هل سيكون هناك سلام؟

 

هِرمَن هِسِّه

 

مؤخرًا أعلن كلٌّ من ولسون ولويد جورج عن عزمها الذي لا يلين لمواصلة القتال حتى النصر النهائي، وفي الهيئة التشريعية الإيطالية عومل الاشتراكي مرغاري كمجنون لأنه تكلم بضعة كلمات إنسانية طبيعية. واليوم وبثقة غبية بالنفس ينفي مبعوث وولف الإشاعة عن وجود مُقترح ألماني جديد للسلام: "ألمانيا وحلفائها ليس لديهم أدنى سبب لكي يكرروا عرضهم الشهم للسلام".

بعبارة أخرى يستمر الوضع كما كان عليه، وإذا ما حاولتْ ورقة عشب وديعة أن تشق التربة فإن جزمة عسكرية سوف تسحقها على الفور.

أيضًا، وفي الوقت نفسه، نقرأ بأن مفاوضات السلام قد بدأت في برست–لتوفسك، وأن السيد كوهلمن افتتح الجلسة بالإشارة إلى أهمية عيد الميلاد، وتحدَّث بكلمات من الإنجيل عن السلام على الأرض، فإذا كان يعني ما يقول، وإذا كان لديه أدنى فهم لتلك الكلمات الهائلة، فإن السلام محتوم. لكن، لسوء الحظ، فإن تجربتنا عن الاقتباسات المأخوذة من الكتاب المقدس التي يتفوه بها رجال الدولة غير مشجعة حتى الآن.

منذ عدة أيام وعيون العالم مُركزة على مكانين، وفي المكانين هناك شعور عميق بأن مصائر الأمم ستكون على المحك، المستقبل يومئ، الكارثة تنذر بالوقوع، والعالم ينظر نحو جهة الشرق مكتوم الأنفاس، نحو مفاوضات السلام في برست–لتفوسك. وفي الوقت ذاته يضع المراقب عينه على الجبهة الغربية ويستبد به ألم رهيب، لأن الكل يشعر ويعرف أنه إذا لم تحدث معجزة فإن كارثة، في منتهى الفظاعة، على وشك الوقوع، يمكن أن تصيب البشرية: إنها الأكثر مرارة ودموية وقساوة، إنها المعركة الأكثر رعبًا على مر الدهور.

الكل يعرفها والكل يرتجف عندما يفكر بها، ما عدا حفنة من الخطباء السياسيين الدمويين وتجار الحروب. أما بشأن خلاصة هذه المذبحة الشاملة فإن الآراء والآمال مختلفة للغاية، فهناك أقلية في كلا المعسكرين تؤمن بجدية تحقيق النصر الحاسم. لكن هناك أمرًا واحدًا لا يمكن لأي شخص لديه أكثر من إحساس جيد أن يؤمن بأن المثل الأعلى والأهداف الإنسانية التي يتشدق بها رجال الدول في خطاباتهم يمكن أن تتحقق. تثبت المعارك النهائية الأكثر دموية وتدميرًا والأكبر حجماً في الحرب العالمية أن القليل سوف ينجز من أجل المستقبل، وأن هناك القليل فقط من الأمل بتهدئة الأحقاد وتقليل التنافس المحموم، أو العمل بعيدًا عن الفكرة القائلة بأن الأهداف السياسية يمكن بلوغها بواسطة الآلية المجرمة للحرب. إذا كان على أحد المعسكرين تحقيق النصر النهائي (وهذا هو الهدف الوحيد الذي يقدمه القادة كتبرير في خطاباتهم المثيرة للفتنة) عندئذ ستكون (العسكرة) التي نشمئز منها قد حققت فوزها. وإذا كان المناصرون للحرب، في صميم قلوبهم، يعنون تمامًا ما يقولونه، وإن كان كلمة واحدة عن أهداف الحرب، فإن السخافة والعبثية الكاملة لنقاشاتهم تصعق المخيلة.

هل يمكن تبرير مجزرة جديدة لا يمكن تصور مداها بخليط من المغالطات اليائسة وبالتناقض المتبادل لآمال وخطط؟ بينما الشعوب كافة، بما فيها من ليس له إلا تجربة صغيرة في الحرب ومعاناتها وانتظار نتيجة مفاوضات السلام الروسية بالصلاة والترقب؛ بينما جميعنا نتقدم بالحب والامتنان للروس لأنهم أول الأمم التي هاجمت الحرب من جذورها وصممت على إنهائها؛ بينما نصف العالم يقضي جوعًا والجهود الإنسانية النافعة تنشطر نصفين إذا لم يكن قد توقفت بالكامل؛ في ذلك الوقت كانت تجري الترتيبات في فرنسا من أجل ما نرتعد حتى من ذكر اسمها: المذبحة الجماعية التي من المتوقع تكرارها، لكنها سوف لن تقر كنتيجة للحرب من أجل تحشيد فاقد لإحساس البطولة والصبر والبشاعة النهائية للنصر للمتفجرات والآليات على حياة الإنسان وعلى روح الإنسان!.

بالنظر إلى هذا الموقف فإنه من الواجب علينا، الواجب المقدس على كل إنسان ذي طويَّة حسنة على الأرض، ولكي لا ندفن أنفسنا في اللامبالاة وندع الأمور تجري على هواها، أن نفعل أقصى ما عندنا لكي نمنع وقوع هذه النكبة النهائية. تقولون: "نعم، ولكن ما الذي نستطيع فعله؟ لو كنا رجال دولة ووزراء لقمنا بما توجَّب علينا، ولكننا والحالة هذه بلا حول ولا قوة!". إنه رد الفعل السهل تجاه كل مسؤولية – حتى يصبح الوضع ضاغطًا جدًا. فإذا التفتنا إلى السياسيين والقادة لينجدونا فإنهم يهزون رؤوسهم أيضًا ويتضرعون بعجزهم. لا يمكننا أن نجلس مكتوفي الأيدي ونلقي باللوم عليهم.

يجب أن يقع اللوم على العجز والجبن الذي يحمله كل واحد منا، على عنادنا ونفورنا من التفكير. في الاستجابة لمرغاري الرائع، رفض سونينو أن يقول: «أي شيء يمكن أن يمنح العون والراحة للعدو»، ومبعوث وولف، الذي سبق وأن ذكرته، صرَّح بأن ألمانيا ليس لديها "أهون سبب" لتتقدم بخطوة أخرى من أجل السلام. لكن، وفي كل يوم نحن أنفسنا نقدم الدليل على موقف مشابه، إننا نقبل بالأمور، نبتهج بالانتصارات، ونحزن للخسائر التي يتكبدها معسكرنا. نحن نقبل الحرب بصمت كأداة للسياسة.

واحسرتاه! إن كل أمة وكل عائلة وكل إنسان في أوروبا، وفيما أبعد منها، لديه سبب أكثر من كافٍ ليقدم أقصى جهوده لصالح السلام الذي نتوق اليه جميعًا. فقط الأقلية المتلاشية من الرجال تريد حقًا أن تستمر الحرب، وهم يستحقون بدون شك احتقارنا، وأصدق ما لدينا من كراهية. ليس سوى أقلية قليلة من المتعصبين بشكل مرضي وعديمي الضمير من المجرمين من يساند هذه الحرب. وأيضًا يفوق المعقول، كما يبدو، أن الحرب تستمر وتستمر، وكلا الجانبين يواصل تسلُّحه بلا كلل من أجل المحرقة النهائية المزعومة في الغرب!.

كل هذا ممكن فقط بسبب من كسلنا التام، هواننا، وجبننا. إنه ممكن فقط لأن هناك في مكان ما من قلوبنا إقرار وموافقة وتسامح مع الحرب، لأننا نرمي بكل مصادر عقولنا وأرواحنا نهبًا للرياح، وندع الآلات تسير على غير هدى!. هذا ما يفعله القادة السياسيون، وما تفعله الجيوش، ولكن نحن أنفسنا، المراقبون، لسنا بأفضل منهم. جميعنا يعرف أننا نستطيع إيقاف الحرب إذا أردنا أن نكون جادين، ونحن نعرف بأن الرجال إذا ما شعروا بأن عملاً ما يجب القيام به بالضرورة، فإنهم ينجزونه برغم كل المقاومة التي يواجهونها. لقد كنا ننظر إليهم بكل إعجاب وبقلوب وجلة عندما خفضوا جناحهم وأعربوا عن إرادتهم لصنع السلام، ولم يكن هناك شعب واحد من شعوب الأرض لم يهتز قلبه ووجدانه بهذه الدراما الرائعة. لكن، في الوقت نفسه، رفضنا ما يمليه الواجب تجاه هذه المشاعر. جميع السياسيين في العالم مع الثورة والعقل وخفض جناح الرحمة – ولكن فقط في معسكر الأعداء وليس في معسكره!. إذا كنا جديين نستطيع إيقاف الحرب. مرة أخرى يضرب الروس مثلاً عن العقيدة المقدسة القديمة وهي أن الضعيف يمكن أن يكون الأقوى. لماذا لا يتبعهم أحد؟ لماذا تقنع البرلمانات والوزارات نفسها في كل مكان بالتفاهة الكئيبة ذاتها، والابتذال نفسه يومًا أثر يوم؟ لماذا لا يهبُّون لنصرة فكرة عظيمة في أيِّ مكان، وهي الفكرة الوحيدة التي أصبحت الشغل الشاغل اليوم؟ لماذا يدعمون حق تقرير المصير فقط عندما يأملون بالحصول على منافع منه؟ لماذا ما يزال الناس مأخوذين بالمثالية الزائفة للمتاجرين بالكلام من الرسميين؟ ربَّ قائل يقول إن كل أمة لديها حكامًا كما تريد وكما تستحق. ربما يكون هذا الكلام صحيحًا، فنحن الأوروبيون لدينا، في كل الأحوال، الحكام الأشد قسوة ودموية: الحرب، هل هذا ما نريد ونستحق؟

لا، لا نريدها، بل نريد العكس، بغض النظر عن عدد صغير من الانتهازيين، فإنه ليس هناك أحد يريد هذه الأوضاع المخجلة الكئيبة. إذًا، ماذا يجب علينا أن نفعل؟ نستطيع أن نحرِّض أنفسنا! نستطيع أن نغتنم أيَّة فرصة لنبدي استعدادنا للسلام. نستطيع أن نكف عن الاستفزازات العقيمة كما حدث مع المبعوث وولف سالف الذكر، ونتوقف عن الحديث بطريقة سونينو. وفي المرحلة الحاسمة الحالية فإن إهانة هنا وتنازلاً هناك ودافعًا إنسانيًا لا بد منه! سوف لن يضيرنا. كيف لنا بعد أن لوثنا أنفسنا بشكل كامل بالدماء أن نقلق بشأن بضع التفاهات الوطنية؟

لقد حان الوقت الآن لطرد رجال الدولة، أولئك الذين يتخيلون السياسة الخارجية بصيغة البرامج الوطنية الباحثة عن مصالحها الضيقة، والذين يتجاهلون بكاء البشر!. لماذا ننتظر حماقاتهم وهي تسفك دماء ملايين آخرين؟

جميعنا: عظيم المنزلة مع قليل الشأن، المشترك في الحرب مع المحايد، يتوجب علينا ألا نسدَّ آذاننا عن التحذير الرهيب لهذه الساعة والتهديد بمثل هذا الرعب الذي لا يمكن تصوره. إن السلام في متناول اليد! كتفكير وكرغبة وكاقتراح وكقوة تعمل في صمت، إنها في كل مكان، في كل قلب. إذا ما فتح كل واحد منا قلبه لها، وإذا قرر بثبات أن يخدم قضية السلام، وأن يواصل أفكاره بتلميحاته عن السلام؛ إذا قرر كل إنسان حسن النية بأن يكرِّس نفسه، على وجه الحصر، لفترة بسيطة، لإزاحة العقبات والحواجز عن درب السلام، عندئذ سيكون لدينا سلام.

إذا تحقق كل ذلك سوف نساعد على تجذيره، وسنشعر جميعنا بأننا جديرون بحمل المهمات العظيمة التي سيكلفنا بها – في حين أننا جميعًا نشترك الآن في الشعور بالذنب.

كانون الأول، 1917

ترجمة: حربي محسن عبدالله

*** *** ***

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 إضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود