رحل وليد...

عاد إلى البياض!

(تدمر 1944 – دمشق 2006)

 

العمليَّة الإبداعيَّة مبهمة، لا يمكن تفسيرُها

البُعدُ الداخليُّ للبياض هو الموجود في أشياء العالم كلِّها، ونحن فقط مَن نكتشف السرَّ – سرَّ الخلق

 

حوار مع وليد قارصلي

 

وليد قارصلي فنان دمشقي من نوع خاص، وصديق من نوع خاص أيضًا – هو الذي استوقفني فترةً طويلة أمام مقطوعة شعرية كانت دليلاً إليه وهو يتكئ على يده اليسرى معلنًا أمامك، بكلِّ حب، أنه قادم من نبض هذا العالم، بكلِّ ما فيه من قسوة وجمال:

مرة ذهبتَ أنتَ إلى حرب حقيقيةْ

ولعبنا الحربَ نحن في لعباتنا

وفَلَحْنا الحقلَ والغابَ بشقاواتنا

وعدتَ أنتَ تخفي يدًا صناعيةْ

لم نكن ندرك أن حربَك كانت حقيقيةْ

في مرسم–بيت وليد قارصلي ينتابك شعورٌ مزدوج بالراحة والارتباك: الراحة التي تضفيها خصوصيةُ المكان، كشاهد على تغيرات عالم داخليٍّ تتوزع في لوحاتٍ موزعة بدورها حولك، والارتباك الذي يضفيه الشاهدُ الآخر – المستلقي على سريره في حياد دافئ، مانحًا إياك ابتسامةَ ترحيب لطيفة، وكأنه يفتح بابًا سريًّا لك وحدك.

بعد برهة قصيرة، تبدأ عيناك بالتآلف مع المكان، فيطرق بابَك شاهدٌ ثالث من نوع خاص: دون كيخوته الطالع من إطار اللوحة برمح طويل أمام شمس مُحَلْزَنَة السواد.

قلت له إنها المرة الأولى التي أجري فيها حوارًا صحفيًّا، وسألته أن يبدأ الحديث كمساعدة يقدِّمها لي، فكان ارتباكٌ مشترك قوامه لاجاهزية الأفكار. وعندئذٍ تدخَّل الصديق محمد عبد الجليل ليطرح السؤال الأول...

دارين أحمد

***

 

محمد علي عبد الجليل: كيف تشكَّل مفهومُ اللوحة عند وليد قارصلي؟

وليد قارصلي: من الصعب بدء الكلام من نقطة النهاية عن البدايات... أتذكر أنني عندما كنت أنشغف بقراءة كتاب ما، كنت كثيرًا ما أخرج من نفسي في أثناء القراءة لأراني: كيف أقرأ؟ كيف أستوعب؟ ما الذي استفدتُ من قراءة هذا الكتاب؟ هل الفكرة التي يطرحها الكاتبُ متناغمة معي؟ هل من الممكن أن أقوم أنا بطرح مثل هذه الأفكار يومًا ما؟! مثل هذه الأفكار كانت شديدة الأهمية في نظري، خاصة عندما بدأت ممارسة الفن كمهنة، إذ وضعت لنفسي هدفًا هو تحقيق شيء ما في هذا المجال، بغضِّ النظر عن تاريخي الهندسي والموسيقي.

أعتقد أن البدايات هي التي تشكل الإنسان، تشكِّل شخصيتَه، ذاكرتَه، ومخزونَه الثقافي؛ وهي أهم بكثير مما يأتي لاحقًا، لأنها جوهر الفنان.

كل فنان يختلف عن الآخر في مستوى ثقافته، مخزونه الفكري، وغذائه الروحي الذي تلقَّاه على مدار حياته. كيف سينجز؟ ماذا سينجز؟ هذا ما جعل بدايةَ اتخاذ الفن كمهنة تقترن عندي بسؤال أساسي: هل لدي شيء أقدمه للآخرين؟ وكنت دائمًا أبحث عن تلك الصيغة التي تسمح للفنان بالوقوف أمام الآخرين معلنًا أن لديه ما يقوله، سواء كان هذا في الأدب أو في المسرح أو في الفن التشكيلي إلخ. لا يحقق الإنسان تفرُّده منذ البداية، لكن يجب أن يكون لديه ما يقوله.

دارين أحمد: شكا دوغا لمالارميه عذاباتِه الشعرية قائلاً: "... وتكون لديَّ حينئذٍ أفكار كثيرة." فأجابه مالارميه: "لكن القصائد لا تُصنَع من أفكار، بل من كلمات." ما هو الاختلاف في التعبير عن الأفكار باستخدام اللوحة عن المقولة السابقة بخصوص الشعر؟

و.ق.: أرى أن جواب مالارميه مجحف قليلاً بحقِّ الفن، لأن الموسيقى تتشكل من نوتات سبع، واللوحة تُصنَع من ألوان سبعة – ومع ذلك، كم من نجاح هائل يمكن له أن يحقَّق، وكم من فشل يمكن أن يكون باستخدام هذه الأدوات ذاتها...

د.أ.: مع ذلك، قد تشكِّل أسبقيةُ الفكرة عائقًا أمام تدفُّقها العفوي، وخاصة فيما يتعلق بالرسم، لأن رسم اللوحة يستغرق زمنًا...

و.ق.: لا بدَّ من ذلك! حتى الشاعر والموسيقي يحتاج إلى فكرة أولى كي يبدأ. ضعي مجموعة من الألوان أمام طفل لم يتشكَّل مخزونُه الثقافي والمعرفي بعد: لن يستطيع هذا الطفل أن يقدم لكِ شيئًا... قد يقدم أشياء "تجريبية" جميلة، لكنها لن تكون أكثر من مزحة!

لا بدَّ من مضمون إذن. حتى الفن التجريدي، المحكوم عليه بـ"اللامضمون"، يحمل مضمونًا شديد الوضوح. إنك تتعاملين مع شيء ملموس، مع سطح بمساحة معينة، وبعدد معين من السنتمترات.

د.أ.: إذًا فلنتكلم عن خصوصية علاقة وليد قارصلي بالفكرة واللوحة معًا.

و.ق.: ما ساعدني في بدايتي الاحترافية هو دراستي لتاريخ الفن. فقبل ذلك كنت أرسم لأني أرغب في تجسيد أشكال أو أنماط أو مزاجيات معيَّنة فقط. هذا يختلف كثيرًا عن التعبير الموسيقي: ففي التعبير الموسيقي يكون الفنان، وهو يعزف، مسؤولاً أمام سمعه، أمام معرفته الموسيقية؛ أما الرسام فيمكن أن يرسم أيَّ شيء ويطلق عليه "هذا ما أريده!" من دون دراسة أكاديمية يكون العازف غريبًا عن نتاجه...

د.أ.: لكن للَّون حساسيتَه الخاصة أيضًا...

و.ق.: طبعًا. وعلى الرغم من أن عدد النوتات والألوان سبعة، إلا أن هناك أنصاف الألوان، أنصاف الأزمنة الموسيقية. علاقة الزمن بالموسيقى تختلف عن علاقته باللوحة: فهو يتجلَّى ثابتًا وراسخًا في اللوحة، ويستمر ثباتُه حتى بعد انتهاء العمل، على الرغم من أن المتلقِّي، الذي تكتسب اللوحةُ حضورًا خاصًّا في داخله، قد يعيد اكتشاف تفاصيل جديدة مع كلِّ تأمل جديد لها؛ بينما لا بدَّ للعازف من إعادة لعب اللحن الموسيقي زمنيًّا، من أوله إلى آخره، حتى يتمكن من إيصال ما يريد قولَه للآخر.

د.أ.: أهو ما يتعلق بزمن الإنجاز؟

و.ق.: زمن الإنجاز وزمن التلقِّي – هذا ما أقصده بالفرق بين الموسيقى والرسم زمنيًّا؛ علمًا أن هذا الفرق لا يلغي تقارُبَهما، إذ تجمع بينهما تلك اللحظاتُ المبهمة التي قد تقترب أو تبتعد من الفنان. قد يبدأ الفنان علاقته مع السطح الأبيض دون أية فكرة مسبقة... ولكنه ما إن يبدأ الرسم حتى تبدأ الفكرة بالتشكل، وتتابع نضوجَها مع تطور لوحته. وقد يكون العكس تمامًا: تتلاشى الفكرة التي يريدها الفنان، لتبزغ فكرةٌ أخرى مختلفة تمامًا.

العميلة الإبداعية عملية مبهمة، لا يمكن تفسيرها... ولو قُدِّرَ لها أن تفسَّر لماتت، ولصارت اللوحاتُ نسخًا مكررة لما هو موجود في الطبيعة. هذا، مع الأسف، ما يقودنا إليه عصرُ الكمپيوتر.

د.أ.: أعتقد أن حضور اللوحة على الكمپيوتر يُفقِدها خصوصيتَها، يحوِّلها إلى معلومة – خاصة مع الاستهتار الذي تُعامَل به.

و.ق.: لا أتفق معك بهذا الشأن! اللوحة الزيتية أو المائية وغيرها لن تتغير إذا طُبِعَتْ على الورق أو نُقِلَتْ عبر الكمپيوتر. إنني أقصد الفن المنتَج بواسطة الكمپيوتر أو بواسطة وسائل أخرى – هذا الفن الذي يرتبط بدرجة تقنية هذه الوسائل، بينما هو يفتقد إلى مركز ثقل فنِّي فعلي، حتى ليبدو أن دور الفنان مُلغى – وبالطبع دور المتلقِّي أيضًا. لقد بحثت عن هذا "المركز" في أعمال الفن الجديد أو ما يُسمَّى بـ"فن التجهيز" – دونما فائدة! إذ لا يمكن للمتلقي أن يقف أمام "ثقَّالة" ويستمتع بها. قد يفعل المهندس ذلك!

من الطبيعي أن يستفيد الإنسان من الأشكال المتوفرة أمامه في الطبيعة؛ ولقد فعل ذلك دائمًا في مجال الهندسة المعمارية، وفي مجالات فنية أخرى. لكن تكرار أشكال الطبيعة مجرد تكرار هو أمر آخر.

د.أ.: ما هو سبب فقدان "مركز الثقل الفني" في بعض الأعمال العربية الجديدة؟ أهو ردة فعل على الواقع مثلاً؟ وماذا عن تاريخ نشوء هذا الفن الجديد، "فن التجهيز"؟

و.ق.: في بداية القرن الماضي، نشأت مجموعة من الاتجاهات، التي كانت موجودة أصلاً؛ لكن ما أكسبَها صفةَ التميُّز هو التركيز عليها والتخصص فيها – وهنا أقصد السوريالية والدادا والتكعيبية وغيرها.

نشأ الفن مع وجود الإنسان لأسباب مختلفة، منها العبادة، الصيد، إلخ؛ وكان ذلك بمثابة تحدٍّ ماديٍّ وفكري، محاولة لاستغلال كلِّ شيء في سبيل الفكرة. ومع تقدم البشرية، بدأ الإنسان باستغلال الفن، بدءًا من استغلال جلده عن طريق الوشم حتى النحت في الصخر – إلى أن وصل إلى تجنيد الفنِّ لخدمة الكنيسة فقط.

كان الإنسان البدائي يرسم بشكل تكعيبي أو دادائي. وهذه "الحداثة" الموجودة مسبقًا أبرزتْها الرغبةُ في كسر القيود الأكاديمية. واستمر هذا الكسر، حتى وصل بعضهم إلى عمل أيِّ شيء تحت شعار: "اعمِلْ شو ما بدك وسمِّه فنًّا!" لقد فقدنا الخطوط المخلصة للفن، وأصبح في إمكان أيِّ أحد أن يشتري بعض الأغراض من المتجر ويرتبها عشوائيًّا ليشكِّل عملاً فنيًّا!

د.أ.: تتميز فترةُ تجنيد الفن في خدمة الكنيسة بنتاجات مذهلة...

و.ق.: نعم، لقد ظهرت نتاجات عظيمة لأن الكنيسة شجَّعتِ الفنَّ بمختلف أنواعه، لكنها ألزمتْه بالمواضيع الدينية فقط. جميع الأعمال الفنية في العالم تشكِّل نتاجًا ثقافيًّا زمنيَّ التدرج، مما يدل على أنه لا يمكن للإنسان الاستغناء عن الفن. وهنا يمكن لي أن أقول إن مرحلة تدنِّي المستوى الفني هي مرحلة عابرة، سيعود الفنُّ بعدها إلى التألق من جديد.

د.أ.: ما يذهل في فن القرون الوسطى هو قدرة الفنانين على التعبير عن آرائهم المخالفة للكنيسة باستخدام الأدوات المفروضة عليهم عينها؛ أي أن ترسم لوحة دينية تعبِّر فيها عن رأيك الخاص الذي قد يكون مخالفًا للرأي الديني السائد في ذلك العصر والمفروض قسرًا على الفنان...

و.ق.: لقد قدَّم الفن في ذلك العصر خدماتٍ كبيرة للفن بشكل عام، وللكنيسة أيضًا.

د.أ.: عندما زرتك منذ عامين تقريبًا كان انطباعي العام عن اللوحات المحيطة بنا انطباعًا واقعيًّا. ومن خلال رؤيتي لبعض أعمالك المبكرة، رأيت أن بدايتك الفنية كانت سوريالية. أمامي الآن عدة لوحات لمدينة دمشق تجمع بين المدرستين...

و.ق.: في أثناء البحث عن الهوية الخاصة يحاول الفنان التخلص من كلِّ الشوائب التي لازمتْه سابقًا؛ وهو عمل يحتفظ باستمراريته وجديته على الدوام. الواقعية التسجيلية مدخل رئيسي إلى تعلُّم الفن، وهي ممهورة بهويات الفنانين جميعًا. ولا أتصور فنانًا لا يمر بهذا المدخل في أثناء تطوره الفني.

د.أ.: هل أفهم من كلامك أنك تقصد الكلاسيكية؟ فـ"الواقعية التسجيلية"، كما أعرف، هي أن ترسم ما تراه فقط، عازِلاً نفسك عن الموضوع!

و.ق.: لقد تكلَّمنا منذ قليل عن وجود الحداثة في الفن القديم. أعتقد أن هذه التقسيمات الزمنية، كالتي تطرحينها الآن – الكلاسيكية والواقعية والواقعية التسجيلية والرومانسية وغيرها، هذه المدارس الموجودة دائمًا – يمكن تلخيصها في مركز هو الواقعية واتجاه "يميني" هو الاتجاه التصويري "السوپرواقعي"، أي ما يُسمَّى بالاتجاه الطبيعي؛ واتجاه ثانٍ هو الابتعاد عن كلِّ ما يمت إلى الواقع بصلة، كالرسم التجريدي أو السوريالي. وفي الحقيقة إن الاتجاهين الأخيرين ينطلقان من الواقع: خليكي عَ الأرض شوي!

د.أ.: تحدثتَ منذ قليل عن "الشوائب"...

و.ق.: في كلِّ لوحة عناصر زائدة... كلُّ عنصر يمكن أن تزيليه من اللوحة من دون أن تتأثر هو عنصر زائد، وكل عنصر يمكن أن يُضاف من دون أن يضيف شيئًا هو عنصر زائد أيضًا. مسيرة الفنان تتجه نحو الاختزال، في عودة مستمرة نحو الطبيعة؛ ذلك أنه يحاول، عبر مسيرته، أن يختزل ويختزل حتى يصل إلى المعادلة الأنسب: أقل ما يمكن من عناصر بأكثر ما يمكن من تعبير. هذا ما يعتمد عليه الفن الكاريكاتوري في قوته؛ إذ إنه يتبع هذه الطريقة، إنما بمبالغة فظيعة.

د.أ.: ما قلتَه ينطبق على أشكال الفنون الأخرى، كالشعر مثلاً. ولكن هناك حالة خاصة للَّوحة: ذلك أنها تُنْجَز عندما يُنجَز العنصر الزائد. في القصيدة يمكن لك أن تشطب أسطرًا، ولكن ماذا عن اللوحة؟!

و.ق.: أية لوحة تقصدين؟ أهي اللوحة التي تُرسَم أم اللوحة الجاهزة في الدماغ؟ ذلك أن هناك لوحات جاهزة، وما على الفنان إلا رسمها.

د.أ.: إذًا كنت تقصد بـ"الشوائب" شوائب ما قبل الرسم؟

و.ق.: طبعًا. في مرحلة سابقة، عندما كنت أرسم الپورتريه، كنت أقف أمام اللوحة متسائلاً: لماذا كل هذه التفاصيل؟ كان لدي اعتقاد بأن التفاصيل هي التي تُظهِر التعبير. كما أنني كنت أميل إلى التجريد، السوريالية، ابتكار الأشكال. ومع مرور الزمن، وجدت أن الهدف الأكبر منها هو الإبهار، إما عن طريق التقنيات وإما عن طريق الفكرة. هناك الكثير من اللوحات السوريالية التي تبهركِ في البداية، ومع مرور الزمن، تتحول إلى لوحة عادية: لقد قدمتْ فكرتَها الوحيدة وانتهى الأمر.

د.أ.: يتم التمييز، في العادة، بين نوعين من اللوحات: النوع الأول هو النوع الذي تتحدث عنه؛ أما النوع الثاني فهو كالأصدقاء الذين قد لا تحبهم من المرة الأولى، ولكنك تغتني بهم مع كلِّ لقاء جديد. اللوحة من النوع الثاني تتحول، بمرور الزمن، إلى كائن حيٍّ تمامًا، تشتاق إليه، تحدِّثه، إلخ.

و.ق.: لقد جربتُ هذا الأمر مع بعض اللوحات السوريالية: بالفعل كان ضجيج الفكرة وجِدَّتها يبهران في البداية؛ ثم تدريجيًّا يختفي هذا الانبهار، لتتحول اللوحة إلى سطح ملون عديم الأثر. بينما إذا تناولنا لوحة لرِمبرانت، مثلاً، فإن الأمر يختلف تمامًا: لوحة پورتريه رِمبرانت تتجدد على الدوام في مخيلة المتلقِّي، ومع كلِّ رؤية جديدة، يكتسب المتلقي ذهولاً جديدًا. أفكر دائمًا بكمِّ المتعة التي عاشها رِمبرانت وهو يرسم حتى استطاع نقل هذه المتعة إلينا!

لقد تناوبتْني مثل هذه اللحظات من المتعة في تجربتي السابقة مع الپورتريه. كنت غالبًا ما أحدِّث النموذج لألحظ تغيُّر شكله مع تغير مزاجه باختلاف اللحظات. في هذه التجربة ليس في الإمكان الضغط على زر undo لتعودي إلى الشكل قبل التغيير!

د.أ.: بما أنك عدت إلى الكمپيوتر، هناك رأي مفاده أن هذا العصر يفرز ثقافته الخاصة – هذه "الثقافة" التي أعتقد أنها تحول الثقافة إلى معلومات أكثر من كونها نمطًا خاصًّا. ما رأيك؟

و.ق.: هذا يذكِّرني بالفنانين الذي يقومون بصنع تماثيل من الرمل، أو من الثلج، أو من نشارة الخشب على الماء... أعمال هائلة وشديدة الجمال، ومن المحزن أن يكون مصيرها التلاشي السريع! ولكن، أعتقد أن هذا لا يتعدى كونه أزمة مؤقتة. فلو وُجِدَ مَن يتبنَّى تلك المواهب ويعطيها حقَّها لما أقدمتْ على فعل ذلك.

هناك موضوع آخر شبيه بموضوعنا، وهو المسرح الجوال: المسرح الجوال يبدع يوميًّا أشياء جديدة، وما من أحد يفكر بتأريخ هذه التطورات ونقلها إلى الآخرين. إنه هدر محزن...

د.أ.: يقابله هذا الكم الكبير من الأعمال التي لا تستحق التسجيل...

و.ق.: نعم، وخاصة مع تطور التقنيات العالمية التي تسمح بالتسجيل عن بُعد، بينما يوجد عمل فني يُبدَع أمام عدد قليل جدًّا من المارة قد لا يتجاوز الاثنين، ثم يختفي نهائيًّا.

د.أ.: كيف تفهم علاقتك مع التقنية؟

و.ق.: أحاول استخدام شخصيتي الفنية داخل التقنية الكمپيوترية، مبتعدًا عن إحلالها مكاني: فأنا أميِّز بين الفن الذي يخدم التقنية والتقنية التي تخدم الفن. عندما نستخدم وسائل الاتصال، مثلاً، لزيارة متاحف العالم نكون قد وضعناها في موقعها الصحيح كمعمِّمة للفن، ونكون قد حققنا دورَها الإيجابي.

لقد تعلَّمت من الكمپيوتر أن اللوحة عبارة عن مساحة بيضاء، 30 X 40، أي 1200 سم2 فقط، ولكنها تتسع للعالم بأسره! هذا البُعد الداخلي للبياض هو الموجود في أشياء العالم كلِّها، ونحن فقط مَن نكتشف السر – سرَّ الخلق!

ساعدني الكمپيوتر أيضًا – على الرغم من أن تربية والدتي [إقبال ناجي قارصلي] جعلتْ أساسياتِ اللون بديهيةً عندي – على تنظيم التدرُّجات اللونية، مما فتح باب الإمكانية على مصراعيه، جنبًا إلى جنب مع التناغم والانسجام اللوني.

في هذه الأيام، يتم استخدام الكمپيوتر لصنع فنون جديدة، كالـhologram مثلاً. إنه ترف لم نعتدْ عليه بعدُ، لم نتعرف إليه، وربما ستتعرف إليه أجيالُنا القادمة. عندما أفكر في التقنية، يخطر ببالي تناقُض أساسي: بما أنه لا يمكن تغيير الإنسان، فإن تطوير التقنية إلى ما لا حدود له أمر لا فائدة منه! فمثلاً، حجم أصابع الإنسان لا يتغير. فلو تم تطوير جهاز الكمپيوتر حتى الوصول إلى كمپيوتر بأزرار لامرئية، ماذا ستكون الفائدة منه؟!

د.أ.: وليد قارصلي مؤلِّف موسيقي أيضًا. وقد قلت لي إنك تستخدم برامج كمپيوترية لإعداد ألحانك. كيف تتعامل معها؟

و.ق.: إنني ضد استخدام جُمَل موسيقية جاهزة في برامج خاصة، يستخدمها أحدٌ ما ليقول بعد ذلك: "لقد أنجزت لحنًا!" لديكِ هنا نوع من البرامج، سبع نوتات، وهي ذاتها التي تستخدمينها، في معزل عن الكمپيوتر، لإنجاز عدد لانهائيٍّ من الألحان. المتعة الحقيقية في التأليف الموسيقي على الكمپيوتر هي أنني عندما أنجز لحنًا معينًا لن أنتظر ثلاثين موسيقيًّا لأستمع إلى إنجازي!

د.أ.: الجو، الاختلاف، التجدد الذي يوجد مع وجود العازفين، الپروفات وتطوير العمل حتى تلاشي الأخطاء – ألا يُستلَب ذلك كلُّه لصالح سرعة التغيير في التأليف الموسيقي عن طريق الكمپيوتر؟!

و.ق.: هذا أكيد... فلو توفَّرتْ لي إمكانيةُ دوام العمل مع عازفين لما لجأتُ إلى استخدام الكمپيوتر. إنني أحاول اختصار الأذى الناتج عن استبدال الكمپيوتر بالعازفين إلى حدِّه الأدنى، وذلك بتقديم الخط العريض للَّحن إلى فرقة ما لتؤدِّيه.

د.أ.: هل من جديد على الصعيد الموسيقي؟

و.ق.: إني متوقف عن التأليف منذ حوالى السنتين.

قبل أن نودِّعه، كانت لنا وقفةٌ مع عالمه الموسيقي الخاص، مجموعته الخاصة التي قال عنها إنها "لوحاته الموسيقية"، في تشكيل آخر لعالم داخليٍّ لا يتوقف عند حدود اللون...

*** *** ***

حاورتْه: دارين أحمد

 

موقع وليد قارصلي الشخصي

http://www.geocities.com/walidya001/

صفحات وليد قارصلي في غاليري معابر

http://maaber.50megs.com/seventh_issue/karesli_1.htm

صفحة وليد قارصلي في "المبدعون العرب"

http://www.arabiancreativity.com/karesly.htm

 

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

Editorial

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود