|
صـوت فيـروز... رسـالة كـونيَّـة
لو كان هناك علماء فلك عرب في سبعينيات القرن الماضي، وشاركوا في إعداد الرسالة الكونية التي حملتْها المركبة الفضائية Voyager، لأصبحت السيدة فيروز "سفيرتنا إلى النجوم" فعلاً، لا بتعبير مجازي جميل وحسب على طريقة الشاعر الكبير سعيد عقل. لقد حُمِّلتْ مركبتا Voyager 1 وVoyager 2، اللتين أُطلِقَتا في آب وأيلول سنة 1977، رسالةً موجهةً إلى الحضارات الكونية التي تقطن كواكب حول نجوم أخرى في مجرة درب التبانة the Milky Way التي تضم نجمنا الشمس. وتتضمن هذه الرسالة كلمة تحية منطوقة بـ55 لغة من لغات البشر، بدءًا من اللغة الأكادية القديمة لمملكة سومر، وانتهاءً بلغة Wu، لغة الأقلية في الصين، مرورًا باللغة العربية وغيرها من اللغات.
رسم فني لمركبة Voyager الكونية. وقد أشرف عالم الفلك كارل ساغان على لجنة الإعداد لرسالة Voyager. وإذ لم يكن هناك أي إسهام عربي، وكان ساغان يعلم أن العرب أصحاب تراث شعري غني، فقد طلبَ من إحدى العاملات في وكالة NASA – وكانت سيدة عربية الأصل تدعى آمال شخشير – أن تزوِّده بشيء من الشعر العربي ليوضع في الرسالة، فما كان من السيدة شخشير إلا أن اقترحت بيتًا من تأليفها هي، يقول: يا أصدقاءنا بين النجوم يا ليت يجمعنا الزمـان أظن أن في ثقافتنا العربية من الشعر ما هو أفضل من هذا البيت بكثير! فكثيرون هم الشعراء العرب الذين تأملوا في الوجود والكون، فأبدعوا شعرًا إنسانيًّا خالدًا يستحق عن جدارة أن يأخذ مكان بيت الشعر أعلاه.
القرص الذهبي المحمَّل رسالةَ أهل الأرض إلى الحضارات الكونية. وقد حُمِّلتْ المركبة Voyager بجهاز pick-up ملفوف في غلاف ذهبي مبطَّن بمرايا. وقد دُوِّنت تعليماتُ التشغيل بلغة هيروغليفية سهلة الإدراك على غلاف قرص ذهبي يحمل، من بين عدة أشياء أخرى: أصواتًا لظواهر طبيعية من كوكب الأرض، مع أصوات طيور وحيوانات وأغنية من أغاني الحيتان، ورسالة صوتية لمدة 12 دقيقة تشمل قبلة وصرخة طفل، بالإضافة إلى 90 دقيقة من تسجيلات موسيقية كلاسيكية وشعبية تعود إلى مختلف الثقافات، من بينها: مقطوعات على آلتَي الكمان والبيانو ليوهان سيباستيان باخ، ومقطع من أوپرا لموتسارت، والحركة الأولى من سيمفونية بتهوفن الخامسة، ومقطوعة أخرى لستراڤنسكي، بالإضافة إلى قطعة موسيقية عمرها ثلاثة آلاف عام تسمَّى "الجداول المتدفقة"، وأيضًا أغنية زفاف من الپيرو، ومقطوعة "شاكو هاشي" من اليابان، وأغاني جاز وRock'n roll من أمريكا. كما شاركت دول أخرى، مثل السنغال، روسيا، بريطانيا، فرنسا، الصين، الهند، إندونيسيا، أستراليا، المكسيك وغيرها بمقطوعات موسيقية. وحدهم العرب غابت موسيقاهم عن القرص الذي حمل مقتطفات من التراث الموسيقي لشعوب الكوكب الأرضي! وإذ لا أجد تجربة موسيقية عربية أغنى وأجمل وأشهر من تجربة الرحابنة مع السيدة فيروز، فقد فكَّرتُ مرَّات بالمقطع الأنسب من إحدى أعمالهم للتواصل مع "أشقائنا الكونيين"، يوضع ضمن رسالة كالتي حملتها Voyager. أتجاوز طبعًا عن معرفتي باختلاف هؤلاء "الأشقاء" في معتقداتهم وأفكارهم، وحتى في تركيبتهم العضوية ووسائل إحساسهم، كما أتجاوز عن فرضية عدم فهمهم للغة العربية أو احتمال عدم تذوقهم موسيقانا – فلن تكون اللغة العربية في أغاني السيدة فيروز – الفصحى أو المحكية – بأبعد عن "ذوق" تلك الحضارات و"فهمها" من باقي لغات أو موسيقى شعوب الأرض الأخرى التي حملتها رسالة Voyager! قد يكون مقطع من أغنية "نحنا والقمر جيران"، من كلمات وألحان الأخوين رحباني، مناسبًا جدًّا لتبليغ تلك الكائنات بأننا نحيا في كوكب ذي تابع. ونحن نعلم اليوم الأثر الكبير لوجود القمر حول كوكب الأرض على الحياة بشكل عام والبشرية بشكل خاص. وبما أن الظلمة تلف الفراغ الكوني الذي ستبحر عبره، لمئات ملايين السنوات، أية مركبة تحمل الرسالة، وأيضًا بما أن أكثر أبناء الأرض إخلاصًا لها هم أولئك الذين يعود عملُهم خيرًا عليها وبأقل ضرر لها، فقد تكون كلمات جبران، من ألحان زكي ناصيف وبصوت السيدة فيروز، أكثر تعبيرًا عن كوكبنا الأرضي وعن الإنسان – صاحب الرسالة – الذي يقطنه:
في ظلام الليل أناديكم هـل تسـمعـون؟ وللإِخبار عن كوكبنا الذي يعيش مستمدًّا طاقاته كلَّها من نجمه الشمس، وتعتمد معيشة أبنائه على خيرات أرضه، اخترت (من كلمات وألحان الأخوين رحباني):
عم بتضوِّي الشمس عَ الأرض المزروعة
وشو بحبِّك يا أرضي السخيَّة إن الفضاء شاسع جدًّا، ومسار Voyager (أو أية مركبة شبيهة) لن يقودها إلى أيِّ نجم قريب قبل 40 ألف سنة! ولكن – بغضِّ النظر عن الاحتمال الضئيل لمقابلتها حضارة عاقلة – يبقى إرسالُها حدثًا تاريخيًّا في حياة البشر. إذ تتأتَّى أهميتها من تذكيرها لنا بـ"وحدتنا الكونية"، لتكون دعوةً لنا للحفاظ على الوطن الوحيد الذي يحتضن وجودنا. إذن فـ"الرسالة على هذه المركبة هي رسالة موجهة لنا"، كما قال ريتشارد هوغلاند، صاحب فكرة الرسالة الشبيهة التي حملتْها مركبتا Pioneer 10 وPioneer 11. من هنا قد تكون كلمات وألحان الأخوين رحباني بصوت السيدة فيروز رسالة ودعوة للسلام، لكنها رسالة موجَّهة إلينا نحن:
أنا عصفورة الشمس، أنا زهرة الحريَّة
ضَوُّوا قنديل المحبة قبل هبوب الريح أو بالمعنى نفسه، من كلمات وألحان الأخوين رحباني:
القمر بيضوِّي عَ الناس، والناس بيتقاتلوا وبما أن الإنسان على الأرض كان – ومازال – يعتبر أن الله يسكن في السماوات، قد تكون كلمات الشاعر سعيد عقل، من قصيدة "غنَّيتُ مكَّة" (من ألحان الأخوين رحباني)، على متن مركبتنا الكونية، رسالةً موجهةً إلى الله:
وأعزَّ ربِّـي النَّـاسَ كلَّـهمُ بيضًا فلا فرقتَ أو سـودا وعندما طرحتُ فكرة هذه الرسالة لأول مرة في إحدى المحاضرات، قدمتُ في النهاية، من باب الدعابة، اقتراحًا نال موافقةً من جمهور مدينتِيْ دمشق: اقترحتُ أن تكون الرسالة بيتين من قصيدة "حملت بيروت" للأخوين رحباني، بصوت السيدة فيروز:
أفـدي العيونَ الشـآميَّـاتِ ناعسـةً *** *** *** [*] عضو محاضر في الجمعية الكونية السورية.
|
|
|