النضج هو كل شيء!

 

يوسف سامي اليوسف

 

ليس من السهل على الناقد – الناقد الأصيل أعني – أن يضطلع بدوره وينهض بمهماته في وقت طغت فيه إما الكتابات النقدية السطحية في الصحف اليومية أو الأسبوعية بغرض ترويج وتسويق هذا الكتاب أو ذاك (!) أو تلك الدراسات الأكاديمية الجافة التي تشتغل على المذاهب الأدبية والنقدية والتعريف بها أكثر من اشتغالها على النص ذاته، على بنية العمل الفني، وإظهار مواضع الإبداع والجمال، أو أمارات التقصير والقبح فيه، إبراز مواطن الجودة أو الرداءة في هذا النص أو ذاك...

الناقد يوسف سامي اليوسف لم يكتفِ فقط برفض كلا الخيارين السابقين، بل عمل، ما وسعه ذلك، على دفع النقد الأدبي حتى غاياته القصوى والأسمى. فهو يطمح أن يعمل النقد الأدبي على "اكتشاف مصبَّات الحنين، التي يتعذر حضورها..."، أن "يقتحم العسير والمكنون، وارتياد ما هو مخبوء في النص، يعجز الذهن عن استباره ولا قبل له في الدنو منه..."

يطمح إلى ذلك النقد الذي يتعامل مع النص بوصفه "رعشة حرية". ولهذا فهو يتجنب الكثير من النصوص التي "لا تضرم في الأفئدة جذوات غافية".

وباعتماده "المنهج المفتوح"، المنهج "الذي يقبل التكثُّر، ويؤمن بالتعدد، المزود بشيء من الرعوش الصوفية الحدسية"، استطاع أن يبدع لنا نصاً نقدياً موازياً في قيمته وإبداعه للنص الذي يشتغل عليه. ولعمري إن هذا ذروة ما يمكن أن يقوم به النقد بوصفه "علماً وفناً وملكة أيضاً..."

ويجدر أن نضيف أن اليوسف لم يشتغل على نقد النصوص فحسب، بل نظَّر للنقد، أو نقد النقد، وكان في هذا مجلِّياً أيضاً، ولا محيد لأي مهتم بشؤون الأدب والنقد من الاطلاع على مساهماته في هذا المضمار، وبشكل خاص كتابيه الأخيرين القيمة والمعيار والخيال والحرية. وحول هذين الكتابين ومسائل النقد عامة كان لنا معه هذا الحوار.

***

س 1: يعزو معظم النقاد أزمة النقد إلى غياب "نظرية نقدية عربية"؛ وهم جميعاً ينطلقون من هذا السؤال: هل في الإمكان أن يوجد نقد ذو قيمة دون الاعتماد على نظرية علمية؟ ما رأيكم في ذلك؟

ج 1: كثيراً ما يتحدث الناس عن نظرية نقدية عربية، وكأن من طبع التاريخ أن يفرز نظرية نقدية لكل أمة من الأمم على الأرض، بحيث تكون هنالك نظريات نقدية في العالم بمقدار ما يكون هنالك من شعوب. وهذا صنف من أصناف الوهم ليس إلا. فمما هو معلوم أن أمريكا وفرنسا تقودان النقد الأدبي في العالم كله طوال السنوات الثمانين الأخيرة. ومع ذلك فليس هنالك شيء تجوز تسميته بالنظرية الأمريكية أو بالنظرية الفرنسية. والذي يتيسر للمرء أن يقوله بهذا الصدد أن هنالك سمات خاصة يتسم بها النقد الأمريكي وأخرى يتسم بها النقد الفرنسي.

ثم هل في الميسور أن تكون هنالك نظرية توافق عليها أمة برمتها؟ إن هذا لأمر محال، وإنجازه ليس في الإمكان بتاتاً، وذلك لأن من طبع الحياة التنوع والتعدد الذي ينبغي أن يسلِّم به الجميع.

أما أزمة النقد الأدبي عندنا فهي جزء من أزمة الثقافة العربية برمتها. وأما سبب هذه الأزمة الشاملة فهو أن نمونا معاق، أو أن مؤسساتنا الحديثة لم تنضج بعد. فمما هو مناف للعقل أن نطالب الثقافة بالنضج في مجتمع مازالت مدارسه وجامعاته تحت سن الرشد. والأهم من ذلك كله أن الثقافة لن تنضج حتى الشأو المرجو في أية دائرة حضارية حريتها معتقلة أو معطلة. إن جميع أزماتنا مردُّها إلى تعطيل الحريات في العالم العربي حيث لا تزيد قيمة الإنسان عن قيمة فأر أو صرصار.

س 2: هنالك من يقول بتعذر جعل النقد علماً، وكذلك بتعذر الوصول إلى وضع قوانين لـ"علم الأدب". أما الممكن فهو الاستفادة من العلوم والمناهج اللغوية، ذلك أن الأدب فن لغوي، دون ريب. فهل توافقون على ذلك؟

ج 2: أؤمن بأن من المحال أن يصير النقد الأدبي علماً، وأن يكون في الميسور أن نضع له قوانين صارمة أو مطلقة. فأنا من القائلين بنسبية قوانين التاريخ والنفس والفنون والآداب. وفي اعتقادي الجازم أن النقد الأدبي أشبه بالفلسفة الذاتية حصراً منه بأي إيقاع ثقافي آخر. ولهذا يتعذر أن يكون هنالك علم يمكن للمرء أن يسميه "علم الأدب"! ويبدو أنه ليس هنالك من علم قط سوى علم الرياضيات وحده. أما بقية العلوم فهي علوم نسبية وحسب.

وفيما يخص الاستفادة من علوم اللغة، وكذلك من علم الاجتماع والنفس والتاريخ، فهذا شأن ممكن جداً. ولقد كنت شخصياً من دعاة هذه الاستفادة طوال حياتي.

س 3: "الشعر هو برهة كمال اللغة، وكمالها لا يتحقق إلا في مستواها اللانفعي وحده، أي خارج حوزة العمل والإنتاج والسياسة والثرثرة التافهة..." جاء هذا في كتابكم القيمة والمعيار. فما قولكم بالمحاولات الشعرية التي تعتمد كثيراً على مفردات الحياة اليومية لصنع القصيدة. وعموماً، كيف تقوِّمون تجربة الشعر الحديث؟

ج 3: جزماً إن الشعر كمال اللغة، وذلك لأن اللغة في الشعر تكف عن كونها ناقلاً للمعنى وتصبح غاية في ذاتها. ولكن هذا لا يعني البتة أن الشعر متعالٍ فوق الحياة. فعندي أن كل تعالٍ فوق الحياة هو ضرب من ضروب التهويم فقط. ولكن الشعر ينبغي له أن يتعالى فوق الابتذال، وإلا فإنه سوف ينحط حتماً. لقد أريد للشاعر – الذي أراه ضمير الجنس البشري ونقاوته وخلاصة هويَّته – أن يكون مجرد تابع ذليل لأناس لا يجيدون سوى الهذر وتنميق الخواء، ويعتقدون أنهم يملكون المفتاح الذهبي للحقيقة المطلقة، وبأن كل من خالفهم فهو رجعي أو منحط، بل في صفوف العدو الأبدي للإنسانية! وكل الذي أردته من هذا المقبوس الوارد في سؤالكم الثالث هو تحرير الشعر من التبعية، أياً كان نوعها. إذ من المحال أن يزدهر الفن إلا في مناخ الحرية وحده.

أما الشعر الحديث فأحسب أنه قد أخذ يتجمَّد في تجربة النمط الواحد. ثمة قصيدة واحدة تقريباً يكتبها العالم العربي يومياً ويكررها هي نفسها طوال السنوات الأربعين الأخيرة، أو منذ أواسط الستينات حتى اليوم. ومما هو مؤكد أن العبقرية موسومة بالميل إلى الفرار من الاشتراك والتماثل. فالعبقري دوماً ينتج نمطه الخاص الذي يفرز المبدع الأصلي عن المقلِّد الزائف.

وعلى أية حال، إن الحديث عن الشعر الحديث طويل ويحتاج إلى بحث قائم بذاته.

س 4: تذهبون في كتابكم الآنف الذكر إلى أن الناقد يستطيع الركون إلى طبعه أكثر من الركون إلى ذهنه... الخ. هل تودون القول أن النقد ملكة، مثله مثل ملكة الإبداع والعبقرية؟

ج 4: هذا هو بكل دقة ما أود أن أقول. وفي قناعتي أن المرء يولد موهوباً أو محروماً من الموهبة. ولقد جاء في أحد الكتب الصوفية أن هناك أناساً "مأذون" لهم أن يتكلموا، وآخرين غير مأذون لهم بذلك. أي أن هنالك أناساً مطبوعين وأناساً ليسوا مطبوعين. وفي الحق أن هذه الفكرة واقعية وليست غيبية. فالذكاء، كالجمال والصحة، هبة من قوة الخلق. هنالك من يولد ومعه برص منذ يوم ولادته. وهناك من يولد وجسمه سليم تماماً، وهو مؤهل ليعيش طويلاً دون أمراض باهظة. وهذا هو شأن الذكاء، أو القدرات التي تنتج الآداب والفنون.

وعندي أن الناقد ما لم يكن مطبوعاً ومزوداً بالحساسية التي تؤهله للتمييز بين الغث والسمين، بل بالحساسية القادرة على التقاط ذبذبات اللغة وتردداتها، فإنه سوف لن يتمكن من أن يكون ناقداً بأي حال من الأحوال، بل مجرد شخص يبحث عن التسلية في هذا الكتاب أو ذاك.

إن الحساسية عندي هي بيت القصيد. فبالحساسية تقرأ وتكتب وتتذوق الفنون والآداب، وتستوعب كل ما هو خفي ودقيق.

س 5: في كتابكم الآنف الذكر تطلبون من الشعر، بغية الخروج من أزمته، أن ينهض بمهمة فحواها تزويد الناس بجرعة منعشة، علَّها تخفف من وطأة الشعور بالقنوط والإحباط، الخ. أليس في هذا تحميل للشعر فوق طاقته، ومطالبته بحمل أعباء سياسية؟

ج 5: ربما وافقني الكثيرون على أن إنسان عصرنا الراهن كثيراً ما يتبدى خائر القوى، أو هابط المعنويات وجانحاً صوب التشاؤم، لجملة من الأسباب السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي لا تخفى على أحد. وبدلاً من أن يحاول الشعر أن يخفف من حدة هذه الأزمة التي يكابدها الحساسون أكثر من سواهم، فإنه يزيدها ضراماً، وذلك حين تجنح القصيدة نفسها إلى التشاؤم الدامس الذي يغلق جميع الدروب ويحبس المرء في ضيق اليأس من كل شيء.

ولكن الشعر يملك أن يجد لنفسه مخرجاً من أزمته لوجوده كله. فلقد اعتاد الشعراء قديماً أن يتغزلوا بالنساء غزلاً من شأنه أن ينعش النفس. فلماذا كفوا عن مثل هذا الفعل في الآونة الأخيرة؟! وكانوا ينفعلون بالطبيعة، ولاسيما بالزهور والأشجار والأنهار والنجوم... أما اليوم فما عاد الشعر يهتم بمثل هذه الظواهر الجميلة التي قد تجعل روح الإنسان تنتشي إذا ما رآها أو سمع القصيدة وهي تصفها وتنفعل بها. فهل هنالك ميل نحو تحميل الشعر فوق طاقته إذا ما طولب بأن يتبنى الحياة في إيقاعاتها الكونية، أو التي رافقت الإنسان في كل زمان ومكان؟!

س 6: رب قارئ لكتاب القيمة والمعيار أن يذهب إلى أن يوسف سامي اليوسف يؤكد على الشيء ونقيضه معاً: الذائقة والمعيار، اللغة والمحتوى، الطبع والذهن، الخ. ما ردكم على ذلك؟

ج 6: لقد حاولت أن أكون نسبياً في هذا الكتاب. ومما هو معلوم أن النسبية لابد لها من أن تترك فسحة كافية للنقيض. ولهذا السبب، يتبدى للوهلة الأولى أن الكتاب يجمع بين نقائض لا صلح ببينها.

وعندي أن ديموقراطية الممارسة النقدية من شأنها أن تحترم المختلف، أو اللاأنا، وأن تمنحه مكاناً أو هامشاً يتحرك فيه. فمما هو ملحوظ أن أكبر الكتَّاب قد ظهر من ينكر عليهم موهبتهم. خذ شكسبير مثلاً. لقد تنكر له كل من فولتير وتولستوي وطاغور. فهل نتغاضى عن هذا التنكُّر الذي أبداه رجال لا ريب في موهبتهم؟

ثم خذ المتنبي مثلاً آخر. هنالك، حتى اليوم، من يزعم بأن أبا الطيب ليس شاعراً بتاتاً. ومن المعلوم أن عدداً من شعراء زمنه، وكذلك من نقاد ذلك الزمن، قد هاجموا المتنبي وأنكروا عليه موهبته. إن صاحب الأغاني لم يذكره قط في كتاب هو بمثابة معجم للشعراء. ولهذا، فقد اضطر القاضي الجرجاني أن يؤلف كتاباً عنوانه الوساطة بين المتنبي وخصومه وذلك ليخلص إلى صيغة وسطى بين أنصار الشاعر وخصومه. وخلاصة هذا الكتاب النادر (وهو عندي أجود كتاب عن المتنبي حتى الآن) أن الطرفين على حق. ففي شعر المتنبي ثمة ما هو تافه، وهذا يعني أن خصومه قد أصابوا طرفاً من الحقيقة؛ ولكن شعره نفسه فيه ما هو عظيم في الوقت نفسه، وهذا يعني أن أنصاره قد أصابوا الطرف الآخر.

وقصارى الأمر أن النقد الأدبي ينبغي ألا يشدد كثيراً على الاتجاه الأحادي، أو ألا يتطرف بأي اتجاه من الاتجاهات. فلا ريب في أن الاتجاه الواحد ليس سوى صنف من أصناف التخشب أو الجمود.

س 7: ألا ترون أن ثمة نصوصاً شعرية وأدبية بعامة تحتاج إلى إحياء في أدبنا العربي، وذلك بوصفها فناً حقيقياً وليس زائفاً، وتنتظر الناقد الذي يمكن له أن ينهض بهذه المهمة خير نهوض؟ ثم كيف تقوِّمون المشهد الشعري في سوريا الآن؟

ج 7: أظن أن النقد كثيراً ما يُغفِل بعض الكتاب الجيدين، وذلك لسبب ربما عاد إلى طبيعة الحركة الثقافية في هذا البلد أو ذاك. ففي بعض الأحيان، تسهم الثلة أو العصبة التي ينتمي إليها الكاتب في بروزه وانتشار صيته. وقد يجوز الزعم بأن ثمة عصابات تهيمن على الثقافة في بعض البلدان. وهذه العصابات هي التي تسمح، أو لا تسمح، لكاتب من الكتاب بأن يبرز كثيراً في الساحة المحلية.

وعلى أية حال، إن وضع الشعر في سوريا، وربما في العالم العربي كله، قد لا يرضي من هو خبير بالشعر، كما أنه لا يُشبِع في الذواقة ميله إلى الفن النقي الذي من شأنه أن يُحدِث هزة في المتلقي. ولكن المرء لا يملك أي حق في أن يعمِّم هذا المذهب. إذ إن ثمة الكثير من الشعر الجدير بالقراءة، سواء في سوريا أو في العالم العربي كله.

ومما هو معلوم، أن الشعر الحديث قائم على مبدأ الإيماء المؤهَّل لتزويد النص بسمة العمق؛ أي أن القصيدة من شأنها أن تأخذ المرء إلى أغوار النفس، أو إلى أغوار العالم. ولكن، هنالك عدد كبير من الشعراء يعمدون إلى تعكير مناخ القصيدة ظناً منهم أن العكر هو العمق نفسه. وبالطبع، فإن هذه الخدعة لا تخفى على الخبراء بشؤون الكتابة الأدبية، ولاسيما بشؤون الشعر.

وكل ما في الأمر أن المجتمع المتخلف هو المجتمع الذي لم ينضج بعد. وما عدم النضج إلا الفجاجة حصراً. والفجاجة هي التي لا تسمح للمرء باختراق اللحاء إلى اللباب، والأهم من ذلك كله أنها الداء الذي يفرز جميع مثالب الأدب العربي الحديث.

*** *** ***

حاوره فيصل علوش

يوسف سامي اليوسف

من مواليد لوبيه (فلسطين) عام 1938. نزح إلى لبنان سنة 1948 وغادر إلى سوريا سنة 1956. انتسب إلى جامعة دمشق 1960 وتخرج منها واشتغل مدرساً للغة الإنكليزية. أهم مؤلفاته: مقالات في الشعر الجاهلي،1975 (اعتُمِد هذا الكتاب مرجعاً لطلاب قسم اللغة العربية في جامعتي دمشق والجزائر)؛ الشعر العربي المعاصر، 1978؛ ما الشعر العظيم؟، 1982؛ مقدمة للنِّفَّري، 1997؛ القيمة والمعيار، 2001؛ الخيال والحرية، 2001.

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود