أحلام الذئاب

 

نديم خوشابا كيوركيس

 

أتذكر أنني قبل مئتي عامٍ خَلتْ، كنتُ ذبابة صغيرة قضيتُ نحبي إثر وقوعي فريسة بين يديِّ ذلك الطفل الأرعن الذي لم يكتفِ بنزع جناحيِّ بل وضعني على سطح المدفأة المشتعلة ليستمتع بمشاهدة رقصتي الأخيرة، وليشبع فضوله في ترقب لحظة انسلاخ الروح عن الجسد.

من وقتها فارقتني روحي المعذبة لتحلَّ في ذئبٍ مفترس في غابة كبيرة، اخضع لشريعتها، أفترس ما يتسنى لي من غزلان شاردة وأرانب و فئران... أتذكر أنني رغم الحياة المرفهة التي عشتها آنذاك، إلا أنني لم أكن راضٍ عن نفسي كذئب. دائمًا كان يراودني حلم أن أكون إنسانًا، بشريًا أمشي على قائمتين اثنتين، أرتدي بنطالاً، فقد سئمت الحوافر والذيل والأجنحة وقرون الإستشعار، ولي رغبة لأتذوق طعم اللحم المطهوِ ولو لمرة واحدة في حياتي.

ازداد إعجابي بالإنسان أكثر، وعظمت رغبتي بخوض تلك التجربة بعد أن حدثني حكيم غابتنا "شيخ الذئاب" عن مَلَكات بني البشر، من ذكاء ومواهب متعددة وتبنيه لقيم ومبادئ أخلاقية راقية، احترامه للحقوق والواجبات والحريات العامة، نشره لثقافة التسامح وتقبل الآخر. بالإضافة إلى القفزات النوعية التي حققها في مجال العلوم الطبية وغزوه للفضاء الخارجي.

مرَّت الأعوام وأنا لا أزال ذئبًا أمارس تفاصيل حياتي اليومية بروتينٍ قاتل ممل. نهارًا أجول في الغابة بحثًا عما يُسكتُ جوعي ويسدُّ رمقي، وفي الليل آوي إلى وكري الصغير لأحشرَ نفسي في داخله وأنام حالمًا أنني صرتُ إنسانًا ذا شأن كبير. عندما شعرتُ بدنو أجَلي حاولتُ تحسين سلوكي قدر الإمكان فقمتُ ببعض الأعمال الحسنة تجاه الحيوانات الأخرى، ورفعتُ صلوات يومية للسماء حتى تتحقق أمنيتي، لكن للأسف لم تؤهلني حسناتي تلك للارتقاء إلى مرتبة إنسان، بل بالكاد خوَّلتني لأكون سمكة قرش في بحر هائج يُحسبُ لي ألف حساب، أفترس ما يطيب لي من أسماكٍ ودلافين وأحياء بحرية أخرى، أقوم بجولات إلى السفن الغارقة في الأعماق لألقي نظرة على الجثث البشرية التي توسدت قاع البحر، وأتعرف أكثر على الإنسان وأتأمل ملامحه وتفاصيل جسمه.

لم تكن حياتي في إمبراطورية الماء طويلة بما فيه الكفاية، فبعد أعوام قليلة وَقعتُ – مع بعض الأصدقاء – في شبكة صيدٍ كبيرة. رُفِعنا جميعًا إلى باخرة ضخمة، تم فيها تفريغ أحشائنا وتنظيفنا ثم تقطيعنا إلى قطع صغيرة ليتم تعليبنا في عُلبٍ معدنية.

لم يزعجني ذلك الأمر كثيرًا بل على العكس تمامًا، وذلك لأن روحي ما أن فارقتْ ذلك الجسد البحري حتى حلَّت في جسد إنسان!!؟؟

نعم... أنا الآن إنسان أتنفس هواء عصر السرعة والأتمتة، وتلفحني شمس القرن الواحد والعشرين. أمشي على قائمتين نحيلتين. ألبسُ بنطالاً من الجينز. "أتخِمتُ من أكل اللحم المطبوخ". أنام على فراش وثير، لا يعرف البرد إليَّ سبيلاً. أحتسي قهوتي الصباحية. اقرأ الصحف. أتناول ثلاث وجبات غذائية رئيسية.

رغم كل تلك السنوات الطويلة التي مرَّت عليَّ وأنا إنسان آدمي، إلا أن حياتي السابقة خلال الأجيال الماضية ما انفكت تراود تفكيري بين الحين والآخر. الحياة هنا أصابتني بحالة اكتئاب حاد مترافق مع حقد شديد على بني البشر، فعندما كنت ذئبًا مفترسًا، كان غذائي الوحيد هو اللحم، ولم يكن لي بديل آخر. كنت أقتل الغزلان والأرانب بدافع الجوع وحب البقاء، ولم يحدث يومًا أن قتلتُ فريسة للتسلية، ولا أتذكر أنني قمت يومًا بافتراس ذئب من بني جنسي، فتلك فعلة مشينة يندى لها الجبين، ناهيكَ عن أن قانون الغاب يمنعها ويدينها بشدة، ولا أتذكر أنني كذبت أو خدعتُ أحد الذئاب، أو أحد سكان الغابة، ولم أصادف ذئبًا أو نمرًا أو حتى عصفورًا قد أصيب بحالة اكتئاب أو يأسٍ أو انفصام في الشخصية أو ما شابه ذلك من أمراض نفسية.

في الغابة لن تجد حيوانًا فقيرًا وآخر غنيًا، الكل هناك مكتفٍ بما لديه ولا يفكر بتكديس أي شيء، فالعمل بموجب قانون الغاب قائم على مبدأ "دع الغد يهتم بنفسه، ويكفي اليوم شره". أما الآن فالإنسان لا يكتفي بقتل الحيوانات فحسب، بل ازداد تعطشه للدماء فبات يقتل أخاه الإنسان بدم بارد. وما يثير استغرابي هو أنه لا يأكل لحم ضحيته بل يتركها طعامًا للديدان والذباب. يسنُّ القوانين ليكسرها، يعيث فسادًا في الأرض، يلوث السماء والماء والفكر بالسموم. الكذب والخداع والخيانة عناصر أساسية في تعاملاته اليومية. هو يزرع الأوطان حروبًا ليحصد أشلاءً ودماءً وأمراض. يجتهد لإنتاج الأسلحة الفتاكة، يصدرها لأفقر الشعوب التي تتهافت عليها كتهافتها على رغيف الخبز. حتى لعب الأطفال أصبحت عبارة عن بنادق، دبابات، مدافع، صواريخ، قنابل، سيوف، خناجر تشوه نفوسهم البريئة.

استنتجتُ أخيرًا أن الإنسانَ وحشٌ مخيف شرس شره للدماء لا رادع يردعه، يعيش عصر ثقافة القتل وصناعة الموت، لذا أستغرب كيف يقولون إن الإنسان هو أسمى المخلوقات وأرقاها؟!

سامحكَ الله يا حكيم غابتنا "شيخ الذئاب" على نصيحتكَ تلك، لقد سئمتُ حياة البشر وتعقيداتها. اشتاق دائمًا إلى تلك المرحلة التي كنت فيها ذئبًا طليقًا في تلك الغابة الغنََّاء. نعم، ياليتني أعود ثانية ذئبًا شرسًا، أو دودة أرض مقعدة في باطن الأرض لا تقوى على الحراك، حتى لا تفكر يومًا في الصعود إلى سطح التربة فتغريها عظمة الإنسان الوهمية.

*** *** ***

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 إضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود