الصفحة السابقة الصفحة التالية

اعترافات آخر متصوفة بغداد
الحلقة الثانية: مجموعة الدمى المتحركة

 

سعدون محسن ضمد

 

إذا كانت النبوة تجربة ذاتية، فمنطلقها الأول يبدأ من الذات، ومعنى أن المنطلق ذاتي يساوي أن تكون هناك ذات مهيأة لنوع من أنواع الخبرات... هذا بالنسبة لي إيمان؛ فأنا أؤمن بأن كلَّ إنسان مخلوق بقدرات تؤهله لإمكانيات محددة، سكة قطار... لكلِّ إنسان سكة قطار واحدة، يمكنه أن يسير على هذه السكة فيبلغ جميع المحطات التي تمر بها، ويمكنه أن لا يسير عليها، أو بالأحرى، لا يُتْرَك وخيار السير، وهكذا يُحرم – أو كما يبدو، هو الذي يَحْرِم نفسه – من بلوغ محطاته كلها.

بعبارة أخرى، النبوة لا تتهيأ لأيٍّ كان، بل لأنواع محددة من الشخصيات، شخصيات مخلوقة بصفات تتجه بها اتجاهات فكرية محددة. بالتأكيد، لم أكن أعرف ذلك قبل أن أتحقق من النبوة، لكنني الآن متأكد من هذه الحقيقة، كما أنني متأكد من قضية النبوة برمَّتها.

قلت إنَّ النبوة تجربة ذاتية، وقلت إنَّ الذاتية هي الخطوة الأولى في هذه التجربة، وفسَّرت ناحية من نواحي الذاتية بأنها مجموعة الملكات التي يجب أن تتمتع بها الشخصية الذاهبة في اتجاه النبوة. وهذه الملكات تتجمع في أنواع محددة من الشخصيات. على هذا الأساس سأصل إلى نتيجة مهمة، وهي تقسيم خطوات الرحيل في اتجاه النبوة إلى نوعين، بالأحرى إلى سكتين:

-       السكة الأولى: سكة المميزات الذاتية.

-       السكة الثانية: سكة المصادفات أو الأقدار التي يجب أن تقود فردًا ما، من الأفراد الذين يمتلكون الشخصية المؤهلة للنبوة، تجاه غايتها.

أما لماذا تنفرد شخصية محددة من مجموعة شخصيات بِقَدَر النبوة هذا، وأيضًا بالمصادفات التي تقود إلى هذا القدر، فهذا ما لم أعرفه إلى الآن، ولا أعتقد بأنني سأعرفه. على كل حال لا بد من التوقف عند السكة الأولى، لأنها السكة التي يجب الانطلاق منها.

سكة المميزات الذاتية

أولاً: هوس الباحث

هل يمكن لشخص ما أن يصل إلى دوامة النبوة دون أن يكون مهووسًا بالبحث عن أجوبة الأسئلة الكبرى: من أين؟ إلى أين؟ كيف؟ لماذا؟ حتى متى؟ من أي شيء؟ من المسؤول؟ ووو الخ.

حسنٌ، هذا هو الذي يجب أن يبتلى به شخص ما من أجل أن يكون نبيًا.

ما أريد أن أقوله إنني، ومنذ صغري، كنت، كما الكثيرين غيري، مهووسًا بالنظر في حقائق الأشياء، والتساؤل عن ماهياتها وأسباب وجودها والمصير الذي هي ذاهبة إليه. ومثل هذا الهوس لا ينفك حتى يوقع المهووس به في دوامة لا تنتهي إلا من حيث تبدأ من جديد. فكلُّ إجابة هي في حقيقتها سؤال جديد، وكل نهاية تجدها، في آخر المطاف، مفتوحة الشهية على بداية جديدة هي أكثر تعقيدًا من سابقتها. وإزاء هذا الصفة وجدتني أقف عند جميع التفاصيل، وأبحث فيها كلها، وأجدها جميعها تسير بي تجاه غاية واحدة هي اكتشاف سر الفاعل الحقيقي. فما لم أستطع تجاهله حقًا هو وجود لاعِب أول وأخير في ساحة كبيرة تمتلئ بالدمى المتحركة. نعم بالتأكيد دمى متحركة!! ولا شيء غير الدمى، فما نحن، في نهاية المطاف، إلا مجموعة هائلة من الدمى التي يتحكم بها لاعب وحيد وغير مرئي.

حسنٌ، تبدو هذه النتيجة غريبة، لكن مع شيء من الدقة لا يعود الأمر كذلك. تخيل – مثلاً – كيف أنني وجدت نفسي أتساءل عن السر الذي جعلني سمينًا جدًا أيام طفولتي ومراهقتي. هذا القَدَر أتعبني كثيرًا – أقصد أن أكون سمينًا – إذ لم يكن شيئًا سهلاً. لم تكن معاناة السمنة يومية فحسب، بالنسبة لشخص حسَّاس، بل كانت (لحظية). في كل لحظة هناك ألم، وفي كل دقيقة هناك وقفة إحساس بهذا الخطأ التكويني الذي يتحول رغمًا عني إلى خطيئة. نعم خطيئة. وهذه إحدى الأسئلة التي جعلتني، في نهاية المطاف، أسير في تجاه نبوتي. فعند الخط الفاصل ما بين الجبر والاختيار انفتحت بوابة الأسئلة التي لم تنغلق إلى الآن. بعبارة أخرى، كان سؤالي الأول طفوليًا وبريئًا، مع أنه كريه وصعب ومباشر ومعقد للغاية: فهل أن كوني سمينًا هو خطأ ارتكبه غيري بحقي، أم خطيئة أمارسها أنا بحق نفسي؟

العالم من حولي يقول لي إنه خطيئة. قالوا لي بأنني وحدي المسؤول عن التهام الكميات الهائلة من الطعام التي تذهب بي سريعًا على طريق السمنة المفرطة. هذا ما كان يوضحه لي أبي عند كل وجبة طعام. وقبل المباشرة بالتهام أيَّة مائدة، كان ذلك الرجل الحكيم يتلو على مسامعي ما يذكِّرني بأن بعض الأنواع من الأطعمة من شأنها أن تعرضني لخطر البدانة المخيف.

هذا ما كان الأمر عليه بالنسبة للآخرين من حولي. جميعهم متفقون على أن الموضوع محض خطيئة. إلا أنا، لم أرضخ لهذه النتيجة، أما لماذا؛ فببساطة بالغة لأنني كنت أشاهد كيف أن أخوتي يلتهمون ما شاء لهم من الطعام دون أن يكونوا مطالبين بالخوف من السمنة المفرطة. إذن فلا بد من سبب آخر. هكذا فكرت، وقررت بالتالي أن هناك سببًا ما يمنع سمنتي من أن تتحول إلى خطيئة محضة. وعندما عرفت، في يوم من الأيام، أن الموضوع يتعلق بخريطة الجينات، كففت تمامًا من عملية الاستغفار عن خطيئة السمنة، بل وحولتها إلى اتهام أتهم غيري بارتكابها ضدي، ومن ثم بالبحث عن هذا الغير الذي تكفل بمهمة وضعي في هذا المطب الصعب بالنسبة لي.

كان موضوع السمنة موضوعًا واحدًا من ضمن مواضيع لا يمكن إحصائها، وكلها أخذت بيدي تجاه الطواف بكعبة ذلك الصعب المراس، الذي وجدت أن الجميع يسمونه بأسماء كثيرة لا تشير بصورة مباشرة إليه، أسماء وهمية وموضوعة من أجل تجنب ذكر الاسم الحقيقي. الحظ، القدر، المكتوب، كل هذه الأسماء وغيرها الكثير تحاول أن تلصق الجريمة بغير فاعلها الحقيقي. لأن هذا الفاعل مخيف ولا سبيل إلى اتهامه بصورة مباشرة.

بالنسبة لي لم يكن الأمر متعلقًا بكثرة المواضيع التي أفضت بي إلى طريق التساؤل عن الحتمية... بل بميلي التكويني لتحليل تلك المواضيع. كل شيء كان بالنسبة لي، ومنذ البدايات المبكرة، موضوعًا قابلاً للتحليل. وهكذا فحيث كنت أجول ببصري كانت الأشياء تسرد لي قصة لاعب وحيد وصعب. كل التفاصيل من حولي كانت تخبرني بأن ليس هناك إلا بصمات إبهام واحد فقط، وما بقية البصمات المتكثرة إلا استنساخات بائسة ومشوهة الغرض منها فقط إخفاء آثار ذلك الفاعل الحقيقي. الفاعل الذي يتلبس جسد كل جريمة ارتُكبَت على هذه الأرض. فكل جريمة تنحل، في النهاية، إلى حكاية يكون بطلها إنسان، وهذا الإنسان يَنْحَلُّ هو الآخر إلى مجموعة صفات وظروف ومكونات وتركيبات وووو، وكل هذه الأشياء لا يمكن القول بأن المجرم – الإنسان – هو الذي اختارها لأنه لا يستطيع اختيار بلده الذي يولد فيه، ولا مجتمعه الذي يعطيه الثقافة، ولا الأسرة التي ينشأ في أحضانها وترفده بأهم أخلاقه وانحرافاته، وهكذا...

فأنا مثلاً لم أختر أن أكون عربيًا، عراقيًا، لأبوين مسلمين، شيعيين، فلاحين. أنا لم أختر أن أكون ذكرًا، لم أختر اسمي، ولا مدرستي الابتدائية التي تلقيت فيها أول التعاليم المسؤولة عن رسم الكيفيات التي سأتبعها في تنظيم شؤون حياتي. أنا أيضًا لم أختر رفاق طفولتي وأصدقاء مراهقتي من أبناء الجيران الذي لعبت معهم وخاصمتهم وفارقتهم.

هل يستطيع أحد أن يعرف كم هي مؤثرة علاقات الطفولة؟ حسنٌ، إنها مؤثرة بشكل لا يمكن تخيله. لكن، مع ذلك، لا يستطيع الإنسان أن يختارها. والسؤال هو: من الذي يختارها إذن؟ بالتأكيد سيكون الجواب ساذجًا بشكل مضحك إذا أشار إلى العائلة، إذ العائلة ليست مسؤولة عن أي شيء؛ ذلك أنها هي الأخرى ضحية، وهي تنحل إلى مجموعة بائسة من الأفراد الضائعين في نفس الحلقة المفرغة، فنحن جميعًا ندور وسط ضياعها ومنذ وجدنا على هذه الأرض.

الذي اختار لي هويتي وعائلتي وأصدقاء طفولتي وطاقم المعلمين في مدرستي، هو المسؤول عن الطريقة التي أتبعها في تنظيم حياتي، وبالتالي فعندما يتأثر أطفالي بهذه الطريقة فيجب أن لا أكون مسؤولاً عن هذا التأثير، أو على الأقل يجب أن لا أتحمل الوزر الأكبر عن هذه المسؤولية.

على كل حال، كنت أريد أن أقول إنَّ أول صفة يجب أن تتوفر في شخصية من شأنها أن تكون نبوية، هي صفة البحث فيما وراء الظواهر، والنزول إلى أعماق التفاصيل مهما كانت ساحقة، وهذه الصفة أقرب ما تكون للمرض منها لأي شيء آخر. فليس من السهل أنك لا تمر على الأشياء كما يمر عليها الآخرون. ليس سهلاً أنك تقف عند كل منعطف من منعطفات حياتك، وعند كل تفصيلة صغيرة وتافهة. ليس سهلاً أن كل الأشياء تتحول معك إلى مخاوف ووساوس ولعنات. صفة البحث هي حجر الزاوية في شخصية النبي، وهي بالتأكيد صفة اضطرارية وليست اختيارية.

*** *** ***

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 إضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود