يوسف حنا

نورٌ أفل قبل الأوان

(في الذكرى السنوية العاشرة لرحيله)

 

مفيد مسوح*

 

"لماذا لم تدقَّ على جدار الخزَّان؟ لماذا؟"

 

بهذه العبارة استعار يوسف غضبًا مصطنعًا من "أبي الخيزران"، منحيًا باللائمة عليَّ حالما فرغتُ من سرد تفاصيل حدث اعتقالي منذ سنة ونصف.

قلت بلغة الواثق من فهم الاستعارة: "وما ذا كنت تتوقع أن يحدث لو أنا فعلت؟"

أجاب: "أعتقد أن الزمن الذي استغرقتْه العملية لأخذِك واستجوابك ونقلك أخيرًا من الشعبة إلى حي "الميدان" كان كافيًا للقيام ببعض الاتصالات النافعة وإطلاق سراحك قبل أن يصلوا بك إلى الكركون."

وأكمل مستعيرًا مشابهة ساخرة من فيلم المخدوعون: "لو سمع أبو الخيزران طَرْقَ زبائنه الثلاثة على جدران الخزان لافتعل شيئًا ما وركض إليهم وأنقذهم. كانوا سيفرُّون، وسيعرف أبو الخيزران كيف يدبِّر الأمر مع شرطة الأمن العام؛ وربما استطاع فيما بعد تأمين فرصة أخرى، بكلفة أقل، لنقلهم إلى الكويت بتفادي الثرثرة مع موظَّفي الجوازات."

ويضحك يوسف مداعبًا، فأبادله الابتسامة، متيقنًا من أنه لم يقصد إلقاء اللوم عليَّ أو على "أبي قيس" وزملائه. فما أنا متأكد منه أن يوسف، بعمق إدراكه للأشياء، يعرف أن الاضطهاد الطبقي والاستعمار وحالة العوز هو ما دفع أبا قيس وزملاءَه لقبول عرض أبي الخيزران ومغامرة التسلُّل عبر الحدود من شطِّ العرب إلى الكويت من دون تأشيرة دخول، أملاً بالعمل هناك – تمامًا كطموحي المشروع إلى الحرية والعدالة الاجتماعية الذي جعلني أثق بمن خلفي، فأخوِّل نفسي حقَّ القيام بالتحريض ضدَّ القمع والفساد والرجعية.

أردت أن أبادلَه المداعبة فقلت: "جُبنُك هو الذي حماك من أن تكون رابعَهم." ولكنني تداركت الموقف وقلت متهرِّبًا: "لقد كان الفيلم جيدًا ومؤثِّرًا؛ وكان الحضور كذلك. ليس كلُّ الناس في دمشق يعرفون المخرج توفيق صالح؛ ولكن الجميع يعرفون يوسف حنا ومنى واصف وعبد الرحمن آل رشي وسليم كلاس وبسام لطفي وعدنان بركات وغيرهم. ما قاله الكثيرون هو أن توفيق صالح نجح في إقناع ممثِّلين كبار بتقاسُم أدوار هذا العمل الضخم لغسان كنفاني. أظنهم محقين."

لم يعترض يوسف على تهرُّبي، ولكنه لم يُعجَب بتعبير "ممثلين كبار"، فانبرى بالقول: "وماذا تعني بالممثلين الكبار؟ أنا لست ممثلاً كبيرًا يا سيدي!" وأضاف، وهو يتفقَّد نظافة اسطوانة لأحد كونشرتات "براندنبورغ" الستة الشهيرة لباخ، قبل أن يحمِّلها على قرص جهاز البِكْ آبْ: "البناء، يا مفيد، يقوم على تعاضُد كافة مكوِّناته، صغيرة كانت أم كبيرة! ما كَبُرَ إلا مَن ابتدأ صغيرًا. ثم إن ما هو صغير في حالة ما كبير في حالة أخرى." وقهقه للتورية الخبيثة!

ويستمر الحديث، وتتشعب مواضيعه، دون أن يبدي يوسف أيَّ شعور بالملل. أما أنا، فعلى الرغم من أنني كنت أحسُّه مشاكسًا أحيانًا، كنت أصطنع التعليق الارتجالي خشية أن ينتهي الحديث باكرًا، فأخسر متعة الاستماع والتحاور مع أبي إياد الذي يكبرني بعشر سنوات تقريبًا.

كنت طوالَ السبعينيات وحتى منتصف الثمانينيات ضيفًا متوقَّعًا كلَّ يوم على بيت أبي يوسف في حي "جناين الورد" الدمشقي الهادئ. كنت أتعمَّد، في كثير من الأحيان، التحكُّم في طريقي، جاعلاً إيَّاه يمرُّ من "شارع حلب"، كي أعرِّجَ فأطرقَ باب هذا البيت السحريِّ الدافئ الذي اعتاد على جذب العشرات من الأصدقاء والصديقات من ألمع رموز الثقافة والفن في دمشق.

كان بيت أبي يوسف منتدى للفنِّ والأدب والثقافة، وملتقًى لروَّاد المسرح والتلفزيون. كان يوسف محورَ البيت ومِحرقَ أشعة النور الخارجة من عقول وأفئدة أفراد عائلة شرَّدتْهم نكبة 1948، فخرجوا من الأرض المحتلة تباعًا، صِبيةً وبناتٍ، في مقتبل أعمارهم، يبحثون عن ملاذ يوفِّر لهم الطمأنينة واستئناف الدراسة، مثل آلاف العائلات الفلسطينية.

بَحْثُ آل حنا عن حالة استقرار لم يَطُلْ. فكفاءات الوالد وجدية الأخت الكبرى وفَّرا بسرعة كافة مستلزمات الحياة السليمة؛ فتابع يوسف وإخوته دراستهم وتحصيلهم، مثبتين حضورًا متميزًا في الأوساط الأدبية والفنية.

بدأتْ حياة يوسف الفنية وهو في السنوات الأولى من دراسته الجامعية في كلِّية الآداب. لا أعرف بالضبط ما هي أوائل الأعمال المسرحية أو الإذاعية أو التلفزيونية التي اشترك فيها؛ ولكنني كنت معجبًا بأدواره في كلِّ ما كان يُعرَض على شاشة سوريا الفتية في أواسط الستينيات بالأبيض والأسود. فيما بعد أدركت عشقَ يوسف للفنون المسرحية.

قال لي إنه في العام 1961 انطلقتْ فرقةُ رفيق الصبَّان تحت اسم "ندوة الفكر والفن"؛ وكان أحدَ أعضائها، ومعه لفيف من روَّاد العمل المسرحي السوري، أمثال منى واصف وهاني الروماني وأسامة الروماني وغيرهم. الأعمال الدرامية المترجَمة التي قدَّمتْها الفرقة كانت من الأدب العالمي المترجَم؛ وبرع فيها الممثلون في نقل ناجح لروائع الأعمال مثل أنتيغون لسوفوكليس وتاجر البندقية لشكسبير وغيرهما. وربما من هنا جاء شغف يوسف اللاحق بالأدب الكلاسيكي العالمي ومسرحه.

في النصف الثاني من الستينيات عمل يوسف في فرقة "المسرح التجريبي" مع سعد الله ونوس وعلاء الدين كوكش وهاني الروماني وأسامة الروماني وآخرين. بعض هذه الأعمال حضرتُها حيةً على خشبة المسرح القومي أو خشبة صالة الحمراء. وأخص بالذكر منها مسرحية حفلة سمر من أجل 5 حزيران التي شَفَتْ غليلاً كامنًا في نفوس المشاهدين الذين أذهلتْهم نكسة حزيران، لما قدَّمتْه في بعض مشاهدها من تصوير لأسباب الهزيمة، متهمةً الأنظمة العربية المتاجِرة بالشِّعارات والمستهتِرة بحقوق الكادحين، دافعي ثمن الهزيمة. لقد لاقت هذه المسرحية تألقًا وإقبالاً جماهيريًّا شديدًا في عروض متواصلة في العام 1971، تباهى كثيرون بتكرار حضورها.

وفرقة "أسرة تشرين" التي أسَّسها العلمان الكبيران دريد لحام ومحمد الماغوط كان يوسف حنا من أبرز أعضائها، إلى جانب فنانين قديرين، مثل ياسر العظمة وعمر حجو وحسام تحسين بك وصباح الجزائري وغيرهم.

لم يبخلْ أصدقاء يوسف من النقاد والأدباء والصحفيين في استعراض شخصيته المتميزة من خلال الأعمال المسرحية والتلفزيونية والسينمائية التي شارك فيها؛ ولم يخلُ تحليلٌ لأيٍّ من هذه الأعمال من التعريج على أدواره. وقد أجمع معظمهم على كرمه الكبير في التعايش مع أدواره، وتبنِّيه للشخصية التي يقدِّمها بتفاعل تام ومستمر، لا تتذكر معه أن الشخص الذي أمامك هو يوسف حنا، إلا عندما تنتبه إلى صوته الرخيم المتميز.

شخصية يوسف في حياته اليومية كانت ملاصقة لشخصية الفنان المقتنع بدوره في إكمال روعة أدب الحياة. قال: "التمثيل هو الوسيلة الأولى لتفعيل الحرية، والممثلون آلهتها." لا أعرف إن كان إعجابي الكبير بشخصيته المتميزة هو السبب في أنني لم أكن أجد فرقًا بين أحاديثه في البيوت وأدواره على الخشبة أو أمام الكاميرا، أم كان كذلك بالفعل بالنسبة للآخرين أيضًا. ما عرفت يومًا أحدًا لم يُفْتَتَن بيوسف وأدواره التي كنت أظن أنه يختارها. قلت ذات مرة: "أعتقد أنه كان مُقِلاًّ لأنه لم يكن يرضى بأداء دور ليس مقتنعًا به." كثيرون كان عندهم رأيٌ مماثل.

سألتُه عن دور "قدري أفندي" في مسلسل الدغري. كعادته، عاد بي إلى الأدب التركي الساخر، وعزيز نيسن، وتقاليد المجتمع الإقطاعي، ومفارقات دوره كأبٍ تقدُّميٍّ يؤمن بالتحرر وبحقوق ابنته "فضة" باختيار شريك حياتها، وكثوري لا يُجيز لنفسه تفضيلَ صهر ميسور على "نوري" الذي توخَّى فيه شخصية العامل المناضل، يجنِّده إلى جانبه في مقاومته للإقطاعي ولسلوكية ومواقف المنافق والمخادع "إبراهيم".

شمولية الرؤيا والعمق والربط الديالكتيكي عند يوسف وهو يحلِّل عملاً ما أمامك يجعلك تقتنع بأن كلَّ شخصية هي محور، وكلَّ الأدوار هامة في هذا العمل أو ذاك، مادامت الشخصيات من الواقع. تحدَّثنا دومًا عن أعمال كبيرة، مسرحية وتلفزيونية، اشترك فيها وأخرى لم يشترك فيها.

في مئات الأمسيات الممتعة في بيت العمِّ جورج، الذي أصرَّ يوسف على البقاء فيه إلى جانب أهله فترة طويلة، مستصعبًا الانتقال إلى شقته الجديدة في حيِّ المزَّة "البعيد"، حضرتُ لقاءاتٍ رائعة مع نُخَبِ الفنانين والأدباء والشعراء والمخرجين والنقاد والممثلين، واستمعت إلى أحاديثهم وتحليلاتهم العلمية لواقع المسرح والسينما في سوريا وتطلعاتهما وآفاقهما. كانت ليوسف مكانة خاصة جدًّا عندهم جميعًا. الكلُّ أحبوه، وتأثروا به، منهجًا وأسلوبًا واتساعَ أفق وحبًّا للحياة والحرية وعبادةً للفن.

كان أصدقاؤه من أكثر من جيل واحد: صغارهم تلاميذ يفخرون بما تعلَّموه من يوسف. فها هم ممثلون كبار ومخرجون وكتاب سيناريو، وقد ملأتْ أعمالُهم الآن شاشات التلفزة العربية والشاشات الكبيرة أيضًا. فلماذا اتسمت شخصية يوسف حنا بهذا القدر الكبير من الجاذبية وعمق التأثير على الآخرين؟

على الصعيد الفني والثقافي، كان يوسف عاشقًا للتمثيل، ذائبًا في عالمه، مغرمًا بالحديث عنه وعن رجاله. كان مقتنعًا تمامًا بمسيرته الفنية، ومخلصًا لشروطها؛ ولم يكن يطمح، كما فعل آخرون، للانتقال إلى صناعة الإخراج. كما لم تُغْرِه الجدوى المادية لتعدد النشاطات؛ فوقته الثمين كان مليئًا بالقراءة المستمرة لروائع الأدب العالمي والمسرح والسينما، إضافة إلى الشعر والموسيقى والفنون التشكيلية والسياسة. قال ذات مرة: "نحن ندخل إلى العقول والقلوب من فضاء واسع. وكي تقبلنا هذه العقول والقلوب يجب أن تقتنع بكلامنا؛ أي يجب أن ننجح في نقل الأفكار من الورق إليهم. وهذا يتطلب مهارة كبيرة، لا توفِّرها الموهبة وحدها. ولا بدَّ من ثقافة عالية، عميقة وواسعة، كي يتمكن الممثل من الوصول بدوره إلى ذهن المشاهد، خاصة حينما يمثل شخصية معروفة في التاريخ."

كنت أرى في شدة اهتمامه برصيده الثقافي ومنهجيته، وحرصه على المواكبة والإلمام بأحدث الأطروحات الأكاديمية وأخبار الفن المحلِّي والعربي والعالمي، فلسفةً محورُها احترام المشاهدين – وهُمْ بالنسبة للفن هدفُه الأول والأخير. على خشبة المسرح، كنت أراه يخاطب الحضور كما يفعل عندما يكلِّم جليسَه، بتلقائية طبيعية، دونما أيِّ تصنُّع. كثيرًا ما سمعت المخرج الكبير فواز الساجر يسوقُه مثالاً على المهنية المتميزة والبراعة في جذب انتباه الحضور. وكانت لشقيقته، المخرجة التلفزيونية أمل، ولعرفان عبد النافع ومحمد ملص وهيثم حقِّي وسمير ذكرى وغيرهم آراءٌ مماثلةٌ فيه.

لم يكن يوسف يومًا متعاليًا أو متكبِّرًا، مع أنه اتَّسم دومًا بالكبرياء والثقة بالنفس. أحب أن يكون معلِّمًا سخيَّ العطاء، يستمتع بنقل المعلومة أو الرأي للآخرين، في الوقت الذي أبدى فيه استعدادًا دائما للتعلُّم من الآخرين. فبقدر ما كان متحدثًا جيدًا كان أيضًا منصتًا جيدًا.

في جلسات متنوعة الحضور رأيته ورأيت انشداد الجميع إلى أحاديثه التي لم تخلُ من روح الفكاهة والمداعبة. كان دائم المرح والاستعداد لخلق جوٍّ مليء بالفرح والبهجة، بحيث إن أحدًا لم يغادر لقاءً معه إلا وهو آسفٌ. كافة مواضيع الفن والأدب والثقافة والسياسة مناسبة رائعة بالنسبة إليه لقضاء أحلى الأوقات – ولا بأس بالنكات اللذيذة! وكم كان يكره الحديث عن الاقتصاد والأسعار وأخبار الفساد والصفقات والتجارة إلخ. وقد تأثَّر به الجميع؛ فكان من الصعب، في حضرته، فتحُ مواضيع من هذا النوع.

حبُّ يوسف حنا للموسيقى الكلاسيكية الأوروبية ومعرفته بها لم يقلِّلا من حبِّه الشديد للموسيقى العربية والتخت الشرقي، وعلى الأخص مقطوعات العزف المنفرد على العود والقانون. كان معجبًا جدًّا بأساطين الموسيقى المصرية وبالرحابنة. في الغناء أحبَّ فيروز وزكريا أحمد وعبد الوهاب وعبد المطَّلب، ولكنه فضَّل على الجميع معشوقَه عبد الحليم حافظ، الذي تميَّز عنده بما كان يطلق عليه "عالم عبد الحليم"؛ فحفظ جميع أغنياته القديمة والحديثة، كلماتٍ وألحانًا، وعرف قصة كلِّ أغنية ومتى قُدِّمَتْ لأول مرة، واهتم كثيرًا بأغاني الأفلام وبالتسجيلات القديمة. ما التقيت به مرة إلا وكان يدندن مقاطع أغاني عبد الحليم. فإنْ دخل البيت متأخرًا، وبادرتَه بالتساؤل، أجاب غناءً، والابتسامةُ على وجهه اللطيف: "يا هلي... يا هلي. يكفي ملامي والعتاب." فإذا جلس استرق لحظة صمت، وطلع بنبرة "عبحليمية": "أيِّ دمعة حزن لا لا لا لا." أو: "توبة نْ كُنتِ أحبَّك تاني توبة." جميع أغاني عبد الحليم سمعت يوسف يغنيها (في البيت والنزهات طبعًا). كان له نفس الدفء في صوت عبد الحليم والأداء أيضًا. ولأنه يحب نزار قباني وأشعاره فقد رأى لقاءهما في أجمل القصائد طبيعيًّا. وكثيرًا ما حدثني عن السينما المصرية ودورها في خلق المغنين الكبار، من مصر ومن سوريا ولبنان، وأقنعني بسماع أغاني سيد درويش وعبد المطَّلب والشيخ زكريا وغيرهم. كانت في مجموعته أغلب أغانيهم، قام بتسجيلها له أصدقاؤه في إذاعة دمشق.

في نزهاتنا المتكررة إلى مزرعة الوالد اللطيفة على طريق مطار دمشق الدولي، استرسل يوسف بالغناء وتبادل مع الجميع أطراف الحديث، وامتدح والده في ما تذخر به المزرعة (التي كان يسميها "العزبة") من بيض بلدي وحليب طازج وعروق الطرخون اللذيذة. فكم رحَّبَ أبو يوسف بأصدقاء وصديقات أبنائه وبناته واستمتع بالعناية بضيوفه مما توفَّر.

هكذا كان يوسف: دماثة في الخُلُق، وسعة في البال، واستبساط للأمور، ورويَّة في الاستنتاج أو اتخاذ القرار. محبةٌ للناس، أيًّا كانوا، وانفتاح على الجميع، ورقَّة في التعامل معهم – هذا ما ضمن له حبًّا تَفاخَر به. قال: "محبة الناس ثروة!"

عندما يحدِّثك عن الحرية تعشقُها، وعن العدالة تهمُّ للتطوع من أجلها، وعن الفكر النيِّر والتقدم الاجتماعي، تتحزَّب له. قال: "الحرية أثمن ما في الوجود وأساس التطور. أعطني حريتي، أقتلع التخلف من جذوره."

إن حدَّثكَ عن الحب، أتاك بطاغور وجبران خليل جبران وشعراء الأندلس؛ وإن وصلتما إلى المرأة، ذكَّركَ بشخصيات حنا مينة وصديقات نزار قباني؛ أو إلى الخمر، ردَّد أبياتًا للمعري وعمر الخيام؛ وإن تعقَّد التحليل، أبحر بك في عالم دوستويفسكي؛ إن سألتَه عن الكفاح من أجل الحرية، ألقى عليك قصائدَ محمود درويش وتوفيق زيَّاد وسميح القاسم؛ أو عن الثورة فتشي غيفارا، ولا بأس بناظم حكمت وثيودوراكيس – ناهيك عن تفنُّنه في الحديث عن أساطير اليونان وبابل وفينيقيا والأدب المكسيكي والمسرح الياباني وفنون الصينيين ومعتقداتهم.

أما عن الإيديولوجيات، فقد اعتبر أن الأحزاب تمسخ الفكر وتكبِّله، وأن الحزبية تعتقل المبدعين. لا بدَّ من خلْق طريقة أكثر تطورًا لتفعيل الفكر السياسي بدون أحزاب، بمزيد من الحرية وقليل من القيود. أحبَّ الماركسية لأنه وجد فيها فكرًا علميًّا يقبله العصر والمجتمع المدني، وربما ينجح في الوصول إلى رخاء البشر وحريتهم، إن هو ابتعد عن الحزبية. وعلى الرغم من كلِّ شيء، لا بدَّ أن نبقى متفائلين؛ فالحياة تسير إلى الأمام فقط، و"أحلى الأيام تلك التي لم نعشها بعد". قال مرة مازحًا، قاصدًا تأكيدَ عدم قناعته بالحزبيين: "هناك ماركسيٌّ وحيدٌ هو لينين، ولينينيٌّ وحيدٌ هو أنا."

حبُّ الفنانينَ والمثقفينَ السوريينَ، شبابًا وشيبًا، أظهرتْه بجلاء محنةُ مرضه العضال الذي وقع خبرُه على الجميع كالكارثة في أوائل خريف العام 1993. يوسف، بدون إنذار، في غرفة العمليات، وأهله وأقاربه ومئات الأصدقاء والصديقات في الممرات وحدائق المستشفى يتمشون، مصطنِعين أحاديثَ تُلهيهم عن الحَدَث. وجوهُهم متجهِّمة، وقلقُهم لا تخفيه ابتساماتُهم الباردة. بين قادم للاطمئنان ومغادر لقضاء عمل ضروري، تدفقتْ أمام المستشفى سيولٌ من العواطف النبيلة والمشاعر الصادقة. وبين مصدِّقٍ ومدركٍ لخطورة الموقف، ومتجاهلٍ لتفاصيلِ الحالة، ابتعادًا عن وجلٍ من الانهيار يرافق المشهدَ النهائي، مرَّتْ الثواني كأنها الساعات، يتخلَّلها توجُّسٌ وتبادُلٌ لأخبار عن تطور الحالة ينقلها أحدُ أفراد عائلته أو خارجٌ من ردهة غرفة العمليات، حيث تطوَّع للعمل الجراحي طاقمٌ من أكبر جرَّاحي دمشق، يحاولون التغلُّب على القصور الكلوي الحاد الذي داهمه بلا رحمة.

عندما خرج أحد الجراحين يقول: "يوسف في حاجة إلى نقل دم؛ فهل من متطوِّع؟" لاقى سؤالُه مشاعرَ من نوعين: استغرابٌ من السؤال عن وجود متطوِّعين بين جمهور من محبِّيه تعبتِ الأرضُ من طَوافهم حول المستشفى؛ وتفاؤلٌ كبيرٌ ممزوجٌ بتمنيات لا حدَّ لها بالنجاح. لو خرج جراحٌ يسألُ عن متطوعينَ بالأيام، لا بالدم، لما تردَّد أحدٌ من الواقفين في تقديمها بالسنين!

ويُهرَع الجمع إلى غرفة نقل الدم في طابور طويل، شكَّله أصدقاءٌ من كافة الأعمار، تضيق الصفحات عن ذكر أسمائهم جميعًا (للامتنان فقط أذكر منى واصف وخالد تاجا وبسام لطفي ورشيد عساف وسلوم حداد، مع شديد احترامي للآخرين). تمتدُّ الأيادي، وقد هدأ الروعُ. فطلبُ الدَّم يبعثُ أملاً جديدًا في النفوس. ويتهافت الشبيبة، وكلٌّ يسابق الآخرَ، وكأنهم على موعدِ لقاءٍ روحي بيوسف، يعكس، من خلال اختلاط الدَّم، أريحيةً وصدقًا، كانا، بالنسبة لهؤلاء، كلَّ ما يملكون من وسائل. تصوروا أن هذه الدماء التي تدفقتْ من كلِّ هذه القلوب النابضة محبةً وأملاً ستتجمع وتصل إلى أوردة يوسف!

كنت غائبًا عن وعيي يومئذٍ. لم أحادث أحدًا. كنت أنظر. أراقب. أتخيل. تتداعى أفكاري. وتستحضر ذاكرتي أحاديثَ يوسف ورومانسيَّته وقلبَه الكبير وعشقَه للحياة. لم تخطر فكرة المرض والموت على باله يومًا. مَن حادثني لم يلقَ مني جوابًا أو تعليقًا. سُئلتُ عن موسكو وعن ليبيا وعن أخباري الحالية، وأبديتُ عدم رغبتي في الكلام. تركوني دون اعتذار. لكلٍّ طريقتُه في الانفعال والتعبير عن الحزن. كنت أعيش لحظاتي تلك مع حنا مينة في حمامة زرقاء في السحب. يا لَتخلُّف الطب! فكرت كالأطفال: "لو صُرِفَ على تطوير الطبِّ والعناية بصحة الإنسان جزءٌ بسيطٌ مما يُصرَف على الحروب الفتاكة والثقافات الهابطة لأمكن تجميعُ خلايا من هذه الأذرع الممتدة، التي رأيتُها طويلةً كالجسور مفتولةً عضلاتُها كالفولاذ، وضمُّها إلى جسد يوسف الغارق في سرير العناية المشددة تحت مباضع الجراحين."

كنت كمن تلقَّى الصفعةَ الكبرى قبل غيره. لم يسعفني التفاؤلُ ولا الأمل. أدركت كم هي قاسية تلك الحياة! قلبي طري وذاكرتي حيال الموت حية. فسعيد مراد وفواز الساجر رحلا باكرًا أيضًا، ومن زمن قريب جدًا. ما أفظعَ الموت، وما أحقرَ المرض! أفكر لألْهيَ نفسي: "صول صول صول فا بيمول... آه، يا بيتهوفن! معي أنت في خامستك في لحظات عصيبة لم يصوِّرها أحدٌ مثلك. ولكنه القدر!"

لم تُجْدِ دماؤنا نفعًا – لا لشكٍّ في زكائها ونقائها، وإنما لهزيمة الطبِّ أمام القصور الوظيفي في الجسد الواهن لرجل في بداية عقده السادس.

ويصلني الخبر المفجع وأنا في سفري. كان من المفترض أن أكون سعيدًا في تلك الأيام لنجاحي في الحصول على عمل لائق في أبو ظبي، بعد أن ضاقت بي السبلُ في حمص. ولكني كنت أنتظر خبر يوسف كمن رماه الخوف من المصيبة في الإذعان استسلامًا. بكيتُ كالأطفال، وكنت وحيدًا. عبثًا حاولت أن أكتب برقية تعزية. لم تسعفني يدي ولا أفكاري. فضَّلْتُ الصمتَ، حتى إنني لم أتصل بالهاتف. لا بل صدقوني: لم أذهب إلى بيت حنا منذ أن غادرتُه قبيل سفري بأيام. كان من الصعب عليَّ دخولُ هذا البيت بعد الكارثة.

عشر سنوات مرت، وطيف يوسف ما زال أمامي. أراه في نوافذ الفنِّ، في وجوه الممثلين الكبار من أصدقائه، وفي وجوه الجيل الشاب. أسمع صوته مع عبد الحليم، وأتلمَّس رومانسيته في شوبان، وثوريته في موتسارت وخاتشادوريان ودوفايَّا وكارل أورف. ويحفزُّني سخاؤُه للمضيِّ قدمًا في محبة الناس والوطن والتفاني من أجل الآخرين كلما تذكرت ناظم حكمت: "إذا لم نحترقْ فمن أين يأتي الضوء لينير الظلمة؟!"

الخلود لك، يا أبا إياد! ولتبقَ ذكراك حية في دفاتر الحبِّ والعطاء وفنِّهما، وفي القلوب الكبيرة لرفاقك من صُنَّاع هذا الفن.

*** *** ***


* Email: Moufid Massouh <massouh@emirates.net.ae>.

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود