حياة أبو فاضل

في منمنماتها الأدبية

 

جورج كعدي

 

منمنماتيَّة حياة أبو فاضل تجمع قطع الذاكرة والحياة في فسيفسائيَّاتها الناعمة، الأنيقة، مثل روحها الطفلة. تضغط مارد المعنى في زجاجة العطر والكلمات، ونادراً ما تطلق ماردها في لحظة غضب أو حنق أو ثورة ضد الخاطئ والشاذ اللذين تكرههما أيَّما كره. نظرتها إلى الأشياء دوماً مثالية، بل مفرطة في مثاليتها، لوعي متأصِّل، ولمعرفة وعلم عميقين مكتسبَيْن من الكتب والناس والتجارب.

ودونكيشوتيَّة حياة أبو فاضل تحارب وحيدة عزلاء، إلا من قلمها، طواحين الجهل والتعصُّب والظلم والقسوة، وتحنو على الكائنات، حتى الأضعف بينها، لأنها أحبت فلسفة الشرق واكتسبت حكمته وتبنَّت سلامه الداخلي. تروم لروحها أن تبقى بريئة، حرَّة منعتقة، تعبُر حيواتها والتجارب في صفاء تام يعانق الحقيقة في نهاية الرحلة... التي لا انتهاء لها! الحياة اختبار أزلي أبدي ينشد الكمال المطلق. ذاك ما تعتقده حياة أبو فاضل، وما تحياه، وما تكتبه، وما تنشره منمنماتٍ أسبوعية في النهار ثم تجمعه في كتاب تدعوه حياة.*

وحنينيَّة حياة أبو فاضل، دائمة الرجوع إلى طفولتها ولعبها وألوانها وأقلامها، وإلى حنان والديها، وإلى الطبيعة والفصول والروائح والأصوات، وإلى الأعياد والتقاليد والمناسبات، وإلى وجوه تسكن الذاكرة والعينين، وإلى المدرسة والرفاق... لكن بأية شفافية، بأية رقة، بأية عذوبة، بأيِّ شعر، وبأية أناقة تعبير ورشاقة أسلوب! أديبة مكتملة الرهافة، تصغي جيداً إلى إيقاع الجمل والكلمات، وكالبارناسيين تنحت الشكل والمعنى، تضغطهما في بلاغة وبيان، فتؤدي ما ترغب في إيصاله، بلا حواشٍ وثرثرات وإضافات، نصاً قصيراً ومتيناً يُغْني عن مقاطع وصفحات.

ووطنية وقومية ومناضلة على طريقتها حياة أبو فاضل، شديدة التعلق بالأماكن والانتماءات: بلدتها الجبلية أولاً، وزهرها وشجرها وأخضرها الذي تحضنه الأجفان، ثم المدينة وعيشها الصاخب وجامعتها وأصدقاؤها، ثم الوطن فالأمة فالقضية... حياة الحالمة بأمة الهلال الخصيب، أي بالأمة القوية، المتحدة، العلمانية، الواقفة صلبة وعظيمة على صخر الحضارات في وجه الكيان الصهيوني المصطنع والباغي على أرض فلسطين. تنفعل في بعض نصوصها للحق المهدور والشعب المقهور وضد الظلم المسعور الذي يلحق بالشعب الفلسطيني على أرضه وخارجها، فتطلق صرخات الاحتجاج والغضب، خاصة ضد الإنكليز – "الجنس الذي ينتمي إليه أصحاب مدرستها" – ولهم الدور الأكبر في "لعبة العهر هذه". تقول حياة كلمة الحق ولا تخشى عواقبها. طبعها الثائر – الذي يعرفه عارفوها – جرَّ عليها المتاعب والخسارات المتعددة، إذ لم تهادن ولم تمالق ولم تمتثل كالآخرين.

وعاشقة رقيقة حياة أبو فاضل... لكن عشقها متلون الأشكال، متعدد التجربة، شرقي متحفِّظ ومتردد، ملجوم بالأعراف والتربية والتقاليد، وبأمر ذاتي لعلها هي نفسها لا تعرف كنهه. لكنها في كل الأحوال بارعة في وصف خفقات القلب، ارتعاشاته لوجه حبيب... وإن لم يصبح حبيباً لصدٍّ في آخر لحظة واحجام. ولو ذاقت القبلة فخطفاً وسرقة: "[...] تخرج فيغلق الباب، يطوِّقها بذراعيه، يذوق شفتيها ويهرب. أول قبلة لها أمام باب وراءه تلاميذ يترقبونها. تدخل مربكة. تكاد تنفجر ضحكاً أو بكاءً. وتتابع الدرس مكتشفة شفتيها." هذه الـ"مكتشفة شفتيها" – كم هي صادقة، رهيفة وبليغة، وكم هي جميلة وأنثوية. في النهاية لا تكتم حياة تجارب عشقها، وإن لجمت مراراً ذاك العشق.

ومثقفة حياة أبو فاضل، درست الأدب الإنكليزي ودرَّسته، بل نقلت شغفها بالأدب والشعر والفكر والفلسفة إلى تلامذتها، فقرَّبت المادة منهم، جذبتهم بأسلوبها التعليمي الخاص (الثوري في أي حال، ككل جانب ثائر في شخصيتها) إلى شكسبير وبليك وبراوننغ وكونراد ولورانس... وعلى طريقة روبن ويليامز التثويرية لأسلوب التعليم في الفيلم الرائع جماعة الشعراء الراحلين للمخرج بيتر وير، تثوِّر حياة أسلوب تعليمها وتكسر العرف، جريئة مجدِّدة. والنص الآتي يصف تماماً منهجها الذي ينبغي أن يتأسَّى به كل أستاذ راغب في نقل شغف المعرفة إلى طلابه. تقول: "تلاميذها لا يحبون الأدب الإنكليزي ولا العربي ولا مطلق الأدب. يقولون إن عقلهم علمي، وإدارة المدرسة تجمع أصحاب الفكر العلمي في صف واحد وأصحاب الفكر غير العلمي في صف أدبي، ولا علاقة للاثنين لا بالفكر ولا بالشعر ولا بالنثر. همُّهم العلامات والانتقال من صفٍّ إلى أعلى، وكذلك أساتذتهم. مَنْ منكم صاحب غيتار؟ أنا، يقول سعد. بعد غدٍ تأتي وغيتارك ولحن لقصيدة بن جونسون To Celia وتغنيها لنا. بثَّت الحماسة فيهم وأدخلتهم شرفة الأدب الإنكليزي الواسعة قراءة وأفلاماً ونقداً، من برنامجهم ومن خارجه. علَّمتهم متعة المعرفة، واتُّهِمَت بأنها تضيِّع وقتهم."

ثائرة وحنون، حازمة ورقيقة، متفاعلة مع الآني وحنينيَّة، مستسلمة للوَلَه ومترددة، ناضجة وطفلة، واقعية وأثيرية، شفافة وعنيدة... من كل تلك المتناقضات المقلِقة التي يتميز بها الأدباء والشعراء والمفكرون والروحانيون تتألف شخصية حياة أبو فاضل المنعكسة في مرآة نصوصها الجميلة بوحاً صادقاً لا يخالطه غش أو خداع أو إخفاء للمشاعر. ثمة أيضاً، إلى ما ذكرنا، ناحيتا الجرأة والصدق، وهما الضرورتان الأوليان للأدب الحقيقي.

*** *** ***


* حياة أبو فاضل، حياة: 99 قصة قصيرة جداً، منشورات رياض الريس، 2001.

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود