المقتول بحلب

 

محمود الزيباوي

 

أصدرت "منشورات الجمل" أربعة كتب تتناول نتاج شهاب الدين السهروردي مؤسس المذهب الإشراقي في القرن الثاني عشر. تأتي هذه الكتب بعد إصدارات عربية خاصة بالفيلسوف المقتول بحلب، غير أنها تفتقر للأسف إلى بعض أبسط مقوِّمات النشر العلمي.

حمل الكتاب الأول عنوان مقدِّمات لمؤلفات شهاب الدين السهروردي الفلسفية والصوفية، وهي سلسلة من المقدمات وضعها بالفرنسية هنري كوربان ونقلها إلى العربية فريد الزاهي. لا نجد في هذا المجلد أي تعريف بكاتب هذه المقدِّمات، كما لا نعثر على أي تعريف بالسهروردي وموقعه في الثقافة الإسلامية العربية والإيرانية. أقلُّ ما يُقال إن القارئ يحتاج إلى مقدِّمة جامعة تشكِّل بابًا للدخول إلى هذا العالم الفكري الشائك وما يثيره من أسئلة لا تزال مفتوحة إلى يومنا. فصل الناشر المقدِّمات عن المؤلفات وجمعها في مجلد واحد من دون أي يشرح السبب الذي دفعه لإتباع هذه السياسة، فبدت هذه النصوص أشبه بمقالات مليئة بالأطروحات المكرَّرة، ذلك أنَّ كلاً منها كُتبت في حقبة معينة لتشكل مقدِّمة لنص أو كتاب معين، على مدى ما يقارب ثلاثة قرون من الزمن.

من هو شهاب الدين السهروردي ومن هو هنري كوربان؟ يُعتبر السهرودي من أوائل فلاسفة المتصوفة، اسمه الكامل شهاب الدين يحيى بن حبش بن أميرك السهروردي، ويُعرف بـ"المقتول". وُلد في سهرورد، نواحي زنجان، شمال غرب إيران. تتلمذ أولاً في مدينة ميراغة الأذربيجانية على يد فقيه شهير يُدعى مجد الدين الجيلي، ثم انتقل إلى أصفهان حيث واصل تحصيل العلوم. بعدها، صحب الصوفية ومارس الزهد والتجرُّد، وقدم حلب حيث ذاع صيته، وصادق حاكمها الملك الظاهر، ابن صلاح الدين الأيوبي. أثار نقمة شيوخ حلب، فاتهموه بالزندقة والخروج على الدين، وشكوه إلى الناصر صلاح الدين، فأمر بإعدامه بعدما أفتى القاضي بذلك، كما تُجمع المصادر.

الجوهرة المكنونة

ورد ذكر السهروردي المقتول في الكثير من المصادر العربية، أهمها عيون الأنباء في طبقات الأطباء لابن أبي أصيبعة، ووفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان لابن خلكان. هو في المؤلف الأول الإمام الفاضل:

كان أوحد في العلوم الحكمية، جامعًا للفنون الفلسفية، بارعًا في الأصول الفلكية، مفرط الذكاء، جيد الفطرة، فصيح العبارة، لم يناظر أحدًا إلا بزَّه، ولم يباحث محصلاً إلا أربى عليه، وكان علمه أكثر من عقله.

ينقل ابن أبي أصيبعة رواية تقول إن الملك الظاهر استحضر الأكابر من المدرِّسين والفقهاء والمتكلمين ليسمع ما يجري بينهم وبين صاحبه من المباحث والكلام، فتكلم السهروردي معهم

بكلام كثير بان له فضل عظيم، وعلم باهر، وحسن موقعه عند الملك الظاهر وقرَّبه، وصار مكينًا عنده مختصًا به، فازداد تشنيع أولئك عليه، وعملوا محاضرة بكفره وسيَّروها إلى دمشق إلى الملك الناصر صلاح الدين، وقالوا إن بقي هذا فإنه يُفسد اعتقاد الملك الظاهر، وكذلك إن أُطلق فإنه يُفسد أي ناحية كان بها من البلاد، وزادوا عليه أشياء كثيرة من ذلك. فبعث صلاح الدين إلى ولده الملك الظاهر بحلب كتابًا في حقه بخط القاضي الفاضل، وهو يقول فيه إن هذا الشهاب السهروردي لا بد من قتله، ولا سبيل أنه يطلق ولا يبقى بوجه من الوجوه، ولما بلغ شهاب الدين السهروردي ذلك، وأيقن أنه يُقتل، وليس جهة إلى الإفراج عنه، اختار أن يُترك في مكان مفرد ويمُنع من الطعام والشراب إلى أن يلقى الله تعالى، ففعل به ذلك، وكان في أواخر سنة ست وثمانين وخمسمئة بقلعة حلب، وكان عمره نحو ست وثلاثين سنة.

وقيل إنَّه دُفن بظاهر المدينة، وكُتب على قبره:

قد كان صاحب هذا القبر جوهرة           مكنونة قد براها الله من شرف
فلم تكن تعرف الأيام قيمتـــه           فردَّها غيرة منه إلى الصـدف

تتقاطع هذه الرواية مع روايات أخرى نقلها المؤرخون العرب. في النوادر السلطانية، يخبرنا بهاء الدين بن شداد أنَّ صلاح الدين كان

مبغضًا للفلاسفة والمعطلة ومن يعاند الشريعة، ولقد أمر ولده صاحب حلب الملك الظاهر أعز الله أنصاره بقتل شاب يُقال له السهروردي، قيل عنه إنه كان معاندًا للشرائع مبطلاً.

وفي المختصر في أخبار البشر، قال أبو الفداء إن الفقهاء نسبوا إلى السهروردي انحلال العقيدة، وأفتوا بإباحة دمه، و"أمر بخنقه الملك الظاهر غازي، بأمر والده السلطان صلاح الدين".

الملحد والزنديق

وُصف السهروردي بالزنديق والملحد، وبات لقبه "المقتول بحلب". ذكره ابن حجر في لسان الميزان، وأكَّد أنّه "قُتل لسوء معتقده"، "وكان شافعي المذهب، ويُلقَّب بالمؤيد بالملكوت، وكان يُتهم بانحلال العقيدة والتعطيل واعتقاد مذهب الحكماء، واشتهر ذلك عنه، فأفتى علماء حلب بقتله لما ظهر لهم من سوء مذهبه". وهو بحسب تعبير ابن تيمية في فتوى من فتاويه "المقتول على الزندقة"، "وكان في فلسفته مستمدًا من الروم الصابئين والفرس المجوس". بدوره، جمع شمس الدين الذهبي في سير أعلام النبلاء طائفة من أخبار السهروردي، ونقل موقف الفقهاء القاضي بقتله، وأضاف معلِّقًا: "أحسنوا وأصابوا". في المقابل، استعاد ابن كثير أخبار الفيلسوف الضال في طبقات الشافعيين، ورأى أنَّ ما ساقه من علم الأوائل أدى إلى قتله، "ولو أنه اقتفى بالآثار النبوية والأخبار المصطفوية المنقولة بالسند الصحيح عن خير البرية لأحسن من هذه البلية، ولرُفع يوم القيامة إلى الجنة العلية، ولكن كان ما وقع به مقدورًا، وكان على جبينه مسطورا".

دخل اسم السهروردي في الظلمة، غير أنَّه ظلَّ حيًا في نفوس أتباعه الذين وصفوه بـ"الشيخ الشهيد". عام 1929، أشار المستشرق لويس ماسينيون إلى هذه المؤلفات ودعا إلى نشرها ودراستها بشكل شامل. تبع المستشرق هنري كوربان هذه الدعوة، وبدأ بالتعريف بمؤلفات السهروردي وتصنيفها، وكانت أولى مساهمته في هذا الشأن مقالة نُشرت في مجلة "أبحاث فرنسية" عام 1933. كما عرَّف ماسينيون بالحلاج، مستعيدًا تاريخه ومصنِّفًا نتاجه، أخرج كوربان نتاج السهروردي من الظلمة وقام بتصنيفه وشرحه حتى وفاته في عام 1978. من المفارقات المثيرة، كان كوربان فرنسيًا مسيحيًا بروتستانتيًا، وهو أول من نقل هايدغر من الألمانية إلى الفرنسية، وأول من أدخل الفلسفة الإيرانية الإسلامية إلى الثقافة الفرنسية. زاول التدريس في باريس وطهران، ورأس المعهد الفرنسي الإيراني، وعقد صداقات عميقة مع العديد من رجال الفكر والدين الإيرانيين. أبرز إنجازاته تأسيس "المكتبة الإيرانية" وهي سلسلة منشورات علمية محققة تحقيقًا نقديًا لأهم النصوص في ميدان التصوف والفلسفة.

يثير نتاج السهروردي الكثير من الأسئلة الحساسة، والدخول إلى عالمه يحتاج إلى مرشد يضيء الطريق أمام القارئ. أحيا الشيخ الشافعي الحكمة الفارسة القديمة، كما يقول في رسالة كلمات التصوُّف:

وكان في الفرس أمة يهدون بالحق وبه كانوا يعدلون، حكماء فضلاء غير شبهة المجوس، قد أحيينا حكمتهم النورية الشريفة التي يشهد بها ذوق أفلاطون ومن قبله في الكتاب المسمَّى بحكمة الإشراق، وما سُبقت إلى مثله.

وهذه الحكمة هي

الحكمة العتيقة التي ما زال أئمة هند وفارس ومصر وقدماء يونان إلى أفلاطون يدورون عليها ويستخرجون عنها حكمتهم، وهي الخميرة الأزلية.

لا يعني هذا الإحياء عودة إلى شكل من أشكال الوثنية، وهو ما يشير إليه الشيخ بصريح العبارة في مقدمة حكمة الإشراق، حيث يقول:

وما ذكرته من علم الأنوار وجميع ما يبتنى عليه وغيره يساعدني عليه كل من سلك سبيل الله عز وجل، وهو ذوق إمام الحكمة ورئيسها أفلاطون، صاحب الأيد والنور، وكذا من قبله من زمان والد الحكماء هرمس إلى زمانه من عظماء الحكماء وأساطين الحكمة مثل أنبادقلس، وفيثاغورس، وغيرهما، وكلمات الأولين مرموزة وما ردَّ عليهم، وإن كان متوجهًا على ظاهر أقاويلهم لم يتوجه على مقاصدهم، فلا رد على الرمز، وعلى هذا يبتنى قاعدة الشرق في النور والظلمة التي كانت طريقة حكماء الفرس مثل جاماسف وفرشاوشتر وبوزرجمهر، ومن قبلهم، وهي ليست قاعدة كفرة المجوس وإلحاد ماني، وما يفضي إلى الشرك بالله تعالى.

الإصدارات العربية

استعاد السهروردي مكانته في إيران، ووصل نتاجه إلى العالم العربي عبر عدد من المقالات والدراسات تناولت في الدرجة الأولى مؤلفاته العربية. في الخمسينات، بدأ اكتشاف الفيلسوف المقتول في مصر حيث ساهم كل من محمد مصطفى حلمي ومحمد علي أبو ريان التعريف بنتاجه وموقعه في التراث الإسلامي الفلسفي والصوفي. بعدها، كتب عبد الرحمن بدوي عن مؤسس المذهب الإشراقي في كتابه شخصيات قلقة في الإسلام. في السبعينات، أشرف إبرهيم مدكور على مادة الكتاب التذكاري شيخ الإشراق شهاب الدين السهروردي الذي أصدرته الهيئة المصرية العامة للكتاب، وتلت هذا الإصدار دراسات أخرى. في بيروت، جمع يوسف إيبش مجموعة من نصوص السهرودي في كتاب صدر عام 1990، وخلا هذا الكتاب من أي تعريف بالمؤلف والنصوص المقدِّمة. في العام التالي، قدَّم إميل المعلوف كتاب اللمحات في تحقيق رصين، ثم نشر مقامات الصوفية عام 1993.

شهدت السنوات الأخيرة صدور عدد آخر من الكتابات والدراسات السهروردية. عام 2000، صدرت في القاهرة المجموعة الأولى من الكتب التي حققها كوربان في كتاب ضمَّ التلويحات العرشية وكتاب المقاومات والمشارع والمُطارحات. عام 2005، صدر ديوان السهروردي بتصنيف كامل مصطفى الشيبي، كما صدر ديوان "آخر" بتحقيق أحمد مصطفى الحسين، مع استعادة لكتاب هياكل النور. في العام نفسه، صدرت الترجمة العربية لبحث غلام حسين الإبرهيمي الديناني حول إشراق الفكر والشهود في فلسفة السهروردي. بعدها، قدَّم عادل محمود بدر الرسائل الصوفية لشهاب الدين السهروردي، وقدَّم قاسم محمد عباس كتاب نصوص إشراقية ثلاث رسائل في الرؤية والمجاز، وفيها حفيف أجنحة جبرائيل والعقل الأحمر ورسالة كلمات الصوفية.

تكرَّرت الإصدارات في طباعات أخرى بشكل يعكس الأسلوب "العشوائي" في نشر كتب التراث. عام 2009، صدر كتاب هياكل النور في القاهرة بتحقيق أحمد عبد الرحيم وتوفيق علي وهبة، وصدرت كلمات الصوفية في دمشق بتحقيق قاسم محمد عباس. عام 2010، أصدرت "دار ومكتبة بيبليون" في لبنان سلسلة مكتبة السهروردي شهيد الصوفية، وهي عبارة عن نسخ مصورة للكتب التي أشرف عليها كوربان. تتألف هذه السلسلة من أربعة كتب، أولها كتاب التلويحات ويليه كتابا المقاومات والمشارع والمطارحات، وهو الكتاب الذي صدر في مصر عام 2000. ثانيها كتاب حكمة الإشراق وتليه رسالة في اعتقاد الحكماء وقصة الغربة للغربية، وثالثها رسالة الأبراج وتليها الألواح العمادية وكلمة التصوف واللمحات. كذلك، استعادت "دار بيبليون" "رسالة أصوات أجنحة جبريل للسهروردي مع شرحها بصيغة عبد الرحمن بدوي، كما استعادت كتاب جلال الدين الدواني شواكل الحور في شرح هياكل النور للسهروردي بتحقيق محمد عبد الحق ومحمد كوكن، وقد أصدرت "دار الوراق" الكتاب نفسه في فترة زمنية مقاربة كما يبدو.

تعيد "منشورات الجمل" بدورها اليوم إصدار المؤلفات الفلسفية والصوفية بتحقيق كوربان. تضيف الدار إلى هذه المجموعة طبعة أخرى من المشارع والمطارحات تصدر في كتاب مستقل بتحقيق وتصحيح مقصود محمدي وأشرف عالي بور. يخلو الكتاب من أي تعريف بالنص ومحققيه، كما يخلو من أي مقدِّمة تشرح للقارئ السبب الذي دفع هذه المنشورات إلى نشر الكتاب في نسخة من تحقيق كوربان، ونسخة أخرى من تحقيق مقصود محمدي وأشرف عالي بور، ويختزل هذا الموقف "الفوضى" العجيبة التي تعتمدها الغالبية العظمى من دور النشر العربية في إصداراتها التراثية.

*** *** ***

ملحق النهار

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود