وثيقة واجبات الإنسان

 

ندره اليازجي

 

المصدر الحقيقي لكل الحقوق هو الواجب. إذا قام كل منا بواجبه فإن الحقوق سوف تتوطد من تلقاء ذاتها [] العمل هو الواجب، والحق هو ثمرته.

المهاتما غاندي

 

أحب قبل البدء ببحث هذا الموضوع أن أشير إلى أن مضامينه وتطبيقاته تتحقق في الواقع المثالي الذي نشهد فيه تطبيق "الإعلان العالمي لحقوق الإنسان" في إعلان آخر يدعو إلى تحقيق "واجبات الإنسان".

يشتمل هذا البحث، في قسمه الأول، على تأمل الحقيقة التي تنطوي على الإرادة الفاعلة، الداعية إلى تجاوز فلسفة الحق إلى حكمة الواجب. ويشتمل، في قسمه الثاني، على دراسة تاريخية واجتماعية وإنسانية للإعلان العالمي لحقوق الإنسان، تتضمن رؤية شاملة كلية لهذه الحقوق، وتتمثل في الدعوة إلى تربية إنسانية تؤدي إلى تحقيق الحقوق عبر الواجبات.

*** *** ***

عندما أفكر في واجباتي، أجد نفسي بعيداً عن تحقيقها. وعندما أفكر في حقوقي، أجد نفسي أطالب بها. فأنا أرغب في الحصول على كل ما أطالب به وأدّعي أنه من حقي. وفي هذه الرغبة والادعاء تكمن مطالبي التي أعتبرها حقوقي. وفي هذه الحالة، أعلن وثيقة تشتمل على حقوقي الطبيعية والوضعية، وأطالب بوضعها موضع التنفيذ. وعلى غير ذلك، أهمل واجباتي التي تتطلب التنفيذ والتحقيق.

عندما تأملت العلاقة القائمة بين الواجب والحق، وتعمقت في فهم هذه العلاقة، وضعت مبدأ لحياتي يجعلني أتمثّل الوجود الطبيعي والاجتماعي، ويحثّني على تحقيق المقولة التالية: يجب على الإنسان أن يبشّر بحكمة الواجب قبل أن يبشّر بفلسفة الحق وعدالته. وعلى هذا الأساس، يجب على الإنسان الذي يسعى إلى تحقيق كمال إنسانيته أن يستعيض عن كلمة "الحقوق" بكلمة "الواجبات". والحق أنني توصلت إلى هذه النتيجة بعد أن تحدثت، لفترة طويلة، مع أشخاص عديدين في موضوع حقوق الإنسان، وأدركت، وأنا أعيد النظر وأتأمل الأوضاع البشرية التي، من خلالها وفي نطاقها، يقحم الناس رغباتهم المنفعلة ويجعلون منها قضية تنطوي تحت مقولة الحقوق، أن الإنسان الواعي يقف من الإنسانية موقف المحبة والتضحية والتحمّل العقلي والأخلاقي وهو يعلن حقيقة موقفه على النحو التالي: ليس للإنسان حقوق، إنما عليه واجبات!

عندما بلغت هذا المستوى من التفكير التأمُّلي، سألت نفسي: ما هو حقي في الوجود؟ وأجبت نفسي: ليس بمستطاع أحد من الناس أن ينتزع مني هذا الحق أو يجرّدني منه إن كنت أحقق حقي في الوجود من خلال الواجب الذي أسعى إلى تحقيقه في الوجود. وعلى هذا الأساس، أحتفظ بحقي في التفكير لسبب جوهري هو أنني كائن مفكر كائن ملتزم بواجب التفكير، يدرك أن أحداً من الناس لن يكون قادراً على الدخول إلى محراب حقيقة جوهره. وهكذا، وعيت أن حقيقتي لا تشيِّد قاعدتها على الحق بمقدار ما تشيّده على الواجب.

في ضوء هذا التفكير التأمُّلي، سألت نفسي: ما هو الواجب؟ ما هو واجبي في الوجود؟ وأجبت: يتمثل واجبي في فهم الوجود، والإصغاء إلى أحكام عقلي ووجداني، والسعي إلى تحقيق الإيجاب الكامن في كياني، والتوفيق بين السلب والإيجاب ضمن توازن يتكامل فيه هذان القطبان المتعارضان، والتأكد من أنني كائن كوني متصل بالكل، والتيقن من وجود غاية سامية تجعلني أتجاوز وجودي إلى ما لانهاية والعمل الدؤوب لتحقيق هذه القيم التي ندعوها الخير المحقَّق والمطبَّق في نطاق المجتمع. وهكذا، أدرك أن وجودي يتمثل في الواجب وليس في الحق.

علمت أن حكمة الواجب أكثر صدقاً من فلسفة الحق، وذلك لأن الواجب مبدأ يتصل بالعطاء، والخدمة والتضحية والوعي الذي يبلغ سموه في هذه القيم والمفاهيم، وعلى غير ذلك، أدركت أن الحق يعني، فيما يعنيه، الأخذ من حق مسلوب أو يشير إلى حق مستغِل أو مغتصِب. وإذا أردت أن أحدث معياراً للحق والواجب من وجهة نظر العظمة، أدركت أن العظيم هو الإنسان الذي يعطي أكثر مما يأخذ وأن الناجح هو الإنسان الذي يأخذ أكثر مما يعطي. وعلى هذا الأساس، علمت أن الواجب هو حق الوجود على الإنسان وليس حق الإنسان بأي شيء.

يدهشني أن أسمع الناس وهم يطالبون بحقوقهم ويتجنبون واجباتهم أو يتجاهلونها. وإذا أرى الفردية تطالب بما تدعي وتزعم، على أي مستوى، وتتذمر وتحقد معتقدة أن المجتمع، أو الطبيعة، أو الحكمة الكونية أو القائمين على إدارة شؤون المعيشة لا يحققون مطالبه، أدرك أن الشرور الاجتماعية تكمن في هذا الإدعاء والزعم. وقد استخلصت أن المساوئ العديدة ترد إلى كثرة المطالب الفردية أو الفئوية التي تصوغها على نحو حقوق: يطالب كل فرد بحقه وتطالب كل فئة بحقها، يطالب كل فرد برفع الظلم عنه ويطالب الظالم بحقه فيما يفعل. واستخلصت أيضاً أن قيام كل فرد بواجبه خير قيام، يعني حصول كل فرد على حقه. وعندئذ تتقلص طلباته ومطالبه، ويُعرض عن إقحام الحق في غير موضعه.

لم أستطع أن أتبنى فلسفة الحق، وذلك لأن الإنسان يتغاضى عن حكمة الواجب، ولأن حقي هو واجبي ذاته. فلو كنت أقوم بواجبي، من جميع الوجوه، لعادت إليّ نتائج القيام بالواجب على نحو حق. وهكذا، يعد الواجب الحق الذي يأمرني أن أؤديه. فالتضحية واجب لأنها حق عليّ يُلزِمني بخدمة غيري، والعدالة واجب، ومحبة الآخرين واجب، وانفتاح قلبي وعقلي نحو الآخرين واجب، والاعتراف بالتنوع والتعدد على مستويات العقيدة واجب، وذلك لأنها تشكل الحق الذي ألقاه الوعي الكوني على عاتقي.

لم أستطع أن أتصور أن كل واجب يقابله حق، وذلك لأن التبادل لا يجد له موضعاً في الفعل الأخلاقي. ومع ذلك استطعت أن أتصور أن واجبي الذي أؤديه هو حق ألتزم به. وعلى هذه القاعدة، أوطّد علاقة الحق بالواجب. وإن كنت أعتبر نفسي شاهداً للحق، فلأن حقي الوحيد هو أن أقوم بواجبي.

يبلغ هذا الحق كماله عندما أدخل هيكل وجداني ومحراب ضميري فأرى، في قدسيتهما، حقوقه عليّ ومطالبه مني. على هذا الأساس، أقوم بواجبي الإنساني والكوني لأن كياني، في جوهره، يتطلب مني تحقيق الحق وتطبيقه. وإن أعظم وأسمى مثال لتحقيق الحق يتجلى في تطبيقه على نحو عملي. فالحق هو الذي يهتف في أعماقي، ويطالبني بما للطبيعة والكون، وكرامتي الإنسانية والحقيقة السامية، والإنسان، أي الآخر، من حقوق علي. وبالفعل، أتعهد بتحقيق هذا الحق بقدر ما أؤدي من واجبات تجاه الحقيقة والإنسان.

رأيت قضية حقوق الإنسان تنعكس في الحقل الاجتماعي، على نحو تزداد فيه مطالبة الفرد بحقوقه والجماعة بحقوقها. وعلمت أنها "الأنا المغلقة"، على نحو فردي أو تجمعي، هي التي تطالب. وليست هذه "الأنا المغلقة" التي تسيطر على كليّة الكيان الواعي غير الانفعال الذي يطيح بالحكمة المنشودة على مستويات الغايات النبيلة. والحق أن الأنا في انغلاقها وانفعالها هذا، تسعى إلى الاستزادة من المطالب لأنها تدعي ملكية الحق. وعلمت أن الحق الذي تطالب به "الأنا المغلقة"، على الرغم من أنه وهمي وزائف، هو الرغبات التي تتعلق بها. وعندئذ، تعلن هذه الأنا أن واقعها يتوطّد بمقدار ما تحققه من مطالب تغلّفها بالحقوق. وفي هذا النطاق، يصبح الإنسان فرداً كان أم جماعة، راغباً في المطالب ومتعلقاً بها.

تتمثل الحقوق العديدة والمتنوعة في حق الحياة، وحق التملك، وحق التفكير، وحق الاجتماع والاعتقاد، الخ. وفي هذا التمثل، يتضمن الواجب، في حده الأدنى،في تبادل الحقوق، ومقابلة حق بحق. فإذا ما طالب إنسان بحق، عارضه الحق الذي يطالب به إنسان آخر، وإذ يعلم أن هذا التبادل لا يفيد في تحقيق رغباته وتعلُّقاته التي يدعوها حقوقاً، يسعى إلى إلغاء حقوق غيره وتأمين حقوقه. وفي الوضع الذي يرى فيه الإنسان نفسه عاجزاً عن تحقيق حقوقه المجسدة بالرغبات والتعلُّقات، يتمرد وينفعل ضد الحقوق التي فُرضت عليه أو حُرم منها.

عندما أعدت قراءة آراء الفلاسفة الاجتماعيين الذين نادوا بحق الثورة لاسترداد الحق، تصورت المأساة الإنسانية، وعلمت أن كل ما أقامه الإنسان على أساس فلسفة الحق ليس أكثر من وهم باطل يشير إلى انفعال الأفراد أو الفئات الذين يتعلقون بحقوقهم وإلى انفعال الأفراد والفئات الذين يرغبون بحقوقهم. في هذه الحالة، يصبح المجتمع حلبة صراع تتأجج في وسطها المصالح المتنازعة. وما لم يطبّق تبادل للحقوق بالتساوي - وهذا أمر يستحيل تطبيقه في حلبة الصراع -، فإن النزاع التجمُّعي سيستمر بأشكال متعددة ومتنوعة.

رفضت فلسفة الحق، واعترفت بحكمة الواجب التي أتبناها. واعتبرت هذا الاعتراف، أو التبني متصلاً بوجداني ووعيي. وعلمت أن قناعتي الوجدانية بهذا الاعتراف والقبول تنبثق من كياني وليس من ذاتي المغلقة. وعلمتني قناعتي هذه أن حياتي تقوّم، لابل تتحقق، في إطار الأمور البسيطة التي تكفيني على نحو حق للمعيشة والحياة معاً. فأنا أقتنع بالقليل من المطالب، أي الحقوق، إن كان لابد لي أن أطالب. وعلمتني أيضاً أن فعاليتي الروحية والكونية تضمحل إن أنا أكثرت من التملك الذي أعتبره تحقيقاً لحقي. وبالإضافة إلى ذلك، علمتني أن كياني، الذي نُحت فيه ناموس الحياة، يفرض علي مبدأ الواجب.

يعد واجبي نحو بني الإنسان أمراً أخلاقياً فوضتني الحقيقة السامية بمسؤولية تحقيقه، وجعلتني وكيلاً على تنفيذه. وعندما أتعمق في فهم وجودي، أدرك أنه واجب طبيعي وكوني. فمن واحبي أن أحيا وليس من حقي، وهذا يعني أن واجبي يتحقق في أن أحيا حياة سامية، وواعية ومنعتقة من القيود والإشراطات. ولما كانت الحقيقة السامية تتجرد من الحقوق، وتحيي الوجود وتحيا فيه، وتتخلَّله وتنبث فيه، فإنها تبدعه بواجب محبتها.

إذ بلغت هذا المستوى من التفكير، طرحت على نفسي السؤال التالي: كيف أطالب بحقوق كثيرة ما دامت حياتي تستغرق ذاتها في الواجبات؟ كيف أطالب بحق إن كنت عاجزاً عن القيام بواجب وتأديته على أفضل وجه؟ كيف أطرح واجباتي جانباً، وأتحوّل إلى مطالبة جدية لتحقيق رغباتي التي تصطبغ بصبغة الحقوق إن كانت حياتي تتحقق في الواجب؟ ولقد أجبت نفسي على النحو التالي: لما كانت القيم الأخلاقية تتمثل في داخلنا على نحو حقوق، فإنها تطالبنا بتحقيقها على نحو واجبات. لذا، كانت المحبة واجباً؛ وكانت الخدمة واجباً؛ وكانت الحياة المتوافقة مع أنبل المبادئ واجبات وكانت الحكمة والمعرفة واجباً يؤدي إلى النفع أو الخير الذي يجنيه الآخرون؛ وكانت الحرية المتوافقة مع الوعي واجباً؛ وكان التعبير عن الرأي المنطقي والحكيم واجباً. وهكذا، يحقق الإنسان واجبه في الوجود الذي يطالبه بتحقيق حق وجوده، وذلك ليكون لوجوده معنى.

أدركت أنني لا أستطيع أن أفعل أو أميز بين واجبي الكوني، والروحي، والإنساني والاجتماعي. هذا، لأن كل واجب كوني وروحي هو واجب إنساني واجتماعي. فمحبتي للوجود تتحقق بفعل واجبي الذي يقضي بانسجامي وتناغمي مع الوجود الاجتماعي ومع الحقيقة السامية. ومحبتي للخير والفضيلة تتمثل في هذه المحبة الواجبة نحو الآخرين. وبالفعل، يعتبر الواجب الحق الذي يطالبني به الغير. فليس للوجود وحده حقوق على بل إن للناس حقوقاً مماثلة. والحق إنني لا أستطيع أن أفي حق الآخرين علي إلا بواجبي. وليس من حقي أن أطالب وأنا أقوم بواجبي، هذا لأن الواجب لا يكافَأ والمحبة لا تطالِب بالتعويض.

عندما أفكر بالحق الذي يطالبني به الغير، أتصور هذا الحق في عقلي ووجداني فأراه ناموساً نُحت وكُتب في هيكل روحي. ويدفعني هذا التصور، المسلّمة أو البديهة،إلى تأدية واجبي الذي هو الحق الذي يفرضه عليّ وجداني ووجودي ككائن إنساني واجتماعي. وهكذا تنبثق محبتي للناس من فهمي لهذا الواجب وتأديته في آن واحد. وبالتالي، يعتبر كل واجب أؤديه نتيجة لحق مسؤول عنه.

في هذه العبارة الأخيرة، تكمن مسؤوليتي الإنسانية. وتتمثل هذه المسؤولية في الواجب غير المشروط، والمنعتق من كل رباط وقيد وفي كل رغبة في الثواب وخوف من العقاب. ولما كنت أدرك العمق القائم في الوجود، فإنني أدرك عظمة مسؤوليتي المتوافقة مع عظمة الوجود، وأعلم أنني أكمل واجبي بقدر ما أحقق مسؤوليتي، ولما كانت مسؤوليتي غير محدودة، كان واجبي غير محدود. وهكذا، يبلغ واجبي نطاق التضحية بنفسي. ففي التضحية، أبلغ أرفع وأسمى مراتب الواجب.

أصبحت أعلم أن المسؤولية تجعلني أستغرق حقيقتي. والحق إنني لا أستطيع أن أبرهن عن سمو هذه الحقيقة وعمق هذه المسؤولية وعظمتها إلاّ عندما أضع مبدأ الواجب موضع التنفيذ. وعندئذ، أعتبر هذا المبدأ الوسط المعدّ للحياة في الحقيقة. وعندما أؤدي واجباً من واجباتي، أجد نفسي أخطو خطوة باتجاه الغاية التي تظهر لي، من بعيد،نوراً تتألق فيه مثالية الحياة.

وجدت أن التعاليم القويمة هي تلك التي تنادي بالحكمة الماثلة في الواجب وتُعرِض عن فلسفة الحق. فقد وضعت هذه الحكمة الإنسان في وسط واجباته، وعلمت بأنه لا يستطيع أن يحقق قيمته الإنسانية، التي تمثل الوعي الكوني، ما لم يحقق واجباته في واجباته في الحياة هذه الحياة التي تتّسم بالمسؤولية. ألا ترى كيف تتجلّى الحياة لنا على نحو مسؤولية كبرى؟ ألا نرى أن من كان مسؤولاً كان ملتزماً بالقيام بواجبه؟ تغاضوا أدركت أن الذين ينادون بحقوقهم ليسوا إلا بشراً عن قيمتهم الإنسانية وعن مسؤوليتهم في الحياة. وقادني إدراكي هذا إلى تجاوز ما جاء في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وذلك لأنه يجعل الإنسان فرداً تجمعياً، وتُسقط الإنسان الحقيقي الذي وُجِد على هذا الكوكب لتحقيق غاية كونية. وقد علمت أن الحصول على الحقوق، أو اكتسابها، لن يجعل من الناس كائنات تتميز بالوعي والحرية، هذا لأنها تتصل بظاهر الإنسان وليس بباطنه أو جوهره.

أخيراً، يمكنني أن أقول: لا يتساوى الواجب مع الحق، ولا يمكننا أن نُقر بوجود الحق لأن مبدأ الواجب حكمة سامية تتضاءل أمامها قضية الحق. فبقدر ما يسمو مبدأ الواجب، تتقلص قضية الحق. وبقدر ما تتقدم الحقيقة الإنسانية التي تتمثل في مسؤولية تحقيق الوجود، تتراجع قضية الحق التي تطالب بتحقيق الأنا وتُغفل تحقيق الجوهر. هذا، لأن الواجب، الذي هو فعالية الطاقة الروحية ومثول الأبدية في كياني، لا يشير إلى الصراع والتجزئة والفصام، بل يشير إلى التعاطف، والعلاقة، والانسجام، والمشاركة، والمحبة، والوعي والتضحية. وعلى غير ذلك، يشير الحق الذي يطالب به الفرد الذي لم يبلغ مستوى الوعي، وعي النفس ووعي الوجود، إلى الصراع الدموي الذي يؤدي بدوره إلى موت الحضارة. لهذا السبب، حدثت نفسي قائلاً: حبذا لو سعت البشرية إلى وضع وثيقة تنضوي تحت عنوان "الإعلان العالمي لواجبات الإنسان".

في العاشر من شهر كانون الأول من عام 1948، أقرت الجمعية العامة في منظمة الأمم المتحدة "الإعلان العالمي لحقوق الإنسان". وبعد صدور هذا الإعلان، ناشدت الجمعية العامة الأعضاء السعي المثابر والعمل المخلص لتطبيق الحقوق المذكورة في الإعلان، وتعميق مضامينها ومفاهيمها في نفوس مواطنيها، وتدريسها لطلبة المدارس لينشأوا في نطاق تربية إنسانية تعترف بالحقوق الأساسية، الطبيعية منها والاجتماعية، لبني الإنسان.

رأى القائمون على إدارة شؤون الدول العديدة، الأعضاء في المنظمة العالمية، والمفكرون وغيرهم، في هذا الإعلان أو الوثيقة إنجازاً إنسانياً رائعاً وسامياً يشير إلى استهلال مرحلة جديدة تتيح لكل إنسان في أقطار العالم، بمعزل عن لونه وعرقه ومعتقده ووضعه إلخ. أن يحيا بسلام في عالم تضيق فيه الفروق الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وتتضاءل أنواع الظلم والاستغلال والتمييز العنصري والعرقي الفكري. وقد اعتبر الذين أسهموا في وضع هذا الإعلان المبادئ المتضمنة فيه حقوقاً طبيعية ووضعية في آن واحد.

لئن كان الساسة والمفكرون قد وجدوا في هذا الإعلان الوثيقة العظمى أو الدستور المثالي الذي يبشر بانبثاق عهد جديد تُشرق فيه شمس العدالة والمساواة والأخوة، وتؤكد حرية الإنسان، لكن غاندي، الإنسان الحكيم، تمنى، بعد اطلاعه على مضمون هذا الإعلان، لو استطاعت الجمعية العامة أن تُصدر، إلى جانب هذا الإعلان، إعلاناً آخر يمت إلى واجبات الإنسان بصلة. والحق أن أمنية غاندي أشارت إلى أنه لم يجد في إعلان الحقوق وحده العلاج الوافي لخلاص الإنسان من أنواع الألم، والمعاناة، والاضطهاد، والاستغلال والتمييز والفقر والبؤس.

قرأت الإعلان العالمي لحقوق الإنسان في النصف الأول من خمسينات هذا القرن، يوم كنت طالباً أدرس علم السياسة والاقتصاد. والحق أنني وجدت فيه وثيقة، أو شريعة، أو دستوراً يستحق التقدير والاحترام. وأدركت أن العالم، ممثلاً بمنظمة الأمم، بدأ يعترف ويُقِر، بعد أن آلمته جروح الحربين العالميتين، بأنواع الأذى والضرر والشر التي لحقت بالإنسان بعد التدمير الناتج عن الحربين المذكورتين.

بعد أن تأملت موقف غاندي، الذي أعتبره واحداً من الحكماء الكبار الذين بشروا بالأخوة الإنسانية في القرن العشرين، أعدت النظر في فحوى ومضمون هذا الإعلان، وتعمقت في دراسة السبب أو الأسباب التي دعت إلى وضعه، وتساءلت في داخلي: هل أستطيع أن أعتبر هذا الإعلان وثيقة مبررة وكافية لخلاص أبناء البشرية من معاناتهم؟

ساعدتني قراءاتي ودراستي لهذا الإعلان، وتأملي المعمّق لمضمونه، على استخلاص النتائج التي أستطيع إيجازها على النحو التالي:

أولاً – يشير إعلان الحقوق إلى إدانة التاريخ الإنساني السابق لهذا الإعلان وأعني إدانة التاريخ الإنساني السابق لهذا الإعلان، وأعني إدانة جميع القائمين على إدارة شؤون العالم. وفي هذه الإدانة، يصبح التاريخ الإنساني بكلِّيته – باستثناء الفترة التاريخية التي تلت الثورة الفرنسية والتي تم خلالها وضع إعلان مماثل لهذه الوثيقة، تضمن مفاهيم الحرية والمساواة والإخاء – مسؤولاً عن المساوئ والمظالم التي حرمت الإنسان من حقوقه، ومتَّهَماً بتحمل هذه المسؤولية التي أدت إلى الأحوال والظروف السيئة التي تسود المجتمعات البشرية في الوقت الحاضر.

ثانياً – يشير هذا الإعلان إلى أن المؤسسات الفكرية، والإيديولوجية، والعقائدية، والاجتماعية والسياسية وغيرها، السابقة لإعلان حقوق الإنسان، لم تكن مؤهلة للدعوة إلى إعلان يشتمل، في مضمونه، على حقوق الإنسان، ولم تكن قد بلغت مستوى الوعي الذي يؤهلها لتطبيق العقائد والقواعد الخلقية والشرائع التي زعمت بأنها وضعتها لخير أو صالح هذه الغاية. والحق أن هذه الإشارة جعلتني أطرح على نفسي السؤال التالي: هل كانت المؤسسات المذكورة تعاني من ارتياب يتصل بحقيقة أو زيف القواعد التي وضعتها، وأدركت أنها لا تمتّ بعلاقة، وثيقة أو ضعيفة، بحقوق الإنسان؟ هل أن هذا القول يعني أن البشرية، بكامل هيئاتها وعبر مؤسساتها كلها، كانت تتوقع حلول عام 1948 لتنال الخلاص المرتقب وتحققه؟ هل يعني هذا القول إن المؤسسات الغابرة كانت تنادي بحقوق أو بمبادئ لم تبذل جهداً كافياً لتطبيقها، أم أن المبادئ التي وضعتها لم تكن حقيقية وإنسانية في جوهرها، الأمر الذي أدّى إلى الشرور التي تعاني منها البشرية في الوقت الحاضر؟

ثالثاً – يشير هذا الإعلان إلى إدانة القائمين السابقين على إدارة دول العالم لتقاعسهم عن تحقيق العدالة والمساواة بين الناس. ويشير أيضاً إلى أنهم لم يكونوا الإداريين الصالحين، والحكام المسؤولين العادلين، هذا، لأن مصالحهم كانت مرتبطة بمصالح الفئات التي كانت تهدف إلى استغلال الفئات الأخرى، وخاضعة لأنانيتها. ونتيجة للفساد المهيمن على المجتمعات البشرية، دعا حكماء، أمثال سقراط وأفلاطون والفارابي، إلى توطيد أسس إدارة الحاكم الفيلسوف الذي يقيم علاقة وثيقة بين حكمه وحكمته.

رابعاً – يشير هذا الإعلان إلى أنه دعوة إلى التخلّي عن السلب الناتج عن انفعال "الأنا المغلقة" واللجوء إلى الإيجاب الناتج عن معرفة الإنسان بجوهر كيانه. فإن كانت البشرية قد عانت، في ماضيها، من أنواع السلب، فمن الضرورة أن تسعى المجتمعات الحديثة بكليتها إلى سلب هذا السلب لتحقيق الإيجاب. ولهذا السبب، دأبت منظمة الأمم إلى اقتلاع جذور الأسباب السلبية التي أدت إلى الشرور الطاغية، ودعت إلى الخلاص من سلبيات الماضي القائمة في المظالم العديدة والمساوئ الخطيرة التي أهانت الكرامة الإنسانية، وأذلتها وحرمتها من حقوقها. وعلى هذا الأساس، لا يتسنّى للبشرية أن تستعيد حقوقها التي حرمت منها إلاّ بإدانة السلبيات لمصلحة ومنفعة الإيجابيات.

خامساً – يشير هذا الإعلان إلى أن التاريخ العام، المكتوب على نحو علني ومنهجي، والسابق لصدور هذا الإعلان، يحدثنا كيف أن القائمين على إدارة شؤون البشرية لم يكونوا مؤهَّلين لتأدية الرسالة الإنسانية والاجتماعية والكونية الملازمة لحقوق أبناء البشرية. فقد عمدت المؤسسات المتنوعة، سياسية كانت أم اجتماعية أم عرقية أم فئوية أم مذهبية، إلى مناوأة ومعاداة بعضها بعضاً، والتعصب لمرتكزات عقائدها أو إيديولوجياتها، والتحيُّز لمواقفها بعنف، وتتهم الواحدة منها الأخرى بالانحراف وبالضلال، وتحتفظ لنفسها بحق مصادرة الحقيقة المطلقة واحتكارها. وهكذا، ساد العنف أرجاء العالم الإنساني، على صعيد الدول وعلى صعيد المؤسسات وصعيد الأفراد. وغرق أبناء الإنسان في صراع دموي ونفسي وفكري، واندلعت حروب باردة وحارة، علنية ومستترة، الأمر الذي أدى إلى إحلال المصالح الخاصة محل المصالح العامة، وتوطيد الحقوق المزعومة للفئات التي وضعت نصوص وقواعد وشرائع الحقوق، وحرمان الفئات الأخرى عنها. وقد دأبت الفئات بأجمعها إلى الاحتفاظ لذاتها بحقوق السيادة الزائفة، والدفاع عنها باسم الحقوق.      

أسمح لنفسي، وقد بلغت هذا الحد من التفكير، أن أتحدث عن القاعدة أو القانون الذي هدف واضعوه إلى عدم تدخل الدول في شؤون غيرها حفاظاً لمبدأ حقوق الدولة في سيادتها. فقد أعلن واضعو هذا القانون مبدأ "عدم التدخل". ولما كان واضعوه، وهم رؤساء وإداريو الدول القوية بسلاحها ومواردها، والمتطورة بعلمها، والطامعة في ثروات الدول الأخرى، قد سعوا إلى تنظيم شؤون غيرهم بما يتفق مع مصالحهم، فإنهم أعلنوا قانوناً آخر انطوى على مبدأ "التدخل لمنع التدخل" والحق إن هذا المبدأ قصد في صميمه، تجريد الدول أو حرمانها من حقوقها في السيادة. لقد خُرق القانون أو المبدأ من قبل واضعيه، وانطوى الحق في غياهب النسيان.

يمكنني أن أقول: إن ما حصل في نطاق القانون الدولي والسياسة القومية، حصل على نحو مماثل، في نطاق العقيدة والاقتصاد والاجتماع لسبب هو أن كل فئة تدعي حق وجودها وحده، وحق التدخل في حق غيرها، وتعتقد جازمة بامتلاك الحقيقة المطلقة، الأمر الذي يشير إلى مشاهدة الحقوق كاملة في ثنايا مصلحتها وعقيدتها. فهي، إن نادت بالعالمية والشمول، أو بالعدالة والفضيلة والخير، إنما تقصد عالمية وشمول عقيدتها أو إيديولوجيتها داخل نطاق عقيدتها، الأمر الذي يشير إلى حرمان غيرها من حق الاعتقاد وحرية التفكير.

إذ بلغت الحدود القصوى للتأمل في قراءتي ودراستي، سألت نفسي من جديد: هل استطاع هذا الإعلان، بما انطوى عليه من روائع الحقوق، أن يعيد هذه الحقوق إلى أبناء البشرية الذين حرموا منها؟ لماذا يعجز هذا الإعلان عن توفير الوسط الملائم والمناسب لإعادة الحقوق إلى كل من حُرِم منها؟

سعيت إلى إجابة نفسي على النحو التالي:

أولاً – أعتقد أن إعلان حقوق الإنسان يشير، فيما يشير، إلى إدانة عملية وواقعية لجميع المؤسسات الماضية، بأنواعها وتعدد صفاتها في النطاق السياسي والاقتصادي والاجتماعي والعقائدي. ومع ذلك، أتساءل: هل بلغ المجتمع العالمي الحالي، الممثل بالمؤسسات السياسية، والاقتصادية والاجتماعية والعقائدية المستوى اللائق بالوعي الذي يسمح له بتحقيق المبادئ المذكورة في الإعلان؟

تشير إجابتي إلى التأكيد على أن هذه المؤسسات لم تبلغ هذا المستوى الذي يتحقق، في نطاقه، هذا الإعلان السامي ويطبَّق على المجتمعات البشرية جمعاء. وإذ أسأل نفسي عن السبب أو الأسباب التي تحول دون تحقيقه وتطبيقه، أجيب: إن الإدانة التي نوجهها إلى أسلافنا القدامى، مازالت تتخلل مؤسسات العصر الحديث. والحق أننا أحفاد إداريي المؤسسات العديدة الذين اتهمناهم، ونتهمهم، بالتقاعس في حقل تطبيق الحقوق. فمازالت الدول، الصغيرة منها والكبيرة، يحارب بعضها بعضاً؛ ومازالت العقائد والاتجاهات الفكرية العديدة تتناحر وتحتفظ لذاتها بحق الدفاع عن الحق ومصادرته، واتهام غيرها بالضلال؛ ومازال الاقتصاديون والمستغلون يضعون الخطط لاصطياد ثروات الشعوب والأفراد في شباكها؛ ومازالت العنصرية والعرقية تلعب دوراً خطيراً في إثارة البغضاء والعداء والصراع، إذ يدعي بعضها بالتفوق على بعضها الآخر؛ ومازال عالم الإنسان يجول في حلبة صراع لا مجال فيها لقيام حقوق الإنسان بدورها.

تأملت الوقائع المؤلمة التي أدت، أو تؤدي، إلى الإطاحة بسعادة الناس وازدهارهم، وإلى حرمانهم من سُبل المعيشة اللائقة وتحول دون تحقيق حقوقهم الإنسانية، ودرست الأسباب التي تدعو القائمين على إدارة المؤسسات المختلفة أن يحتفظوا بالتراث المأساوي الذي خلَّفه لهم أبناء الماضي، ويكرروا أخطاء وخطايا أسلافهم؛ وتساءلت عن السبب أو الأسباب التي تقضي بانتقادهم، والسعي، في الوقت ذاته، إلى محاكاتهم والسير في دروب اعوجاجهم. في هذا التأمل، والدراسة والتساؤل، حدثت نفسي بما يلي:

أولاً – عندما اطلعت على أحداث التاريخ الإنساني، أدركت أن المقولة الشائعة التي ذكرها بعض المؤرخين وهي "التاريخ يعيد نفسه" لاتزال تحتفظ بصحتها في الواقع الذي يشير إلى عدم استفادة الناس من دراسة الأخطاء المتراكمة في التاريخ الماضي، تماماً كما يحدث للأفراد الذين لا يستفيدون من دراسة عثرات ماضي حياتهم. فإذا كان الناس يعرضون عن فهم ووعي الأخطاء التي ارتكبها أسلافهم السابقون في التاريخ الإنساني ويسوِّغون أفعالهم الخاطئة المدعومة بالحقوق، فإنهم، بالضرورة، يرتكبون الأخطاء ذاتها. وهكذا، تكرر البشرية ذاتها وهي تنفعل بسلوك الأقدمين أو الأسلاف، وبما جرى لهم، أجيب:

أ – نشأت الغالبية العظمى من أبناء الإنسان في ظل "العقل المكوَّن"، ورفضوا التحول إلى "العقل المكوِّن" الذي يعيد النظر، ويتأمل بعمق الطروح الفكرية والعقائدية الماضية والأحداث السابقة. والحق إن "العقل المكوَّن" عقل يحيا في وسط الماضي على نحو ثابت وصلب، ويأبى التجديد أو التعديل أو الانتقال إلى مستويات فكرية، أو حضارية، أو ثقافية، أو علمية، ويرفض الامتداد إلى مستويات أخرى تتفاعل في وسطها الحضارات، وتتداخل قيمها مع بعضها على نحو تبادل ودّي وتعاطفي تتكامل فيه الأبعاد الإنسانية المتنوعة. إنه عقل يتعالى، في ضيق أفقه، على الحوار لأنه يرى في الماضي المثال المحتذى والنموذج الوحيد الصالح، ويسعى إلى طيّ الحاضر والمستقبل وكل إبداع وعلم في تلافيف الماضي. ويرى هذا "العقل المكوَّن" في كل توفيق بين الماضي والحاضر إساءة إلى المثال السالف المحتذى. ويرفض هذا "العقل المكوَّن" أن يأخذ بالعملية الفكرية التأليفية والمتفاعلة التي تشير، كما قال أحد المفكرين، إلى "وَصْل الفَصْل" و"فَصْل الوَصْل". ولاشك أن هذا الرفض يستبعد وَصْل الحاضر مع الماضي في أمور تصلح لواقع الحاضر، أو فصل الحاضر عن الماضي في أمور لا تصلح لواقع الحاضر، ولا تفيده بأي خير. وعلى غير ذلك، يؤمن "العقل المكوِّن" باستمرارية المعرفة وسيرورتها وصيرورتها المتواصلتين، وعدم توقفها عند مستويات يحتمل أن تبدو مختلفة، أو معدَّلة، أو مطوَّرة لماضٍ يقتضي التعديل. إنه عقل يرى في التطور الإنساني تقدماً، وازدهاراً، وصعوداً على سلم الوعي والحرية، وانفتاحاً إلى عوالم أكثر اتساعاً وأكثر كونية. وفي هذا المنظور، لا يرى هذا "العقل المكوِّن" في الماضي مثالاً أو نموذجاً ثابتاً غير قابل للتعديل؛ ويدرك أن العرفان، أو الحكمة، أو الوعي، عملية دينامية وفعّالة لا تتوقف، وتتابع تطورها، أو نموّها، إلى غايتها القصوى، الماثلة في أبدية الحقيقة. وإذ يتجاوز "العقل المكوِّن" الآلية المكرّرة دون وعي، يعلن مقولته الجديدة التي يعبّر عنها على النحو التالي: "يجب ألا يعيد التاريخ ذاته".

ب – إن بقاء "العقل المكوَّن" أسير ماضيه واقع يشير إلى تمسّك المؤسسات كلها، بأنواعها السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، والعنصرية والمذهبية بـ"النمطية المُنَمْذَجَة" أو بـ"النمطية المؤطَّرة". وفي أحضان هذه "المنهجية المتصلِّبة" تترعرع مآسي الماضي في الحاضر، الأمر الذي يجعل هذا الحاضر ينأى عن الوسط الذي تتحقق فيه حقوق الإنسان وتُطبَّق، وذلك لأن إدانة الماضي على نحو نظري، والتمثل به على نحو واقعي، قضيتان تمتدان إلى الحاضر الذي يكرر الماضي.

ثانياً – عندما أتأمل الأحداث التي يحتمل أن تقع في المستقبل، وأتصور النتائج الحاصلة، أشاهد الصورة التي رسمها أبناء الماضي أو تلك التي رسمناها لهم. وإذ أُسقط تصوري المحتمل والمدعوم بخيال خصب يمتد ويتسع إلى الأفق البعيد الذي أطلُّ، من خلاله، على مستقبل، هو وليد الماضي، أعاين الكائنات البشرية تحفر في عمق التراب وتنقب عن آثار الماضي في طبقات انطوت في داخلها، الوقائع التاريخية التي تعود لبضعة آلاف من السنين. وعندما يبلغون في تنقيبهم العمق الذي يساعدهم على قراءة تاريخ الفترة الزمنية التي ندعوها القرن العشرين، يكتشفون كتاباً صغيراً يحمل عنوان "الإعلان العالمي لحقوق الإنسان". وبعد حلّ رموز اللغة أو اللغات التي كُتبت بها هذه الوثيقة، يعلنون عظمة ذلك القرن، ويقرّون بسموّ أبنائه ورقيهم. ومع ذلك، يستمر أبناء الغد في تنقيبهم ويتابعون بحثهم

وفي حفرة محددة، أو في موضع معين، يكتشف المنقِّبون مكتبة تحتوي على الكتب والمؤلفات والبحوث والدراسات العديدة والمتنوعة. وعندئذ، يزداد إعجابهم بهذا القرن الذي بلغ درجة عليا في سلّم الرقي المدني والسمو الحضاري والثقافي

وبالمصادفة، تقع أيديهم على كتاب، أو كتب، تتحدث عن المآسي التي حلت بذلك القرن والذي عانى معاناة مريرة من حربين عالميتين، ومن حروب محلية أخرى، وانغمس في مستنقع العصبيات والتحديات الصادرة من المؤسسات المتعددة في نطاق السياسة والاقتصاد والاجتماع والعقيدة. وفي تلك اللحظة، يبدي أبناء المستقبل دهشتهم، ويتساءلون عن حقيقة هذا القرن، ويهتفون في سرّهم: عجباً لهذا التناقض الذي تميز به القرن العشرون! كيف استطاع هذا القرن أن يُقرَّ بإعلان يشتمل على حقوق الإنسان، ويعمل على تجريده منها وإذلاله؟ كيف استطاع هذا القرن أن يبلغ بعلمه حدود المعرفة التامة، وينحط إلى درك التفاهة التي سادت عقول الناس؟ كيف استطاع هذا القرن أن يدعو إلى مثالية الحياة ويقبع في ظلمة الواقع الأليم؟ وعندئذ، يضطر أهل المستقبل أن يطرحوا على أنفسهم السؤال التالي: هل طبق أبناء القرن العشرين المبادئ التي دعا إليها إعلان حقوق الإنسان؟ كيف وضعوها موضع التنفيذ؟ ومن هم الذين قاموا بوظيفة هذا التطبيق؟ كيف نشاهد آثار مآسيهم وآلامهم إن كانوا قد سعوا فعلاً، أو بذلوا جهداً لتطبيق هذه الحقوق؟ لماذا عجز أبناء القرن العشرين عن تطبيق مبادئ الإعلان؟

وإذ يبلغ تصوري حدوده القصوى، أعاين أبناء المستقبل وهم يتابعون تنقيبهم إلى الطبقات الأكثر عمقاً للتراث الإنساني، ويبلغون مستويات أعمق وأبعد في تلك الطبقات. عندئذ، يدركون أن البشرية لم تتغير، في ماضيها وحاضرها، وأن التاريخ يعيد ذاته، وأن حقوق الإنسان لم تطبَّق على النحو المثالي الصحيح، وأن الإنسان لم يعقِل جوهره الذي يدعوه إلى المعرفة التي تشير إلى أنه كائن كوني، وأن الحقوق الطبيعية والاجتماعية والكونية لا تتحقق إلا بهذه المعرفة المضمَّنة في الغاية العظمى للوجود.

أعتقد أن الأسباب التي أدت إلى عدم تحقيق حقوق الإنسان وتطبيقها تكمن في مفهوم التربية الانفعالية التي نشأ عليها الناس ولوّنت عقولهم بألوان متنافرة تدعو إلى التناحر هذه التربية التي تترعرع في أحضان السلب القائم في "الأنا المغلقة". وتشير هذه التربية الانفعالية إلى أن القائمين على تنشئة أبناء البشرية، وتوجيههم وإرشادهم يلقنون أبناءهم وأنصارهم أو أتباعهم قواعد السلوك الخاصة بهم، والأسس التي يبنون عليها صرح معتقدهم. وهكذا، تهيمن الآراء والاتجاهات الفكرية المصطبِغة بألوان الإيديولوجيات والعقائد المتعددة، والمؤسسات المتنوعة التي تسيطر على عقول المنتمين إليها، والذين ينفعلون بشرائعها. ولمّا كانت العقائد، والمؤسسات والإيديولوجيات السائدة تدّعي امتلاك الحقيقة، أو تزعم أن قواعدها وشرائعها ونظمها ومعتقداتها تشمل على كل ما جاء في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر عن منظمة الأمم أو عن غيرها، الأمر الذي يجعلها في غنى عن العمل به أو الأخذ بمبادئه، وتدعي أن الحقوق الحقيقية قائمة في صلب الشريعة أو الإعلان الذي تدعيه أو تزعمه أو تعتقد به، فإن العالم، منظوراً إليه عبر مجتمعاته الرسمية وغير الرسمية، الصغيرة أو الكبيرة، يقف على شفير هاوية الأحقاد، والضغائن، والنزاعات، والصراعات، والانقسامات التي تحول دون تحقيق حقوق الإنسان.                               

هكذا، تقف التربية الانفعالية الهادفة إلى تنشئة الأجيال في وسط يسوده التمييز، والتحيُّز، والتعصب، وضيق الأفق الفكري، والحكم المسبق، والعقيدة الثابتة، موقف الرافض لتحقيق الحقوق أو تطبيقها، وتجعل من انفعالها عائقاً يحول دون تحقيق هذه الحقوق التي يستحيل تطبيقها في حلبة الصراع التي يهيمن عليها "العقل المكوَّن"، والاعتقاد بحق امتلاك الحقيقة.

وعلى غير ذلك, تشير التربية الإنسانية إلى تعليم النشء وتثقيفه، وتوجيهه وإرشاده إلى القيم الإيجابية. وتتمثل هذه التربية الإنسانية الإيجابية، أكثر ما تتمثل، بتنمية وتطوير "العقل المكوِّن"، المنفتح على التعددية الفكرية والتنوع الإنساني في شتى المجالات والأبعاد. وفي هذا التطوير والتنمية، يتجه "العقل المكوَّن" إلى تحقيق الواجبات التي تحمل الحقوق في مضامينها وتطبيقها. وفي هذا الوسط الذي تسوده النظرة الإيجابية إلى الحياة والموقف الشمولي والكلّي، يتعلم الإنسان القيم والقوانين الطبيعية والكونية التي تشير إلى تحقيق الغاية أو الغايات النبيلة التي تجعل الإنسان غاية بذاته. وإذ ينشأ الإنسان في بيئة فكرية منفتحة أو في وسط إنساني حقيقي، يعلم أن وجوده يقضي، بالضرورة، تحقيق الواجبات. ولاشك أن نشأته في ظل تربية أو بيئة انفعالية تسعى إلى إغراقه في السلبيات التي تشير إلى أنواع التعصب والصلف الفكري والأنانية والاستغلال والموقف المتصلب الناتج عن الأفق الفكري الضيق إلخ. تجعله كائناً آلياً ينزع إلى التصرف الآلي والسلوك التلقائي الذي تفرضه عليه السلبيات التي تعميه عن رؤية الواجبات، و تخضعه لحقوق تربيته الانفعالية، وتجعله يتقوقع في صدفة "أناه المغلقة".

هكذا، أرى أن خلاص الإنسان يتحقق في نطاق تربية تُنْشِئُه وتوجِّهه إلى معرفة الغاية من وجوده، إلى معرفة الحقيقة، وتحقيق الإيجاب الكامن في جوهر طبيعته والمتمثل في الواجب الذي ينضوي تحت إيجابية تربيته الإنسانية والكونية التي تتحقق فيها الحقوق.

*** *** ***

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود