صِنَاعةُ جَهنم!

 

مروة كريدية

 

لقد شبع القارئ تنديدًا بالأحداث وتصويرًا للمجازر! ربما ينتظر منا رؤية تختلف عن مواقف الشجبِ والادانة وتحميل المسؤوليات وإلقاء التُهم، وقد أتخم تحليلات سياسية وأخرى عسكرية تحمل توقعات أكثرها تفاؤلاً ينذر بكارثةٍ كبرى.

مخطئٌ ربما من يظن أن أي فردٍ منّا، بوصفِه "إنسَانًا"، بمنأى عمّا يحصل من آلام هنا أو هناك؛ لأننا بالدرجة الأولى، وقبل كلّ شيء، شركاء في الإنسانية، علاوة على أن كثيرًا من القراءات تبدي قلقًا من تفاقم الأوضاع وامتدادها بحيث تخرج عن سيطرة صانعيها وحدود توقعاتهم وامكانياتهم.

وإننا، كأفرادٍ نؤمن بكونية الإنسان وحقوقه ونتخذ من اللاعنف عنوانًا، نتحمل مسؤولية أخلاقية تجاه شركائنا في الإنسانية، وتجاه ما يحصل من أحداثٍ تتجاوز حدود الإبادة في بعض صورها. وإن طرح إشكالية الوضع الإنساني وقضايا السلام في دوامة "المجازر"، التي بَلغت ذروتها القصوى، يضع اللاعنف "حُلمًا" صعبَ المنال ناهيك عن التطبيق.

اللاعنف في دوامة الحرب:

مؤلمٌ إذن هو الوضع في غزّة! فصورُ أشلاء الأطفال الممزقة توقظ الإنسان من رقادٍ عميق وتضعنا أمام أجيال تنظرُ إلينا بعيون غُلّفت بالدماء والدموع، فالمآسي تقود أرواح البشر جميعًا، من جميع أقطار الأرض، ليقفوا إلى جوار طفلة لاذنب لها إلا أنها ولدت هناك!

فعندما تنبثق أقصى أشكال العدوانية فإن مفاهيم السلام تتراجع بطبيعة الحال، واليوم أملنا معقودٌ على الإنسان (مهما كان)، ورجاءنا بالأفراد، وتمنياتنا على سياسات الدول كلها ودبلوماسياتها، التي بمعظمها احترفت الالتواء والعنف وطغت الفلسفات المادية على كافة أشكال مصالحها ومآلاتها، أن تسعى إلى وقف العنف واطلاق النار الفوري.

وبعيدًا عن السياسة، وسجالات الساسة وصُنّاع الحروب، وقريبًا من أرواح البشر، أينما كانوا ولأي عقيدة انتموا (يهودًا، مسلمين، مسيحيين،...)، ومن منطلق أن كلّ إنسان منّا: أمّ وأبٌ ابن أو حفيد، وأننا كأفرادٍ أسوياء نرفض الحروب، ونرغب أن نعيش وأن يعيش الآخرون في سلام، ومن منطلق أن رؤية الأحداث ينبغي أن تكون بعينتين اثنتين؛ لابد من اقرار بعض النقاط:

-       الحروبُ كلّها جائرة. فمهما كانت دوافعها ومآلاتها هي محض فعلٍ لا أخلاقي يتخذ من العنف سبيلاً لاخضاع البشر بالحديد والنار. وشتى أنواع العنف مُدانة وكل استعمال للأسلحة هو من قبيل العبث والدمار.

-       إن التنديد بويلات المجازر لا يكفي لبناء سلام، وإن كانت الحرب شرًّا فإن الاستبداد شر أكبر منه. إن البدائل السلمية ينبغي أن تحقق حلولاً عملية، وهنا استعير مقولة لجان ماري مولِّر[1]: "يا لحماقة السلام الذي يُغطي الاستبداد ويتساهل مع العدوان!" فالسلم لا يكون إلا عبر مقاربة متكاملة للمشكلات السياسية المحرضة للحروب والنزاعات؛ فالغايات والأهداف العادلة هي تلك التي تسعى إلى حماية المدنيين ورفع العنف عن المضطهدين، وهي لا تكون إلا عبر وسائل عادلة، أي باعتماد استراتيجية لاعنفية في المقام الأول.

-       إننا نعوّل على إنسانية الإسرائيلي كما نعول على إنسانية الفلسطيني، وإننا نبرأ من آلة العنف والدمار والجنون، فلليهود تراثٌ روحي يربأ بهم أن يقترفوا "المجازر" وهم الذين عانوا من ويلات الاضطهاد و"المحرقة"، وأن يختزلوا لاهوت "أرض الميعاد" بجدار يعزلهم عن أخوتهم في الإنسانية ويضعهم ضمن غيتوهات معزولة. فأطفال غزة والضفة ليسوا بأعداء لهم! وقوارب الإغاثة الإنسانية لا تحمل صواريخًا! وإننا نعول على تراث المسلمين الروحي الذي يأبى أن يتحول معه الإنسان إلى مجرد "آلة ردّة فعل"، فالإسلام كرسالة توصف بالسماوية موجهة لكل البشر والتي يتفق المسلمون على أنها أرسلت رحمة للعالمين، لا يمكن ان تُختزل بشكلٍ واحدٍ على صورة نزاع دائمٍ مع الآخر!

-       إن المتابع للسيرورة التاريخية يجد أن كبرى المجازر في التراث البشري سببها أحقاد "جماعية" لا ضغائن شخصية، وهنا تتبلور مسؤولية القيادات "السياسية والمجتمعية" في بلورة "عفو" يحرر التاريخ من دوامة العنف. وهي دعوة للعقلاء من جميع الأطراف في الأمم المتحدة والمجتمع الدولي إلى لحظة تاريخية حاسمة تتيح حل النزاعات حلاً إنسانيًّا وبوسائل سلمية.

أخيرًا هذا الحلم[2]:

أعلمُ جيدًا أنّ طرح مفاهيم التسامح والسلام في ظل المجازر يبدو حُلمًا غير عادل، وقد يفسره البعض على أنه من قبيل مسامحة المعتدي وخدمة له، غير أنه، إن بدا العنف ضروريًا لرد العنف، فهو لا يمكن أن يكون عملاً مشروعًا بحال من الأحوال، فالسلام أصلٌ يضفي بعدًا أخلاقيًا على عمل الكائنات الإنسانية ويعطي لوجودها معنى.

إن ما نحتاج إليه اليوم، وأكثر من أي يومٍ مضى، هو إيجاد لُغة أخرى تتجاوز العنف بشتى صوره وآلامه، وايجاد منطق وفلسفة تُضفي على الوجود الإنساني بُعدًا روحيًّا ومَعنّى إنْسيًّا، تحتضن الكيان البشري وتتسع بعمق في نطاق كوني، وتجعل الحضارة الإنسانية عائلة تنعم في ظل حقيقة أن "جوهر الإنسان واحد"، وأن كل فردٍ أخٌ لكل فرد، وأن إنسيّة الكائنات البشرية واحدة، وما تعددية المظاهر والأشكال واختلاف الألسنة والألوان إلا آيات كونية متعددة في إطار وحدة وجود لا يناقض كيانه.

ومن حقنا كشعوب (عربية وعبرية وفرسًا واكرادًا، يهود ومسلمين ونصارى ...) أن نحلم بالسلام، وأن نرقى بإنسانيتنا عن عالم العنف والمادة وانفعال الذات المجتمعية، وأن ننفلت من أسر تفسيرات اللاهوت المتحكم بنا وقوقعة الأنويات القومية والعرقية والدينية والطائفية، من الضفة إلى الخليل، من غزة إلى بيت لحم، من لبنان إلى سيناء، من بغداد إلى بلاد شنقيط، من القدس إلى كل بقاع الأرض. من حق الإنسان أن يحيا بسلام! ولصنّاع جهنم أجمعين نقول: سنحمل السلام وردًا... ولن ينتزعن أحد منا حرّية أرواحنا... ولن تحوّلنا المحارق إلى تجمعّاتٍ وحشيّة... فغاية وجودنا الأرضي تحقيق أعلى مواهب الإنسانية!

*** *** ***

إيلاف


 

horizontal rule

[1] قاموس اللاعنف، جان ماري مولِّر، ترجمة محمد علي عبد الجليل، مراجعة ديميتري أڤيرينوس، معابر للنشر، 2007.

[2] كتب أكرم أنطاكي وديميتري أڤييرينوس في افتتاحية معابر آب 2006 إثر عدوان تموز على لبنان مقالاً بعنوان من واقع الحرب إلى حلم السلام http://maaber.org/issue_august06/editorial.htm

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 إضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود