أهل الكهف الأتقياء... الأشداء

 

أميمة الخش

 

قال قائل منهم: كم لبثتم؟ قالوا: لبثنا يوماً أو بعض يوم. قالوا: ربُّكم أعلم بما لبثتم.

صدق الله العظيم

 

مات البوذا... عاش البوذا...

في ليلة من الليالي الطويلة، الطويلة، وبعد أن أنهى طقوس المعبد، أحسَّ بالنعاس. كان نعاساً طاغياً. قاومه طويلاً، دون أن يفلح في إبعاده. استرخى. أخذ نفَساً عميقاً، وراح يفكر...

فكر في الماضي، والحاضر، والمستقبل... فكر كما اعتاد أن يفكر كل ليلة. لكن الصورة في تلك الليلة كانت أجلى، وأوضح.

***

حضر الماضي كما لم يحضر من قبل. صورته كانت صافية كعين ماء لم تَشُبْها شائبة...

شُبَّان هزيلو الأجسام، لكن أعوادهم قوية. وجوههم نحيلة، بارزة العظام، لكنها طافحة بالنور – نور يتركز في العينين، ويشعُّ من النظرة الجذلى.

هل كانوا مقارعين أشداء، عبروا الفيافي اللانهائية، وخاضوا معارك خرافية مع وحوشها، واقتحموا لهيبها، وخوَّضوا في رملها القاحل؟ أم كانوا متبتِّلين، دخلوا كهوفهم، وعاشوا فيها عشرات القرون، فنسوا لغة العالم، وصاروا يتخاطرون بلغة جديدة–قديمة، نسيها عالم اليوم، وداستها أقدام المدنيَّة؟!

أفاقوا من نومهم الطويل فجأة، والتفُّوا حول بعضهم بعضاً. تحدثوا بلغة عجيبة، لكنهم فهموها جميعاً – فأحسوا بقداسة ما يجمع بينهم!

كانت ظلمة الكهف كثيفة، لكنهم كانوا يرون كل شيء من غير ما حاجة إلى نور خارجي. تحدثوا طويلاً قبل أن يقرروا الخروج، ووصفوا لبعضهم بعضاً النهار، والشمس، والأفق في الخارج. حلموا بالبحر، بالمرج، بالناس الآخرين أمثالهم. لم يتحدثوا عن النور، لأنهم كانوا يعرفونه – يعيشون فيه. كان النور في عيونهم!

فكروا طويلاً... من يفتح لهم باب الكهف؟ من يقودهم؟ من يوقِّع خطواتهم؟ من يُوَلُّون عليهم؟ نظروا فيما بينهم... من هو البوذا؟

ارتدَّت نظراتهم لتحلِّق في سقف الكهف. لم يكن بينهم بوذا. كانوا جميعاً جسداً واحداً، وروحاً واحدة. كانوا كلهم بوذا!

فتحوا الباب بقبضة واحدة.

لغتهم من ضمير الكون، لكن العالم نسيها.

انطلقوا في رحلتهم الطويلة. واصلوا فيها ليلهم بالنهار. تحدثوا خلالها عن كل شيء. تحدثوا عما كان، وعما سيكون. تحدثوا بلغة الكهف الذي عاشوا فيه. كانت لغة عصيَّة على الفهم. عقل العالم تغير، وتنصَّل من لغة الضمير.

لكنهم لم يَكِلُّوا. ثابروا ولم يَكِلُّوا، تردفهم براءتهم وحسن نيَّتهم.

تعرضوا للهزء، للتفنيد. بعضهم رُجِم، وبعضهم الآخر سحقته الأقاويل: "تعاليمكم باطلة... حججكم غير معقولة... العالم كله يرفضكم... أنتم من عالم آخر... فعودوا إليه، ودعونا ننعم بالسلام!"

لم يشعروا، مع كل هذا الهول، بأية تعاسة. كانوا مغتبطين! كان المظلومون – كل المظلومين – إلى جانبهم. وهم قد جاؤوا من أجل هؤلاء، وهذا حسبهم.

طيبة كان لها أكثر من وحش! تربَّعوا عند بوابتها. أُغلِقت البوابة. "لن يدخل المدينة إلا من يفك رموز الأحجية!"

تقدم المتبتِّلون، المقارعون. فكروا طويلاً. كانت الأحجية أعقد من براءتهم وأصعب من تعاليم كهفهم. كانت الأحجية ثقيلة على كواهلهم – على صلابتها!

فغرت الوحوش أفواهها. "تعاليمكم لا تفكُّ أحاجي هذا العالم. تعاليمكم ستبقى حبيسة كهوفكم المظلمة... كهوفكم المنسيَّة... كهوفكم المندثرة... صلابتكم ستضعف. نحن الأقوى والأصلح!"

انكسرت أبصارهم وهم يساقون قسراً صوب الكهف. تلاشت وراء خطواتهم أصوات المظلومين وهي تردد: "إلى أين أيُّها الأشداء؟!"

في معابدهم الأبدية انتظروا طويلاً، وفكروا طويلاً. آمنوا بدورة الحياة، وبأن وحوش طيبة لابد زائلة، وبأن البوابة لابد أن تنفتح يوماً، وبأن عجزهم عن فك الأحاجي خاضع لمسيرة الزمن الذي سبقهم أشواطاً طويلة.

لكن البوذا فيهم لم يتعب. لم يتعب لأنه كان في كل واحد منهم، ولأنه ظل صاحياً. رغم العتمة ظل صاحياً. ظل يقيم الطقوس. ظل يتحدث مع ضمير الكون. ومن تعاليم كهفه المُنار، ظل يدوِّن، بكل لغات العالم، رموزاً مقدسة، خالدة، وأودع ما دوَّن في خزانة سرية، قبل أن يغلبه النعاس.

***

مرة أخرى شعر بالحاجة إلى النوم العميق.

الروح لا تتعب، لكن الجسم يتعب أحياناً.

تمدد، استرخى، وأخذ نفَساً عميقاً. ترك التفكير في الماضي والحاضر، ثم أطبق جفنيه، وراح عقله الباطن يسبر أغوار المستقبل.

البوذا نام. في كهفه نام. في معبده نام.

هو نائم. نائم فقط. لكن عقله الباطن يصنع المستقبل!

*** *** ***

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود