روح أمك"؟ فأجبتها
مازحاً: -
رائع يا ماما! لقد قررت
نتيجته، وفور انتهائي من الباكالوريا، أن
أنتسب إلى الجيش! فسألني والدي
مبتسماً، وقد أعجبه جوابي: -
ولماذا صرت تريد الانتساب
إلى الجيش يا ... ؟ فأجبته ضاحكاً: -
لكي أقوم بانقلاب وأستلم
الحكم في البلد... صفعت والدتي
وجنتيها، وقالت لي بانفعال: -
أنا لم أرعَك كل هذا العمر
يا ابني حتى تتركنا وتصير عسكري! فقد كان مفهوم
"العسكري" بالنسبة لها مرادفاً للفاشل!
ونضحك أنا ووالدي الذي سرعان ما أجابها: -
يا الله شو حمصية يا روزين!
ألا ترين أنه يمزح؟! وعدت بعد
معسكر الفتوة إلى دمشق، حيث قضيت باقي الصيف
مع العائلة. فأوضاعنا المادية لم تكن تحتمل
المزيد من المصاريف، خاصة وأن أهلي كانوا
منهمكين بالانتقال إلى منزل مستأجر جديد آخر
في الطابق الثالث من بناية واقعة في حي
الشعلان، خلف وزارة المواصلات، وخلف ما كان
ذات يوم منزل المرحوم السيد صلاح الدين
البيطار (891) وشقيقته الذي أزاله التنظيم فيما
بعد، وأضحى مدخل ما يدعى اليوم بـ"شارع
الحمراء". وقد انتقلنا إلى هذا المنزل في
أوائل صيف عام 1962، وما زالت والدتي وشقيقتي
ريما تسكنانه إلى اليوم... ومرَّ الصيف
الذي قضيته في لعب الشدة مع أصدقائي... وأقصد
في أوقات الفراغ (فقط!)، أي حين لا أكون على
اتصال بفاروق (892)، الذي بتُّ أستمتع بالنقاش معه
أكثر من أي شخص آخر، أو حين لا أطالع ما كان
يتيسر لي من كتب كان يمرِّرها إليَّ هذا
الأخير. ففاروق أضحى، مع الأب جورنياك (893)،
مزوِّدي الرئيسي بالكتب. وقد قرأت يومها، على ما أذكر،
رواية الأم لمكسيم غوركي. لكنها لم تترك
لديَّ أثراً كبيراً بسبب ما أحسست فيها من
سطحية. كما تعمقت في التعرف إلى جان بول
سارتر، الذي قرأت له مسرحية الشيطان والإله
الطيب التي تأثرت بها كثيراً، وكانت نقطة
علام في تسريع اندفاعي اليساري. وقرأت رواية الوضع
البشري لأندريه مالرو، فتأثرت بعمق وصفها
للحال التعس للعمال الصينيين المستعبَدين،
وعمق تحليلها النفسي لحال المثقفين
المناضلين في سبيل معتقدهم الأممي. وقرأت كتب
شعر كثيرة، وخاصة للشاعر الفرنسي المعاصر جاك
بريفير، فاستحوذت عليَّ قصائده بجمالها
وإنسانيتها. ومرَّرتُ،
طبعاً، بعض هذه الكتب إلى أصدقائي كميل (894) ونواف
(895)
(من شلتي)، لكنها لم تترك لديهما أي أثر.
فشلَّتي، رغم حبها للمطالعة، لم تكن تشاركني
ميولي التي ازدادت تبلوراً وجذرية... ولم أقرأ خلال
هذا الصيف، طبعاً، أي كتاب مدرسي، على عكس
زميلي، أشطر طلاب صفنا آنذاك، أنطون (طوني)
نصري (896)، الذي قضى الصيف بكامله يتهيأ للتقدم
إلى فرع "الرياضيات الأساسية" (Mathématiques élémentaires)، الجزء الأهم والأصعب من القسم الثاني
للباكالوريا الفرنسية، تلك التي كنت قررت،
وباقي زملائي، التقدم منها إلى فرع "العلوم
التطبيقية" (Sciences
expérimentales) لأنه
كان الأسهل؛ وحجتنا في ذلك كانت أنه كان يجب
علينا أيضاً التقدم في نفس الوقت للباكالوريا
السورية والحوز فيها على علامات مميزة
تمكِّننا من الانتساب إلى الكلِّيات التي
نرغب في جامعتنا السورية. وأعترف هنا أننا
كنَّا في أعماقنا قد تنازلنا، رغم بعض الشعور
بالغيرة، عن سعينا للفوز بالمنحة الجامعية
الفرنسية الوحيدة التي كانت مخصصة لمدرستنا،
لصالح طوني الذي كان أجدرنا بها... "لأنه كان
يدرس، بينما كنت أنت تتابع الأخبار السياسية!" كما كان
الجميع في سورية يتابع بتعاطف أخبار الجزائر
وهي على مشارف استقلالها... سورية التي لم
تستقر الأوضاع فيها بعد مجيء حكومة الدكتور
بشير العظمة (897). فالقاهرة لم ترحب بهذه الحكومة
التقدمية، إنما قابلتها بالمزيد من العداء؛
الأمر الذي أدى إلى الاستقالات المتتالية
لعدد من الوزراء الذين كان بعضهم قد أضحى، من
حيث توجُّهه العام، أقرب إلى الخط الناصري،
كالسيد نهاد السباعي (898) الذي كان ذات يوم من حزب
الشعب، والسيد عبد الله عبد الدائم (899). أما السيد
عبد الحليم قدور (900)، الذي استقال أيضاً، فقد كان
أقرب إلى "الاشتراكيين العرب" من جماعة
أكرم الحوراني (901)... وتفاقمت
الأوضاع بين سورية ومصر إلى حدٍّ تقدمت فيه
الجمهورية العربية السورية (كما أضحى اسم
سورية منذ الانفصال) بشكوى ضد مصر إلى جامعة
الدول العربية. فكان مؤتمر شتوره الذي نشر على
الملأ الغسيل الوسخ لعهد الوحدة المنصرم... -
ما رأيك بمؤتمر شتوره يا بابا؟ -
أكل هوا وبهدلة يا بني! -
ليش يا بابا؟! أليس ما قيل فيه "حقائق"؟! -
وهل تتخيل ماذا يمكن أن يحصل في عالم لا
نقول فيه بعضنا لبعض إلا الحقائق! وبهدف الخروج
من المأزق الدستوري الذي بات يعيشه الوضع
السوري منذ انقلاب 28 آذار 1962، كانت دعوة أعضاء
المجلس النيابي الذي حلَّه العسكر إلى
الاجتماع في منزل السيد خالد العظم (902)، حيث
قرروا حلَّ أنفسهم بأنفسهم، وإعادة الاعتماد
المبدئي لدستور عام 1950، وتكليف صاحب الدار
ترؤس الوزارة (التي كانت الأخيرة لذلك العهد)،
بهدف التهيئة لانتخابات جديدة... تلك الوزارة التي كلَّفه الرئيس القدسي
بتشكيلها، وأُعلِنَت في 17 أيلول 1962. وقد سعى
السيد خالد العظم (903) – رحمه الله – جاهداً لأن
يجعل منها "وزارة وحدة وطنية" تضم جميع
الفعاليات السياسية السورية لتلك الأيام،
بدءاً من اليمين التقليدي، الذي كان ممثلاً
بالسادة رشاد برمدا (904) (أحد أكثر أعضاء حزب الشعب
يسارية) للتربية والتعليم، وأسعد الكوراني (905)
للأوقاف، مروراً بجماعة أكرم الحوراني (906)،
الذين كانوا ممثَّلين بالسادة خليل الكلاس (907)
للمالية، وعبد الحليم قدور (908) للإعلام، فالبعث،
من خلال السيد منصور الأطرش (909) للشؤون
الاجتماعية والعمل، وصولاً إلى الإخوان
المسلمين، من خلال السادة عمر عودة الخطيب (910)
للتموين، ونبيل الطويل (911) للصحة؛ كما ضمَّت
الوزارة أيضاً الضابط السابق من اللجنة
العسكرية لعهد ما قبل الوحدة السيد أمين
النفوري (912) للإصلاح الزراعي، إضافة إلى عدد من
أبرز الشخصيات والكفاءات الوطنية المستقلة،
كالمهندس صبحي كحالة (913) للمواصلات، والمهندس
روبير الياس (914) للأشغال العامة، والدكتور عزت
الطرابلسي (915) للاقتصاد الوطني... ولكن تطلعات
العظم (916) لم يُكتَب لها النجاح من اليوم الأول.
فالبعث باتت له، على ما يبدو، تطلعات أخرى؛ إذ
رفض، على لسان ممثِّله المقترح السيد منصور
الأطرش (917)، الاشتراك في الوزارة التي تجاوزت من
حيث "ديموقراطيتها" وزارة السيد بشير
العظمة (918)، فألغت حالة الطوارئ، وأعطت في حينه
تراخيص لجميع الصحف المعارضة كـ"البعث"
لصاحبها صلاح البيطار (919) (وكانت طبعاً للبعثيين)،
و"الوحدة" (للناصريين)، و"اللواء" و"المنار"
(للإخوان المسلمين) و"الرأي العام" (لأحمد
عسَّة، وكانت مؤيدة للعظم عموماً، كما كان
يكتب فيها أيضاً بعض الشيوعيين)، وأخرى
لجماعة الحوراني، إلخ. الأمر الذي لم يفسره
إيجابياً، لا الشارع السياسي المراهق، ولا
العسكر، إنما اعتُبِر أحد دلائل ضعف الحكومة
ورئيسها. ومما زاد الأمور سوءاً يومها كان... انقلاب الـ28
من أيلول 1962 في اليمن الذي قاده العقيد عبد
الله السلال (920) وأطاح بنظام الإمامة... وكانت
بداية الحرب الأهلية بين القبائل المؤيدة
للجمهوريين وتلك المؤيدة للملكيين... تلك
الحرب التي تورَّطت فيها مصر إلى جانب
الجمهوريين، بينما كانت السعودية والولايات
المتحدة تؤيدان الجانب الملكي. وكان أيضاً
انتخاب صديق الرئيس عبد الناصر (921)، السيد أحمد
بن بلا (922)، رئيساً للجزائر المستقلة... تلك
الأمور التي اعتبرها الشارع السياسي دعماً
لتوجهات القاهرة وانتصاراً لخط عبد الناصر
الوحدوي والتقدمي... ***
|
|
|