|
حول
نهضة الفن ووظيفته
والغزو
"الفضائي" وأشياء أخرى...
نشأت
المدرِّس
حلب،
سوريا الفن
يعكس
واقع الشعوب، ويطرح قضاياها، ويُظهِر
إيجابياتها وسلبياتها، ويمكن من خلاله أن
نقرأ المؤشرات الاقتصادية، والمواقف
الملتزمة، والحركات الإنسانية، والتفاعل
العام مع مستجدات الحياة؛ كما أنه يعكس لنا
مدى تفاعل شعوب المنطقة وتأثرها بالأمم
المجاورة. والتاريخ
هو أكبر مترجم لما أودُّ ذكره. ففي الماضي،
حينما لم يكن الإنسان مقيدًا بحدود، كان ثمة
منفذ أوسع للمعرفة وللثقافات الإنسانية
وللمجالات الإبداعية – فهذا هو تيار الحضارة.
وتمتلك الأمم والشعوب السالفة غنى زاخرًا،
يضجُّ بكل أنواع المعارف وأشكال الثقافات
التي مازلنا، إلى اليوم، ننهل من معينها
الخصب. أما
المجتمعات التي أغلقت نوافذها على التيارات
الفنية والإنسانية والحضارات الأخرى في
عصرنا الحديث فنراها تتخبط بفنونها
وإبداعاتها: فهي إما معتاشة على طحالب الماضي، وإما مقلدة في معظم الأحيان للتيارات
الأخرى، مما يوقعها في شرك الاضمحلال
والرتابة. فالشعوب
التي تبحث عن الارتقاء والتقدم لا بدَّ لها أن
تبحث عن وفر من الحرية لمبدعيها، وتؤمن
المزيد من الاهتمام بعلومها وفنونها، وتلغي
كل الحواجز أمام علومها الإنسانية
والإبداعية، لتضمن سلامة ارتقائها، وتدعم
قواعد حاضرها، ولا تكتفي بالنظر إلى نبض
الماضي الغابر لأنه، في نهاية المطاف، كل ما
لا ينبع ينضب! هذه
الناحية الإيجابية ربما عرفها الغرب
وقدَّرها واستفاد منها استفادة جيدة. وربما
أدرك أبعادها في تسييس الشعوب والسيطرة عليها،
فساهم، بشكل أو بآخر، بوضعنا ضمن طوق
الانغلاق، مما تركنا في حالة من التراجع
الفكري والإبداعي، وجعلنا منغلقين ضمن حدود
ما يقدم لنا أو يفرض علينا. ونستطيع أن نعتبر
أن أسوأ أنواع الأسْر يتمثل في وضع أفكار
مبدعينا ضمن حدود وقوالب جاهزة تُقدَّم إلينا
من خلال وجبات سريعة لا تفي بالغرض ولا تعطي،
بأية حال من الأحوال، أيَّ دافع أو هدف أو
وسيلة لاقتحام الطوق الإنساني نحو الأمام.
ومردود هذا نراه اليوم بوضوح ونلمسه في
حاضرنا العقيم الذي نرفض، حتى الآن، بشكل أو
بآخر، أن نعترف بتردِّيه، ونبقى نحاول وندور
في نفس الدائرة التي لا قدرة لنا على الخروج
منها. فهل
يمكنك أن تضع أي إنسان لفترة زمنية طويلة في
غرفة غير مضاءة، ثم تُخرِجُه إلى الضوء
مباشرة، من دون أن تجد لديه كثيرًا من
التشوهات البصرية؟! إن
الحصانة التي يجب على المجتمع والدولة أن
يمنحاها للمبدع وللمثقف شيء ضروري، يساعده
على التحرك في جميع الاتجاهات بحرية ودون
عوائق، مما يحسِّن من أدائه ويمنحه قدرة
الاختيار الأنسب لمصادره وروافد إبداعاته. ولكي
نحسِّن نوعية المنتَج الإبداعي لدى شعوب
منطقتنا علينا أن نُحسِن التصنيف والتبويب
والترتيب. فلا يمكنك أن تصنع من غابة بستانًا
جميلاً منسقًا بدون أن تفرز، وترتِّب،
وتسيِّج، وتروي، وفي بعض الأحيان تتلف ما ليس
مفيدًا. وهنا تكمن الخصوصية في الإبداعات
الفنية والثقافية التي تأخذ الطابع الإنساني
لواجهة هذه الشعوب وإغناء مخزونها الحضاري
الحديث. وعلينا
أن نأخذ في الحسبان دائمًا أن الأماكن
والإمكانات خُلِقَت من أجل المبدعين، وليس
العكس: فأعظم المسارح بُنِيَتْ لأجل
الإلياذة
والأوديسة، وليس العكس. وها
نحن على أبواب عصر حديث، مليء بالضخِّ
الإعلامي. وهنا يجب على الإعلام أن يفهم دوره
الحقيقي في ارتقاء المجتمعات، ويساهم في فرز
ما يضخُّه من ثقافات وتيارات، وأن يكون سليم
النوايا في توجُّهاته، لنستطيع، في نهاية
المطاف، أن نحصل على مادة مصفَّاة من كل
الشوائب والسموم التي يمكن أن تجهض وليد
الوقت الصعب الذي هو الإنسان المبدع الفنان. 14/2/2003
*** أتذكر
تمامًا
ذلك اليوم الذي هبط فيه أول الصحون اللاقطة
للأقمار الصناعية على أسطح أحد الأبنية في
مدينتي حلب. والمدة ليست بالبعيدة جدًا؛ فهي
بضع سنوات خَلَتْ من يومنا هذا. لا أعرف كيف
تعامل معه زوَّار البناء الذين استقبلوه
كوافد جديد، معززًا مكرمًا، واختالوا،
واعتبروا أنفسهم مميَّزين: فربُّ العالمين
أكرمهم وميَّزهم به! نحن،
على امتداد العالم العربي، تزورنا
التكنولوجيا كمحطة أخيرة في رحلاتها عبر ما
هو مسموح وممنوع. وعندما تحل علينا بثوبها
البهيج السعيد لا بدَّ لهذا من أن تحلَّ أهلاً
وسهلاً عند وجهائنا، فيقرعون لها الطبول
والزمور، ويطلقون لها الزغاريد، وينصبون لها
الزينات الإعلانية، ثم يُخضِعونها لفطور عمل، وغذاء
عمل، وعشاء عمل، ثم يقدمونها
إلينا بعد أن يحمِّلوها شعار: "اصرف ما
بالجيب يأتيك ما بالغيب"! لن
أطيل فيما أسلفت. حسبي أن أقول إن الغزو "الفضائي"
لكوكبنا تحوَّل، في غضون عام أو أقل، شاملاً
كل مساحات المدينة والمدن المجاورة القريبة
والبعيدة، حتى أقاصي الريف النائي والداني،
إلى معسكرات حقيقية مكتظة بالوافدين الجدد
الذين أحبوا أن تكون سكناهم على أسطحة
الأبنية لأنهم مخلصون لوطنهم الأصلي: القمر!
فتبقى عيونهم شاخصة إليه، مسبِّحة بحمده،
ونداءاتهم ودعواتهم متواصلة، صعودًا وهبوطًا، منه واليه. آلاف
– بل ملايين – الصحون الفضائية تحتل اليوم
أسطحة العالم العربي. ونحن، من باب خصالنا
وأصالتنا وكرمنا العربي، بدأنا نرحِّب بها،
ونفتح لها المضافات، ونقدم لها خزائننا،
ونتحفها بكنوزنا. وبتنا نصادقها، ونرافقها،
ونثور بعضنا على بعض أمامها، نشتم ونكفِّر،
ونقدم لها قراءات مستقبلية تتناسب وفكرها
المتقدم الذي هضم ماضينا هضمًا جيدًا منذ زمن
طويل، وصار الآن يصبو إلى عقولنا، لا ليعرف ما
بداخلها، بل ليعرف إذا مازالت موجودة!
أدخلناها غرف نومنا، وجعلناها تلهو بألعاب
أطفالنا، وتجمِّل نساءنا، وتنام مع رجالنا.
صرنا نقدِّم لها كل يوم عيِّنات من أفكارنا
وآرائنا وسياساتنا، فتأخذها إلى مخابرها
لتحلِّلها، وتفرزها، وتطمئن إلى جميع
تداخلاتها، وتزوِّدنا بتقرير يومي عن مدى
استعدادنا للدخول في حضانة المنظومة
الفضائية! باتت
تعلِّمنا أن نحدِّث ونتحدث، وأن من واجباتنا
اليومية أن نجري تمارين يوغا فضائية لعيوننا،
بحيث نستطيع أن نرى مثلها: يمين يسار، فوق تحت، ولكن ليس للخلف ولا للأمام! علَّمتنا كيف
ننفق، وكيف نحلم، وكيف نضع جداولنا
الاقتصادية على ضوء بذخها وترفها. تدَّخلت في
أدياننا ومعتقداتنا، وصارت تقدم لنا
أنبياءنا بقوالب رومانسية حالمة، وقصص عشق لا
تنتهي! كيف لا، وهذا يقوِّينا ويزوِّدنا
بفيتامينات التقوى والورع التي تتناسب مع روح
العولمة والتجديد. صارت تتدخل في فنوننا
وإبداعاتنا، وتفرض على فنَّانينا الأتاوات،
وتعلِّمهم بأن طريق الفن ليست محفوفة بما
يبدعون، ولكن بما يدفعون! علَّمتنا
أن حروب القرن تبدأ وتنتهي في أيام. وما علينا، لكي نعيشها
بسلام، سوى أن نتزود
بأكياس من الموالح والمكسَّرات ونجلس أمام
عينيها، متابعين انتكاساتنا وانتصاراتنا في
أيام معدودة ومحسومة مسبقًا، نعود بعدها إلى
شارعنا العربي ونحن نغني رائعة كوكبنا: "هل
رأى الحب سكارى مثلنا"! علَّمتنا
أن نكون نحن عالمًا سفليًّا، وتكون هي، فوق
رؤوسنا، عالمًا علويًّا. وبعد أن حلَّت علينا
على الرحب والسعة، صارت اليوم تستحلُّنا. 19/2/2003
***
*** ***
|
|
|