وَا أُوبَاماه! وا سَركُوزاه!

 

أدونيس

 

-1-

قليلةٌ جدًا، في حدود علمي، إن لم تكن منعدمة، تلك الدراسات التي تعالج، فلسفيًا وحقوقيًا، مفهوم السلطةِ عندنا نحن العرب، ومكانَ الإنسان فيها، ومعناها، ثقافيًا واجتماعيًا وحضاريًا (السلطة شيء، والسياسة شيء آخر). الأبحاث التي قام بها خبراؤنا في علوم السياسة والدولة، لا تتعدى وصف الممارسات، وسَرْدَ الأشكال، وكيفيات تداول الحكم: بقيت في حدود الظاهر المباشر، ولم تتجاوزها إلى الخوض في الأسس والدلالات.

اليوم، أكثر من أي وقت مضى، تبدو الحاجة مُلِحَّةً إلى أن نعرف لماذا تتغيَّر أشكال الحكم عند العرب، ويتغير رجالُه، لكن السلطة تبقى هي هيَ: واحديَّةً، وطغيانيَّة؟ ولماذا لم نَنجحْ، نحن العرب، منذ خمسة عشر قرنًا حتى الآن، في إقامة دولةٍ مدنيَّة، بالمعنى الحقوقي الإنساني المعروف، والمتَّفق عليه، كونيًا؟

-2-

استغلال سلطة الدين وتحويرها إلى «دينٍ» للسلطة: تلك هي مسيرة الحكم في البلدان العربية، منذ خمسينات القرن الماضي. وهي بدايات المرحلة التي دَشَّنتها الانقلابات العسكرية، باسم التحرر من الاستعمار، والقضاء على الرجعيات التابعة، سياسيًا وثقافيًا، اجتماعيًا واقتصاديًا، وباسم السيادة والحرية والتقدُّم. وها نحن، في ضوء التجربة، نرى أن الحكم في هذه المرحلة، حكم «التقدميين، الأحرار»، لم يكن إلا استئنافًا لحكم «الخلفاء». وها نحن نكتشف، موضوعيًا، كم كان هذا الاستئناف رهيبًا وفادحًا ومدمِّرًا، على جميع الأصعدة.

كانت «فلسفة» هذا الحكم تقوم على أن السلطة هي «الشجرة-الأم»، وعلى أنَّ الأفرادَ المحكومين، نباتاتٌ تعرِّش عليها، مجرَّدُ توابع ومُلحقات كمثل الأشياء. وعلى أنَّ رأسَ السلطة يجيء في مرتبةٍ أولى قبل المجتمع نفسه: كل شيءٍ يدور حوله، هو، لا حولَ المجتمع، أو حول التحرُّر والحرية، أو حول التقدم.

هنا موضع الخَلل. هنا تكمن عناصر التزعزع الدائم، والانهيار المتواصل.

-3-

يمثِّل القذافي ذُروةَ هذا الخلَل. وصل «جنونُ» السُّلطة عنده إلى أن «يذيبَها» في شخصه: تجرَّد منها، شكليًا، واضِعًا نفسه فوقها، وفوقَ مصدرها – الشعب الليبي، لكي يُماهِيها به. فهو «أسمى» من أن يُوصفَ بالسلطة. هو السلطة، وليست هيَ هُوَ. إنه «المُفْرَدْ» الذي يصدر عنه كل شيءٍ، ويعودُ إليه كل شيء. وهكذا يُصبح هو نفسُه الشعب كله.

ليس هذا مجرَّد «جنون». إنَّه مَرضٌ مركَّبٌ نفسي–عقليٌّ يجدرُ بعلماء النفس أن يجدوا له اسمًا خاصًّا.

-4-

يبدو اليومَ، في ضوء التمرُّدات العربية التحررية، أنَّ الفردَ العربي يعيش في مأزق: لا يستطيعُ أن ينخرطَ في تظاهرةٍ سياسيةٍ تخرج من الجامع، ولا يستطيعُ، بالمقابل، أن ينضمَّ إلى سُلطةٍ تعجز عن مواجهة هذه التظاهرة، إلا بالعنف والقَتْل. توصله كذلك التجربةُ إلى أن يُدرك أنَّ المشكلةَ الأكثرَ مفارقةً في الحياة السياسية العربية، اليوم، ليست أن نسألَ، صارخين أو هامسين: من أين للحاكم العربي، الحق في أن يُعطيَ أو يأخذ حقًّا للمواطن؟ وإنما هي أن نسأل: هل للمواطن، أساسًا، حقٌّ في نظر حُكَّامه؟

-5-

كيف تكوَّنت «هوية» السلطةِ عندنا، نحن العرب؟ كيف تكوَّنَ «فِقهُها»؟ ولماذا ترتبط، عضويًا، بالطغيان؟ والناس، عندها، اثنان: تابعٌ، أوخاضع. والصّمت عنها كذبٌ عليها. والرغبة فيها رهبةٌ منها.

وما هذه السلطة التي يتجرأ صاحبها على قتل مواطنيه، وهَدْم قُراهم ومُدنهم، لكي يظلَّ جالسًا على كرسيها؟ وها هو الواقع العربي في ظل هذه السلطة: غابَةٌ لِصَيْدِ الإنسان. وها هي الحياة العربية تحت ألوية هذه السلطة: مِرْجَلٌ ضخمٌ بحجم الفضاء، يمتلئ بحساءٍ تتقلَّب فيه أجسامُ العرب.

وليس هناك وجودٌ مشترك للعرب، في ظل هذه السلطة، وإنما هناك موتٌ مُشتَرك.

أهيَ تقاليدُنا التي أسَّس لها قابيلُ وهابيل:

-       لم تكن المعرفة، في البدء، للإنسان بل للغراب.

-       في البدء، لم تكن الكلمة، بل كان القتل.

-       وليس الإنسان هو الذي يصنع السلطة، بل السلطة هي التي تَصنع الإنسان.

تبًّا لهذا الغُرابِ، وتبًّا لهذه التقاليد.

-6-

بفعلِ هذه السلطة، لا يمكن أن نتحدَّث، مثلاً، عن الثقافة العربية، اليوم، إلا إذا بدأنا حديثنا بالمُضمَر والمكبوت، بالمحرَّم والممنوع، بالرقابة والرقيب، بالعميل والكافر، بالعسكري والاعتقال، بالسجن والمنفى. وما يكون تاريخُ ثقافةٍ هذا أَمْرُها؟ وما قيمتُها؟ وما معناها – بوصفِها «وطنيةً» أو «قومية»، أو «إنسانية»؟ وبفعل هذه السلطة، يُجْبر المواطِنُ على امتداح الحرية التي يتمتَّع بها أشخاصٌ لا يجدون ما يأكلون. وعلى سعة الثقافة عند أشخاصٍ لا يجدون ما يقرأون. وعلى المستقبل الزاهر لأشخاصٍ لا يجدون ما يَعملون. وبفعل هذه السلطة، يستنجدُ العربي بحكَّام الخارج – المُسْتعمِر، لكي يَحموهُ من عدوانها، ولكي يدافعوا عنه. وبدلاً من أن ينادي: وامعتصماه! ينادي، على العكس:

وا أُوبَامَاه! وا سَرْكُوزَاه! هل تشعر هذه السلطة، بهذه الإهانة الضخمة؟ بهذا الخزي؟ بهذا الخزي؟ بهذا الازدراء الهائل – ليس لها وحدَها، وإنما للواقع العربي ولِتاريخ هذا الواقع برّمته؟

-7-

أعترفُ عاليًا:

التاريخ العربي، هذا التاريخ السُّلطوي، كرةٌ من النار تتدحرجُ في أحشائي.

لكن، فيما أعترفُ، يُخيَّل إليَّ كأنني أسمع الشبَّان والشابات العرب، يعترفون هم كذلك عاليًا:

الظلام الذي يهجمُ علينا، يزيدنا تلألؤًا،

الوحش نفسُه يتحوَّل تحت أقدامِنا إلى سُلَّمٍ نَصعد عليه صوبَ المَزيد من النُّور.

* * *

شرارات في غابة السلطة

-1-

تفرضُ السلطَةُ الخِضوعَ لِما يقتضيه الواقع،
فلماذا ترفضُ العصيان الذي يَقْتضيهِ هذا الواقع نفسه؟

-2-

بِقَدْرِ ما تَضيق مساحة القول والفعل عند الإنسان،
تضيقُ مساحة وجوده، ويضيقُ معناه.

-3-

إن كنتَ ضد السلطة في البلدان العربية،
فأنتَ، في نظرها، مُجْرِمٌ بالقوَّة.

-4-

كثيرًا، أَمْسكتُ بكاحلِ الشمس
وهي تَنْهضُ مِن نومها.
وكنتُ، في ذلك، أتحدَّى سُلطةَ الفلَك.

-5-

بين قَصْرِ الواقع،
وعَرْشِ الحقيقة،
أختارُ حكمةَ الشك.

-6-

للضوء سلطةٌ يقبلها الناس جميعًا
لِسَببٍ أساسٍ:
لا عُدْوانيةَ فيها.

-7-

السُّوسُ بيتُ السياسة.
والسُّلطة عَطَبٌ كامِنٌ في العَصَب.

-8-

الشبابُ سياسةٌ لا سلطةٌ.

-9-

لن يستقبل الشبابُ الماضيَ
ولو جاءهم في حلَّة المستقبل.

-10-

سمعتُ حلم المدينة يناجي أهدابه:
«أحيانًا، أنا نفسي،

أودُّ لو أكون شوكًا في عين السُّلطة».

-11-

بلادٌ تنوءُ تحت نير السلطة،
تبدو كمثل وردةٍ
تُلْقي رأسها، شبهَ ذابلةٍ،
على كتف الهواء.

-12-

ظاهرًا، يلبس الشبابُ ثوبَ الأفق.
باطِنًا، يلبس بُرْدةَ الصاعقة.

-13-

إن كان هناك سُمٌّ ضد السلطة،
فهو الشعر.
لكن «المشكلة» هي أنَّهُ يرفضُ أن يكونَ قاتِلاً.

-14-

كيف نُقْنع ثَدْيَ القصيدة العربية،
ألاَّ يُعْطِيَ إلا حليبَ التمرُّد؟

-15-

تدفعنا السلطة إلى البحث عن طُرقٍ
لكي نبنيَ ملاجئَ
لِلحبر والريشة، للنَّغم واللَّون.

-16-

ما هذا الماضي الذي لا يتوقَّف
عن تعْبئةِ جيوشهِ لدعم سُلْطةِ الحاضر؟

-17-

سلطةٌ لا فضاءَ لها:
سجينةُ الهواءِ والطُّرق،
سجينة الأبواب والنوافذ والشُّرُفات.

-18-

لا تسهر السلطة سهرَها الأكبر، إلا على تقطيع الخيوط في شبكة الحقيقة.

-19-

السلطة هي «الصدق» الأعلى للكذب: كلماتٍ، وأشياء.

-20-

لا تعيش السلطة إلا في التوهم، بعيدًا عن الواقع، وفي عداءٍ دائم معه. الواقع فضيحتها الدائمة.

-21-

السلطة مجال: الفكر فيه جَلاَّدٌ، والعقل جاسوس.
«المادة» في السلطة هي التي تُربي «الروح». واللغة فيها حمَلٌ في الداخل، وذئبٌ في الخارج.

-22-

تأكل السلطة حتى نفسها من أجل أن تخلع ثوبًا، وتلبس ثوبًا آخر: لا تقدر أن تتقدم إلا من سجنٍ إلى سجن.

-23-

للسلطة تماثيلُ تخضع لنظامٍ خاصٍ
حتى في رؤية الشمس، وفي تنشُّقِ الهواء.

-24-

لكي تَروي السُّلطة جوعَها
تُمضي وقتها في تعلُّم هذه الكيمياء:
تضعُ فَكَّ الصحراء وكبدَ البحر
في كأسٍ واحدة، وفي صَحْنٍ واحد.

-25-

أشلاءٌ فوق المقاعد، نِيرانٌ في العَتَبات:
إنها السُّلطة
تهيئ انقلابًا على السُّلطة.

الخميس، 14 أبريل 2011

*** *** ***

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 إضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود