عشبة المدائن

نزهة الروح في شرق الحضارات وغربها

 

مي منسى

 

إنَّها حكاية حبٍّ، وعلاقة متينة بين رجل ومدينة، بين رجل ومحيطه، بين إنسان وحضارة... وحضارات.

حزم أمين ألبرت الريحاني حقيبة السفر، وأقفل باب مدينته ورحل، لا سائحًا، لا متنزهًا، بل متخطيًا عتبة بيته وجواره، كأنه ينتقل، بثقافته المديدة ومشاعره الجوفية، إلى أماكن مختارة تناديه ليزرع فيها شيئًا من فرديته الميتافيزيقية القائمة على ثقافة عمرُها مئات السنين وأكثر.

 

عشبة المدائن ليس آخر ما كتب أمين ألبرت الريحاني، ولا أول تجربة له مع الذاكرة والورقة البيضاء. أوراقُه سَفَرُ الإنسان في مدن ذاته المتشعبة في خلاياه، ثم سَفَرُه خارج أناه باحثًا، مكتشفًا، ثائرًا ضدَّ الرتابة، ضدَّ السأم الذي يرشح من المدن حين يجفُّ نسغُها الإنساني وتقسو.

مذكرات سفر. تأملات حول الحضارات. وانتصار الإنسانية هنا، وهزيمتها هناك. وكلما حفر أمين الريحاني في تربة الآخرين ازدادت المساحة التي نشأ فيها غموضًا وتساؤلات.

بيروت هي البداية والنهاية: منها رحل مكفهرًّا خائبًا؛ وإليها عاد بكساء الحنين الذي توشَّح به عند الرحيل: "عائد إلى ظلالي" – وما "الظل" سوى النسخة التي تبقى عالقة في كلِّ الأمكنة التي توقف عندها الإنسان. يرحل هو، ويبقى ظلُّه نقشًا في الحجر، يتقلَّص مع الشمس ويتمدَّد، لا يهاجر ولا يتغرَّب. إنه في انتظاره.

في الصفحة البيضاء الأولى من كتاب عشبة المدائن دعا أمين الريحاني الفارابي ليقول كلمة في المدينة:

المعمورة الفاضلة إنما تكون كذلك إذا كانت الأمم التي فيها تتعاون على بلوغ السعادة.

من هذه التوطئة كان مفتاح السفر والبحث عن مدن السعادة. فلعل ابن الفريكة، المجبول بتربتها، المستظل في فَيْءِ الصنوبرة الباسقة التي زرعها فيلسوف الفريكة أمين الريحاني، يستنير بفكر عمِّه ومؤلَّفاته المستوحاة من أسفاره، ولا سيما نظرته إلى الشرق من خلال ما اكتسبه في الغرب، ليركب دروب الرحيل في الاتجاهين المتعاكسين والمقارنة بين شعوب الشرق وشعوب الغرب، مصغيًا إلى الإنسان وإلى هندسة بنيانه، إلى طبيعته وإلى ثقافته. يرسم خطوطًا لمدينة محتمَلة، فيها السعادة إذا تمكَّن أبناؤها من التعايش والتعاون في ما بينهم.

لم يرحل سائحًا طلبًا للإجازة والراحة من عناء المسؤوليات. في البدء

رحتُ أغادر بيروت وأعود طوعًا وقسرًا/ حين أعود وألتقي بيروت/ ألتقي جلدتي القديمة.

كانت بيروت في أتون النار مشلَّعة، لا مكان للشاعر والطفل والحبِّ فيها. هكذا قرَّر الرحيل، ومفتاحُ البيت في جيبه، كي لا يضلَّ عن طريق العودة. بقدر ما كان يبحث قبل سفره عن المدينة – مدينته التي يولد فيها المرء ويشبُّ ويموت من دون أن يدرك فعلاً شروقها من مغيبها – كان يتكلَّم في صيغة "الأنا": أناه تملأ المدينة بأحلامه وأصداء صوته، إنْ رثائية أو مجبولة بالفرح.

هنا لا حاجة إلى البحث عن السعادة/ هي ساكنة وسط آلامي/ باقية وسط أحزاني [...].

وكلما غادر بيروت تعرَّى من أناه؛ إذ صارت المدنُ التي يحطُّ فيها تُجرِّده من لغته، من هويته، لتكتسبه، ليغدو خطوة منها على دروبها، ونظرة على متاحفها ومكتباتها وجمالاتها؛ تدعوه إليها ليزهو بها ويُخبِر عنها.

وقد يكون القصد من مغادرة البيت والمحيط الالتحامَ بأراضي الآخرين طلبًا للنسيان. ولا ينسى أمين ألبرت الريحاني أن المفتاح في جيبه؛ فلو أطال الغياب، أصابه الصدأ. لدى عودته، وبعدما جال مثل ابن بطوطة في بلاد الشرق والغرب، مستعلِمًا، مقارِنًا، أدرك أن الفريكة تشرق مع شمس بيروت، وكلتاهما تغتسل بالرذاذ السماوي الواحد.

وكلما شددت مسافرًا/ شدَّتْني إليهما جاذبيةُ الأرض/ جاذبيةُ الحياة.

في ذاكرة كلِّ مدينة سَكَن. وفي السُّكنى إصغاء وتدوين واستعارات من هوية الآخر ولغته وطعامه وملبسه وكتبه.

كلُّ شيء، في كلِّ مدينة سَكَنَها، كان مدخلاً إلى تعمُّق أكثر في فكر ناضج، قابل لفتح قنوات بين عاصمة خليجية وأهلها وولاية أمريكية ونظامها.

أمين ألبرت الريحاني لم يقصد، في كتابه الصغير هذا، موسوعة نظريات إثنية ومعلومات تاريخية وجغرافية. رحلتُه سلوكُ رجل مثقف، متعطِّش إلى معرفة الآخرين وأنماط حياتهم، بدءًا من البلد وأهل الحكم، إلى مدارسهم ومؤلَّفاتهم، بلوغًا إلى ما يبحث عنه في كلِّ مكان، بدءًا من بلده: الحوار بين الناس، الحوار بين الأديان والإثنيات والثقافات والحضارات. فحين عمَّ الصمت في نفوس المثقفين في مدينة الخراب انطلقَ، وفي جعبة السفر وجهُها نموذجًا للمقارنات مع سواها، تاركًا لها ما يشبه رسالة الوداع:

بيروت يا صرخة الوجع الكبير/ أدركت اليوم أنك صراخي/ وصراخي بوابة فرحي.

ومضى، مثل الأمير الصغير، وراء قافلة من الطيور المهاجرة، تاركًا كوكبَه، إلى أمد غير مسمَّى، لوردة مزاجية ولأشواكها، وبراكين تنطفئ هنا وتشتعل هناك. ومثله، عاد بعد تجارب عديدة ومصادفات إلى كوكبه، حيث نشأ تحت نجومه. ولكلِّ عودةِ مُغترِب لقاءٌ حميمٌ مع الأرض، ولا عتاب ولا حسرات:

عائد إلى ينابيع النسغ الصنوبري/ إلى إكسير القشرة النارية.

بالشعر يخاطب بيروت ويلمس جروحه. وفي إصغائه إلى بلاد إسبانيا وأمريكا وبلاد ما بين النهرين أسلوب إنساني، ثقافي، نثري، ينحو في اتجاه المذكرات، التي بَدَتْ لي أحيانًا كأنها ومضات عابرة لأفكار قد تطول ذات يوم، وتتخذ أمداءَ أوسع مما استنتجتُه في تحليل الريحاني لطبائع الناس الذين عاشَرَهم ولأنماط حياتهم واختباره عاداتِهم وسلوك عيشهم.

لم تبق "الأنا" ضميره. الجماعة هي التي تؤلِّف المدن: تُتْعِسُها، تخرِّبها، أو تعلو بها. من هذا المنطلق توقَّف، وأصغى، ورشف كلَّ الذاكرات. ذاكرة الأمكنة، ذاكرة الناس، ماضيهم وحاضرهم، حروبهم وسلامهم – كأنه، بجمعها والمقارنة بينها، يعيد اختراع العالم: لا العالم الذي نعيشه، بل ذاك الذي يحلم به المثاليون والأنقياء.

من رحلته إلى إسبانيا، ولا سيما قديمها وأمجادها الغابرة، من غير أن تسهو عن باله نهاراتُ مدريد العاصمة الحديثة، يحدِّثنا عن متاحف برشلونة وغرناطة وغارثيا لوركا ومصارعة الثيران وفنِّ مصارعة الموت ومواجهته مرارًا خلال لحظات، وعن تاريخ فنونها وتطورها، من قرن إلى آخر ومن مدرسة إلى أخرى. في متحف البرادو، يتوقف عدُّ أعمال غويا وإلغريكو وفيلاسكيث ورافاييل وسواهم، وتتحول الزيارة إلى تحليل لكلِّ ريشة وتعبيراتها ورموزها.

ونتابع الرحلة معه إلى قرطبة وجامعها المشهور من القرن التاسع. يصف، كالدليل، الأعمدة الرخامية والمرمرية، مثل غابة ظلَّتْ تشهد الصلاة والصوم والزكاة طوال خمسة قرون. ويتدخل الحدث التاريخي لتحويل هذا المسجد إلى احتفالات كنسية.

تقف بين المشهدَيْن كأن ديانات العالم التقتْ على قاب قوسين. لكن التاريخ يكذِّب ذلك. فما نتج من التطاحن والحروب بين أديان وشعوب يترك أثرًا عكسيًّا في نفس مشاهد يمرُّ مراقبًا أثر مئات السنين.

من قرطبة إلى إشبيلية وغرناطة وبرشلونة وكاتالونيا ومايوركا، نتبع الدليل ذا الفضول الثقافي والفني والسياحي.

باريس رحلته الثانية: "سمعت صوتها الشجيَّ منذ عهد الفتوة"، يقول. قصد الريحاني باريس، وفي حلقه طعم الأفلام وطبيعة مونيه وألوان ماتيس:

هي مزيج من الكائن ومما سوف يكون، من انطباعية البارحة وسوريالية اليوم، من الشخصانية والوجودية.

باريس هي المفصل بين إسبانيا ونيويورك. هكذا بانتْ لي كتابتُه كمسمار يغرسه في مفصل زمن رَحَل، وآخر في مفصل زمن يبدأ. يتوق إلى السير في الشوارع، إلى الجلوس في المقاهي، ليرى الناس رؤية أوضح. يتوق إلى المتاحف والقصور والمكتبات و... المدافن الأثرية: فالموت، في قلم هذا المفكِّر، يكتب التاريخ ويخلِّده.

أمريكا وناسُها ونظامها واقتصادها – والبقاء هو للأقوى. أما القيم والمعاني الروحية فـ"فُتاتٌ مستهلَك يرميه كبارُ اللاعبين لصغار اللاعبين".

بين أمريكا وبغداد جسرٌ لنظام تربويٍّ دولي انطلق من العالم الأنكلوسكسوني إلى القارات الخمس. سافر لا للمعرفة فحسب، بل لتقديم ما عنده من اختصاص وعلم وثقافة. ناداه العراق ليكون رئيسًا للمدرسة الدولية في بغداد القائمة على نظم وقوانين فلسفية تهدف إلى إعداد الإنسان القيادي والمواطن والمنتج والمتفاعل مع سائر الحضارات، على أسُس عقلانية متميزة بالانفتاح وتبادل الاختبارات الإنسانية.

لبنانيٌّ في بغداد يتولَّى تطبيق البرامج التربوية التي تجمع بين المنحى الدولي والمنهجية الأمريكية؛ ويقينه أنه من الأسهل إقناع العرب بالأمريكيين من إقناع الأمريكيين بالعرب. يقول:

ضمن مهنتي لم تكن الصعوبة في أن أحمل فلسفة الانفتاح التربوي إلى بيئة عربية لم تألفها من قبل، بل أن أقنع مصادر المعرفة الأمريكية بأن ثمة مؤسَّساتٍ تربوية عربية باتت مهيأة للأخذ بهذا الانفتاح والخوض في هذه التجربة الجديدة.

رأى الريحاني أن المسافة التربوية بين بغداد وواشنطن هي المسافة بين عقل صلب حتى العطب السريع، يتحرك من خلال تفاعله البدوي، وعقل مرن حتى الانعطاف الكلِّي، يتحرك من خلال الجدلية الحادة التي تسخِّر المنطق في سبيل لعبة الجدلية الخطرة:

إنها المسافة بين البداوة الطائشة والحضارة الخبيثة.

والمقارنة لم تتوقف عند حد. فالمؤتمرات التربوية للشرق الأوسط في أوروبا وأمريكا جعلتْه يدرك أن لين العقل الأمريكي، حتى ضياع الذات، لا يوازيه سوى تشدُّد العقل الفرنسي، حتى الانكماش.

في حقيبة العودة من أمريكا حمل أمين ألبرت الريحاني شعاره هذا:

شعبُ الشورتات والبيوت الخشبية يفتقر إلى أصول الذائقة الاجتماعية ويتقن أصول التعاطي مع القَدَر.

عاد... وكان ظلُّه على منعطف الفريكة في انتظاره.

*** *** ***

عن النهار، الأربعاء 27 تشرين الثاني 2002

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود