الصفحة التالية                  الصفحة السابقة

واقعية بنيوية[1] - 2

 

ميشيل بيتبول

الواحد، يقول أفلاطون، إذا كان موجودًا، لا يكون حتى واحدًا. أما إذا لم يكن موجودًا، فإن أي خطاب لا يمكن أن ينطبق عليه، ولا حتى النفي.

دمسكيوس، حول المبادئ الأولى

3. 4 الحقيقة والموضوعية

يقترح كل من بوفريس J. Bouveresse وبتيتو J. Petitot في كتاب الفيزياء والواقع (وهو حوار مع برنار دسبانيا) تصنيفًا أصيلاً للمواقف الفلسفية، حيث يضعان في هذا التصنيف خلاصات دسبانيا. يتوافق هذان التصنيفان كلمة كلمة، على الرغم من أن أحدهما يرتكز على معايير الحقيقة للقضايا الواقعية، في حين يرتكز الآخر على معايير موضوعية للمعرفة.

لا يميز بوفريس موقفين فقط اتجاه حقيقة القضايا الواقعية بل ثلاثة مواقف: وفق الموقف الأول، يمكن للقضية أن تكون صحيحة بشكل مستقل عن وسائل التحقق منها؛ ووفق الموقف الثاني، تكون القضية صحيحة إذا كانت قابلة للتحقق منها؛ ووفق الموقف الثالث، تكون صحيحة فقط إذا تم التحقق منها. وهكذا يكون علينا التمييز بين ثلاثة مفاهيم: "[...] صحيح، ومعترف به كصحيح (من خلال إجراء تحقق مناسب) ومعترف به فعليًا أنه صحيح". وبمواجهة ذلك، يبدو أن عددا كبيرًا من فيزيائيي الميكانيك الكمومي كما يكتب بوفريس قد حسموا الأمر لصالح الموقف الثالث، أي الموقف الجذري ضدَّ الواقعية. لكنه يشير إلى أن هذا الموقف ليس موقف برنار دسبانيا. ألم يقترح هذا الأخير بالأحرى خيارًا بين الخيارين الأقوى، أي الموقف الأول والموقف الثالث، بل دمجًا بينهما، مع استبعاد الخيار الأوسط؟

يشتمل تصنيف بتيتو هو أيضًا على ثلاثة مداخل معينة تاريخيًا: الأنطولوجيا، والموضوعية الشديدة والموضوعية الضعيفة. تنتمي المرحلة الأنطولوجية إلى الفيزياء الأرسطية وحدها. وقد جرى اكتشاف الموضوعية الشديدة إثر الثورة الغاليلية - النيوتونية، التي كانت من خلال استخدامها واسع النطاق لمبادئ النسبية، تجعل من غير الممكن الدفاع عن الأنطولوجيا الأرسطية للأماكن الطبيعية. أما بالنسبة للموضوعية الضعيفة، فهي سمة مميزة للميكانيك الكمومي، مع تخليها عن وصف تحديدات متأصلة في الأشياء، وتقييدها للتنبؤ بالظاهرات التي لا تنفصل عن شروطها التجريبية في التظاهر. يعتبر بتيتو مثل بوفريس أن دسبانيا يرتكز على المواجهة بين مصطلحين: من جهة الموضوعية الشديدة غير المتمايزة عن الأنطولوجيا، ومن جهة أخرى الموضوعية الضعيفة. ويأخذ عليه بتيتو بأنه يهمل على هذا النحو مساهمة الثورة العلمية الكبيرة الأولى، أي ثورة العلم الحديث حول الطبيعة في القرن السابع عشر، كما والعبرة التي استقاها كانط منها. وقد اشتمل الإسهام الذي قدمه علم الطبيعة الحديث في الواقع في أنه أحلَّ موضوعية اعتبرت كموضوعية شرعية محل الخطاب الأنطولوجي الهادف لإعلان التحديدات المحكومة بشكل جوهري من قبل الكائنات الطبيعية (المفترضة). كانت هذه الموضوعية، التي تبدو بالنظر إلى الماضي قوية بالنسبة للموضوعية الضعيفة للميكانيك الكمومي، موضوعية ضعيفة بالنسبة للمشروع القوي المحكوم أنطولوجيًا للفيزياء الأرسطية. ذلك أنها لم تعد تميل إلى تجاوز "[...] المحتوى «الذاتي» لمفهوم الظاهرة، العلائقي بالتعريف"، بل فقط لتحديد أشكال أو قواعد تحكم التظاهر بحيث أننا نستطيع "أن نضع بين قوسين" هذه الصفة العلائقية. لم تعد هذه الموضوعية تهدف للبحث عن تفسير للظاهرات انطلاقًا من واقعية تحتية متعذَّر بلوغها، بل ببساطة لتحديد النظام القانوني للظاهرات وتحديد الموضوعية انطلاقًا من هنا. فعبر الإشكالية الكانطية للتشكيل القانوني كان قد طُرح الخلط بين الوصفة القانونية التي تسمح بالوصول إلى الوضعنة objectivation انطلاقًا من التمثيلات ووصف الكينونات الملتمسة في الظاهرات.

يقدم دسبانيا إجابة متسقة مع تساؤل بوفريس ومع انتقادات بتيتو. فعلى بوفريس يجيب دسبانيا بأن أطروحته في الواقع المحجوب تسمح في الواقع بدمج ميزات موقف واقعي بشكل صريح فيما يخص الفيزياء الكمومية وميزات تصور لاواقعي بشكل جذري، دون محاولة طرح تأليف مستحيل. وتقود هذه الأطروحة بداية، وبشكل متوافق مع موقف معارضي الواقعية المتشددين، إلى اعتبار أنه لا توجد أية قضية يمكن اعتبارها صحيحة إذا لم يوضع تحققها التجريبي فعليًا موضع التنفيذ. يعود ذلك إلى ملاحظة أن الخيار الوسطي، الذي وفقه يمكن اعتبار قضية ما كقضية صحيحة إذا كانت قابلة ببساطة للتحقق منها أو إذا كان من الممكن التحقق منها حتى عندما لا يكون قد تم التحقق منها، هو عمومًا خيار غير قابل للاستخدام في إطار الميكانيك الكمومي؛ وهو غير قابل للاستخدام بسبب عدم التوافق بين مجموعات معينة من البيانات المتغايرة (أي المعطيات التي تتطلب متغيرين مترافقين، كما على سبيل المثال الموضع وكمية الحركة) وتنبؤات هذه النظرية. ولكن من جهة أخرى، فإن أطروحة الواقع المحجوب تتقاسم مع المواقف الواقعية صراحة فيما يتعلق بالفيزياء الكمومية الحد الأدنى من مرجعية الواقع المستقل. وحتى إن كان مؤيد أطروحة الواقع المحجوب لا يأخذ على محمل الجد كليًا رؤية العالم المقترحة من قبل هذه النظرية أو تلك ذات المتحولات الخفية، وذلك بسبب التحديدية التحتية الأكيدة للنظريات من هذا النمط بواسطة التجربة وبسبب طابعها الاصطناعي، فإنه يعتبر أن المهم هو الاستنتاج العام بأنه توجد نظريات "قابلة أنطولوجيًا للتفسير" متوافقة مع التنبؤات الكمومية ومع النتائج التجريبية. يدل مجرد وجود هذه النظريات في الواقع من جهة على أن صعوبات معينة في تفسير الميكانيك الكمومي[2] ليست صعوبات لا يمكن تجاوزها أو حلها، ومن جهة أخرى أن الميكانيك الكمومي لا يفرض بنفسه استبعاد كل زعم بوجود هدف أو قصد أنطولوجي. ومن الأفضل أيضًا كما يقترح برنار دسبانيا أنه ربما من الممكن الحصول على بعض الرؤى الموثوقة حول بنية الواقعية المستقلة عبر ثوابت النظريات القابلة للتفسير المتوافقة مع التنبؤات الكمومية. وكان عدد من هذه الثوابت قد أوجد بواسطة مبرهنات ميتانظرية، مثل مبرهنة بِل Bell أو مبرهنة كوتشن وسبيكر Kochen & Specker، وعليهم إنما يرتكز دسبانيا لكي يعطي لأطروحته في الواقع المحجوب المحتوى والمضمون. نرى هنا لماذا تبقى حجة التحديدية التحتية للنظريات غير فاعلة ضد أطروحة الواقع المحجوب وتوصيفاتها البنيوية الكبرى[3]: فهذه الأخيرة تنبثق كسمة مشتركة لأية نظرية قابلة للتفسير أنطولوجيًا متوافقة مع التنبؤات المعزِّزة للفيزياء الكمومية.

المسعى صحيح من حيث مبدئه، لكنه يرتكز على فرضية غير موضَّحَة وعلينا أن نناقشها الآن: وهي فرضية أن الثوابت الأكثر عمومية التي تم إيجادها خلال مجرى البحث العلمي تكشف عن شيء ما من واقعية "مستقلة" أصيلة. وفي الواقع، فإن عددًا كبيرًا من الباحثين يتقاسمون اليقين الذي لا جدال فيه بأن الثوابت البنيوية الصالحة لصفوف واسعة من الوسائل ودروب المقاربة تعدُّ مرشحين معقولين لوظيفة الممثلين الأوفياء لكل أو لجزء من الواقع المستقل. ويرتكز اقتناعهم هذا على استدلال بسيط جدًا، إنما لا يخلو من ضعف منطقي. ينطلق هذا الاستدلال من الاستنتاج التالي: إذا كان يمكن الحصول على انعكاس وفيٍّ للواقع المستقل، فإنه لا يمكن أن يتعلق أبدًا بالطريقة التي نقوم فيها نحن بإنشاء علاقة مع الواقع المعني؛ من غير ذلك، لن يكون لدينا انعكاس حقيقي للـ "للواقع الفعلي كما هو بذاته"، بل انعكاس لـ "واقع حقيقي كما نراه نحن" تحت علاقة معينة. بالنتيجة، إذا كان يمكن تحديد انعكاس بنيوي للواقع المستقل فسوف يكون بالضرورة ثابتًا عبر تغيير طريق مقاربة هذا الواقع. وهكذا يبدو أن ثابتًا ما يدعو بداهة بشكل لا يقاوم لتفسيره كانعكاس لواقع مستقل. تكمن الصعوبة في أن اليقين بهذا الصدد لا يمكن أن يتأتى إلا من المعكوس الدقيق للاستنتاج السابق؛ شيء ما مثل "إذا توصلنا إلى تحديد ثابت ما، عندها فإنه يمثل بالضرورة سمة للواقعية المستقلة". والحال أن هذه المعكوسية لا تصحُّ، ويجب بالتالي القبول أن اللاتغير أي الثبات هو شرط ضروري لكن غير كاف من أجل أسر أي انعكاس مخلص لواقعية مستقلة. ولكي ندرك السبب الرئيسي، ذا المستوى الإبستمولوجي بالأحرى منه المنطقي، الذي من أجله لا يصحُّ مثل هذا المعكوس، علينا أن نتذكر أن ثابتًا ما في العلوم لا يمكن أن يستفيد إلا من اتساقه إزاء صف واسع من القرائن الإدراكية أو التجريبية التي تعرَّف بالنسبة لها التحديدات، وليس من تحرره إزاء كل خلفية سياقية. إن ثابتًا ما يظل مستقرًا مهما كان حال نقاط الاستشراف التي نعتمدها من بين مجموعة معطاة من نقاط الاستشراف، ولكن ليس بشكل مستقل عن مرجعية مثل هذه المجموعة، بل ليس بشكل مستقل عن مفهوم نقطة الاستشراف. وكما كان يقول الرياضي فليكس كلاين Félix Klein في برنامجه البحثي المعروف بإرلانجن[4] Erlangen، فإن الحديث عن ثابت أمرٌ لا معنى له طالما لم نحدد إزاء أية مجموعة من التغيرات هو ثابت. وهكذا، فإن ثابتًا ما يكون له على الأقل القدر نفسه من الحظوظ في إعلامنا حول منظومة الأطر المتضمنة في نشاط بحثي معطى، أو إذا أردنا حول مجموعة التحولات المرتبطة به، مما له من الحظوظ في إعلامنا حول البنى الافتراضية المشكلة مسبقًا لواقع مستقل. ومن هنا مسعاي الخاص، والذي أذكر به خلال المقاطع التالية: ويشتمل هذا المسعى على محاولة تحديد أو مطابقة، في الثوابت القطعية الصحيحة لكل تفسير مقبول للميكانيك الكمومي، الأثر البنيوي للتحولات العكوسة المفترضة مسبقًا بواسطة مجموعة واسعة من نشاطات التحقق، وليس الحدود العامة لواقع "مستقل" بشكل مطلق.

ثمة مشكلة أخرى لا يحلها برنار دسبانيا (وكنا قد سبق وذكرناها في الفقرة 2 - 3)، وهي أن السمات المشتركة، أو الثوابت البنيوية، التي تنتج من كل نظرية يمكن تفسيرها أنطولوجيًا على أنها قابلة لإعادة إنتاج تنبؤات الميكانيك الكمومي، هي في معظمها سمات سلبية. فالمبرهنات الميتا نظرية تشير فقط إلى أن أية نظرية من هذا النمط القابل للتفسير بمصطلحات كثرة وتعددية من الأجسام المحدَّدة الموضع، والمتفاعلة بطريقة غير آنية، والمزودة بتحديدات مستقلة عن سياق إثباتها، لا تكون متوافقة مع مجموعة من التنبؤات الكمومية المثبتة. فهل يمكننا التقدم انطلاقًا من هنا إلى تحويل للسلبي إلى إيجابي، والمرور على سبيل المثال من اللاإنفصالية إلى فكرة أن الواقع المستقل هو شيء ما فريد وغير مغمور في الزمكان؟ يجيب برنار دسبانيا بـ "لا" دون تروي على هذا السؤال من خلال تأكيده: "يبدو لي بشكل واضح أننا لا نستطيع التعرف (سلبيًا!) على لاإنفصالية «شيء ما» (يقاوِم) دون أن نستشف في الوقت نفسه شيئًا من الوحدانية فيه[5]."

من خلال هذا الجواب، يبدو أن هذا الافتراض الضمني الذي يسمح لدسبانيا بالمباشرة بتحويل السلبي إلى إيجابي، وبالوصول إلى الخلاصات البنيوية التي تنتج عن ذلك، هو افتراض حدٍّ أدنى من المعقولية للـ "واقعية المستقلة". ويفترض التحول في الواقع أن مبدأ الثالث المرفوع قابل للتطبيق على الواقع المستقل: فإذا لم يكن هذا الواقع المستقل كثيرًا وقابلاً للانفصال، فإنه يكون بطريقة من الطرق واحدًا. والحال أن مبدأ الثالث المرفوع هو مبدأ شمولية المعقول، مبدأ يكون حقل الممكن وفقه مغطى كليًا بالفئات العقلانية. ويفترض مبدأ الثالث المرفوع بشكل خاص، المطبق على الكثرة وعلى الواحد، أن يكون مجال التحديدات الممكنة للواقع الحقيقي مغطى بشكل كامل بفئات الكمية. ولكن ما الذي يضمن أن يكون "الواقع المستقل" بين فئات الكمية؟ وما الذي يضمن بشكل أوسع أن يكون واقعًا ضمن فئات تؤثر للوهلة الأولى على الظاهرات؟ وحدها مسلمةُ معقوليةٍ تجاوزية، يمكن لبعضهم أن يعتبرها كمسلمة لا غنى عنها للعمل العلمي، بما هي مثال ناظم له، يمكن أن تمرَّ رغم هذا الافتقار إلى الضمانات. ودون هذا النوع من المسلمات فسوف يكون علينا أن نرى في اللاإنفصالية مساءلة لطرح تقليدي فيما يخص ما هو حقيقي: ألا وهو قابليته للتحليل المكاني. ثم بمراكمة التناقضات والتحديدات التحتية للأطروحات والتشكيك بأطروحات أخرى بواسطة التجربة، فإننا سوف نصل على الأرجح إلى مجرد إيقاف المحاكمة المتعلقة بموضوع ماذا يمكن أن تكون "الواقعية المستقلة"[6].

اقترح دمسكيوس Damascius عودة ميتافيزيائية لهذا التعليق أو الإيقاف للمحاكمة، وهو أحد آخر فلاسفة الأفلاطونية الجديدة، وله ترجع القضية ذات الصلة التي استشهدنا بها في مقدمة هذا الفصل. "الواحد، إذا كان موجودًا، لا يكون حتى واحدًا" كتب دمسكيوس؛ وهذا يعني أن الواحد بالمعنى الذي يفهمه الأفلاطونيون الجدد (وخاصة أفلوطين) لا يمكن حتى أن يرى تحديدًا كميًا منسوبًا له يشتمل على معارضة المتعدِّد. ونفهم من هنا إصرار دمسكيوس أكثر ليس على الواحد، الذي يبدو أنه يزودنا أيضًا من خلال استمرار دلالته الرقمية بعنصر من تمييز الواقع الحقيقي، بل على غير القابل للوصف pantè aporeton الذي يفلت من أي خطاب، والذي لا يشتمل على أي تحديد لأن فيه لا شيء يتعارض مع شيء آخر، والذي نعبر عنه بـ "الذي لا يوصف على الإطلاق" أو "لا يعبر عنه مطلقًا"[7]. يبرر دمسكيوس هذا التحويل للواحد إلى ما لا يمكن وصفه بالجملة التالية: "ربما كان أفلاطون قد رفعنا بطريقة لا توصف، بواسطة الواحد، حتى هذا الذي يدق عن الوصف إلى ما وراء الواحد، الذي هو الآن موضوعنا، وذلك بالذات عبر إلغاء الواحد؛ تمامًا كما أنه من خلال إلغاء الآخرين أعادنا باتجاه الواحد[8]." فإذا تذكرنا أن دسبانيا يقارب عن طيب خاطر وصفه البنيوي الخاص للواقع المستقل من المفهوم الأفلوطيني للواحد[9]، فسوف يكون علينا أن نترجم الأسئلة الإبستمولوجية المطروحة أعلاه ضمن هذا السياق الميتافيزيائي المقصود. وفي العمق، هل نرغب في أن نسأل دسبانيا ما الذي يمنعنا من الاعتقاد بأن الواقعية المستقلة تشبه أكثر ما لا يمكن وصفه عند دمسكيوس مما تشبه "واحدا" موصوفًا عدديًا؟ فإذا وضعنا جانبًا حجة الفرصة التي وفقها من الأفضل عدم تخيل مثل هذا الأمر لأن ذلك يسحب من الباحثين موضوعهم النهائي المحرض لهم، فلا بدَّ من القبول أن لا شيء يمنعه. فلا شيء يمنع في الواقع أن نتخيل (حتى لو كان ذلك يثير مشاكل لا يزال حلها عصيًا على النظريات الحديثة في الانتظام الذاتي) أن كافة التحديدات التي ننسبها إلى محيطنا الحقيقي هي تحديدات مرتبطة بالشروط العارضة لوجودنا بما هي بنى مستقلة ذاتيًا ميتا مستقرة، منبثقة ذاتيًا مع محيطها ابتداء من عمق لم نعد نستطيع بالمعنى الدقيق للكلمة وصفه إلا بـ "الحرج".

إن الطريقة التي يقف فيها برنار دسبانيا نفسه قريبًا جدًا من مثل هذا الموقف من التحفظ الميتافيزيائي، ثم يبتعد عنه تدريجيًا، هو موقف هام لا بد من تحليله. ففي إجابته على جان ماري ليفي لوبلون J.-M. Lévy-Leblond الذي يقترح إعادة صياغة للمصطلحات تشتمل تعريفات إيجابية مثل " التعقيد المتضمن[10] implexité" أو البانتوبيا[11]" pantopie"، يوصي دسبانيا بالحفاظ على تعابير سلبية موافقة ليست سوى مصطلحات مثل اللاإنفصالية واللاموضعية. لأنه كما يشرح بقدر ما تتعلق هذه الأخيرة بالواقعية المستقلة، "[...] فإن التعبير عنها إيجابيًا يعود إلى وصف خاصية (تكون عندها أساسية وجوهرية) لما يسمى بالواقعية". مع ذلك، وبدلاً من التوقف هنا ومن محاولة تقديم بيان الامتناع حول موضوع كل خاصية للواقعية المستقلة، فإن دسبانيا يحاول إبراز الأسباب التي بسببها تكون محاولة التوصيف المكانية الزمانية للحقيقي بواسطة مصطلح إيجابي هي محاولة غير حذرة. وبمحاولته تعيين أحد هذه الأسباب، من خلال محاولة شرح لماذا الواقع الحقيقي عنيد وصعب الانقياد لأي تمييز زماني - مكاني، فإنه يجد نفسه مساقًا بشكل طبيعي تمامًا لأن يرسم بشكل شفاف تمييزًا آخر للحقيقي، حيث يتجلى هذا التمييز من خلال الاستخدام المتجدد لفعل "الكون": "فالواقعية المستقلة يمكن أن تكون حقًا أولى بالنسبة للزمكان[12]."

بالمقابل، استخدم برنار دسبانيا مفهوم "النظرية القابلة للتفسير أنطولوجيًا" للردِّ على الانتقاد الذي وجهه له جان بتيتو لعدم تمييزه بين الأنطولوجيا والموضوعية الشديدة. فالنظريات الفيزيائية التابعة لشكل قوي من الموضوعية تكون على الأقل قابلة للتفسير أنطولوجيًا كما يشير دسبانيا. وهذا لا يعني أن هذه النظريات تركز فعلاً على الكينونات كما هي بذاتها، بل فقط أن لا شيء يمنع بشكل قطعي من تفسيرها على أنها تصف الخصائص الجوهرية لمثل هذه الكينونات. ويطلب دسبانيا أن نفهم أن "«اللغة الموضوعية» [...] هي لغة يكون وفقها إما الأشياء [...] التي تعالجها الفيزياء هي أشياء مفترض أنها موجودة بذاتها حقيقة، أو التصرف كما لو كانت توجد على هذا النحو[13]". إن اللاواقعية هي ما يسمح لنا بأن نطبق على نطاق واسع قاعدة "كل شيء يجري كما لو"، وهذه القاعدة هي ما يجعل البيانات ذات الموضوعية القوية قابلة للتفسير بعبارات ومصطلحات يستحيل عمليًا تمييزها عن توكيد أنطولوجي. إن ولادة علم الطبيعة الحديث كانت لتمثل في هذه الشروط ليس لحظة خسارة الخطاب الأنطولوجي لصالح متطلبات شرعية للموضوعية، بقدر ما تمثل الوعي بأن الخطابات ذات القصد الأنطولوجي يمكن كثيرًا ألا تكون صالحة إلا لمعنى "كما لو". مع ذلك فقد استمر الـ "كما لو" بالعمل بفعالية كافية لكي يتم نسيانه من قبل معظم الفيزيائيين، وذلك خلال كامل فترة الفيزياء الكلاسيكية. ومع الفيزياء الكمومية فقط إنما أصبح الـ "كما لو" إشكاليًا بدرجة عالية، دافعًا برنامج صياغة النظريات القابلة للتفسير أنطولوجيًا في آخر إقطاعاته وطروحاته (أي "المتغيرات الخفية").

3. 5 الذرات وكينونات أخرى

إن إحدى السمات الأكثر تميزًا في فكر برنار دسبانيا هي الفصل الذي يقوم به بين المسألة العامة للواقعية في الفيزياء ومواضيع خطابات الفيزيائي.

ووفقه، فإن الواقعية فيما يخص الأجسام المادية وبدائلها الحديثة، مثل الذرات أو الجسيمات الأولية، ليست سوى "واقعية حوادث". ويمكن لواقعية الحوادث أن تُعرَّف على أنها الاعتقاد بالوجود الحقيقي لكينونات مصَمَّمة وفق نموذج الكينونات التي تتحدَّد بواسطة لعبة الإدراك الحسي والفعل؛ إنها واقعية مباشرة (بسيطة) بما معناه أنها تقبل بوجود كينونات تشاكلية بشكل أساسي مع الظاهرات الإدراكية و/أو التجريبية؛ وهي تشتمل بالإجمال على جعل العناصر الظاهرة للـ "واقعية التجريبية" عناصر وجودية حقيقية. وبالنظر إلى البنية المحلية للإدراك وللتجريب، فإن من بين نتائج هذا الخيار أنه "بملازمته لواقعية الحوادث يكون [...] الفكرة لمحليَّةٍ معيَّنة، وبالتالي الفكرة لـ «سببية محلية» معينة [...][14]". ويفضي هذا الخيار إلى "ديناميكية تعددية" يكون العالَم وفقها مؤلَّفًا من كثرة من المكوِّنات المتموضعة في المكان، وهي تتحرك بعضها بالنسبة لبعضها الآخر[15]. غير أن دسبانيا يعتبر أن واقعية الحوادث هذه هي الرهن الأساسي الذي يجب تحرير الواقعية منه إذا كنا نريد أن تستطيع هذه الواقعية الإجابة على التحدي الذي توجّهه لها الفيزياء الكمومية. دون ذلك، ستكون الواقعية اليوم أكثر من أي يوم مضى ضعيفة أمام الانتقادات من نمط انتقادات الكانطية الجديدة: "نستطيع تتبع [...] كاسيرر Cassirer [...] عندما يعلن تحت اسم «الواقعية التجاوزية» تفكك وتشوش واقعية، هي في الواقع كما يقدمها، واقعية ميتافيزيائية للأشياء[16]". وبشكل أدق، يعتبر برنار دسبانيا فكرة "أن الذرات والجسيمات الأولية هي كينونات موجودة بشكل منفصل" هي فكرة رفضتها الفيزياء الحديثة. وهو يعزو أهمية كبيرة "للحقيقة الثابتة [...] أن واقعية الحوادث هي رؤية مغلوطة للأمور[17]". وهو يعمل، من أجل إثبات هذا التأكيد، على إظهار تعارض المحاكمات التي تزعم أنها تستند على نتائج الفيزياء الحديثة لكي تثبت "الوجود" الجوهري لكثرة من الأجسام مثل الذرات أو الجسيمات الأولية.

يرفض دسبانيا بداية كل الحجج من نمط "الاستدلال باتجاه التفسير الأفضل". وتشتمل هذه الحجج على التأكيد أن التفسير الأفضل للظاهرات المتقطِّعة مثل التصادمات والتأثيرات على الشاشات، والآثار في الغرف ذات الفقاعات، أو اللطخات الظاهرة بشكل منتظم على الصور التي نحصل عليها بواسطة المجاهر ذات الأثر النفقي، هو وجود أجسام ذات طبيعة جسيمية جزئيًا. لكن دسبانيا يقدِّم ويناقش تفسيرات أخرى غير جسيمية لهذه الظاهرات نفسها، وهي أكثر توافقًا مع بنية النظريات الكمومية ذاتها[18].

وينتقد دسبانيا بالدرجة الثانية، مع تقديم أمثلة داعمة، حجة هاكينغ[19] I Hacking ووفقها أن كينونة ما لا نقوم إلا برصد آثارها، بل التي نستخدمها في تجربة ما، والتي يمكننا التحكم بها مباشرة أو بشكل غير مباشر، تكون لهذا السبب كينونة حقيقية[20]. كما يستخدم المثال الموافق للعصا التي تبدو منكسرة عندما نغمس جزءًا منها في الماء، ويتابع: "في تجربة العصا المكسورة فإن الكينونة «كسر» (الانعطاف أو الانكسار الحاد للعصا) يمكن التحكم فيه بشكل تام، أي أن نغير موضع انكسار العصا كما نريد. ويكفي من أجل ذلك رفع العصا قليلاً أو إنزالها قليلا في الماء[21]". مع ذلك، لا يدفعنا هذا الأمر كما يلاحظ دسبانيا إلى اعتبار كينونة "الكسر" كواقع حقيقي. فلا بد من إضافة الكثير من المعايير التجريبية الأخرى التي تكون متقاربة إذا أردنا الوصول إلى ذلك، وهذه المعايير هي تمامًا ما ينقص في حالة الكسر أو الشرخ. وبشكل مماثل (سوف نرى ذلك في الفصل الخامس)، فإن معايير تجريبية معينة تنقص في الفيزياء الكمومية لكي يمكن الإسناد إلى الذرات والجسيمات الأولية كما لو كانت كينونات منفصلة، وفردانية متميزة وذات سمات خاصة بها.

هل يفضي بالرغم من ذلك هذا النقد المجابه للواقعية الذرية والتعددية multitudiniste إلى نسبوية أنطولوجية، مثل نسبوية كوين Quine؟ وهل يمكننا القبول بأن أنطولوجية ما توافق ببساطة التجزئة إلى وحدات من المعنى التي يشتمل عليها إدراج الخطاب في إطار لساني معين؟ وهل علينا لهذا السبب اعتبار أنه يوجد عدد من الأنطولوجيات بقدر وجود عدد من الأطر اللسانية المستخدمة، مع حرية كاملة في اختيار الإطار اللساني؟ يجيب برنار دسبانيا على كافة هذه التساؤلات بإجابة نافية واضحة. إنه يعترف بالتأكيد لاستراتيجية كوين ببعض الميِّزات، مثل استراتيجية تقديم "[...] الشرط العقلاني، حيث كان كثيرون يعتقدون أنهم كانوا يقدمونه حتى ذلك الوقت، في نسب واقعية جوهرية، مستقلة عن الإطار اللساني، للكينونات موضوع البحث"[22]. ويقترح حتى ترجمة لمصطلحي كوين في الأنطولوجية والنسبوية الأنطولوجية في جدوله الخاص بالمصطلحات: والمصطلحان هما على الترتيب "الواقعية التجريبية" و"الموضوعية الضعيفة" (المقترنة بتعريف عملي للمفاهيم). مع ذلك، فإن مجرد استخدام مصطلح أنطولوجيا في هذا الإطار يبدو له أنه يولِّد التشويشات. لأن هذه الكلمة تعيدنا عادة كما يشير إلى مطلق ما.

فالمسألة كلها تكمن في معرفة إذا كنا نستطيع أن نتوجه، مع بعض حظوظ النجاح، نحو مثل هذا المطلق. إن إجابة دسبانيا على هذا التساؤل الأخير هي إجابة مدقِّقة، لكنها إيجابية بشكل أساسي. فتجزئة العالم إلى كينونات منفصلة يتعلق فعلاً بالإطار اللساني المختار، كما يسلِّم دسبانيا، ولكن من جهة أخرى "لا بد من وجود سبب، يمكن أو لا يمكن للمعرفة أن تصل إليه، يجعل من هذا الإطار اللساني «إطارًا يعمل» ومن إطار لساني آخر إطارًا لا يعمل". إن الوجود المفترض لمثل هذا السبب يعطي وزنًا "أنطولوجيا[23]" حقًا، وإن كان بشكل منحرف وغير مباشر، لهذا الجزء أو ذاك من الواقعية التجريبية بشكل وحدة (وحدات).

مع ذلك، علينا عند هذه المرحلة إعادة طرح السؤال البدئي، متسائلين إذا كان "السبب" الذي أورده دسبانيا يُحدُّ بجعل بعض الأطر اللسانية بسيطة وأنيقة وجعل أطر أخرى معقّدة ومنفرة، أو إذا كان يجبرنا على اختيار أحدها على حساب الأطر الأخرى. وهنا أيضًا، يتبدى أن الخيار لصالح تفنيدية faillibilisme قوية أو ضعيفة هو خيار حاسم. فإذا امتنعنا عن اتباع دسبانيا حول هذه النقطة وآثرنا اتباع تفنيدية ضعيفة، فإن لا شيء يمنع أن عدة مخططات أنطولوجية وأطر لسانية مقترنة بها تظل على خلاف في وضع علمي معطى، وفي هذه الحالة فإن المعايير التجريبية الإضافية وحدها، أو أيضًا "الموضِحة"، تسمح بالانتقاء بينها. ويمكن لشبكة القراءة الذرية بشكل خاص أن تستمر وتبقى، على الشكل المعدل بشكل عميق الذي اقترحه بوم Bohm، حتى وإن كانت تفرض قيودًا ولاتجانسات نظرية يراها بعض الباحثين محرَّمة. ويمكن لباحثين آخرين في الواقع، من مناصري النظرية التي قدَّمها بوم في عام 1952، تمني أن تدوم على الرغم من عيوبها، وعلى الرغم من السبب العلمي الحاسم الذي يصب في صالحها، باسم قيمة ميتا علمية. أما فيما يتعلق بالحفاظ على النظرية الذرية، فإن القيمة التي غالبًا ما يتم إيرادها (سوف نعود إلى ذلك بتفصيل أكبر في الفصل الخامس) هي قيمة الاستمرارية التاريخية في المفاهيم والكينونات. إن الصعوبة، التي يدركها برنار دسبانيا إدراكًا تامًا مهما كانت توجهاته الخاصة، هي أن تأكيد حقيقة إطار لساني / أنطولوجي يصبح ذا مصداقية أقل إذا كان انتخابه يتضمن قيمًا. فبدلاً بالأحرى من حقيقة ذات إطار مماثل، ألا يجب أن نتحدث هنا عن انتسابها العائد إلى سوية خلفية إبستمولوجية وثقافية ومعيارية، لا تشكل النظريات الفيزيائية وقاعدتها التجريبية سوى عنصر فيها بين عناصر أخرى؟

إن مساءلة المذهب الذري والخطابات العلمية بمصطلحات الموضوعية القوية، لها نتيجة أخرى فائقة الأهمية يعود إليها دسبانيا مرارًا وتكرارًا: ألا وهي حلُّ الأساس الفيزيائي نفسه الذي تستفيد منه الاختزالية réductionnisme الفيزيائية في الفيزيولوجيا العصبية. وتتمثل النسخة الأكثر كاريكاتورية لهذه الاختزالية في القول إن الوعي الإنساني قابل للإختزال إلى خصائص الذرات والجسيمات الدقيقة التي تشكل العصبونات الدماغية[24]. غير أن التمثيلات الآلية تقريبًا التي تتماشى مع هذه التوصيفات بمصطلحات الخصائص الذرية استمرت وبقيت. فإذا وضعنا جانبًا النظريات ذات المتغيرات الخفية، مع ما فيها من جانب مصطنع وتعسفي، فلا بد من الاعتراف أن مفهوم "الخاصية" نفسه قد تم استبداله بمفهوم الظاهرة الكلية المرتبط بالشروط الأداتية المتصلة بسوية وذكاء الكائن الإنساني. أما بالنسبة لمفهومي الذرة والجسيم، فهما يتصلان بإجراءات التحليل المكاني التي ترجعنا بشكل غير مباشر إلى إدراج الإنسان التجريبي ضمن مجموعة، وإلى الترجمة الذهنية والأداتية لهذا الإدراج ضمن جسم المجموعة. يجب أن نضيف إلى ذلك أن ناتج هذه العمليات في التحديد والتقطيع المكانيين لا يصبح واضحًا أو جليًا إلا بالنسبة إلى وعي (أو بالنسبة على الأقل لإطلاقنا اسم "الوعي" على الفعل المنعكس للتجلي أو الظهور). وبالنتيجة، فإن أحد المعاني يشير إلى أن الأشياء التي يُفترض أن تفسّر خصائصُها الوعيَ "[...] ليس لها هي نفسها وجود سوى الوجود المتعلق بالوعي[25]". ويخلص دسبانيا إلى أنه بعيدًا عن فرض "فكرة أن الفكر ليس سوى مجرد انبثاق من المادة[26]" كما يعتقد كثيرون من المشتغلين بالعلم اعتمادًا على رؤية مادية ينشرونها في كتب التبسيط العلمي، فإن مجلد المعارف العلمية الحالية يجعل من هذه الفكرة أمرًا يصعب الدفاع عنه ودعمه[27].

يمكن لصورة استخدمها ويتغنشتاين Wittgenstein ضد مفهوم الميتا رياضيات الإسهام في فهم أفضل لبعض عناصر النقد التي يوجهها دسبانيا للاختزالية العصبية الفيزيولوجية. فالميتا رياضيات كما يشرح ويتغنشتاين تستطيع أن تقدم أساسًا حقيقيًا للرياضيات بقدر (وبالدرجة نفسها من عدم تقديم) ما تقدم صخرة ملونة في لوحة إلى القصر الملوَّن[28]. فالصخرة الملونة قابلة في أفضل الأحوال لتوسعة المساحة الملونة للقصر الملون، ولا يمكن اعتبارها كأساس للقصر إلا بمعنى تصوُّري، داخل الصورة بشكل بحت. أو إذا أردنا فهي ليست أكثر من تمثيل لأساس ما، كما أن القصر الملون هو تمثيل لمسكن ما. وبشكل مماثل، فإن الميتا رياضيات يمكن أن توسِّع في أفضل الأحوال لعبة الإجراءات البرهانية التي ترتكز عليها الرياضيات، لكنها ليست قادرة بالتأكيد على تقديم أساس نهائي للرياضيات وهو أساس يجب أن يكون خارج الإطار الإجرائي. فالميتا رياضيات هي "حساب" مثل الرياضيات، وهي تظل بالتالي مأسورة في مستوي الرياضيات نفسه التي تريد أن تضع أساسًا له. لنعد الآن إلى مسألة الاختزالية العصبية الفيزيولوجية. فالزعم أن الدماغ، العصبونات والذرات التي تكوِّنها، تمثل كينونات توجد في المطلق سيكون أمرًا فيه مجازفة وتهور في منظور الدرس الإبستمولوجي الذي يدعونا دسبانيا إلى تعلمه من ظهور الفيزياء الكمومية. إن نقد "واقعية الحوادث" يقود إلى اعتبار أنها ليست سوى واحدات للمعنى وللمفاهيم تترجم نمطًا من مظاهر الحقيقي المتصل بإجراءات وعمليات استقصاء بيولوجية أو فيزيائية تستخدمها كائنات عاقلة وواعية. ينطبق ذلك أيضًا على المفاهيم العقلانية (المعتقدات، والنوايا، والمشاعر، إلخ.)، التي تترجم نمط تحديد لمظاهر الواقع الحقيقي المتصل أحيانًا بإجراءات تبادل "بين ذاتي"، وأحيانًا بمناهج استقصاء نفسانية تُستخدم من قبل كائنات عقلية وواعية واقعة في شبكة هذا التبادل. يمكننا بالتالي الانضمام في حالة التشدُّد الصارم إلى برنامج يهدف إلى اختزال المجموعة الثانية من المفاهيم إلى المجموعة الأولى، على الرغم من أننا نشك بأن هذا البرنامج يجازف بأن يدفع غاليًا جدًا ثمن جهله للسمة العلائقية (والمتصلة بسياقات منفصلة) بين المجموعتين الإثنتين من المفاهيم التي تم الوصل بينها. ولكن حتى مع افتراض مثل هذا البرنامج الممتلئ، علينا أن نفهم أن المفاهيم الفيزيائية والعصبية الفيزيولوجية لا تتوصل إلى تأسيس المفاهيم العقلانية إلا بالمعنى السطحي حيث تؤسس الصخرة الملونة القصر الملون. وبقدر ما تكون مجموعتا المفاهيم معرّفتين بالنسبة إلى إجراءات تحديد مستخدمة بواسطة كائنات عقلانية وواعية، فإن أيا منهما لا يمكنه أن يزعم أنه يؤسس أي شيء خارج هذا المخطط الوحيد للصحة النسبية. إن وعي الكائنات التي تستخدم الإجراءات والعمليات التي تُعرَّف نسبيًا إليها الكينونات العصبية الفيزيولوجية كما والكينونات العقلية يظل بشكل جذري خارج مدى محاولة الاختزال أو التأسيس. وسيكون من غير الحكمة محاولة اختزال الوعي إلى صيرورات دماغية، بقدر ما هو من غير الحكمة الأمل بأن نؤسس على رسم الصخرة الملونة القماش الذي عليه تم رسم تمثيل للصخرة وتمثيل للقصر.

3. 6 النظريات والواقع

فيما يتعلق بتصوره لحالة النظريات الفيزيائية، وللعلاقة التي تقيمها مع "الواقعية المستقلة"، فإن برنار دسبانيا يخلق لنفسه صفين رئيسيين من الخصوم. فمن جهة هناك الواقعيون البسطاء، الذين يفترضون أن النظرية الفيزيائية تمثل معرفة حقيقية للواقع الحقيقي، والذين يذهبون أحيانًا إلى حدِّ اعتبار أن الكينونات النظرية توافق حرفيًا كينونات من العالم كما هو. ومن جهة أخرى، هناك الأداتيون الذرائعيون، والتجريبيون (وخلفاؤهم العملياتيون القادرون على أن يأخذوا بعين الاعتبار تضمين إجراءات القياس في تشكيل الظاهرات)، الذين يتمسكون جميعًا بصرامة بنتيجة نجاح القواعد التنبؤية للفيزيائي في مجال تجريبي معين، دون الرغبة بتقديم تنازلات فيما يتعلق "بمستوى تحليل أكثر عمقًا" يذكرونه مع ذلك تلميحًا. إن الحجج التي يسوقها دسبانيا ضد الواقعية البسيطة، أو ضد إمكانية القيام باستخدام موسَّع للبيانات ذات "الموضوعية القوية" في الفيزياء الكمومية، أو ضدَّ "واقعية الحوادث"، سبق وعرضناها في الفقرات السابقة. وسوف نركز هنا على الحجج التي يسوقها ضد التجريبيين. إن اللوم الأساسي الذي يوجهه لهم هو التخلي عن كل شكل من أشكال التفسير في العلوم. يقول دسبانيا: "إن قاعدة في التنبؤ لا تفسر بالمعنى الدقيق للكلمة أي شيء على الإطلاق[29]". إضافة إلى ذلك، فإن السمة المناسبة للقاعدة التنبؤية تتطلب هي نفسها أن يتم تفسيرها، وإلا فإن سبب نجاح النظريات يُترك قابعًا في غموض مطبق. فمن أجل الوصول إلى هذا النمط الأخير من التفسير إنما يتوصل دسبانيا من جديد "[...] إلى الفكرة بأن لمفهوم السبب بعض الصحة حتى إلى ما وراء الظاهرات[30]". لأنه، كما يتساءل، كيف نأخذ بعين الاعتبار واقع أن مثل هذه البنية النظرية يسمح بالتنبؤ بالظاهرات، في حين أن بنى نظرية أخرى لا تتوصل إلى ذلك؟ "يبدو من غير المعقول أن يكون ثمة هنا أثر للصدفة. على العموم، يبدو بالأحرى أن فرضية أن تكون الواقعية المستقلة هي أصل هذا الخيار هي فرضية أكثر ترجيحًا"[31].

إن البديل المعلن على هذا النحو هو بديل تقليدي: وهو يشمل في المرحلة الأولى منه التلمُّس التجريبي للـ "وصفات التي تعمل"، وفي المرحلة الثانية على التفسير الواقعي للنظريات. مع ذلك، إذا كان دسبانيا يعزِّز بشكل لا لبس فيه الحالة الثانية، فإن نقده الذي تحركه واقعية مباشرة جدًا للكينونات النظرية لا يخلو من إضعاف لنطاق خياره. فجزء الإيزومورفية (التماثل) بين الواقعية المستقلة والنظريات الفيزيائية يُحدُّ على الأرجح وفقًا لدسبانيا ببعض البنى الشرعية والقانونية الكبيرة، ووحدها هذه الأخيرة هي التي "يتم تفسيرها" بالنتيجة وفق النمط الواقعي.

ألا يمكننا أن نتصور المضي حتى نهاية هذا الإضعاف، دون أن نُقلَّص بالضرورة إلى التعسُّف التجريبي؟ ألا يوجد إدراك ثالث للنظريات الفيزيائية، لا واقعي ولا تجريبي، فهم يشتمل على النظر إلى هذه النظريات على أنها أقل من انعكاس جزئي للواقع الحقيقي، إنما على أنها أكثر من مجرد وصفات؟ أليس من الممكن أن نقدِّم للنظريات الفيزيائية تبريرًا أقوى من إثبات الحالة التالية للتجربة لقابليتها في "إنقاذ الظاهرات"، دون أن نحدِّد مع ذلك هذا التبرير بدرجة لا على التعيين من الإيزومورفية بينها وبين الواقعية المستقلة؟ إن موقفًا وسطيًا من هذا النوع، يشتمل على المجاهرة بلاأدرية ميتافيزيائية كاملة مثل التجريبية إنما تتقاسم مع الواقعية الميل إلى اعتبار بنية النظريات على أنها فائقة الأهمية، ليس في خطوطه العريضة سوى الفلسفة الترانسندنتالية (التجاوزية). فعند كانط على سبيل المثال نجد أن جزءًا لا يستهان به من الهيكلة البنيوية للميكانيك النيوتني يُبرَّر بقابليته للتعبير، في الإطار الخاص لتطبيقه على مفهوم الجسم المادي، عن الشروط العامة لإمكانية التجربة[32]. لا ينظر كانط إلى قوانين نيوتن الثلاثة، أي قانون انحفاظ المادة، وقانون العطالة وقانون المساواة بين الفعل ورد الفعل، لا كوصفات تنبؤية ولا كوصف صادق للشيء بذاته. بل هي بالأحرى وفقًا له التعبير، القابل للتطبيق على المفهوم التجريبي للجسم المادي، لشروط إمكانية المعرفة الموضوعية الثلاثة ألا وهي "قياسات التجربة": فدوام الماهية يعبَّر عنه بانحفاظ المادة، ويعبر عن السببية بتناسب القوة والتسارع، في حين يعبر عن الوحدة بالمساواة بين الفعل ورد الفعل.

ولا يجهل برنار دسبانيا هذا الخيار، لكنه يعطي عدة أسباب تقوده إلى عدم الأخذ به (أو على الأقل للحد من أهميته). أما السبب الرئيسي فيستعيره من شيموني[33] A. Shimony. فشيموني يلاحظ، على إثر بوبر، أنه "[...] في فكر كانط، لا بد للتخلي عن كل زعم بمعرفة للشيء بذاته من أن يجد رأيًا مخالفًا قويًا في التأكيد أنه لا بدَّ لنا أن نتيح معه، فيما يتعلق بالظاهرات، معرفة أكيدة مؤسسة بشكل راسخ على قاعدة مفاهيمنا المسبقة"[34]. مع الأسف، كما يؤكد شيموني، فإن تحولات الرياضيات والفيزياء خلال القرن المنصرم جعلت من الأشكال الكانطية السابقة للتجربة سبقًا منطقيًا وحتى من الفكرة نفسها لمعرفة تأليفية سابقة للتجربة أمرًا لا يمكن الدفاع عنه مطلقًا.

إن هذه الفكرة للسمة التي أُهمِلت للتأليفية السابقة للتجربة في العلوم الحديثة هي فكرة مقبولة بسهولة، منذ النقد الذي قام به أينشتين للأشكال المسبقة للحدس الحسي (المكان والزمان)، وحتى النقد الذي قدّمه هايزنبرغ لصفوف معينة من الفهم (السببية والماهية)، إلى درجة أنه بالكاد يكون من المفيد التذكير بدوافعها. يعترف مفكرون ينتمون إلى الكانطية الجديدة من النصف الأول من القرن العشرين، مثل كاسيرر E. Cassirer أو هرمان[35] G. Hermann، بأن مهمَّتهم كانت التغلُّب على معتقد متجذِّر تمامًا لدى معاصريهم: وهو المعتقد بأن الفلسفة الترانسندانتالية (التجاوزية) كانت قد فقدت مصداقتيها بمواجهة علوم عصرهم. مع ذلك سرعان ما ظهر أن الوضع لم يكن محسومًا تمامًا ولا غير مناسب إلى هذه الدرجة بالنسبة للمقاربة التجاوزية كما أمكن الاعتقاد للوهلة الأولى. فمن جهة، كان مبدعو الميكانيك الكمومي، مثل هايزنبرغ وبور، يقبلون هم أنفسهم بأن الأشكال السابقة للتجربة لدى كانط ظلت تحتفظ بكامل ملاءمتها ضمن محيط التجربة اليومي؛ وبأن الافتراض المسبق للسمات المكانية - الزمانية، السببية والجوهرية، لهذه التجربة على مدى استخدام اللغة الشائعة كان ضروريًا للتعبير عن النتائج التجريبية التي ترتبها النظريات العلمية الجديدة[36]. من جهة أخرى، وكما يلاحظ بتيتو محقًا، فإنه من الممكن تمامًا إحياء وتجديد الفلسفة التجاوزية في الفيزياء الحديثة (بما في ذلك إلى ما وراء حيز التجربة اليومية والتدخلات التجريبية)، وذلك شرط أن نترك جانبًا الشكل العقلاني الخاص الذي كان قد أعطاها إياه كانط من خلال عقيدته في المقدرات، ولا نأخذ منها سوى الأساسي فقط. والحال أن الأساسي في المنهج التجاوزي يقود إلى إشكالية البنية الأساسية للموضوعية، وإلى استبدال المبادئ الوصفية لـ "ما هو كائن" بالمبادئ التوجيهية الصالحة للظاهرات.

إن مبدأ تحديث وإعادة تفعيل المنهج التجاوزي الذي أقترحه، مع عدد من المؤلفين الآخرين، يتلخص في العمق بحشد وتعبئة ما هو بديهي. فهو يستبعد المحافظة على الأشكال الكانطية المؤرخة تاريخيًا من التأليفية البديهية، واعتبارها كأشكال عالمية وثابتة. فهذا المبدأ يرتكز على العكس على أن يحل محلها ما يمكن تسميته بداهة وظيفية، أي مجموعة من الافتراضات المسبقة الأساسية المرتبطة بنمط النشاط الممارَس. فبما أن لكل نمط نشاط إطاره من الافتراضات المسبقة، فإنه يمكن أن يكون من اللازم التخلي عن بداهة وظيفية ما في حال حصول تعديل على هذا النشاط. وهكذا نفهم أننا نستطيع أن نتجاوز ولو بشكل جزئي على الأقل أشكالاً سابقة للتجربة أصيلة لكانط دون أن نتخلى مع ذلك عن الفلسفة التجاوزية. كانت هذه الأشكال الكانطية وثيقة الصلة مع الافتراضات المسبقة للمحاكمة والفعل في الوسط المباشر للإنسان. فليس ثمة ما يدهش في أن إعادة تعريف النشاطات التجريبية بهدف توسعة حقل استقصائها إلى ما وراء الوسط اليومي قد ترافقت بتعديل عميق لافتراضاتها المسبقة، وأن ذلك يفرض على الفيلسوف التجاوزي عملاً في إعادة صياغة البداهة الوظيفية التي ترتبط بها[37].

إن المقاربة البراغماتية - التجاوزية التي رسمناها لتونا لا تسمح بشكل واضح بموازنة الخسارة التي أشار لها شيموني: ألا وهي خسارة مشروع معرفة أكيدة، مرتكزة على صفوف مفترضة كصفوف غير متغيرة وثابتة للفكر. لكنها تتيح توقع إمكانية الوصول إلى هدف آخر لا يمكن تجاهل أهميته الإبستمولوجية بحال من الأحوال. وهذا الهدف هو الوصول إلى تبرير لبنية كل نظرية فيزيائية، ليس من خلال إدراجه في خطوط القوى لواقع مستقل مسبق التشكل، بل عبر قدرته، في قلب شكليته، على جمع المعايير التي تفترضها مسبقًا النشاطات التجريبية التي تأخذها بعين الاعتبار. إن الصعوبات والإضعافات الضرورية للمشروع الواقعي، التي بينها دسبانيا بشكل واضح، يتم تجنبها على هذا النحو، إنما دون أن نضطر مع ذلك إلى التعليق والتوقُّف التجريبي للمحاكمة في موضوع البنى النظرية[38]. وبالمثل، وكما أشرنا إلى ذلك في الفقرة 1 - 7، فإننا نلمح إمكانية فهم تاريخ العلوم الفيزيائية ليس كالتقاء مقارب نحو صورة واقعية مصمَّمة بشكل إحصائي، بل كتعميم تدرُّجي للمعايير التي تفترضها مسبقًا ديناميكية نشاطات البحث، وككشف عن هذه المعايير بواسطة التشكيلات النظرية المتأقلمة مع كل مرحلة من مراحل توسعها.

وبالطبع، فإن مراحل التشكل هذه للنشاطات التجريبية ولمعاييرها ليست اعتباطية أبدًا: فهي مشروطة بقابليتها لأن تؤسَّس ضمن أدوار من اللاتغيُّر العملياتي الأكثر فأكثر اتساعًا، أدوار تعمِّم اللحظة الناشئة من عملية الاستقرار والترسيخ الممثلة من خلال تأسيس الموضوعية في الوسط المحيط للكائن الحي الذي هو الإنسان. ببساطة، وفي مثل هذا المنظور، فإن انتظامات نتائج النشاطات التجريببية (أو "أدوار اللاتغير") لا يمكن اعتبارها كتعبير دقيق نسبيًا لشكل حقيقي معرّف جوهريًا وفيه تندرج هذه النشاطات، بل كمحصلة لصيرورة التعريف المشترك للنشاطات وللأشكال التي تطبَّق عليها. وبالتالي فإن الثوابت الكبرى بدلاً بالأحرى من أن تكون مجرد انعكاسات لمنطقة استقرارية مطلقة تنتمي إلى واقعية مشكَّلة مسبقًا، فإنها هنا مصممة مثل تكوينات ثابتة متعلقة بصف واسع جدًا من صيرورات إنتاج الظاهرات، وهي صيرورات قابلة للنسخ والتوالد[39].

إن قيمة الثوابت الكونية يمكن أن تعتبر هي نفسها على الأرجح، من خلال تطبيق التنوع الضعيف للمبدأ الإنساني، كشرط للانبثاق المشترك لكينونات بيولوجية، قابلة لممارسة نشاط إبستمولوجي (معرفي)، ولأجسام هذا النشاط. ووفقًا لهذه المقاربة، فإنه لا يبقى سوى عنصر لا يمكن الإمساك به أبدًا يُظهر السمة المنتهية للفكر وللنشاطات العملياتية: ألا وهو الحصول على مثل هذه النتيجة بدلاً بالأحرى من نتيجة أخرى من بين كافة النتائج الممكنة، وذلك خلال ظهور استثنائي للتجربة المنفَّذة. غير أن هذا العنصر الأخير هو من رتبة غير بنيوية ويفلت عمومًا من قدرة الفيزياء الكمومية على التوقع حيث لا تثبِّت هذه الفيزياء سوى الاحتمال. وفي النهاية، فإنه يُسمح بتصور حالة للإبستمولوجيا حيث يمكن تبرير كافة المركبات البنيوية والتنبؤية للنظرية الفيزيائية بواسطة حجة من نمط براغماتي - تجاوزي، وحيث وحدها مواجهته مع الانبثاق المنوط بكل نتيجة فردية تندرج ضمن ما لا يمكن تعيينه[40].

يعترف برنار دسبانيا بأهمية هذه العائلة من المقاربات، و "[...] يعتبرها كتحديد لطريق فلسفي جديد، طريق يستحق للغاية الاضطلاع به[41]". ومع ذلك، فهو يشك بإمكانية الوصول به بشكل متكامل إلى غايته. وترتكز أسباب هذا الشك، والتي أصبحت من الآن فصاعدًا مقبولة تمامًا، على التمييز بين النظرية الإطار والنظرية الفيزيائية الخاصة. ووفق دسبانيا، فإن النظريات الإطار وحدها قابلة ربما للتبرير وفق النمط التجاوزي، في حين أن النظريات الخاصة ليست كذلك. إن بنية النظريات الخاصة، المنمذجة بواسطة المقاومة التي يمانع بها "شيء ما" محاولاتنا لجعلها صحيحة أو إعطائها سببًا ما، لا يمكن أن تُفسَّر بالنتيجة إلا من خلال قدرتها على أن تعكس الواقعية المستقلة في خطوطها العريضة. يستمدُّ هذا التمييز بين النظرية الإطار والنظرية الخاصة ثقلاً لا يستهان به من خلال الإسناد إلى حالة الميكانيك الكلاسيكي. ففي الميكانيك الكلاسيكي، كان ميكانيك غليليو - نيوتن يستخدم كنظرية إطار في حين كانت نظرية الجاذبية نظرية خاصة. ولم يدِّع كانط نفسه في كتابه المبادئ الميتافيزيائية الأولى لعلوم الطبيعة أنه يقدم تبريرًا ترانسندانتاليًا (تجاوزيًا) لعبارة قانون الثقالة الكوني، إنما فقط لقوانين نيوتن الثلاثة. فهو لم يصل إلى قانون الجاذبية الكوني إلا في مرحلة ثانية، بأن دمج مع قوانين نيوتن العنصر التجريبي غير القابل للاختزال أو التبسيط ألا وهو قوانين كبلر. وبشكل مماثل، كما يشير دسبانيا، إذا افترضنا أننا قبلنا بأن الميكانيك الكمومي، بما هو النظرية الإطار للفيزياء الحديثة، قابل للتبرير من خلال متغيِّر محدَّث للمنهج التجاوزي، فإن حالة الفروع المختلفة (التي لم يتم توحيدها بشكل تام حتى اليوم) للنظرية الكمومية للحقول تظل غير محسومة إلى حد كبير. وتبدو فعلاً بعض مبادئ اللاتغير والتناظر الكبرى مثل شروط لإمكانية النشاط التجريبي، لكن ذلك لا ينطبق بالضرورة على كافة مبادئ التناظر التي تنتج عنها المقدرة التنبؤية للنظريات الخاصة. وبالإجمال، كما يشير دسبانيا، فإن التأكيد أنه من الممكن تبرير بنية مجمل النظريات الفيزيائية وفق النمط التجاوزي لا يمكن أن يستفيد أو يبنى إلا على حجج جزئية، وهو سيظل بالتالي يشكل تحديًا للمستقبل. تحدٍّ يراه دسبانيا محفوفًا بالمخاطر وهو ينأى بنفسه عن الاقتران به.

ماذا عن هذا الانتقاد المتوازن الذي يوجهه دسبانيا إلى محاولات تحديث المقاربة التجاوزية للنظريات الفيزيائية من خلال تعبئتها وجعلها أكثر تجذرًا؟

نرى بداية أن تمييزه، وثيق الصلة بالموضوع بين النظرية الإطار والنظريات الخاصة، تم أخذه بعين الاعتبار جيدًا من خلال المقاربة البراغماتية - التجاوزية: ففي هذا المنظور الأخير، تشتمل النظرية الإطار على المعايير المولِّدة المفترضة مسبقًا بواسطة مجمل النشاطات التجريبية المقبولة في حالة نموذجية معطاة، في حين أن النظريات الخاصة هي بنى تترجِم، من خلال استخدامها لتناظرات محلية مختلفة و / أو "داخلية"، الافتراضات المسبقة الأقوى المقترنة بمجموعات تحتية معينة من العمليات.

ونرى ثانيًا أنه محق تمامًا في الإشارة إلى أن إمكانية تبرير بنية كافة النظريات الفيزيائية، بما فيها النظريات الخاصة، وفق النمط التجاوزي، تظل عبارة عن مخمّنة إلى حدّ كبير. ولكن بعد كل شيء، فإن ذلك ليس أقل صحّة من الطرح الذي وفقه تلقي النظريات الفيزيائية إضاءات حول موضوع الواقعية المستقلة. ألا يستمر دسبانيا نفسه في تقديمها مثل "مخمّنة غير مقرَّرة"[42] على الرغم من الحجج الغاية في الدقة دائما والمقنعة غالبًا التي قدمها لصالحها؟ ومن جهة أخرى، أليست السمات النادرة (مثل الوحدة الكليانية) التي يعتقد أنه باستطاعته نسبها للواقعية المستقلة هي نفسها ناجمة عن لامتغير مندرج في النظرية الإطار، بالأحرى من كونها ناشئة عن نظرية خاصة لا على التعيين؟

في أرض العجائب من المشاريع المُحَرِّكة والملهمة والمُثُل الناظمة، فإن القرار لا يمكن أن يؤخذ بواسطة تجربة حاسمة، أو بواسطة برهان قطعي. إن معيار الخيار بين برامج التقصي الإبستمولوجية يرتكز بالأحرى على تقييم، هو بالضرورة تقييم غير دقيق، لخصوبتها على المدى الطويل، وعلى تقدير، موجّه حتمًا بواسطة نظام للقيم، لقابليتها على ربط حقول للفكر وللحياة كانت قد بقيت حتى اللحظة غير قابلة للاختراق كل باتجاه الآخر. يشتمل الشرط الوحيد الذي يفرض نفسه على كافة البرامج من هذا المستوى على الأخذ بعين الاعتبار لإسهام العلوم المعاصرة بشكل كامل وصارم. ومن وجهة النظر التعددية هذه، تكمن أهمية عمل وكتاب دسبانيا في قدرته على تقديم أحد البيانات المعاصرة النادرة جدًا للمثال الناظم الواقعي الذي اعتمد القياس الكامل لتضمينات الفيزياء الكمومية.

ترجمة: موسى الخوري

*** *** ***


 

horizontal rule

[1] هذا الفصل هو نسخة معدّلة عن مقدمتي لكتاب جماعي مخصص لفكر برنار دسبانيا: M. Bitbol & S. Laugier (eds.), Physique et réalité، المرجع السابق. وبما أن الاستشهادات من هذا المرجع كثيرة، فإننا سوف نشير إليه من الآن فصاعداً بالرمز المختصر PR. [الفصل الثالث من كتاب القرب المُعْمي من الواقع، ميشيل بيتبول، ترجمة موسى الخوري، معابر للنشر، دمشق، 2014].

[2] يتعلق الأمر بشكل خاص بالصعوبة الماثلة بما يعرف "و/أو" الذي يدخل في إشكالية القياس. قدم شرودنغر بيانًا طريفًا لهذه الصعوبة: "إن كافة النتائج التي يعلنها الفيزيائي تقريبًا تركز على احتمالية هذا الحدث أو ذاك أو ذاك الآخر، وذلك في العادة مع عدد كبير من الفروع البديلة. وتبدو له فكرة أنها ليست فروع أحد البدائل بل أنها كلها تحصل معًا في الوقت نفسه فكرة غريبة وشاذة". مع ذلك يشير شرودنغر إلى أن ما تترجمه صورية الميكانيك الكمومي المطبقة على سلسلة القياس بكاملها، هو بالضبط اقتران لحدود / مصطلحات على شكل تراكب خطي، وليس عبارة عن انفكاك أو انفصال. وهكذا فإنه يجد نفسه في موقف استنكار "[...] الإكراه في استبدال الأحداث المتزامنة، كما هي مشار إليها مباشرة في النظرية، بفرع بديل يفترَض أن النظرية تحدد احتماليات كل منها" (E. Schrodinger, The interprtation of quantum mechanics, edited and with introduction by M. Bitbol, Ox Bow Press, 1995, p. 19-20). إن مشكلة المرور من اقتران (و) مصطلحات التراكب الخطي للصورية الكمومية إلى انفصال (أو) النتائج التجريبية الفعالة يختفي إذا، كما هو الحال في النظريات ذات المتغيرات الخفية، كانت الصورية قابلة للتفسير أنطولوجيًا بعبارات انفصال للخصائص التي تمتلكها الأجسام.

[3] انظر نهاية المقطع 3-2.

[4] أدين بهذه المرجعية ذي الصلة إلى كريستيان شميتز Christiane Schmitz. وأشكرها هنا لغنى وفاعلية وكرم أفكارها.

[5] B. d'Espagnat, in PR, p. 331.

[6] يقدّم اللاهوت السلبي المقاربة apophatique منذ زمن طويل النموذج على هذا النوع من الإيقاف النشط للتمييز والمحاكمة العقلية. وهو يربطه بتأكيد لعدم قابلية تطبيق المبادئ المنطقية على المطلق، حيث "يتوافق الأضاد" (N. de Cues, La docte ignorance, P.U.F., 1930). بيّنت الجدلية البوذية "الدرب الوسطى" بالمقابل، قبل ويتغنشتاين بألف وثمانمائة سنة، كيف يمكننا أن نحاجج ضد كل طرح يميل إلى تمييز شيء ما في المطلق، دون أن نعيد أبداً هذه المحاججة إلى أطروحة مبادلة، ودون الوقوع في أي شكل من العدمية (J.L. Garfield, The fundamental wisdom of the middle way [traduction anglaise commentée des Stances du milieu de Nagarjuna], Oxford University Press, 1995).

[7] Damascius, Des premiers principes, Verdier, 1987; J. Combès, Etudes néoplatoniciennes, Jérôme Millon, 1989.

[8] المرجع السابق، ص. 156.  Damascius, Des premiers principes

[9] المرجع السابق، ص. 422. B. d'Espagnat, Le réel voilè

[10] في إطار الدراسات الفكرية والإبستمولوجية، يأتي مصطلح "التضمين"، و"التضمينية" للإشارة إلى الدمج بين الموضوع والذات، بين المراقِب والمراقَب، بين الموضوعية والذاتية، وللإشارة إلى أنه من المستحيل من المنظور الإبستمولوجي الفصل بين نتاج معرفي وشروط هذا النتاج المعرفي. (المترجم)

[11] على عكس اليوتوبيا، وهو مصطلح يشير إلى رؤية للعالم بحيث لا يوجد فيه شيء، فإن البانتوبيا هي طريقة في التفكير بالعالم بملء تنوعه بحيث نعطي لكل موضع فيه، ولكل كائن وكينونة، الأهمية التي يستحقها، مع انتقاله في شبكة واسعة من العلاقات الزمكانية، ومن الاعتراف المتبادل حيث يتجلى معناه كاملاً. (المترجم)

[12] B. d'Espagnat, in PR, p. 381.

[13] المرجع السابق، ص.39.

[14] المرجع السابق، ص. 42.

[15] في هذا الصدد، يعتب برنار دسبانيا على جان ماري ليفي لوبلون J.-M. Lévy-Leblond لعدم اقتراحه بأن تعديلات معجمية اصطناعية هي التي تجعل سمات مسيطرة للمعنى الشائع تستمر تحت غطاء من الجرأة: "التحدث عن كمّات بصيغة الجمع يعني تكريس التعددية multitudinisme".

[16] B. d'Espagnat, in PR, p. 68.

[17] المرجع السابق، ص. 51.

[18] راجع الفصل الخامس في هذا الكتاب.

[19] Hacking, Concevoir et expérimenter, Christian Bourgois, 1989.

[20] يمكننا هنا التفكير بعبارات شائعة عند الفيزيائيين مثل "إرسال إلكترونات واحدًا واحدًا"، أو أيضًا "تحريك ذرات"، أو "أسر ذرة في تجويف". إن هذه العبارات تعبِّر عن تصورات تجريبية تبرِّر، إنما فقط جزئيًا ووقتيًا، القيام بتمثيلات لأجسام مموضَعَة ومميَّزَة بشكل غامض.

[21] B. d'Espagnat, in PR, p. 368.

[22] المرجع السابق، ص. 91.

[23] مع الإشارة هذه المرة إلى ربط لفظة "أنطولوجيا" بمعنى الإطلاق.

[24] من أجل مناقشة أكثر دقة بكثير لهذه المسائل، راجع P. Engel, Philosophie et psychologie, Folio-Gallimard, 1996، وكذلك F. Varella, E. Thompson & E. Rosch, L'inscription corporelle de l'esprit, Seuil, 1993.

[25] B. d'Espagnat, in PR, p. 96 (note 9)؛ وراجع أيضاً PR ص. 99: "لا يجب السعي إلى «وضع نظرية» الوعي بتأسيسها على نظرية المادة".

[26] المرجع السابق، ص. 422.

[27] يمكن لبعضهم أن يأخذ على دسبانيا جهله لوجهة نظر علماء آخرين، مثل روجر بنروز (Roger Penrose, The emperor's new mind, Oxford university Press, 1989)، الذين يرتكزون أيضًا على الميكانيك الكمومي من أجل دعم وجهات نظر مختلفة بشكل مقبول حول "مشكلة العقل - الجسم". لكن نص دسبانيا يشتمل على إجابات ضمنية على طروحات بنروز. فبداية، يؤسس بنروز نظريته حول فيزيائية الفكر على تفسير واقعي مباشر ووصفي للكينونات النظرية للفيزياء الكمومية، والتي لا يتفق دسبانيا معها. إن الحجج ضد مثل هذا التفسير طُرحَت في كتاب الواقع المحجوب، وقد استخدمت كثيرًا في كتابنا هذا. بالمقابل، يعتبر بنروز أن السوية التي يجب وصف الأساس الفيزيائي للوعي عندها ليست على الأرجح سوية البنية العصبية، بل سوية بنية تحت خلوية حاملة لحالات كمومية متجانسة. المشكلة أنه يقبل بأن هذا الوصف يمكن أن يتطلب فعلاً اللجوء إلى فيزياء غير قابلة للحساب، مزاوجًا هكذا بين فكرة أن الوعي يُدرك بواسطة الفيزياء وبين التصحيحي الذي وفقه يظل الوعي بعيدًا عن صيرورة خوارزمية دقيقة. ألا يكافئ ذلك الاعتراف بشكل موارب بما يؤكده دسبانيا، أي عدم قابلية المعرفة الفعالة للواقع في كليته؟ وفي هذه الحالة، ألا يصبح التأكيد بأن لا شيء، بما في ذلك حتى الوعي، يفلت من مجال الفيزياء مجرّد شعار فارغ من النتائج؟

[28] L. Wittgenstein, Remarques sur les fondements des mathématiques, Gallimard, 1983, 7, p. 16; F. Schmitz, La philosophie des mathématiques de Wittgenstein, P.U.F., 1988.

[29] B. d'Espagnat, in PR, p. 103.

[30] المرجع السابق.

[31] المرجع السابق، ص. 78.

[32] E. Kant, Premiers principes métaphysiques de la science de la nature, Vrin, 1990; J. Vuillemin, Physique et métaphysique kantiennes, P.U.F., 1987.

[33] A. Shimony, Search for a naturalistic world view, I & II, Cambridge University Press, 1993.

[34] B. d'Espagnat, in PR, p. 103.

[35] E. Cassirer, Determinism and indeterminism in modern physics, Yale University Press, 1956؛

G. Hermann, Les fondements philosophiques de la mécanique quantique, trad. A. Schnell en collaboration avec L. Soler, introduction et postface par L. Soler, Vrin, 1996.

[36] انظر L. Soler, introduction à G. Hermann, Les fondements philosophiques de la mécanique quantique، المرجع السابق، ص. 46.

[37] نرى هكذا أن الفلسفة التجاوزية لا تستبعد تدرجية في البداهة. لكن لا تحَلّ كافة الصعوبات على هذا المستوى. فكيف نفهم في الإطار الحصري للفلسفة التجاوزية، دون ذكر حكم "واقعية مستقلة" مشكّلَة مسبقًا، أننا نستطيع أحيانًا أن نكون مضطرين عمليًا لإعادة تحديد نشاط تجريبي، وتعديل افتراضاته المسبقة، وبالنتيجة إلى إعادة صياغة بداهته الوظيفية المقترنة به؟ اقترحنا إجابات على هذه الأسئلة في المقطع 1-7.

[38] المرجع السابق M. Bitbol, Mécanique quantique, une introduction philosophique

[39] انظر المقطع 3-3.

[40] في إطار هذه المقاربة البراغماتية ـ التجاوزية، فإن الوساطة بين الظاهرة المفردة والبنية النظرية تتم عبر نشاط تجريبي مسمى. إن تغييراً في النظرية يترجِم بالضرورة إعادة توجيه للنشاط التجريبي وإعادة تعريف لمعاييره المفترضَة مسبقًا. ولكن كيف نتصور أن "شيئًا ما" يمكن أن يدفع المجتمع العلمي إلى إعادة تنظيم نشاطه والمعايير المرتبطة به، دون أن الاستناد بالرغم من ذلك على مفهوم واقع حقيقي مشكَّل مسبقاً؟ لنأخذ مثالاً على ذلك. إن إعادة توجيه الفيزياء التجريبية في بداية القرن العشرين، من نشاط تحريك لأجسام مموضَعَة مكانياً (الفيزياء الكلاسيكية) إلى نشاط أكثر عمومية لإنتاج ظاهرات سياقية (الفيزياء الكمومية)، يُفسَّر استعادياً كأثر للقيد الممارَس من خلال واقع القيمة غير المعدومة لثابتة بلانك. مع ذلك، فإن القيمة الخاصة لثابتة بلانك لا يجب أن تعتَبَر بالضرورة كـ "معطى" متأتٍ من واقع حقيقي يضعها قريباً جداً في المطلق. إن هذه القيمة يمكن أن يتم تصورها على أنها مرتبطة بموضعنا نحن في صيرورة التوالد المشترك التي نشارك فيها. تلك هي الفكرة التي يعبر عنها المبدأ الأنثروبولوجي الضعيف، والذي وفقه: "فإن قيم الثوابت الكونية تكون محددة بالشرط الذي وفقه نحن ممكنون كمتعضيات بيولوجية". وهكذا فإننا نرى كيف أن مقاربة تجاوزية عامة بدرجة كافية، متضمنة للمبدأ الأنثروبولوجي الضعيف كما وبالقدر نفسه مفهوم البداهة الوظيفية، يمكن أن تمثل ليس فقط البنية بل وأيضاً تطور النظريات الفيزيائية.

[41] B. d'Espagnat, in PR, p. 341.

[42] المرجع السابق، ص. 51؛ راجع أيضًا المقطع 3-2 في الفصل الحالي.

 

 

 

 

الصفحة الأولى
Front Page

 افتتاحية
Editorial

منقولات روحيّة
Spiritual Traditions

أسطورة
Mythology

قيم خالدة
Perennial Ethics

 إضاءات
Spotlights

 إبستمولوجيا
Epistemology

 طبابة بديلة
Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة
Deep Ecology

علم نفس الأعماق
Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة
Nonviolence & Resistance

 أدب
Literature

 كتب وقراءات
Books & Readings

 فنّ
Art

 مرصد
On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني