|
الفن والفضاء
عندما يفكر المرء مليًّا، يجد كثيرًا من الحكمة منقوشًا في اللغة. حقًا، من غير
المحتمل أن الإنسان يجلب كل شيء إليها بنفسه؛ لكنْ، كثيرٌ من الحكمة يكمن فعليًا في
اللغة، كما في الأمثال.
يبدو أنه شيءٌ ما غامرٌ ويصعب دَرْكه، إنه الفضاء" - أي، المكان-الفضاء. تبقى الملاحظات حول الفن والفضاء والتداخل بينهما موضع تساؤل، حتى لو عبَّرنا عنها في صيغة توكيدات. هذه الملاحظات محصورة بالفنون التشكيلية، وبفن النحت من بينها. الهياكل المنحوتة هي أجسام. ومادتها، المؤلفة من مواد مختلفة، تصاغ بشكل متنوع. ويقع هذا الصوغ عبر التحديد بوصفه تعيينًا لحدٍّ مطوِّقٍ ومستبعِد. بهذا يلج الفضاء إلى المسرح. وعندما يصبح ممتلئًا بالهيكل المنحوت يتلقى الفضاء طابعه الخاص كحجم مغلق ومخترَق وفارغ. تلك الحالة المألوفة، لكن، المحيِّرة أيضًا. الجسم المنحوت يجسِّم شيئًا ما. هل يجسِّم الفضاء؟ هل النحت احتلال للفضاء، هيمنة على الفضاء؟ هل النحت بهذا، يماثل الاستيلاء التكنولوجي العلمي على الفضاء؟ بالطبع، النحت، بوصفه فنًا، يتعامل مع الفضاء الفني. إن كلاً من الفن والتكنولوجيا العلمية يغيِّر الفضاء ويشتغل عليه لغايات مختلفة وبأساليب مختلفة. لكن، هل يبقى الفضاء هو نفسه؟ هل الفضاء بحد ذاته ليس ذلك الفضاء الذي تلقى تحديده الأول على يد غاليليو ونيوتن؟ هل الفضاء هو ذلك الامتداد المتجانس، الذي لا يتميز أي مكان فيه عن الآخر، المتكافيء في جميع الاتجاهات، ولكنْ الغير قابل للإدراك بالحواس؟ الفضاء- هل هو ذاك الذي، منذ ذلك الوقت (عصر نيوتن)، يتحدى الإنسان الحديث وحتى يستعصي بعناد على التحكم التام به؟ ألا يتبع الفن التشكيلي الحديث أيضًا هذا المسار من التحدي بقدر ما يفهم نفسه بوصفه يتعامل مع الفضاء؟ ألا يجد نفسه، بسبب ذلك، مترسِّخًا في طابعه الحديث؟ مع ذلك، هل يمكن أن يُعَدَّ الفضاء المُتصوَّر فيزيائيًا- تكنولوجيًا، ومهما تكن ربما تحديداته من الآن فصاعدًا، الفضاءَ الأصليَّ الوحيد؟ ومقارنةً به، هل كل الفضاءات الأخرى المتسقة، كالفضاء الفني وفضاء الحياة اليومية والتبادل، هي مجرد أشباه وتعديلات مشروطة ذاتيًا لفضاء واحد كوني موضوعي؟ ولكن، كيف لهذا أن يكون كذلك، إذا كانت موضوعية الفضاء- العالم الموضوعي بقيت، بدون تساؤل، متضايفة مع ذاتية الوعي التي طالما كانت مستبعَدة في العهود التي سبقت العصور الأوروبية الحديثة؟ وحتى إذا اعترفنا بتنوع خبرات الفضاء في العهود السالفة، هل نظفر للتو بتبصر في الطابع الخاص للفضاء؟ لذا فإن السؤال ما الفضاء بوصفه فضاءً، لم يُسأل بعد، ولذلك، لم يُجب عليه. بأي أسلوب يوجد الفضاء؟ وهل يمكن أن تُنسب الكينونة عمومًا إليه؟ هذان سؤالان يبقيان غير محسومين. الفضاء- هل ينتمي إلى الظواهر البدئية التي يقهرها الناس عند تنبههم لها، كما يقول غوته، عبر الرهبة التي تصل حد القلق؟ فوراء الفضاء، كما سيبدو، لا شيء إضافي معطى ليُقتفى أثره. وقبل الفضاء ليس ثمة عودة إلى شيء آخر. إن الطابع الخاص للفضاء يجب أن يتبدى من الفضاء نفسه. فهل لا يزال ممكنًا التعبير عن الطابع الخاص للفضاء؟ إن إلحاح هذه الأسئلة يتطلب منا اعترافًا: طالما أننا لا نَخْبَر الطابع الخاص للفضاء، يبقى أيضًا الحديث عن الفضاء الفني غامضًا. وفي هذه الأثناء، يبقى معلَّقًا في اللاتحديد الأسلوبُ الذي ينتشر فيه الفضاء في الأثر الفني. الفضاء، الذي بضمنه نستطيع أن نلتقي بالهيكل المنحوت بوصفه موضوعًا حاضرًا أمامنا [في متناولنا]؛ الفضاء، الذي يحوِّط حجم التمثال؛ الفضاء الذي يستمر كفراغ بين الأحجام؛- أليست هذه الفضاءات الثلاثة، في وحدة تفاعلها، مشتقةٌ دومًا وحصرًا من فضاء فيزيائي- تكنولوجي واحد، حتى لو أن القياس الحسابي لا يمكن تطبيقه على التماثيل الفنية؟ حالما نسلِّم أن الفن هو إحضار الحقيقة في الأثر [الأثر الفني]، وأن الحقيقة هي لااحتجابُ الكينونة، ألا ينبغي أن يَشْرَع الفضاء الأصلي، أقصد الذي يكشف طابعه الأصيل، بالتلامح في آثار الفن التشكيلي؟ ولكن، كيف نعثر على الطابع الخاص للفضاء؟ هناك درب بازغ؛ ومن المؤكد أنه ضيق ومحفوف بالمجازفة. دعونا نحاول الإصغاء إلى اللغة. ما الذي تقوله كلمة "فضاء"؟ إن ما ينتشر هنا هو الإفساح (إفراغُ موضع من أجل مجموعة سكنية أو تجمع بشري). هذا يعني: أن نفسح، أن نحرِّر ونُخْلِي من الوحشة. الإفساح يؤكد الخلو والانفتاح كي يستوطن الإنسان ويسكن. عند التفكير في طابعه الخاص، الإفساح هو تسريح الأمكنة التي نحوها يؤول مصير الإنسان الساكن إلى الحفاظ على الموطن أو إلى تطويع اللاتوطن أو إلى الاستواء التام فيما بينهما. الإفساح هو تسريح الأمكنة التي يتبدى عندها الإله، الأمكنة التي اختفت منها الآلهة، الأمكنة التي عندها تبدِّي المكوث الإلهي يطول. في كل حالة، الإفساح هو إخراجٌ للموضعية المُعدَّة لأجل السكن. الفضاءات الدنيوية هي دومًا تخصيص، تقريبًا، لكل فضاءات مقدسة بعيدة. الإفساحُ تسريحُ أمكنة في الإفساح، الحدوث يتكلم ويحتجب في آن واحد. ولطالما أُغفل هذا الطابع الذي للإفساح، وعندما يُتنبه له، يبقى دومًا صعبًا على التحديد؛ وقبل كل شيء، شريطة أن يُعدَّ الفضاء الفيزيائي- التكنولوجي هو الفضاء الذي يجب من البداية أن يتوجه إليه كل طابع للفضاء. كيف يحدث الإفساح؟ أليس هو إعداد فسحة، وهذا بدوره يعني بأسلوب مزدوج منحٌ وترتيب؟ أولاً، إعداد الفسحة يتقبل شيئًا ما. إنه يَدَعُ الانكشاف يتلامح، ويمنح، من بين أشياء أخرى، ظهورَ الأشياء حضورًا يراه الساكن الإنساني مخصصًا له. ومن جهة أخرى، إعداد الفسحة يُعِدُّ للأشياء إمكانية الانتماء إلى وجهتها المناسبة، وخارج هذا، إلى بعضها بعضًا. في هذا الإفساح المزدوج، يحدث إخراج الأمكنة. إن طابع هذا الحدوث هو مثل هذا الإخراج. ومع ذلك، ما هو المكان، إن كان طابعه الخاص يجب أن يتحدد وفق مسار تحرير الإفساح؟ المكان يفتتح دومًا منطقةً يضم فيها الأشياء في انتمائها لبعضها بعضًا. الانضمام تحرير حِمَىً للأشياء في منطقتها. وما هي المنطقة؟ الصيغة الأقدم للكلمة تحمل معنى "تلك التي تَحدُّ". إنها تعني الامتداد الحر. عبرها، يُستحَث الانفتاح لترك كل شيء يندمج في قرارةٍ بنفسه. وهذا يعني في الوقت ذاته: الحفاظ، أي، انضمام الأشياء في إنتمائها لبعضها بعضًا. يبرز سؤال: هل الأمكنة هي، أولاً وفقط، نتيجةٌ ومنفذٌ لإعداد الفسحة؟ أم إن إعداد الفسحة يتلقى طابعه الخاص من انتشار الأشياء المنضمة؟ إذا صح هذا، يجب عندها أن نفتش عن الطابع الخاص للانفساح في تأسيس المحليَّة، ويجب أن نتفكر في المحلية بوصفها تفاعل أمكنة. ومن ثم يجب أن نلتفت إلى ونُعنى بالكيفية التي بها هذا الدَّورُ يتلقى من الامتداد الحر للمنطقة صلتَهُ المرجعية بانتماء الأشياء بعضها لبعض. ويجب أن نتعلم تمييز أن الأشياء بحد ذاتها هي أمكنة وليس مجرد أنها تنتمي إلى مكان. في هذه الحالة، سنكون ملزمين لفترة طويلة بالقبول بشأن غريب: المكان لا يتوضع في فضاء معطى مسبقًا، على منوال الفضاء الفيزيائي- التكنولوجي. فهذا الأخير، يبسط نفسه فقط عبر انتشار الأمكنة في منطقة. ويجب التفكير بالتفاعل بين الفن والفضاء انطلاقًا من خبرة المكان والمنطقة. الفن، كما هو الحال في النحت، ليس إشغالاً للفضاء. النحت لن يتعامل مع الفضاء. سيكون النحت تجسيمًا لأمكنة. والأمكنة، في حفاظها على وافتتاحها لمنطقة، تعني شيئًا ما مُنْضَمًا بحرية حولها يمنح للأشياء مكوثها وللإنسان سكنه وسط الأشياء. إذا كان الأمر كذلك، ما الذي يصبح عليه الحجم في الهياكل المنحوتة المجسَّمة في مكان؟ من المرجح أن الحجم لن يعود إفرادًا لفضاءات واحداها عن الآخر، إفرادًا بحيث أن السطوح المحيطة بداخل تواجه خارجًا. وما تسميه كلمة "حجم"، ذلك المعنى القديم فقط قدم العلم الحديث التكنولوجي الطبيعي، يجب عليه أن يفقد اسمه. إن طابع التماس المكان وتشكيل المكان في التجسيم النحتي، سيبقى في المقام الأول، بلا اسم. ثم، ما الذي سيصبح عليه فراغ الفضاء؟ غالبًا، وبما يكفي، سيبدو نقصًا. وبذلك، يعني الفراغ عجزًا عن ملء فجوة أو ثغرة. ومع ذلك، من المرجح أن الفراغ وثيق الارتباط بالطابع الخاص للمكان، وبالتالي ليس ثمة عجز، بل إحداث. ومرة أخرى، بإمكان اللغة أن تقدم لنا إلماعة. فمن خلال الفعل "يفرِّغ"، الكلمةُ "تجميع"، مأخوذة بالمعنى الأصلي للانضمام الذي ينتشر في مكان، هي ما يُنطق. أن تفرِّغ كأسًا يعني: أن تضم (أن تُجمِّع) الكأس، بطريقة يتمكن فيها من احتواء شيء ما، بحيث يمتلك خلوًا. أن نُفرِّغ الثمار المجمَّعة في سلة يعني: أن نعد لأجلهم هذا المكان. الفراغ ليس لاشيء. كما أنه ليس نقصًا أيضًا. وفي التجسيم النحتي، الفراغ يتمثل على شاكلة استهلالٍ منشودٍ- متوقعٍ لأمكنة. الملاحظات السابقة لا تصل بالتأكيد إلى حد أنها تبدي بوضوح كافٍ الطابع الخاص للنحت بوصفه أحد الفنون التشكيلية. النحت: إحداثُ أثرٍ تجسيمي لأمكنةٍ معها تتكشف مناطق سكن ممكنة للإنسان، مناطقُ مكوثٍ ممكنةٌ للأشياء التي تحيط بالإنسان وتهمُّه. النحت: تجسيمٌ لحقيقةِ الكينونة في دأبها على تدشين أمكنة. حتى التبصر الحذر في الطابع الخاص لهذا الفن يجعل المرء يشك في أن الحقيقة، بوصفها لااحتجاب الكينونة، ليست بالضرورة متَّكلة على التجسُّم. قال غوته: " ليس ضروريًا دومًا أنَّ ما هو حق يُجسِّم نفسه؛ يكفي وحسب أنه في روحيته يحتضن ويستدعي التناغم، يكفي أنه يهيم في الهواء مثل الصوت المهيب والودود لجرس." ترجمة: معين رومية *** *** *** مراجع حول الموضوع حول الفن: - Holzwege 1950, Der Ursprung des Kunstwerkes; - erweitert in Reclams Universalbibliothek Nr. 8446/47 1960. - English translation : - Heidegger, Poetry, Language, Thought, "The Origin of the Work of Art," - translated by Albert Hofstadter, New York : Harper & Row, 1971. - Vortraige und Aufsatze 1954 : "Dichterisch wohnet der Mensch." - English translation : - Heidegger, Poetry, Language, Thought, "...Poetically Man Dwells..." - translated by Albert Hofstadter, New York : Harper & Row, 1971. حول الفضاء: - Sein und Zeit 1927, Sections 22 - 24, Die Raumlichkeit des Daseins. - English translation : - Heidegger, Being and Time, translated by John Macquarrie & Edward - Robinson, New York: Harper & Row, 1962. Sections 22 - 24, "The - Spatiality of Dasein." - Votraige und Aufsatze 1954, Bauen-Wohnen-Denken. - English translation : - Heidegger, Poetry, Language, Thought, "Working Dwelling Thinking," - translated by Albert Hofstadter, New York : Harper & Row, 1971. - Gelassenheit 1959, Aus dem Feldweggesp6ich ilber das Denken. - English translation : - Heidegger, Discourse on Thinking, "Conversation on a Country Path About - Thinking," translated by John M. Anderson and E. Hans Freund, New - York : Harper & Row, 1966.
|
|
|