إنسان جديد بخطه ونماذجه

 

علي حرب

 

يتساءل البعض، بصدد الانتفاضات الجارية في غير بلدٍ عربي، منذ شهور عدة، عمَّا إذا كانت حقًا ثورات سلمية، مدنية.

وهذا السؤال يستدرجني إلى الكلام مجددًا. فأنا، وفي أول تعليق لي على الأحداث والمجريات، تحدثت عن ثورات مدنية تقودها القوى الجديدة من الأجيال الشابة التي تشتغل بالقوة الناعمة والفائقة للعصر الرقمي والواقع الافتراضي والزمني الآني. بل هذا ما ذهبت إليه، قبل ذلك، في ضوء الإخفاقات في المشاريع والانتهاكات للحقوق والحريات، من جانب الذين رفعوا شعارات ثورية، قومية أو يسارية أو إسلامية: الحاجة إلى ثورات جديدة ناعمة يفيد الفاعلون فيها من التحوُّلات التي أتى بها عصر العولمة والصورة والشبكة.

ولهذا عنونتُ مقالاتي التي كتبتها على وقع الأحداث المتسارعة والمتلاحقة، والتي جمعتها في ما بعد بين دفتي كتاب: ثورات القوة الناعمة في العالم العربي، نحو تفكيك الديكتاتوريات والأصوليات. (يصدر الكتاب عن الدار العربية للعلوم، بيروت/منشورات الاختلاف، الجزائر).

وما زلت على هذا الرأي، بالرغم مما تشهده الانتفاضات من عنف، في هذا البلد أو ذاك، من جانب الأنظمة القائمة.

هذا التوجُّه الأصلي السلمي، هو ما أكده الناشطون والمنخرطون، ممن تحدثوا عبر الشاشات إلى الرأي العام العربي والعالمي، وكما جرت الامور، بخاصة، في تونس ثم في مصر. وهذا ما يجري في اليمن. لقد أصرَّ الفاعلون في التظاهرات الحاشدة على أن يلقي سلاحه جانبًا من يريد الانضمام إليها من العسكريين ومن أهل القبائل، لأنهم يريدون الوصول إلى قصر الرئاسة ومطالبة الرئيس بالتنحي، بصدورهم العارية لا بخناجرهم ولا برشاشاتهم.

حتى في ليبيا، وبالرغم من ردود الفعل البربرية من جانب قوى النظام وكتائبه الامنية، ضد المتظاهرين، فهم مصرُّون على أن ثورتهم بدأت سلمية، مدنية. ولكنها جوبهت بكل هذه القسوة والشراسة والهمجية.

نماذج مستنفَذة

هذا ما جعلني أذهب إلى أن الثورات الجارية، لا تشبه الثورات السابقة، كالروسية أو الصينية أو الكوبية أو الإيرانية. فالفاعلون الجدد في الثورات الراهنة يقدمون نموذجًا لا يشبه النماذج التي جسَّدها لينين أو ماوتسي تونغ أو كاسترو، ولا يشبه أيضًا النموذج الذي جسَّده الخميني. فما نشهده هو نمط جديد يطوي حقبة بنماذجها الأربعة.

·        النموذج الأيديولوجي الآفل لحركات التحرر الوطني بثوراتها وانقلاباتها وجيوشها وميليشياتها ومخابراتها ومجالسها الشعبية. إذ هي لم تحسن سوى الارتداد على أهدافها وترجمة شعاراتها بأضدادها، لكي تعيد إنتاج التخلف والاستبداد.

·        النموذج النخبوي الفاشل، كما تجسَّد لدى أصحاب المشاريع الثقافية الذين حاولوا تغيير الواقع تحت شعارات التنوير والتحديث والتقدم، ولكن ما أتقنه أصحاب هذا النموذج، على اختلاف طبعاته، هو نفي الواقع لكي يكون على مقاس تصوُّراتهم، ولذلك فقد اشتغلوا بفبركة الأوهام وتلفيق النظريات، لكي يُنتجوا هشاشتهم الفكرية وعزلتهم المجتمعية، ويُمسوا على هامش الأحداث والمتغيرات.

·        النموذج البيروقراطي العاجز الذي يستخدم أصحابه أساليب مستهلكة، في الإدارة والتسيير، والحصيلة هدر الجهد والوقت والموارد.

·        النموذج الجهادي القاتل لأصحاب الدعوات المستحيلة والأشكال البائدة في الفكر والسلوك. والمآل هو بثُّ الرعب ونشر الإرهاب وتخريب العمران، فضلاً عن إشعال الفتن وتفكيك المجتمعات.

مجتمع الشبكة

هذه النماذج، التي فقدت مصداقيتها ومشروعيتها، منذ زمن، تُطوى الآن صفحتها، مع اندلاعات الثورات الراهنة التي تقدم نموذجًا مختلفًا جسدته الأجيال الجديدة التي لم تفوت الفرصة ولم تضيع الخارطة، بل انخرط أفرادها في سباق العقول واستثمروا طاقاتهم الخلاَّقة، بقدر ما أحسنوا قراءة المجريات والتعامل مع الأزمات والتحولات كإمكانات خصبة فُتِحَت للتفكير والعمل على تغيير الأوضاع القائمة.

بالطبع نحن إزاء نموذج متعدِّد ومركَّب له سمات عديدة.

الأولى أن الثورات الراهنة ليست نخبوية. بل إن النخب الثقافية، فوجئت بها وأتت متأخرة لكي تنضم الى صفوفها. ولذا، فهي تكسر ثنائية النخبة والجمهور التي تحكَّمت في عقول المثقفين والدعاة، سواء منهم أصحاب العقليات النرجسية الذين يدَّعون "احتكار" الفكر والعقل والوعي والمعرفة، بقدر ما يمارسون "احتقار" الناس الذين يدَّعون الدفاع عن مصالحهم وحقوقهم؛ أو من جانب أصحاب العقائد الاصطفائية الذين يحتكرون الإيمان والحقيقة، لكي ينتقصوا من شأن الآخر ويعتدون عليه بصورة رمزية، تمهيدًا لإقصائه أو استئصاله الجسدي. مقابل ذلك، نجد بأن أصحاب النموذج الجديد هم أقلُّ ادّعاءً وأكثر تواضعًا من حيث علاقتهم بالقيَم والقضايا العامة التي هي شأن مشترك يخص كل الناس، من غير وصاية أحادية، نبوية أو رسولية.

الثانية أنها ليست ثورات بيروقراطية، بل ثورات الكتب الرقمية بمختلف صفحاتها ووجوهها، ولذا، فهي تولي الأهمية للعلاقات الأفقية التواصلية على العلاقات المركزية والعامودية. نحن إزاء ثورات تتحرر من آفات البيروقراطية وأمراض النرجسية في آنٍ. بحسب النموذج الجديد، كل فرد هو فاعل له رأيه أو صوته. كل ناشط يسهم في صنع ثورته، بقدر ما يسهم في بناء مجتمعه.

وهكذا، نحن نتجاوز، مع النموذج الجديد، مفهوم النخبة نحو مفهوم الشبكة، حيث المجتمع هو تأثيراته المتبادلة ومستوياته المتداخلة، بقدر ما هو مساحاته المفتوحة والحرة للمداولات العلنية والمناقشات العمومية.

هوية هجينة

الثالثة أنها ليست ثورات البطولات التاريخية والدموية. فشعارها ليس العنف قابلة التاريخ، ومحركها ليست الثأر والانتقام، أو هذا ما يؤمل، انسجامًا مع طابعها السلمي والمدني. ولذا فسلاحها ليس الرشاش ولا الصاروخ. بل الزهور والورود. ولذا سميت انتفاضة تونس "ثورة الياسمين"، وانتفاضة مصر "ثورة النيل"، بما ترمز إليه الماء من الحياة والخصب والنماء. ولذا أنا لست مع الفيلسوف ألان باديو الذي رأى في الانتفاضات الشعبية العربية نوعًا من "الحراك الشيوعي"، ويعني به "خلق مصير جماعي على نحو مشترك". أولاً، لأن الانتفاضات العربية قد تشبه الحركات الشيوعية من حيث عاميتها، ولكنها تختلف عنها بالأهداف والوسائل والمنطلقات. ثانيًا، لأن ما عناه باديو بالشيوعية، يُطلَق عليه اليوم اسم "الشراكة". (راجع رأيه في جريدة Le Monde، 19 شباط 2011).

الرابعة أن أصحاب النموذج الجديد لا يشتغلون بعقلية المنظر العقائدي. سواء بالاستناد إلى نص مقدس أو إلى نظرية علمية لا تخطئ. فالثورات القائمة لم تأتِ من الكتب الدينية ولا من الفلسفات العلمانية. لا يختزلها معتقد اصطفائي أو شعار أحادي. وإنما هي ذات هوية مفتوحة ومتعدِّدة الأبعاد والأصوات، بشعاراتها ومكوناتها وهيئاتها وفاعلياتها. فهي حية غنية وفعالة، بقدر ما هي مركبة، هجينة، متحولة وراهلة. مما يعني أن الثورة، بحسب النموذج الجديد، تنجح في مهامها، بقدر ما تفتح آفاقًا جديدة للعمل السياسي والممارسة الديموقراطية.

الخامسة أنها تكسر الهيمنة الذكورية، كونها متعدِّدة الأبعاد والمكوِّنات، وكما تشهد المشاركة الفعَّالة للنساء، في ثورتَي تونس ومصر. وهذا أيضًا ما يحصل في اليمن. فمَن يستمع الى الناشطات، ولو من وراء البُرقُع، يجد بأنهن لسن أقل وعيًا وثقافةً وأصالةً من زملائهن من الشباب. وربما يتفوَّقن عليهم. ولا غرابة، فقد يأتي التجديد أو التحديث مما هو مُهمَّش أو مُستبعَد أو مكبوت. والمتوقع أن تكون المرحلة الثانية هي ثورة النساء لنزع البرقع والنقاب، بحيث تتحرر المرأة أولاً، لتمسي كائنًا مساويًا للرجل في الكرامة الإنسانية، وتسهم ثانيًا في تحرير الرجل من عقدته وضعفه، هو الذي يريد ممارسة الوصاية على النساء، فيما هو يخشى من المرأة لا عليها.

وهكذا فهوية الثورة ليست مقررة مسبقًا ولا معروفة سلفًا، بل هي علائقها المتحولة وبنيتها الملتبسة، بقدر ما هي صيرورتها الدائمة وتوتراتها الخلاقة، إذ لا حتميات تاريخية ولا حلول قصوى أو قرارات نهائية، بل إمكانات ورهانات لبناء مجتمع جديد على أسس وقواعد مغايرة.

وحدات مركبة

السادسة أن الثورات الجارية هي ذات طابع توحيدي، لا بالمعنى الشمولي، الأحادي والخاوي، الذي لا ينتج سوى وحدات ملغمة، بل بالمعنى التركيبي، الغني والبنَّاء. ولأنها كذلك فهي تخلق إمكانات خصبة لقيام اتحادات تتسع للمتعدد والمختلف والمعارض، أي لِما ضاقت عنه أو استبعدته المشاريع الوحدوية القومية أو الدينية.

ومن المفارقات أن دعاة الوحدة العربية من نخب ثقافية أو سياسية، قد دمروا من فوق فكرة الوحدة، إذ هم لم يحسنوا توحيد حي في مدينة، بعقلهم الأحادي، الفئوي والعنصري، أو المثالي والطوباوي. في حين أن الشعوب العربية تنخرط منذ زمن في تشكيل عالمها المشترك، ولا أقول وحدتها، بإنشاء ما يتأسس عليه من البنى التحتية، وخلق ما يحتاج إليه من أطر التعاون وأسواق التبادل ومساحات التداول... كما تشهد المؤتمرات والندوات والمعارض في كل المجالات.

ولذا، فأنا لا أقول مع القائل بأن الشعوب العربية "تستعيد" وحدتها. فالاتحادات والعوالم المشتركة، إنما هي وحدات مركبة "تصنع وتبنى"، بلغة الخلق والابتكار للجديد، من الأطر والصيغ والأساليب والوسائل، وذلك في سياق سيرورة معقدة ومتشابكة ومتحولة، في بنيتها ومستوياتها ومآلها، بحيث يُعاد معها البناء من جديد وبصورة متواصلة.

وها هي الشعوب العربية تثبت من جديد، أنها تتماهى مع بعضها البعض، بقدر ما تُحسن خلق أطُرٍ للتضامن، كما تشهد الانتفاضات الجارية، إذ الواحدة منها تلهم الأخرى أو تتغذى منها، بقدر ما تسندها وتعززها، تمامًا كما أن الديكتاتوريات تتساند ويدعم بعضها بعضًا.

مرة أخرى من المفارقات أن تخلق القنوات الفضائية والكتب الرقمية إمكانات لجمع ما فرَّقته أو خرَّبته العقائد القومية والكتب الدينية. ولا يعني ذلك أن الثورات العربية تجري على نفس المنوال. فلكل ثورة شرارتها. كل بلد يصنع ثورته بقدر ما يجترح معجزته ويخترع نموذجه.

عبودية مزدوجة

السابعة، أننا إزاء نموذج ثوري يكسر ثنائية الزعيم والحشد أو القائد والقطيع. فإذا كانت الثورات تحرر البشر، فالتحرر هو في أساسه عمل فكري. وهذا ما حصل في تونس بداية، ثم في مصر، ومن ثم بعد في اليمن وليبيا: خروج الشعوب من سجونها الفكرية، بتحرُّرها من أشكال العبودية الجديدة التي أنتجتها حركات التحرر الوطني بنخبها الثقافية ومنظوماتها الأيديولوجية وانقلاباتها العسكرية وثوراتها الزائفة. فما فعلته تلك الحركات، التي وعدت بتحرير الشعوب، هو العكس بالتمام: إلغاء هامش الحرية الذي كانت تؤمنه الأنظمة الملكية التقليدية أو الذي فتحته عهود الانتداب والاستعمار. هل أبالغ؟ أراني أستشهد بالشاعر الكبير أحمد عبد المعطي حجازي الذي يعترف بأن "آخر انتخابات ديموقراطية حرَّة شهدتها مصر كان عام 1949" (راجع مقالته في مجلة "أخبار الادب"، 27-3-2011).

هذا الالغاء للحريات الديموقراطية والحقوق المدنية تجسِّده وتعبِّر عنه، أبلغ تعبير، الحشود البشرية التي تمارس طقوس العبادة، تجاه زعمائها وأبطالها وآلهتها، لكي تحولهم بدورهم إلى عبيد لأسمائهم وألقابهم وسلطاتهم ومناصبهم ونزواتهم وعبثهم...

في الثورات الجديدة لا وجود لزعيم أوحد هو قائد ملهم أو بطل منقذ. لا وجود لحرس ثوري ولا لشرطة عقائدية تراقب وتتجسَّس لكي تحاكم وتدين، أو تقصي وتستأصل. بل هناك قيادة جماعية مشتركة. بالطبع، قد ينطق باسم الثورة شخص. ولكنه ليس نموذج الزعيم الأوحد.

من هنا، ولأول مرة، تجري تظاهرات لا ترفع فيها صور لرؤساء. ولعلَّ أجمل ما تفعله الثورات الشعبية الجارية هو إزالة الصور والنصب العائدة للقادة والزعماء والأبطال، من الساحات والميادين، لأن ذلك يعني التحرر من ظاهرة التأله التي تولد كل هذا الطغيان والعبث والجنون والوحشية...

في ضوء هذا النقد لظاهرة التأليه، لا تعود الفروقات بين التظاهرات المؤيدة للأنظمة والتظاهرات الشعبية المناهضة لها، مجرد فروق عددية أو كمية. بالطبع إن التظاهرات المليونية الحاشدة لعبت دورًا حاسمًا في سقوط الأنظمة. ولكن هناك فرق نوعي بين تظاهرة وأخرى، بين حشد وحشد. ثمَّة حشود تتحول إلى قطعان تكرر مشاهد العبودية التي قوَّضت كل شعارات الحرية والاستنارة والعدالة والتقدم، وبين حشود تتألف من أفراد هم ذوات مستقلة وفاعلة. إنه الفرق بين الإرهاب والخراب والهلاك من جهة، وبين الإنماء الحضاري والعمل المدني والتبادل البشري المثمر والخلاَّق من جهة أخرى.

خلق الأعداء

السمة الثامنة أننا إزاء ثورات لا يتحكم فيها منطق العداء للآخر. فالعدوانية هي الوجه الآخر لظاهرة التأليه والعبادة. وإذا كان شعار الفداء بالروح والدم هو العهد والوعد تجاه الزعماء، فإن الوجه الآخر لهذه العملة هو لغة التهديد والوعيد بقتل كل مخالف أو معارض. وهذا معنى الفداء: أن يضحي الواحد بنفسه من أجل زعيمه، بقتل مناوئيه أو معارضيه أو خصومه أو أعدائه.

والذريعة إلى ممارسة هذا القتل، الرمزي أو الجسدي، هي التهمة، إياها، بالعمالة والخيانة والمؤامرة وإيقاظ الفتنة، وسواها من التهم التي تكال لمن يعارض بوصفه عدو الثورة أو الأمة أو المقاومة. من هنا قولي بأن ما تُحسنه الثورات التي تشتغل تحت شعارات مقدَّسة هو أن تأكل أبناءها وتصفِّي أعداءها.

وهذا هو منطق الثورات الأيديولوجية، الشمولية والأصولية. فهي لا تعمل ولا تستمر من دون وجود أعداء تحاربهم، أو خلقهم إن لم يوجدوا. من هنا فالنماذج التي صنعتها تفكر وتعمل بصورة عدوانية إرهابية. هذه هي، بنوع خاص، حصيلة الثورات وحركات التحرر وأنظمة التقدم في العالم العربي، ولذا فهي لا تقدر على الاصلاح والبناء. ما تُتقنه هو خلق المشاكل والأعداء أو فتح الصراعات وشن الحروب، من أجل البقاء في السلطة والهروب من الاستحقاقات المتعلقة باطلاق الحريات أو بتحسين نوعية الحياة.

القوة والممانعة

هذه الحقبة قد تكشفت عن إفلاسها ومآزقها، بقدر ما تفضح عجزنا وهشاشتنا وجهلنا، إذ هي أنتجت المزيد من التخلف والتسلط، كما أسست للحروب الأهلية والفتن المذهبية. من هنا فإن شعارات التحرر والمقاومة والممانعة، في مواجهة الاستعمار والاستكبار، قد فقدت صلاحيتها وباتت عملة غير قابلة للترويج. هذا ما تقوله الوقائع الصارخة في تونس ومصر واليمن وليبيا: لقد أصبحت الأنظمة هي العدو الأول لشعوبها.

لم يعد مقنعًا، بل بات من الخداع، بعد عقود من القبض على السلطة وممارسة الوصاية على شؤون الأمة والهوية والقضية، أن نقول بأن اميركا تحرك التظاهرات الشعبية، أو أن نكتشف بأن الفتنة تطل برأسها فيما نحن غافلون عنها، أو أن تتحول فلسطين إلى معسكرين متناحرين.

فالإخفاق في الشعارات والمشاريع، على اختلافها، يعني أن المقاومة كانت غطاء لقضايا أخرى، وأن الوحدة التي حاولنا بناءها ملغمة من أساسها، وأن الشعوب لم تعد تثق بحكَّامها، ولهذا فهي تستنجد بالدول التي كانت تصنف في خانة العداء للحريات ولمصالح الشعوب.

بهذا تنقلب الأولويات لكي تتقدَّم مطالب الداخل على مطالب الخارج. فإن الدول التي تفشل في قيادة شعوبها، للنهوض من حالة العجز والهامشية والتخلُّف والاستبداد، نحو طور التحديث والنماء والتقدم والتداول الديموقراطي، لا تكون قوية أو ممانعة، بل تدمر مصادر القوة والمنعة لدى شعوبها.

وبالعكس، فإن الدول التي تحسن إدارة الشؤون ورعاية المصالح واستثمار الموارد، سواء على صعيد اقتصادي، ببناء نماذج تنموية ناجحة، أو على صعيد سياسي، بالتحول من كونها أنظمة أمنية، بوليسية، إلى مجتمعات ديموقراطية، تصبح محط النظر والتقدير في العالم، بقدر ما تصبح أقوى وأكثر فاعلية في مواجهة التحديات والضغوط والعواصف التي تهب من الخارج، سواء أتت من جانب اسرائيل أو من جانب الدول الكبرى... والمثال الساطع يقدِّمه لنا النموذج التركي. فمَن ينجح في امتحان الديموقراطية والتنمية، يصبح أقوى وأغنى، وعلى النحو الذي يتيح له ممارسة دوره وحضوره على المسرح العالمي بصورة إيجابية وفعَّالة.

تغيير المعادلات

التاسعة، أن الاحداث الثورية الجارية، على غير ساحة عربية، تخلق معطيات تتغيَّر معها المعادلات والتصنيفات. لم تعد المسألة مسألة صراع بين أنظمة معتدلة تتهم بالمهادنة والتخاذل أو العمالة، وبين أنظمة ممانعة ومقاومة تدَّعي الدفاع عن مصالح الشعوب العربية في مواجهة ثالوث الامبريالية والرجعية والصهيونية. المسألة الآن أن الشعوب العربية تنتفض، دفاعًا عن حريتها وكرامتها وحقوقها، في مواجهة ثالوث الاستبداد والفساد والبطالة، ولذا فهي تثور ضد زعمائها الذين أصبحوا جلاديها، وضد أنظمتها التي هي مصدر فقرها وذلها.

هذا المعطى يحدُّ، على صعيد آخر، من ثنائية الصراع بين الإسلام والغرب. فالمجتمعات البشرية، على تعدُّد أممها واختلاف ثقافاتها، تعيش في ظل حضارة كونية واحدة، سيما في هذا العصر. وكما تشهد الثورات العربية التي هي ثمرة الحضارة القائمة، على صعيدها التقني، كما على صعيد المثل والقيم الإنسانية التي تشترك فيها البشرية جمعاء.

وهكذا فالتعدُّد لا يلغي القيم الكونية الجامعة. لأن الكونية هي قدرة خصوصية، فردية أو جمعية، على الخرق والانتشار، بما تخترعه أو تبتكره في مجال من المجالات، مما هو مفيد وصالح، أو ثمين وقيِّم، أو مجدٍ وفعال، أو مغرٍ وجذاب...

وإذا كانت الثورات العربية الراهنة، تفيد من المكتسب البشري، العام والكوني، هنا أيضًا يؤمل أن تبتكر وتجدد، في العناوين والمفردات، لكي تضيف ما هو غني وثمين وقيم، ببعده العالمي والكوكبي.

لا أغفل أن الثورات الأيديولوجية كانت ذات طابع عالمي وأممي. ولكنها التفَّت على عالميتها، كما دمرت شعارات التحرر والتقدم، بقدر ما تحولت إلى أنظمة شمولية أو بوليسية، وبقدر ما عملت بثنائيات مانوية ضدية تقسم العالم على نحوٍ حاسم، بين داخل وطني وخارج استعماري، أو بين عربي واميركي، أو بين إسلامي وغربي... مع الثورات العربية الجديدة ثمَّة قسمة من نوعٍ آخر تُعيد الأمور إلى نصابها، إذ الشعوب أصبحت في مواجهة أنظمتها، التي تشوِّه سمعة العرب في العالم، بقدر ما تجمع بين أسوأ ما في القديم وأسوأ ما في الحديث: العصبية القبلية والاستبداد الشرقي، الفاشية الدينية والنظام الشمولي...

من هنا فأنا أعارض، مرة أخرى، الفيلسوف ألان باديو الذي يرى أن الثورات العربية هي "رياح الشرق تُكنِّس غطرسة الغرب". فالوقائع الصارخة تقول عكس ذلك. إنها تكسر ثنائية الداخل والخارج، إذ لم يعد هناك فصلٌ حاسم ونهائي بين الأنا والآخر، بين المحلِّي والكوكبي، بين الخصوصي والعالمي، في عصر الاعتماد المتبادل، حيث تتشابك المصالح والمصائر، وحيث تتشكَّل هويَّات متعدِّدة، مركَّبة، عابرة للحدود.

وهكذا، فقد استهلكت استراتيجية الهروب من معالجة المشكلات الداخلية بخلق أعداء أو خلق مشكلات للخارج، وسقطت الأقنعة الأيديولوجية، بعد أن أصبح الداخل يستنجد بالخارج. لم يعد مُجديًا تعليق الأوطان على صليب المقاومة والممانعة، لم يعد مقنعًا تعطيل الحياة المدنية وإرجاء القضايا المُلحَّة، السياسية والاقتصادية، بانتظار المعارك الفاصلة مع اميركا والقوى المهيمنة، فيما الشعوب العربية تستنجد بالغرب على حكامها، أو تستنجد بالدول الأوروبية لاغاثتها من أهوال الحرب، كما يفعل اللبنانيون في ساحل العاج، فيما الصراع في الداخل على هذه الحقيبة الوزارية أو تلك، لهذا الزعيم أو ذاك.

العاشرة، أن الثورات العربية، إذ تكسر المعادلات والثنائيات، فإنها تخربط التحالفات بين الدول والمعسكرات. والشاهد هو بروز التعارض بين الحلفاء والأصدقاء، أو بالعكس، بروز التقارب بين الخصوم والأعداء، بصدد المواقف من الثورة على هذه الساحة أو تلك.

وهكذا فإن الثورات الشعبية تعيد خلط الأوراق، بحيث يصبح الفرز لا على أساس ثنائية الممانع والخاضع أو المقاوم والمذعن، بل على أساس من مع الثورات، ومن هو ضدها؟ وبقدر ما تنجح هذه الثورات وتقوى، يتضح الفرز في موقف الدول والأنظمة. ولا جدال في أن قطر تحمل المشعل، عربيًا، وإن من وراء قناة "الجزيرة"، فيما تركيا، على أقل تقدير، تحثُّ الدول العربية، المعنية، على القيام بأعمال الاصلاح والتحديث.

لا أحد يحتكر الثورة

أخلص من ذلك إلى القول بأن الثورات الناعمة تشكل منعطفًا ومفصلاً بين نموذجين، القديم الآفل، والجديد الذي هو في طور التكون. والفرق بينهما هو فرق بين عقليتين، وثقافتين ومفهومين. ولأقل بين نمطين وجوديين. وهو يتجلى بغير وجه:

الأول هو خلقي، ويتعلق بنظرة المرء إلى نفسه وكيفية تعامله مع ذاته. ففي النماذج السابقة يشكل الأفراد قطيعًا يفدي قائده بروحه ودمائه، ويهدد أعداءه بالموت في الداخل والخارج. هذا الطقس الذي تمارسه الحشود تجاه زعمائها وآلهتها، تكتب نهايته الوقائع الثورية في الساحات والميادين.

في النمط الجديد يعامل الفرد نفسه كسواه من الناس، أي ككائن له قيمته وحريته وحقوقه وكرامته، بقدر ما يملك قدرًا من الاستقلالية وحرية الاختيار والمبادرة واتخاذ القرار الذي يراه صائبًا أو مناسبًا أو صالحًا.

ومن هنا شأنه لا يليق به أن يمارس طقوس التأليه والعبادة تجاه سواه.

لا يعني ذلك أن المواطن لا يحترم رؤساء بلده، أو لا يبدي تجاههم مواقف التقدير أو مشاعر الاعجاب، أو حتى التماهي، عندما يقتنع بصحة خطهم أو جدوى سياستهم. ولكن هذا شيء والتأليه شيء آخر.

الوجه الثاني معرفي، ومفاده أن القادة والزعماء ليسوا مالكي مفاتيح الحقيقة، ولا هم يحتكرون الوعي والعلم والمعرفة. فالسياسي هو كسواه من الناس يملك خبرة في ميدانه. وكل واحد يكون في مجال عمله أكثر علمًا وخبرة ممن يعمل في مجال آخر. ولذا فالسياسي يستشير الخبراء والاختصاصيين في كل حقل أو قطاع. وميزته أن يُحسن اتخاذ القرار، في ضوء المناقشات والمداولات العمومية التي تجري في الفضاء الاجتماعي، بكلِّ مساحاته ودوائره وهيئاته وميادينه...

وهكذا، فبحسب المفهوم الجديد، كل فرد هو فاعل، بصورة من الصور، أكانت سلبية أم إيجابية. كل مواطن هو صاحب خبرة ومعرفة، بقدر ما هو مختص ومنتج أو مبدع في حقل عمله. ولذا فهو يفعل ويؤثر في محيطه ومجتمعه وعالمه. ومَن هذا شأنه تكون له صلة بالحقيقة والعدالة والحرية، بقدر ما يفكر ويعمل بلغة التوسط والتداول والشراكة والتبادل. وبهذا المعنى ليس لأحد أن يحتكر الحقيقة، كما ليس لأحد أن يحتكر الثورة تحت شعار مقدس. فمقتل القضايا هو تقديسها.

الوجه الثالث سياسي. ومفاده أن السياسة لم تعد مجرد أوامر وقرارات تصدر من الأعلى إلى الأدنى، كما أن الديموقراطية لم تعد مجرد فعل انتخابي موسمي يجري كل أربع سنوات.

بكلام آخر، إن السياسة لا تصنعها فقط صناديق الاقتراع أو برامج الأحزاب وقرارات الحكام. وإنما هي نشاط يومي، ميداني، قطاعي، ميديائي. ولذا فهي حصيلة الحراك الاجتماعي في مختلف الحقول والقطاعات، بقدر ما هي حصيلة النشاط المدني والتدخُّل في الشأن العمومي من جانب مختلف الفاعليات والمشروعيات.

أنهي كلامي بالاعتراف بأن مقاربتي هذه، هي كلام على وجهتها، بقدر ما هي قراءة في واقع متحرك، غني بإمكاناته، مفتوح على احتمالاته، متعدد بمساراته وخطوطه؛ كما أعترف بأن تغيير الواقع البشري، وبالأخص السياسي، هو من أصعب الامور، لأن الواقع هو أصلاً منسوج من التباساته ومفارقاته، بقدر ما يتأسَّس على فجواته أو يتستر على أفخاخه. فكيف ونحن نندرج، اليوم، في واقع يتسم بالحراك المتسارع والتحول الدائم بأزماته العاصفة وصدماته المفاجئة. الأمر الذي يجعل الأفعال ترتدُّ على أصحابها، أو يجعل المآلات تختلف عن الأهداف والمنطلقات. فالأجدى هو العمل بمنطق التركيب البنَّاء والتحويل الخلاَّق والتجاوز المستمر.

ولذا، فأنا لم أقرِّر حقائق أو أتحدَّث عن شروط مُسبَقة لهذه الثورة أو تلك، بقدر ما تحدَّثت عن وقائع وأحداث خلقت معطيات أفضت إلى خرق الشروط وتغيير المعادلات، بقدر ما حوَّل العجز إلى معجزة.

وليست المعجزة هنا سحرًا أو غيبًا، وإنما هي إطلاق قِوى كامنة أو استثمار طاقة خلاَّقة أو تفجير مخزون وجودي كان يتراكم ويعتمل ويتفاعل ليجعل المحجوب مرئيًا والمستحيل ممكنًا. ولعلَّ أحسن من عبَّر عن هذا المعنى، هو الشاعر المصري علاء خالد في تعليقه، على ما جرى في مصر، هو الذي عانى وعاين وشهد، إذ قال: "إنها طاقة مختزنة من العواطف والصور والإيماءات والإشارات والخيالات لدى الشعب المصري تحولت في لحظة إلى جسد حي، وصنعت شبكة حميمة من التواصل السريع والآني أثناء المسيرات"، (ورد كلامه في الحوار الذي أجرته معه عناية جابر في جريدة السفير، 5-3-2011).

في أي حال، وأيًا ما كانت المآلات، وسواء تعثَّرت الثورات أو فشلت، أو جوبهت بقوى مضادة، فالأمور لن تعود إلى ما كانت عليه. ثمة عالم عربي جديد آخذ في التشكُّل، يظهر معه فاعل بشري جديد بنمطه ونماذجه وصوره... يعمل وينشط بالتحرر من معاني وصور الأحادية والألوهة والقداسة والعظمة والبطولة، أي كل ما هو مصدر ما تحصده المجتمعات من المصائب والكوارث أو الهلاك والخراب.

والأمل أن تنجح القوى الجديدة في ما أخفقنا فيه جميعًا بخصوص قضايا الديمقراطية والعدالة والكرامة. وهذا هو الرهان: ليس إقامة فراديس مستحيلة، بل صناعة مجتمعات عربية يخفُّ فيها منسوب المساوئ والمفاسد والمخاطر من الفقر والقهر والتمييز والعنف... بحيث تجترح الإمكانات التي تؤول إلى تجديد وتطوير العناوين والمفاهيم والقيم والأساليب المتعلقة بأعمال ونماذج الإصلاح والتحديث والإنماء والبناء. بذلك يعاد للعرب اعتبارهم، بقدر ما يمارسون جدارتهم الوجودية ويشاركون في صناعة الحضارة.

*** *** ***

المستقبل، الأربعاء 13 نيسان 2011، العدد 3968، ثقافة وفنون، صفحة 20

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 إضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود