سيكولوجيَّة الحلم والنوم واليقظة

 

ندره اليازجي

 

قبل أن نتحدث عن التجارب الحديثة التي أجرِيَت مؤخراً في حقل النوم والحلم، يجدر بنا أن نقول كلمة في النوم ذاته بوصفه عملية ضرورية للكائن الحي. لما كان النوم هاماً كاليقظة فإن دراسته تستلزم جهوداً أكيدة وتجارب عديدة ودراسات دقيقة متقنة. ولما كانت تجاربنا محدودة ومعرفتنا ضئيلة جداً، فإن مقدمة كهذه قد تساعدنا على إدراك الخبرات العديدة المتصلة بالنوم واليقظة والحلم. هكذا، تنقسم دراستنا إلى ثلاثة فروع:

1.    النوم وكيف ننام؟

  1. الفرق بين الحلم واليقظة والنوم بدون حلم.
  2. التجارب العلمية الحديثة.

***

لا نستطيع أن ندخل في صلب الموضوع، بفروعه الثلاثة المتصلة، قبل التأكيد على أهمية النوم وضرورته. فمن جهة، تقوم هذه الأهمية على الضرورة؛ إذ لا يستطيع الإنسان أن يستمر في حياته بدون نوم.[1] ومن جهة ثانية، يُعتبَر النوم في دراستنا هذه معادلاً لليقظة ومماثلاً لها. ونحن، وإن كنا نجهل الكثير عن اليقظة والنوم، نؤكد أن النوم عملية فسيولوجية ونفسية شبيهة باليقظة. ولما كان الجسد الإنساني هو ذاته في حالتي النوم واليقظة، فإن ضرورة النوم وأهميته تعادلان ضرورة اليقظة وأهميتها.

أولاً: النوم ما هو؟ وكيف ننام؟

النوم عملية استغراق داخلي وغيبوبة تفعل فيها النفس أكثر من العقل. وفي تعريفنا هذا إشارة إلى أمور ثلاثة:

  1. عملية الاستغراق والغيبوبة.
  2. فعل النفس.
  3. فعل العقل.

يترتب علينا هنا أن نطرح السؤال التالي: كيف يكون النوم استغراقاً أو غيبوبة؟

في إجابتنا عن هذا السؤال نحاول أن نقارن بين عمليَّتي اليقظة والنوم. تُعَدُّ اليقظة عملية تفكير وشعور في حضور الموضوعات الملموسة أو المحسوسة. فنحن لا ننام إلا عندما يبطل تفكيرنا في هذه الموضوعات أو ينصرف عنها. لذا يصعب على أي إنسان أن يستسلم للنوم وهو يفكر في أمور خاصة أو معينة. على هذا الأساس، نسمِّي النوم استغراقاً أو غيبوبة، أي ولوجاً إلى عالم الداخل. ولكي نتفهم عملية الاستغراق وندركها، يجب علينا أن نقدم مثالاً على حالة التفكير.

في هذه الحالة، نفهم أن الفكر يتَّجه إلى الموضوعات الخارجية المحسوسة أو الملموسة. ويظل الفكر يقظاً ما دام يدرس موضوعاته، ويتدرَّج في فهمها، من أدنى مستوياتها إلى أعلاها، ويصنِّفها ويعبِّر عنها بحسب أشكالها ومفاهيمها، ويحاول أن يدرك تعقيدها. وتكون الحواس الخمس الوسائل الأولى المباشرة لتفكير الإنسان في حالة اليقظة. وعلى هذا الأساس، لا يتسنَّى للإنسان أن ينام وهو في حالة تفكير، إذ يظل العقل مشغولاً بحضور موضوعاته.

فلنتصور إنساناً جالساً في مكان هادئ جداً وهو يتأمل، أو يفكر، أو يتعمق في تفكيره: إنه بعيد عن الضجة، ولا يعكِّر صفوَ تأمُّله، أو شعوره، أو تعمُّقه في موضوع خارجي أي شيء؛ إنه مسترسل في عالم عميق من الفكر. ويتصل تفكيره دون أن ينقطع؛ إذ لا توجد ضجة أو صوت أو أية إعاقة تؤدي إلى توقف سيلان فكره أو امتداده. يمكننا أن نقول: إن هذا الإنسان يتأمَّل. وفجأة تقع المشكلة: يتدخل عامل من عوامل تعويق اتِّصالية التأمُّل:[2] فإما ضجة، أو حديث إنسان آخر، أو موضوع خارجي معين. فجأة يستيقظ المتأمِّل ويهلع أو يجفل... يبدو وكأنه مستغرق في غفلة. كان مستغرقاً في مستوى فكري متصل أرقّ من المستوى الفكري العادي اللامتَّصل. وفي غفلته، كان على وشك الدخول إلى نطاق الغيبوبة أو النوم. كان عقله مسترسلاً في عالم من الصور أو الشعور الداخلي. وفجأة، يعترضه موضوع يتدخل في تأمُّله ويعيده إلى حالته العادية. لقد عاد هذا المتأمِّل، النائم في استغراقه، إلى نطاق الدماغ، إلى عالم الحس المباشر، إلى يقظته الموضوعية واندماجه في الأحاسيس المادية المباشرة.

يحق لنا أن نتساءل: لو ظل هذا الشخص مسترسلاً في وضعه الشعوري أو الفكري الأرق لزادت صعوبة يقظته، وكانت عودته إلى الانتباه الحسِّي المباشر أكثر مشقة، وذلك لأن استرساله في امتداد فكره بلغ درجة أعمق وأسمى من الدرجة التي يمكن أن يبلغها العقل في حالة اتجاهه إلى العالم الخارجي واتصاله به. وهذا يعني أن العقل قد "صمت" وأوقف تفكيره المتقطع بالموضوع ليتصل بالموضوع ذاته اتصالاً أرقّ ويستغرق فيه.

نتساءل: ما هو هذا النطاق العقلي الأرقّ من النطاق الواقعي؟ وما هي تلك النشوة التأمُّلية أو العقلية الرقيقة؟ وما هو هذا الاسترسال الفكري المتَّصل غير المنقطع؟

يتجلى فهم هذه المسألة بالطريقة التالية: كان هذا الشخص مسترسلاً في تفكيره، متأملاً أو متداعياً، غير شارد[3]... لم يتدخل موضوع خارجي. وهذا يعني أنه كان مستغرقاً في ذاته، عبر صورة الموضوع، باتجاه الداخل، أو في تفكيره أو شعوره باتجاه الخارج، دون حضور الموضوع. ويعني أيضاً أنه كان في حالة فكرية أكثر رقة من الحالة الفكرية العادية أو الموضوعية الناتجة عن حضور الشيء. ففي هذه الحالة "الرقيقة" أو "اللطيفة"، أو الأكثر رقة ولطافة من الحالة الفكرية العادية، يستغرق الفكر في نشوة أو في تأمل، بمعنى أنه ينصرف عن موضوعاته أو يغيب عنها. وإذ يتدخل موضوع خارجي، كضجة مثلاً، يعود تفكير الإنسان التأمُّلي إلى حالته العادية. وفي عودته هذه، ندرك الفرق بين حالتي التفكير الرقيق المتصل والتفكير العادي المتقطع، أو العودة من الحالة الأولى إلى الحالة الثانية. ويدل هلع الإنسان المتأمِّل على أنه كان في حالة أكثر رقة من الحالة العقلية الموضوعية. وعلى هذا الأساس، نستطيع أن نقول: إن تداعياً كهذا، أو تأمُّلاً كهذا، أو نشوة أو تعمقاً في الموضوع، هو غيبوبة لم تكتمل تماماً واستغراقاً لم يتم كما ينبغي.

هكذا نعلم أن الإنسان يحقق حالة النوم باستمرار غيبوبته التأمُّلية هذه. وتكون هذه الغيبوبة اللامكتملة شبيهة بالنوم لأنها تمثل للعقل صوراً و مشاعر وأفكاراً لا تكون أشكال الموضوعات حاضرة فيها، إذ إنها تغيب جزئياً أو كلياً.

ثمة حالات أخرى تطرأ على الإنسان تشبه الغيبوبة بمعناها الحقيقي. وتكون هذه الحالات أشد علاقة بالنفس لأنها أكثر امتداداً أو أعمق اتصالاً بنطاق الروح. فإذا ما استمر الإنسان في التأمُّل meditation، في حالة تنعدم العراقيل أو التداخلات الخارجية أو تقل، حقَّق حالة نفسية تكاد تبلغ به حد الانقطاع عن الإحساس بوجوده الخارجي على نحو فكر وموضوع. وتكون الغيبوبة على درجات، وتتناسب مع حالة الاستمرار في التأمل دون انقطاع، لتتحقَّق أخيراً في لامحدودية الزمان والمكان... في نطاق الروح.

تعتبر هذه الحالة أو الدرجة من التفكير حالة نفسية وعقلية أكثر عمقاً من التفكير العقلاني المشدود إلى الدماغ. ومع ذلك، لا ينفصل تفكير الإنسان أثناء الغيبوبة عن العملية النفسية لأنه يظل مسجِّلاً ومستودعاً ومنظِّماً لحالة الغيبوبة، ويتذكر الوضع التأمُّلي.[4] هكذا، يسمو العقل بسمو التأمل. ويستحق تسمية العقل الفوقي Supramental.

يمثل الإغماء، وهو المثل الثالث، حالة جسدية–نفسية psychosomatic. فلو أننا وخزنا شخصاً تعرض للإغماء لأحس بالوخز، وانتفض. فهولا يعي دماغياً أو عقلياً مؤثرات الوخز، إنما يتأثر نفسياً. وهنا تبدو الأعصاب على أتم استعداد للتأثر لأن النفس تبقى متيقظة بينما يغفل العقل عن واقعه وعن جسديَّته. ولذلك تنعكس ردود الفعل نتيجة لغفلة العقل عن عمله من خلال الدماغ. وفي حالة الإغماء، تبطل عملية العقل، وتعمل النفس المركزة في الأعصاب عوضاً عنه. ومع ذلك، تظل الأقسام السفلى من الدماغ متصلة بالواقع الجسدي. وهكذا، تبقى النفس يقظة وواعية، حتى وإن انعدم اتصالها مع الدماغ الأعلى.[5]

تعد هذه الأمثلة الثلاثة أوصافاً لأهمية النفس، أي الجهاز العصبي، في وجود الإنسان. ففي المثل الأول، وهو حالة الذهول الرقيقة – الحالة الأكثر سمواً من الحالة الدماغية البحتة –، يشترك الدماغ مع النفس فيحققان حالة تصور عظيمة. وفي المثل الثاني، وهو حالة الغيبوبة، أو حالة الاسترسال والاستغراق في عالم غير محدود، ينعدم الزمان والمكان، وينطلق التصور الإنساني من المحدود مع بقائه فيه؛ وتقوم الوظيفة النفسانية بعملها لتُمِدَّ العقل بقدرة التصور المتَّسع. أما العقل فإنه يراقب ويسجل لأنه يستمد المعرفة من مصدر أكثر عمقاً ويختزنها في الدماغ. ولقد دعا بعض الحكماء هذه الحالة بالإشراق enlightenment. وفي المثل الثالث، وهو حالة الإغماء، حالة انعدام التفكير الدماغي وتوقف الإحساس المباشر بالوجود الخارجي، تقوم النفس بعملها دون مشاركة الأقسام العليا للدماغ لأنه يكون في حالته المادية الساكنة التي تتوقف فيها حركته. ومع ذلك، يبقى الجسد، عن طريق النفس، في حالة حركة؛ وإلا فإن ديناميَّة الحياة في الجسد تتوقف. وهكذا تظل النفس متيقظة، إذ تقوم بدور الوسيط المحافظ على الطاقة الحيوية. ولما كان الدماغ عاجزاً عن القيام بعمله كمنظِّم فإن ردود الفعل الجسدية تُعَدُّ انعكاسات لاواعية unconscious.

هنا نتساءل: كيف نستطيع أن نصنِّف هذه الحالات الثلاث؟ وهل نستطيع أن نميز فيها بين فعالية اليقظة وفعالية النوم الذي يتجلَّى في معالمه كلِّها، كالاسترسال والغيبوبة والإغماء؟ وماذا نسمي هذه الحالة التي لا تُعَدُّ يقظة أو نوماً بالمعنى الحقيقي؟

في حالة النوم، إذ يستسلم الإنسان للنعاس، أو يستغرق في تأمله الشعوري أو في فكره اللطيف، نلاحظ أربعة أمور:

1.    النوم استسلام لعالم فكري جديد أو مختلف نوعاً ما.

  1. النوم انقطاع عن عالم فكري ماضٍ نوعاً ما.
  2. الحلم صلة بين العالمين المذكورين وتعبير عنهما.
  3. النوم استغراق في عالم جديد.

تتحقق الحالات الأربع المذكورة على النحو التالي:

أ‌.       لا يتم النوم، في حالاته كلها، إلا بعد انقطاع عن عالم الموضوعات الخارجية. فالإنسان لا ينام مادام يفكر في موضوع.[6]

ب‌.  لا يتم النوم إلا بعد الاستسلام لموضوع داخلي أو باطني. فالإنسان لا ينام إلا بعد أن يسهو عن عالمه الخارجي أو ينصرف عنه.

ت‌.  لا يتم النوم إلا بعد استغراق في العالم الجديد، ونعني، بعد الانقطاع التام عن عالم الموضوع وحضور الأشياء بأشكالها والولوج إلى عالم الداخل.

نستنتج مما تقدَّم أن النوم عملية فوق عقلية، يستحيل أن تتم ما لم ينصرف العقل عن موضوعاته الخارجية وذلك لكي يغوص في صور موضوعاته الداخلية عن طريق التأمل والاستغراق. وعلى هذا الأساس، نقول: إن النوم عملية نفسية أكثر منها عملية عقلية لأن انصراف الدماغ عن موضوعاته يسهِّل عليه النوم[7]... وكل تعلق بالموضوع الخارجي يؤدي إلى الأرق أو صعوبة النوم. إذن، فالنوم عملية نفسية وعقلية، داخلية وباطنية، يغوص الإنسان أثناءها في عالم كيانه حاملاً معه صور حياته بكلِّيتها. وجدير بالذكر أن نقول: لا يتوقف العقل في عملية النوم بل يقوم بعملية تفكير جديدة قوامها الصور، ومجردة من حضور الموضوعات، ويتخلص من ثنائية التفكير المألوفة في حالة اليقظة؛ أي أنه لا ينقسم إلى ازدواجية الفكر والموضوع...

ثانياً: الفرق بين الحلم واليقظة والنوم بلا حلم

نختبر، نحن الكائنات الإنسانية، هذه الحالات الثلاث التي تعتمد عليها تجربتنا. ولكي ندرك عناصر الموضوع، نسعى إلى تعريف كلٍّ من هذه الحالات، ونقارن فيما بينها من جهة، وفيما بينها وبين التجربة الموضوعية، أي تجربة ثنائية الفكر والموضوع، من جهة أخرى.

  1. حالة اليقظة: تُعرَف حالة اليقظة بأنها تشمل التفكير والشعور في حضور الموضوعات الملموسة أو المحسوسة. وتُدرَك الموضوعات هذه من خلال الأعضاء الخمسة للإدراك الحسِّي.
  2. حالة الحلم: تشمل، من وجهة نظر اليقظة، حالة التفكير والشعور فقط. ومع ذلك، نقول: إن الحالم لا يفكر بأنه يحلم لأنه، بحسب تجربته، يدرك الموضوعات الملموسة والمحسوسة أيضاً. وهكذا ينطبق تعريف حالة اليقظة على حالة النوم.
  3. مقارنة أولى بين حالتي اليقظة والحلم: عندما نقارن بين الحالتين لا نجد فرقاً جوهرياً بينهما. ويمكن أن يظهر الفرق عندما نعتبر الأحلام من وجهة نظر اليقظة. وعلى أساس هذه النظرة، تكون اليقظة وحدها تجربة حقيقية. ولدى الاستيقاظ نعلم أن عالم الحلم، بالإضافة إلى الجسد الحالم الذي أدرك عالم الحلم بحواسه، كان نتاجاً عقلياً. عندئذٍ نتساءل فيما إن كانت أفكار الإنسان المستيقظ وتجربة الحلم متساوية أو متماثلة.

  4. مقارنة بين التفكير وحالة النوم: يُعتبَر التفكير مختلفاً عن حالة الحلم من نواحٍ عديدة – هذا على الرغم من معرفتنا بأن كليهما نشاط عقلي. وهذه هي بعض الفروق المزعومة:

أ‌.       يُقال إن الأحلام تُشتَق من تجربة اليقظة، ولكنها لا تتميَّز عنها. وإذا كان الأمر على هذا النحو، فإن هذا القول ينطبق بالتساوي على الأفكار التي تحدث في عالم اليقظة.

ب‌.  يقال إن بعض الأحلام تُستمَدُّ من موضوع خفي للانطباعات يسميه علم نفس الأعماق "العقل الباطن" أو اللاوعي Unconscious. وإذ نفترض وجود عقل باطن،[8] نفترض أيضاً وجود بعض الأفكار.

ت‌.  يقال إن الجسد الحالم والعقل الحالم يفعلان أو يفكران في الأشياء التي يقدر أن يعقلها أو يفكر فيها الجسد المستيقظ أو العقل المستيقظ. ويكون هذا صحيحاً بالنسبة للأجساد وليس بالنسبة للأفكار. إنني أقدر أن أتخيَّل أني أصادف أمواتاً أو أحادثهم، أو ألتقي أناساً لا أعرفهم في تجربة يقظتي، كما أتخيل أن هذه المصادفة قد حدثت في هذا العالم أو في عوالم أخرى أو في هذه الحقيقة أو تلك، كما أستطيع أن أحلم بأنها موجودة فعلاً. وعلاوة على ذلك، أستطيع أن أتخيَّل، كما يمكنني أن أحلم، أن جسدي في حالة صحية أخرى أو في حالة عمر آخر، أو أن عقلي يعمل بشكل أو بآخر.

ث‌.  إذ يبدو التفكير في حالة اليقظة بأنه إرادي أحياناً ولا إرادي أحياناً أخرى، يبدو الحلم، من وجهة نظر المستيقظ، لا إرادياً على نحو دائم. ويُعَدُّ هذا القول خطأ، وذلك لأن دخولنا إلى حالة الحلم لاإرادياً يعني دخولنا إلى حالة اليقظة لاإرادياً أيضاً. ولكن يبدو أننا نختار أفكارنا في الحلم وفي اليقظة على السواء.

ج‌.    يُفترَض أن الوقائع التي تحدث في الأحلام تشغل وقتاً أقصر من وقائع مماثلة لها تقع في تجربة اليقظة. والحق هو أن هذا الافتراض يجعلنا نساوي بين مفهوم الزمن في إدراكنا للموضوعات الملموسة وبين مفهومه لدى تفكيرنا فيها عندما يوجد مفهومان مختلفان. فنحن لا نحتاج إلى زمن لنفكر بحادثة ما خاصة في حالة اليقظة أكثر مما نحتاج لأن نحلم بها. لكننا، إذا قدرنا أن نقسم حالة اليقظة إلى تفكير وإلى إدراك الموضوعات الملموسة، يجب علينا أن نطبق التمييز ذاته على حالة الحلم، لأن تجربة الفكر الحالم هي تجربة الفكر المستيقظ – تجربة تنقسم، بالطريقة ذاتها، إلى مفهومين متميزين للزمن. وهكذا لا يوجد اختلاف هام بين التفكير والحلم عندما نأخذ تجربة الزمن بعين الاعتبار.

  1. تساوي التفكير والحلم: تساعدنا هذه الاعتبارات على التحقق من تساوي التفكير والحلم: فهما حالتان لنشاط عقلي. وإذا ما وُجِد أي اختلاف على نحو مفصَّل فلن يكون سوى اختلافاً بين نموذج فكر ونموذج فكر آخر.
  2. مقارنة أفضل بين عمليتي اليقظة والحلم: رأينا كيف يكون التفكير والشعور وإدراك الموضوعات الملموسة والمحسوسة نشاطات يشترك فيها كل من تجربة اليقظة والحلم. وهذه النشاطات، يُرى كل منها من جانبه الخاص. لكننا، بدخولنا حالة اليقظة، نجد أن الحلم لم يكن إلا نتاجاً عقلياً في كل مظهر من مظاهره. ومع ذلك، كانت حالة الحلم يقظة للحالم. وعلى هذا الأساس، نتساءل: ما هي الأسباب التي تجعلنا نفترض أن اليقظة الحاضرة ليست إلا نتاجاً عقلياً كالحلم؟

نحن نعلم أنه ليس للموضوعات المحسوسة وجود مستقل. إنها توجد أفكاراً في عقل المدرِك. وهكذا يكون التمييز بين العقل والمادة غير حقيقي، تماماً كما يكون التمييز بين الفكر وإدراك الموضوع الملموس غير حقيقي. وإذا وافقنا على ما نقوله، فلا يعني كوننا مستيقظين شيئاً – هذا، لأنه لا توجد حالة هي اليقظة: الكلُّ حلم. وتكون تسميتُنا للحلم من وجهة نظر اليقظة تسمية خاطئة.

  1. الحاجة إلى تعريف التجربة الموضوعية: إننا نفكر في حالة اليقظة وفي حالة الحلم من خلال روح واعية، فردية وغير متبدِّلة، تتخلل تجربتنا الموضوعية كلها وتضيئها. وإذ لا يوجد اختلاف بين حالة تجربة موضوعية وحالة أخرى، فمن الحق أن نوجد اصطلاحاً يساعدنا على وصف كل الحالات التي يكون العقل فيها نشيطاً.
  2. الثنائية: اليقظة والحلم حالتان لنشاط عقلي واحد. أما صفات هذا النشاط فهي حضور عارف ومعروف، مفكِّر وفكر، أحدهما يُغني الآخر. ويُعرَّف النشاط العقلي بأنه حالة تعني ثنائية الفكر والموضوع.
  3. النوم بلا حلم: هو تلك الحالة التي تختفي فيها الثنائية الظاهرية للفكر والموضوع. وتقوم صفته السلبية على انعدام النشاط العقلي الذي يتضمن التفكير والشعور والإدراك الحسي. أما من وجهة نظر خاصة، فإن النوم بلا حلم يتصف بالإيجابية. وهكذا، لا يكون انعدام النشاط العقلي ميِّزته الحقَّة. وينتج عن هذا ما يلي: عندما نتكلَّم عن النوم بلا حلم وعن غياب النشاط العقلي ونقول، لدى الاستيقاظ، إننا نمنا بعمق ولم نعرف شيئاً، يعني أننا ننظر إلى هذه الحالة فقط من وجهة نظر الثنائية. وخلاصة لهذه المقارنة نقول: إن النوم بلا حلم حالة لامعرفة. لذا، لا يمكن تطبيق أي اصطلاح إيجابي لتجربة يقظتنا على تجربة نومنا. ومع ذلك، توجد مظاهر إيجابية ثلاثة للنوم تساعدنا معرفتها على معرفة طبيعته الحقة.
  4. تجربة النوم:

أ‌.       لا نتوقف عن الوجود ونحن نائمون – هذا، على الرغم من أن كل تجربة فردية أو موضوعية تكون قد اختفت. فالنوم بلا حلم هو حالة الكيان اللامشروط؛ ونعني أن المبدأ الذي يعلو الصفات والحوادث الخاصة بالموضوعية يبقى في حالة النوم.

ب‌.  نعي بعد الاستيقاظ أننا قد نمنا بعمق. هذا، على الرغم من أن انعداماً كهذا لا يُختَبَر أبداً. فالنوم العميق هو حالة اللاثنائية. وبقولنا هذا، نقصد أن مبدأ الوعي يبقى دون أن يبدو أنه يتخذ ثنائية فكر واعٍ وموضوعه. والحق هو أن العقل لا يكون غائبا كلِّياً، وإلا فإن الإحساسات لا تثير النائم.

ت‌.  إننا نستمتع بالنوم العميق. فهو إذن حالة الاكتفاء الروحي. وتشبه هذه الحالة الفترة الزمنية التي تفصل بين فكرتين.[9]

11.                       مقارنة أخيرة بين اليقظة والحلم: يُعَدُّ الحلم استمراراً لليقظة وتجاوزاً لها.[10] وتمثل عملية الاستمرار دوام الوجود الإنساني في حالته الراهنة، أي الواقعية، ودوام الوجود الفكري دون الموضوع. ولا تُعَدُّ هذه الحالة الثنائية منافية لحالة اليقظة، وذلك لأنها تتجاوزها وتسمو عليها. كل عملية تجاوز أو تسامٍ فوق عقلية أو نفسية لا تعتمد على الموضوع بل على صورته، تماماً كما يفعل الفكر في صوره بعد طرح الموضوعات أو عدم استعمالها. ويظل الفكر يعمل في وجوده، في النوم كما في اليقظة، دون الاعتماد على المحسوسات المباشرة،[11] وهذا ما يساعده على التعمق في حالة النوم أو الحلم. فما هو الحلم؟

        قبل البدء بتعريف الحلم، يجدر بنا أن نتحدث عنه في حالات ثلاث:

الحالة الأولى: نقول إن الحلم، في درجاته أو حالاته الأولى، هو حضور صورة الموضوع. وبهذا القول نعني أن الحلم، في هذه الدرجة، استمرار لليقظة. وإذا ما تساءلنا عن القصد الذي نبغيه إذ نقول: إن الحلم استمرار لليقظة، أجبنا:

تقضي الإجابة تقديم ثلاثة أمثلة لتسهيل دراسة الحلم في درجاته الأولى وتوضيحه، إذ ترافِق الأحلام، في درجاتها الأولى، انعكاسات فسيولوجية، تماماً كما يحدث في حالة اليقظة.

المثل الأول هو الحلم الذي يتعرض لمؤثرات خارجية وصور وأفكار ومشاعر تؤثر في الدماغ فتنعكس في أعضائه الفسيولوجية أو في بعضها أو في واحدة منها. وتبدو النتائج المادية واضحة لدى الاستيقاظ. ويُعَدُّ الحلم الجنسي مثالاً واضحاً على هذا النوع من الأحلام. ولدى الاستيقاظ، يدرك الحالم أنه حقق عملية واقعية يتلمس أثرها، ويحس بانعكاساتها على الرغم من عدم وجود موضوع هو المرأة (إن كان الحالم رجلاً) أو الرجل (إن كان الحالم امرأة). ومع ذلك نقول: إن حلماً من هذا النوع هو استمرار لليقظة وتفاعل جسدي يماثل اليقظة، وقد يتفوَّق عليها.

يُظهِر لنا هذا المثل أن جسد الحالم يتفاعل مع موضوعه الفكري، أي الصورة، تماماً كما يتفاعل الجسد المستيقظ، كما يُظهِر أن الانفعالات والأحاسيس التي تطرأ على الجسد في حالة كهذه تكون أكثر شدة من مثيلاتها في حالة اليقظة. ويمكن أن تكون اللذة أعمق والألم أشد والإحساس أقوى، وذلك لأن الجسد الحالم يكون قد تخلص من العوائق التي تفرضها حالة اليقظة. ففي حالة النوم، يستسلم الجسد للفعل، ويحقق الفكرة أو الصورة التي يرغب في تحقيقها.

·        المثل الثاني هو التالي: نفترض أن أحداً من الناس تصور نفسه ملكاً، وحلم في ليلته الأولى بأنه ملك حقيقي. إنه، إذ يستيقظ، يستمر شعوره بكونه ملكاً إلى حدٍّ معين. وفي الليلة الثانية حلم بأنه ملك. وبعد الاستيقاظ يستمر شعوره بأنه ملك إلى حدٍّ أكبر وفترة زمنية أطول. وفي الليلة الثالثة يزداد شعوره بأنه ملك... وفي ليلته، لنقلْ السابعة، يتصرف بشعوره كأنه ملك.

إذ نحاول أن نحلل هذا النوع من الأحلام نقول: إن الحلم، في هذه الحالة، يمثل اليقظة واليقظة تمثل الحلم. ونعني أن الشعور أو الأثر المخلَّف بكونه ملكاً قد انطلق من حالة اليقظة ليتحقق في النوم، فأصبح الحلم هو اليقظة، أي الواقع. ولدى الاستيقاظ، يستمر الحلم على نحو شعور، ويعبِّر عن وجود صورة تماماً كما تستمر الصورة والفكرة من اليقظة إلى النوم. فهل أن هذا الشخص يحقق أو يحيا كونه ملكاً أم أنه كان يحلم فقط؟

لم يكن هذا الشخص ملكاً حقيقياً في حالة اليقظة، بل تولَّد لديه شعور مدعَّم بالتخيُّل بأنه ملك. وعندما حلم بأنه ملك، تحقق وجوده ملكاً في الحلم، وتميز بكل صفة ملحقة بالملك: تاج، صولجان، عرش، عظمة، جنود، قصر وحاشية، وإصدار الأوامر، إلخ. وعندما استيقظ استمر شعوره بأنه ملك. وفي التكرار، استمر هذا الشعور، وأصبح أكثر شدة، حتى إنه تحول إلى شعور بالوجود الملكي. وهنا، نريد أن نقول: إن حالة النوم أو الحلم كانت حقيقية، أي يقظة، وأن حالة اليقظة كانت حلماً، وذلك لأن تحقيق الموضوع الذي سعى إليه الشخص تم في الحلم ولم يتم في اليقظة. وإذا افترضنا أن إنساناً استطاع أن يحقق كل ما يبغيه في حالة النوم، فأي فرق نجد بين النوم واليقظة، ما دامت حياته تتحول من حال إلى حال، إذ يصبح النوم يقظة واليقظة نوماً... إنه يصير ملك على نحو أعظم!

يشير المثل الأخير إلى بقاء الأثر النفسي والجسدي بعد انقضاء الحلم على نحو خيال يدفع بالحالم المستيقظ إلى الرغبة المتمثِّلة بالعودة إلى النوم. وهنالك من يحلم بأنه يركض، فيحس بالتعب والإنهاك، أو يحلم بأنه يُضرَب فيحس بتوعك في جسده. ولدى الاستيقاظ، يشعر هذا الحالم بأن جسده منهك ومتعب. وعندما يعلم بأنه قد نال قسطاً وافراً من التعب والألم في حلمه يعلم أيضاً أنه قد تعرض لحلم مزعج بدت آثاره من خلال الجسد المتعب. ونحن نعجب كيف يمكن أن يشعر أو يحس بهذا الإنهاك ما دام جسده لم يغادر الفراش ولم يُضرَب ولم يركض.

الحلم، في درجاته الأولى، اشتراك حقيقي بين اليقظة والنوم. ويبدو واقعُه في الآثار النفسية والجسدية التي تظهر في الجسد ومن خلاله. ولا ننسى أن نوعاً من الغمِّ والكآبة يجتاح نفوسنا عندما نستيقظ ولا ندري سبباً مباشراً أو علة واضحة له. لكن، لدى الرجوع إلى الحلم، نعلم أن حالة ألم قد ألمَّت بنا وتركت أثراً نعاني منه في اليقظة. وهذا دليل على أن الارتباط قائم، وهو وثيق الصلة بحالتي اليقظة والنوم، وذلك لأن الشعور يمتد في كلتا الحالتين.

يمكننا أن نقول: إن أنواعاً من هذا الحلم تبدو بدائية في عالم النوم. فهي يقظة بدون موضوع خارجي. وتُعَدُّ هذه الأنواع أدنى درجات الأحلام لأنها مرتبطة بعالم الواقع اليومي أشد ارتباط. فهي لا ترفع الإنسان عن مستواه الفكري العادي ولا تتجاوز الواقع أو تتسامى عليه لأنها ترتبط بالوجود المادي الذي يحياه المرء. وتكون هذه الأحلام ضارة أحياناً، إذ تؤدي إلى عقد نفسية أو إلى قلق واضطراب لأنها تدور حول أمور معيشية وانفعالية ومادية لا يضعها الإنسان موضع التنفيذ في حالة اليقظة.[12]

الحالة الثانية: يُعَدُّ حلم الدرجة الثانية تجاوزاً للحالة البدائية والمادية التي يظل فيها الجسد عالقاً بانعكاساته العديدة. وتعد هذه الحالة خلاصاً من عالم الرغبات وأنواع الكبوت والإشراطات، واستغراقاً في عالم النفس والروح، وامتداداً في المستقبل الزماني. ولكن روحانية هذه الدرجة تظل معتدلة وغير مكتملة مادامت تعبيراً عن درجة فوق عقلية. وفي هذه الدرجة، يشعر الإنسان بشيء من الطمأنينة والترفُّع عن الهواجس والانفعالات والرغبات والمخاوف والاضطرابات النفسية والجسدية التي تسيطر على أحلام الدرجة الأولى. ويكاد حلم الدرجة الثانية أن يكون تنبؤياً، يحدس الأحداث قبل وقوعها، بحيث إنها تتحقق في المستقبل الزماني المتصل باليقظة. ولا يكون لهذا النوع من الأحلام سابقة أو مصدر أو سبب موضوعي ماضٍ، وقد يكون له مصدر عقلي حدسي.

من أحلام هذه الدرجة التحدث إلى أرواح الموتى الصالحين، أو السير معهم، أو التعلُّم منهم، أو معرفة حادثة قبل وقوعها أو بعد وقوعها دون معرفة العقل لها. ومن أحلامها أيضاً رؤيا أناس سنلتقي بهم، أو الإطلاع على أمور تهمُّنا معنوياً. وتعد هذه الأحلام أعلى مرتبة من أحلام الدرجة الأولى لأنها تنفصل عن عالم الواقع المادي المعيش لتدخل عالم النفس والروح. ولا تحدث أحلام من هذا النوع إلا مع أناس ذوي عقول صافية ومستنيرة، ويتمتعون بأخلاق عالية وسامية.

نستنتج مما تقدم أن هذه الأحلام لا تعتمد على موضوع. وإذا وُجِد الموضوع فهو ليس أكثر من رمز فقط.[13] وهكذا، تتضاءل قيمة الموضوعات الملموسة أو المحسوسة، وتنشط قوى ما فوق العقل، عن طريق الرموز التي تعبِّر عن اللاوعي الجمعي المشتمل على الأنماط البدئية الأولى Archetypes، التي تعتبر نفسية وقريبة جداً من التحقيق الروحي. وتفعل فينا هذه الأحلام بشدة وقوة، وتترك أثراً عميقاً في ذاكرتنا لأنها هامة جداً لوجودنا، إذ تساعدنا على معرفة أمور لا نبلغها بالعقل الموضوعي، أي العقل المشدود إلى الدماغ.

تشير هذه العبارة الأخيرة إلى أن العقل في درجاته العليا ينطلق من قيود مادته وموضوعاته وانعكاساته ليغوص إلى عالم أكثر شمولاً وصفاءً وعمقاً. وتتراءى له صور لا تمتُّ إلى الموضوع بصلة أو تتجاوزه أو تتسامى عليه. ويشعر كل من يحلم بهذا النوع من الأحلام بأنه متسامٍ، وأن قدرته تتعالى. كما يشعر بقوة نفسية وعقلية معاً، وُيحس بأهمية حياته، ويضمِّن هذه الحياة معنى غير محدود. وتبرَّر هذه القوة، إذ يتأكد من وجود قوى عميقة تفعل فيه، وترفعه عن مستواه المادي، وتشير إلى مكامن طاقته.[14]

الحالة الثالثة: نقول إن الحلم في درجته الثالثة والأخيرة صعود إلى مملكة الإنسان الحقة، مملكة الروح. وفي هذه الدرجة يسمو الإنسان على وجوده المادي، ويتعالى في عالم حقيقته. ولا يحقق هذه الدرجة إلا أصحاب الأرواح الصافية والعقول المستنيرة والأخلاق السامية. وتكون أحلام هذه الدرجة قليلة ونادرة.

ومن أحلام هذه الدرجة رؤيا الملائكة،[15] وشعور قوي بالغبطة والطيران. وتُعَدُّ الغبطة درجة عالية جداً في الحلم الروحي، وذلك لأن الغبطة هي حقيقة الروح ونهاية الثنائية والكثرة وتحقيق الوحدة. فالروح تحيا في عالم الغبطة الدالة على الانتصار على الشدائد والخلاص من تجزئة الكيان. وتعد أحلام الطيران انعتاقاً من قيود الجسد المادي، وحرية للجسد الروحاني وتسامياً في عالم اللامكان واللازمان. أما رؤى الملائكة الذين هم حاملو النور، وهي ذروة التجربة الروحية، أو رؤى كبار الحكماء، فلا تتم إلا لمن تفوَّق على كثافة الوجود المادي وحقق البصيرة الداخلية.

تترك هذه الأنواع من الأحلام أثراً عميقاً في الإنسان يذكره ما دام حياً في عالم الزمان والمكان. ويستولي عليه شعور من الفرح والغبطة كلما تذكرها أو تحدث عنها. ويشعر أنها حديثة العهد وأن الزمان والمكان لا يشكلان وجوداً حقيقياً.

هكذا نرى كيف يكون النوم واليقظة استمراراً لحياة الإنسان، إذ لا يختلف الواحد منهما عن الآخر إلا بنوعية التفكير والتصور. هذا، لأن الفرق بينهما يعبَّر عنه بالكيف ولا يقاس بالكم. ولما كانت حياة الإنسان تتناوب بين النوم واليقظة، فإننا نحصل من كليهما على قدر وافٍ من المعلومات. وقد يؤكد النوم ما أنكرته اليقظة.[16] وقد يعمل الحلم على إظهار الفكر في حقيقته المجردة. لذا، لا يمكننا أن ننكر أهمية النوم في مجال الفكر، وذلك لأن انطباعات اليقظة تدوم بعد النوم في جميع الدرجات الثلاث التي ذكرناها.

أود، قبل الانتقال إلى دراسة التجارب العلمية الحديثة في نطاق النوم والحلم، أن أتحدث عن النقطتين التاليتين:

أ‌.       الزمان في الحلم: "ما لا يكون موضوعه الآن، لا يوجد الآن." تشير الحكمة المضمونة في هذه العبارة إلى أن الزمان والمكان يشكلان وجوداً حقيقياً في الحلم. ولما كان الزمان لا يُختبَر إلا بوجود نشاط عقلي، فإن التعليق الزمني للنشاط العقلي في الحلم مؤكَّد. وهذا يعني أن الماضي والمستقبل يصبحان حضوراً في الحلم.

ب‌.  دراسة الحلم والاستفادة منه: لما كان الحلم يؤكد ما أنكرته اليقظة أو أغفلته، ويُظهِر واقع الفكر في حقيقته المجردة، فلا يمكننا أن نُنكِر أهمية النوم في نطاق الفكر، وذلك لأن انطباعات اليقظة تدوم بعد النوم في جميع المستويات الثلاثة التي ذكرنا. لذا، يتطلب الأمر أن نتعلم من أحلامنا. فهي ترشدنا إلى الصواب في حال اقتراف الخطأ، وتعلِّمنا ما ينبغي أن نفعل. وقد يكون الحلم تعويضاً عن موقفنا أو وضعنا الواعي، وهذا لأن الطاقة الروحية الكامنة تعلِّمنا أو تنبهنا، أو تلمِّح، أو تشير إلى مواقفنا وقضايانا برموز يجدر أن تسترعي انتباهنا ونفسِّرها في سبيل تعديل حياتنا النفسية والعقلية وتطويرها. وقد نبلغ أعلى درجات المعرفة التي تطرحها عقولنا في حالة اليقظة لنستنبطها في الحلم. وهكذا، تعرِّفنا أحلامُنا بحقيقة شخصيتنا وواقع ما نحن عليه. فكما نكون، كذلك يكون حلمنا أيضاً. وعندئذ، تصبح العبارة التالية: "قُلْ لي ما حلمك، أقُلْ لك ما أنت،" صحيحة إلى حد كبير. وكما يقول يونغ: "الحلم هو الواقع الذي نشرع به، ونواصله على نحو مطَّرد."

يُحتمَل أن نكون قادرين على تفسير أحلامنا وفق معطيات حياتنا الحاضرة. هذا، لأنه يحتمل أن تمتَّ رموز الحلم إلى الذاكرات القديمة المنطوية في صميم كياننا اللاوعي – وهو الوعي الكامن – التي تتصل بالأنماط البدئية والأحقاب والمراحل التي تطورت من خلالها النفس البشرية والعقل البشري.

أما تفسير الحلم فيرتبط بالحالم ذاته. فإذا ما رأى عشرة أشخاص حلماً واحداً، فُسِّر الحلم بعشرة تأويلات مختلفة أو متنوعة.

ثالثاً: التجارب العلمية الحديثة

لما كانت المعرفة في العصر الحديث تقوم على المنهج العلمي، فإن العلماء يدرسون الأمور المستعصية عن طريق التجربة والاختبار. وقد بدأ علم النفس، في القرن العشرين، بدرس الظاهرات الخارقة التي عجزت عن دراستها المدرسة السلوكية. وكذلك، بدأ بدراسة باطن الإنسان وتوجيه تفكيره إلى الداخل بعد توجيهه إلى الخارج. وأمسى العلماء في غنى عن إقحام المسائل الفلسفية في حقل التجارب النفسية التي تعتمد على قواعد فسيولوجية. وبتقدُّم العلم واستعمال الأجهزة الدقيقة، يحاول العلماء أن يعرفوا الكثير عن النوم.[17]

في الآونة الأخيرة، طبَّق العلماء تجاربهم على مجموعة من الحيوانات وذلك لكي تتسنى لهم دراسة واقعية للموضوع. وانتقلوا، بعد ذلك، إلى دراسة الإنسان عاملين على كشف النقاب عن هذا السر العظيم الذي نسميه النوم.

وفي دراسة كهذه، علماً بأن الدراسات التجريبية لم تكتمل ولم يصل العلماء إلى نتائج إيجابية كافية، لا نستطيع أن نتحدث بدقة نرجو منها الوضوح والحقيقة. لكننا نستطيع أن نتقدم ببعض الأمثلة الدقيقة التي لاتزال موضع تجربة في الوقت الحاضر.

في دراستهم للنوم، أقام العلماء تجاربهم على بعض النائمين، فقاسوا ترددات موجات أدمغتهم. وقد وجدوا أن ترددات هذه الموجات تختلف من حين لآخر وفق صور الأفكار والمشاعر والأحاسيس والانعكاسات الطارئة على الدماغ. وقد برهنت هذه الدراسة الاختبارية عن وجود موجات سريعة وبطيئة ومتوسطة تتغير مع حالة الحلم.[18] وأدرك هؤلاء المجرِّبون، بعد دراستهم لهذه الموجات، الأوقات التي يتم بها الحلم. فقد عمدوا إلى إيقاظ النائم الحالم في مثل هذه الفترات لمعرفة أنواع الموجات وعلاقتها بصور الأفكار، أي الأحلام. واستطاعوا أن يخلصوا، نوعاً ما، إلى نتائج ستكون دعائم ومقومات لدراسة من هذا النوع في المستقبل.

وعلى الرغم من دراستهم هذه، لم يُدرِكوا النوم بمعناه الحقيقي، ولم يستطيعوا أن يعيِّنوا المناطق التي تعمل في الدماغ أكثر من غيرها، وما إن كان النائم قادراً على التأثير فيها.[19] لكنهم ركزوا على المناطق السفلى من الدماغ واعتبروها الأماكن الحساسة التي تعمل أثناء النوم. وبالإضافة إلى ذلك، تركزت ملاحظاتهم على حركة العينين أثناء النوم. وقد دلت هذه الحركة على نوعية الحلم، من حيث إن تموُّجاتها تدل على شدة الانطباعات أو خفَّتها.

لم يُغفِل العلماء دراسة مفهوم الوعي أثناء النوم. فقد أكَّد بعضهم على عدم وجوده. وأعادوا فقدان الوعي إلى فشل الأقسام السفلى في إرسال الانعكاسات العصبية إلى الأقسام العليا من الدماغ. وهكذا تكون عملية النوم، في رأيهم، حالة عدم الاستجابة من الوجهة العلمية.[20] ولقد تجاوزت درجات النوم العميق، المعبَّر عنها بالاستغراق الروحي، تجارب العلماء. هذا، لأن المستغرقين بعمق كانوا قادرين على توجيه موجات أدمغتهم أثناء استرسالهم في الغيبوبة الروحية، الأمر الذي برهن على حقيقة تجاوز تجربة القياس.

يمكننا أن نقول: إن دراسة من هذا النوع تحتاج إلى فترة زمنية طويلة حتى يستطيع العلماء أن يقولوا كلمتهم فيها. ومع ذلك، نستطيع أن نضع بعض النقاط التي تساعدنا على إنهاء الموضوع على نحو يدعو إلى الاستفهام:

1.    تنشأ صعوبة دراسة النوم من صعوبة دراسة اليقظة.

  1. تنشأ أيضاً من صعوبة التمييز بين أنواع الفكر.
  2. تتمثل الصعوبة في دراسة الانتقال من حالة اليقظة إلى حالة النوم.
  3. لا تقر الدراسة العلمية بوجود عامل غير مرئي، كالروح مثلاً، في مجال التجربة الحسية.
  4. تُعَدُّ حالة النوم غوصاً إلى عالم اللاوعي، الذي هو دفق الطاقة الروحية، المتميِّز عن حالة الوعي الذي تمتاز به اليقظة، الأمر الذي يجعلنا نعتبره موتاً مؤقتاً.

*** *** ***


1 هناك حالات نادرة قيل فيها إن أفراداً عاشوا حياتهم، أو فترة طويلة منها، بدون حاجة إلى النوم.

2 اتِّصالية التأمل نوم في اليقظة، نوم مجرد من الموضوعات.

3 نميز بين الشرود والتداعي والتأمل كما يلي:

أ‌.        الشرود: هو تعليق الفكر في حالة الغضب، الانفعال، اليأس، الرغبة، الكراهية، التخيل... إلخ.

ب‌.    التداعي: هو إطلاق الذاكرة باتجاه أحداث الماضي دون التركيز على حدث معين.

ت‌.    التأمل: هو التركيز على موضوع خارجي أو شعور داخلي والاستغراق فيه.

4 يطلق بعضهم على الوضع التأمُّلي والغيبوبة مصطلح "التجربة الروحية" أو "الاستغراق الروحي".

5 تتركز النفس في الأعصاب والمراكز العصبية بحيث تكون ناقلة للطاقة الروحية.

6 على الرغم من اعتبارنا لهذه الحالة، نرى أن الإنسان يمر بأطوار النوم في الأمثلة التي ذكرناها.

7 لذا يقول بعض الحكماء: في التأمل يصمت العقل، أي ينصرف عن تفكيره الموضوعي.

8 من وجهة نظر الوعي "ما لا يكون موضوعه الآن لا يوجد الآن". هكذا نعتبر اصطلاح "العقل اللاواعي" تناقضاً في التعبير.

9 الفعل العقلي لا يستمر. ولكل فكرة أو شعور أو إدراك حسِّي بداية ونهاية. وتوجد فترة زمنية بين تصور واع وتصور آخر. وتبدو الفترة الزمنية، من وجهة نظر الثنائية، وجيزة جداً، لكنها في ذاتها تعلو فكرة الزمن... هذا الزمن الذي يُختبَر فقط عندما يوجد نشاط عقلي. وفي هذه الحالة، لا يوجد شيء من هذا القبيل. وهكذا، تفلت من انتباهنا. وإذا ما حاولنا أن نفكر بها، بدت لنا حالة لامعرفة. ويشبه هذا التعليق الزمني للنشاط العقلي حالة النوم بلا حلم. هذا التعليق الذي نختبره كل لحظة أثناء تجربة اليقظة والنوم.

10 لا تُعَدُّ هذه المقارنة تركيزاً على دراسة الحلم.

11 في سبيل الوضوح نعتمد المثال التالي: نفترض أننا نسعى إلى تصوير موضوع أو شيء بواسطة جهاز تصوير. وفي هذه الحالة، يتحقق أمران: أولهما هو الشيء الخارجي، وثانيهما هو جهاز التصوير. والآن، نفترض بأننا نسعى إلى تصوير الصورة الموجودة في جهاز التصوير. ومن أجل تحقيق هذه الفكرة نحتاج إلى جهاز تصوير آخر يصور الصورة الموجودة في الجهاز الأول. وهذا الجهاز الثاني يصور الصورة دون الموضوع الواقعي أو الشيء. وبالمثل، يصور العقل، وهو الجهاز الأول، الأشياء والموضوعات الخارجية، والموضوعات الداخلية أيضاً، والمشاعر وغيرها. وعندما ننام، تصور الروح، وهي الجهاز الثاني، الصورة العقلية. وفي الحلم، وهو الصورة العقلية، يتم التفاعل بين الروح والصورة العقلية. وهكذا، لا نرى الأشياء بل نتفاعل مع صورها. وهذه الحالة تحدث في داخلنا دون حضور الموضوعات.

[12] حلم الدرجة الأولى تعبير وانعكاس للرغبات والشهوات والمخاوف والاضطرابات والتخيلات التي كُبِحَت أو كُبِتَت أو قُمِعَت بوصفها انفعالات أو أمنيات مادية وتعبيرات لِما يرغب الإنسان أن يكون. ويكون لهذا الحلم مصدر سابق. وتكمن أهمية التحليل النفسي الفرويدي في هذه الدرجة وحدها.

[13] تتجلَّى الأنماط البدئية الأولى على نحو رموز في الأحلام.

[14] تشير القراءة المركزة لسيرة حياة العديد من الفلاسفة والعلماء والحكماء والأخلاقيين والأنقياء والأدباء الإنسانيين والرسامين المبدعين والموسيقيين الكونيين الخ... إلى أنهم استقوا الكثير من معلوماتهم في أحلامهم.

 هم ذروة التجربة الروحية والاستغراق في عالم الروح.[15]

[16] هذا يعني أن الحلم قد يُظهِر الحقيقة الداخلية التي يرفض المرء إظهارها أو التحدث عنها.

[17] الصعوبة الكبرى الناشئة عن دراسة النوم هي أن الإنسان مازال عاجزاً عن دراسة حالة اليقظة ذاتها التي يعتبرها سراً.

[18] يشير هذا القول إلى فاعلية الموجات الأربع في الدماغ.

[19] حاول علماء غربيون ويابانيون قياس ترددات هذه الموجات عند بعض المستغرقين اليابانيين المنتمين إلى مدرسة الزِنْ، لكنهم وجدوا أن المستغرق قادر على إحداث التغيير في وظيفة الموجة الدماغية.

[20] يناقض هذا ما ذكرناه سابقاً وذلك لأن النوم عملية نفسية لا تحتاج لعمليات دماغية من الدرجات العليا. وتبدو أهمية الأقسام السفلى في أحلام الدرجة الأولى. أما أحلام الدرجة الثانية والثالثة فلا يفيد قياس الحلم لأن الحالم "لا يحلم" بهذين النوعين اللذين يعبِّران عن حالة فوق عقلية. لذا، كان القياس تعبيراً عن أحلام الدرجة الأولى.

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود