الثقافة من منظور أنثروبولوجي

 

معاذ قنبر

 

محوران أساسيان حاولت الإجابة عنهما في هذا البحث: الأول قوامه "أليس كل شعب ينعت بصفة حي ومستمر، هو شعب يملك ثقافة خاصة به، ثقافة ساعدت على استمرارية وجوده عبر تاريخه الطويل وجعلته متكيفًا مع ذاته، ومع الطبيعة من حوله، وهل يحق لنا أن ننعت شعبًا ما حي ومستمر، بأنه أقل قيمة أو أكثر بدائية واثقين من أن حكم كهذا، هو حكم حقيقي لا وهمي قائم على جهل لطبيعة ما هو مغاير لمفاهيمنا وإرثنا الثقافي؟ ومن جهة أخرى، هل استطاعت الأنثروبولوجيا كعلم إنساني محض، تجاوز تلك النظرة المتعالية أحادية الجانب إزاء الشعوب الأخرى، وهل نحن بحاجة إلى هذا العلم، وهل هو أمر ضروري لتفهُّم وتفاهم الشعوب؟

الإنسان مالك للثقافة:

من تعاريف النوع الإنساني، أنه حيوان ذو ثقافة، وهذه الثقافة تكتسب بالتعلم، وتتيح للإنسان أن يتلاءم مع بيئته الطبيعية والاجتماعية. إن الثقافة بالغة التنوع، تتجلى في نظم وأنماط مختلفة من التفكير. وتطور القدرة على التفاهم والسيطرة على الطبيعة، هو النمط الرئيسي للنوع الإنساني، فالثقافة تبدو هنا، أكثر من كونها مجرد ظاهرة بيولوجية، بل تغدو شاملة لكل عناصر صفات الإنسان البالغ، التي اكتسبها عن جماعته سواء بالتعلم الواعي، أو من خلال آليات لاواعية، أو بالتعلم الإشراطي، كالمهارات التقنية أو السلوكية المختلفة، التي عن طريقها يصوغ الفرد المواد التي يقدمها إليه العالم الطبيعي لكي تلبي احتياجاته، وبالتالي فإن عملية التكيف ليست مجرد تغيير ذاتي بيولوجي، غايته التلاؤم مع العالم المحيط، بقدر ما أصبح عملية موضوعية، تقوم بتغيير المحيط لصالح الذات، بحيث يغدو الإنسان هو الكائن الوحيد الذي لا يعيش في مجتمعه، بل إنه يقوم بإنتاج مجتمعه وفق أشكال عديدة لا حصر لها، وكأننا بصفتنا بشرًا احتجنا على مدى تاريخنا الطويل أن نغير المجتمع دائمًا، مثلما كنا بحاجة إلى أن نجعل استعداداتنا المشتركة أكثر ثراءً وتشابكًا وتنوعًا، وهذا ما يفسر اختلاف خصوصية ثقافة ما عن ثقافة أخرى بالدرجة لا بالنوع، على اعتبار أن انعكاس الثقافة الموضوعي وفعالية الذات، تقود إلى مفاهيم قد تبدو مختلفة تبع الخصوصيات الجغرافية التاريخية، التي تفرز بدورها مجموعة من النظم العقائدية الخاصة بكل جماعة.

إن الإنسان من حيث هو كذلك، يمثل قمة مراحل التطور المتمثل بارتفاع خاصية الذكاء ونوعيته، وما ينتج عن ذلك من ضروب التكيف السلوكي الاجتماعي، فالتغير، والخلق، وإعادة الخلق، والتفسير، وإعادة التفسير، تؤلف جميعها جزءًا من نسيج الخبرة اليومية البشرية، وهذا ما يطلق عليه اسم الثقافة، التي عبر عنها جودلير قائلاً:

إن الكائنات البشرية على نقيض الحيوانات الاجتماعية الأخرى، لا تقنع فقط بمجرد الحياة في علاقات، بل إنها تنتج تلك العلاقات لكي تعيش وتبتكر على مدى وجودها سبلاً جديدة للفعل والفكر، لتفكر وتعمل سواءً بالنسبة لبعضها البعض، أو بالنسبة للطبيعة المحيطة بها، ومن ثم فإن البشر يخلقون الحضارة ويصنعون التاريخ.

كذلك قال هكسلي في وصفه للإنسان:

إن اكتساب الإنسان آلية ثانية أسمى وأعلى من آلية الجينات من أجل ضمان استمراريته، هي آلية تقوم في القدرة على التفكير والتكلم بلغة رمزية مكنته من اجتياز حاجز البيولوجيا، ودخول ميادين الوجود النفسي الاجتماعي، وهي ميادين بكر لم يتطرق إليها من قبل.

وعليه، فقد تبع التطور البيولوجي الذي رافق الإنسان كنوع، تطور آخر ضمن النوع تمثل بالتطور النفسي، وهو تطور يعبِّر عن نظرة الإنسان للكون، بآليات تخضع لاعتبارات زمانية ومكانية مختلفة، وما ينجم عن ذلك من ثقافات مختلفة ومتمايزة ضمن النوع الإنساني. وهكذا إذا كان التطور البيولوجي عام وكلي يشمل أفراد النوع ككل ويخضع لظروف طبيعية آلية محضة تعبر عن منحى توافقي تكيفي لا دخل لوعي الإنسان أو لإرادته الذاتية فيه، فإن التطور بالمنظور النفسي، يعود إلى ردة فعل الوعي البشري المعبر عن نظرة معينة إلى موضوع خارجي مستقل ومختلف بين مكان وآخر. وهكذا تختلف النظرة الذاتية تبع اختلاف الظروف الموضوعية التي تحيط بها، وتتغير وتتطور تبع تأثيرها وتأثرها بالظرف الخارجي سواءً أكان جغرافيًا، أم مناخيًا، أم ديموغرافيًا، أم تاريخيًا.

وبما أن الظروف الخارجية تختلف فإن الخبرات المتراكمة سوف تختلف بين مجموعة بشرية وأخرى، بحيث يختلف جدول الأولي والكمالي بين ثقافة وأخرى، وهكذا نرى أن وحدة النوع لا تعني بالضرورة وحدة الثقافات، كما أن تنوع الثقافات لا تعني بالضرورة تميز نوعي لجماعة على أخرى، بل المسألة هي إلى أي حد هناك ظروف أكيفها أو أتكيف معها، وما ينتج عن ذلك من ثقافات تكيُّفية وأخرى تكييفية الأولى تكيف ذاتها تبع تصوراتها عن العالم، والثانية تكيف العالم تبع تصوراتها. والفعل التكييفي في كلتا الحالتين لا يغدو أن يكون موقف يقفه الإنسان كذات واعية تجاه عالم خارجي يحاول التعامل معه، وهو ينجح بشكل أو بآخر في كلتا الحالتين أيضًا.

وعلى ذلك نفهم ترسخ الجانب الأخلاقي النفسي الاجتماعي عند كل شعب، بحيث يغدو من الصعوبة بمكان أن نؤثر على هذا الإرث دون أن نفهمه ونعرف حقيقة بواعثه، ويعرض علينا هرسكوفيتز في كتابه أسس الأنثربيولوجيا الثقافية مجموعة من المفاهيم المتغيرة لدى الأفارقة المهاجرين والمتأثرين بالثقافة الأميركية الأوروبية، فيجد بأن نسبة التغير التي تكاد تصل إلى 100% في ميدان التكنولوجيا، و95% في ميدان الاقتصاد، تنخفض إلى 40% في ميدان الدين، و20% في ميدان الفولوكلور، و5% فقط في ميدان الموسيقى. وفي سياق متصل، نجد أنه وعلى الرغم من أن تعاليم المبشرين المسيحيين مارست تأثيرًا كبيرًا في إضعاف فكرة الإيمان بالآلهة القديمة وقواها السحرية، فإن تعاليم الدين المسيحي لم تلق قبولاً إلا مع ما يتناسب مع النظرة الفلسفية التقليدية لشعوب تلك المناطق، فلم تؤدي مثلاً جهود المبشرين المسيحيين بخصوص هداية الهنود الحمر في أميركا، إلا في خلق ديانة مختلطة هندية – مسيحية، فأثناء الأسبوع المقدس، يقدم مشهد تمثيلي يعرض آلام المسيح، ولكن في هذا المشهد ليس المسيح من يعَبر عنه بل (يوداس) أحد الآهة الهندية، وفي أميركة الجنوبية تقوم معظم الكنائس في الأمكنة التي كانت تقوم بها المعابد سابقًا، فعلى البوابة الرئيسية لكنيسة لاباز في بوليفيا، لم ينتبه أحد فيما يبدو إلى وجود تمثال منحوت لأحد آلهة الهنود القديمة. وهكذا نجد أن المسيحية وفق الخصوصيات الثقافية ليست واحدة، بل تتمازج كمعتقد، مع مجموعة من القيم والمعتقدات المحلية الخاصة بكل جماعة. وقل مثل ذلك في الأديان الأخرى التي تعبر عن فوارق ذات دلالة بين بلد منشأها، والبلد الذي انتشرت فيه بتأثيرات خارجية، وإن دل ذلك على شيء، فهو يدل على صعوبة إدخال آليات حديثة على أعراف قديمة، لكون تلك الأعراف أكثر ارتباطًا بالإرث الاجتماعي النفسي، وهذا ما يجعلها أكثر ثباتًا ورسوخًا في وجه التغيير. كما يجب أن نأخذ بعين الاعتبار آليات التغيير الداخلية، قبل النظر للتغيير من الخارج، كون كل جماعة حاملة لإرث ثقافي معين هي ليست مجرد تكرار لنسخة سابقة، بل إن ما يبدو تقليديًا في ظاهره، إنما نفعله في إطار ظروف جديدة، ومن ثم فنحن في واقع الأمر نعيد خلق التقليد إن صح التعبير. وهكذا فإن ما يؤَسس بالمعنى العام هو العلاقات الثابتة في قلب المجتمع، هذه العلاقات التي هي من صنع الإنسان نفسه. فالثقافة إذن هي معادل لعلاقة ذات-موضوع، سواء أكان هذا الموضوع هو ذات أخرى، أو ظاهرة طبيعية خارجية، بحيث تغدو الثقافة مجموعة علاقات تبادلية قوامها فهم الموضوع وتعزيز استقلال الذات. ويمكن اعتبارها بمثابة كسر لاحتكارية الغريزة، على اعتبار أنها تقوم على الاستقلالية والتنوع في الفهم والاكتساب، وهذا دفع بعض الباحثين إلى القول أن الثقافة بصفتها تلك، هي أكثر من الإنسان "على اعتبار أن فرد ما لا يستطيع الإحاطة بثقافة مجتمعه بكل دقائقها، رغم تأثيرها المباشر أو غير المباشر عليه"، لتمثل الفقرة الثالثة من السلسلة التصاعدية "اللاعضوي–العضوي–المافوق عضوي" التي كان سبنسر أول من نادى بها، ليأتي بعده كروبر، ويستعمل كلمة ما فوق العضوي، معبرًا على أن الثقافة ظاهرة تختلف عن الطبيعة البيولوجية رغم ارتباطها بها، ومن الواجب اعتبارها شيئًا قائمًا بذاته.

وإذا قلنا في أوضح تعريف سيكولوجي للثقافة بأنها ذلك الجزء المكتسب بالتعلم عبر الأجيال، فإننا نفهم أن الناس يتعلمون اليوم ثقافاتهم بأسلوب عميق وفعَّال، ونحن نستعمل كلمة تربية للدلالة على التعلم المباشر، رغم أن معظم أشكال الثقافة الاجتماعية لدى الأفراد، تتم بطريق الاعتياد أو التقليد، وقد يكون من الأفضل تسميتها بالتشريط اللاشعوري، الذي قد يختلف ويتغير مع تغير الظروف التي تفرض إعادة التلاؤم والائتلاف من جديد، وتقدم اللغة أمثلة متنوعة لا حصر لها عن التشريط الدقيق من الكلام (كاختلاف اللهجات في سورية على سبيل المثال) بالإضافة لأمثلة أخرى تتعلق بعادات السير، وطرق الجلوس، وغير ذلك من الأمثلة التي توضح كيف أن المجتمع يقوم بدوره في عملية التثقيف العامة التي لا تكون ذات معنى إلا لدى المؤمنين بها، ومن هنا كانت الحجة الرئيسية للذين يقولون أن الثقافة هي مجموعة العقائد والعادات والآراء لدى شعب، أكثر من كونها سببًا قائمًا بذاته.

وللمجتمع إذن آلية تثقيفية تفعل فعلها على أعضاءه، والتثقيف يدخل حتى على آلية التقليد بحيث لا تغدو العملية مجرد عملية آلية وراثية يقف المتلقي سلبي اتجاهها، بل تغدو عملية تتضمن نظرة معينة للموضوع، وهي بصفتها تلك، تحمل عنصرًا معرفيًا مفهوميًا تراكميًا، إنها نظرة تعيد صياغة الواقع، وكأننا بصفتنا نوعًا حاملاً للثقافة، امتلكنا بذور تغيرنا المستمر على نحو ما يؤكده المبدأ الأنثروبولوجي القائل بالتغير الدائم والمستمر الذي يشمل كافة المجتمعات والثقافات البشرية حتى أكثرها بساطة. وهذا ما يجعل الثقافة من حيث هي كذلك تتمتَّع بالخصائص التالية:

1.    تمايزها واستقلالها عن الأفراد الذين يحملونها: فهي مجموعة مفاهيم مكتسبة يكتسبها الإنسان بالتعلم من خلال المجتمع الذي يحملها، وبالتالي فالثقافة لا تتصل بكل ما هو غريزي أو فطري أو بيولوجي، بل إنها حصيلة العمل والاختراع والابتكار الجماعي العام، ووجودها غير مرتبط بوجود الأفراد، رغم أن هذا لا يعني أن الأفراد يقفون موقفًا سلبيًا اتجاهها، ذلك أنهم يحكمون على الظواهر الثقافية السائدة في مجتمعهم بأنها سيئة أو طيبة في ضوء نسق القيم السائد من جهة، ودور التحصيل العام من جهة أخرى.

2.    الاستمرارية: فالثقافة تتصف بطابعها الاستمراري من جيل إلى آخر، بحيث تظل محتفظة بكيانها لعدة أجيال، ممثلة بعادات، وطقوس، وأعراف، ومفاهيم معينة، قد تبقى مستمرة على الرغم من انتهاء السبب الذي أدى لوجودها.

3.    التعقيد: إن الثقافة تشتمل على عدد كبير جدًا من السمات والملامح والعناصر التي حاولت بعض التعريفات أن تذكر جانبًا منها، ويرجع ذلك التعقيد إلى تراكم التراث الاجتماعي خلال عصور طويلة من الزمن، مضاف إليها استعارة الكثير من السمات الثقافية الخارجية، ويترتب على ذلك أن الفرد لا يستطيع أن يكتسب كل عناصر ثقافته السائدة في مجتمعه، كما أن عالم الأنثروبولوجيا لن يستطيع أن يسجل كل مظاهر وسمات ثقافة معينة مهما بلغت من البساطة.

ومن جهة أخرى، يتفق علماء الأنثروبولوجيا الثقافية حول عدد من النقاط تخص الثقافة:

1.    ارتباط الثقافة بجماعة معينة، وارتباطها بالإطار الكلي للسلوك.

2.    تشابك جوانب الثقافة في كل مجتمع على حدة.

3.    إن الثقافات تتعرض للتغير الدائم نتيجة لعمليات الاتصال بين الجماعات المختلفة، ومن ثم استعارة الوسائل التكنولوجية المختلفة.

4.    إن كل ثقافة تعتبر مجموعة من الرموز، والرموز هي أكثر من مجرد الأشياء أو الأفعال التي يستجيب لها الناس، إنها بمثابة الروابط التي تربط الناس بعضهم ببعض.

بذلك تمثل الثقافة إرثًا عامًا للجنس البشري، وكما أكد ول ديورانت: فإن المدينة لا تتوقف على جنس دون آخر، فإنها قد تظهر في هذه القارة أو تلك، وعن هذا اللون أو ذاك، فالمدينة ليست شيئًا مجبولاً في فطرة الإنسان، ولا هي بشيء يستعصي على الفناء، إنما هي شيء لا بد أن يكتسبه كل جيل من الأجيال اكتسابًا جديدًا، وإذا ما حدث اضطراب في أعماق هذا الاكتساب فإن ذلك سوف يؤدي بدوره إلى الحد من استمراريتها وبالتالي إلى فنائها.

وهكذا نرى أن الاختلاف الثقافي بين الجماعات المختلفة، هو اختلاف تحكمه الخبرة الخاصة لكل جماعة تملك رؤية معينة عن وضع معين تتواجد فيه. ومن الناحية البيولوجية لنشوء السلالات، لا يوجد دليل يثبت تفوق أحدهما على الآخر، بل جميع السلالات استطاعت الاستمرار مكيفة المحيط الخارجي لمصلحتها، هذا مع التأكيد على أن جميع أفراد النوع البشري قد انحدروا من أصل واحد، وأنه من باب الاحتمال أن أسلافنا الذين عاشوا في الجزء العلوي من العصر الحجري القديم، كانوا خاضعين إلى حدٍّ ما في تلاؤمهم الإحيائي، مع ظروف بيئتهم الطبيعية المحيطة بهم عن طريق الانتخاب الطبيعي، الذي كان ينظم عملية التلاؤم، وعندما بدؤوا بالانتشار بعيدًا عن أماكن تواجدهم الأول (ولعل ذلك مردَّه تزايد الضغط الديمغرافي) على شكل تحركات إلى مناطق جديدة، كالشمال الآسيوي والأوروبي، وغرب أوروبا، ثم إلى الشمال الأميركي وأستراليا، أدى هذا الاتساع الديمغرافي في المناطق الجغرافية المتباعدة، إلى تكون صفات سلالية جديدة محلية وفق ظروف كل منطقة، وهكذا ظهرت المجموعات السلالية الرئيسية، ممثلة أولاً بالمجموعة السلالية الإفريقية الزنجية القديمة، التي تكونت بادئ الأمر في إفريقيا وجنوب آسيا في ظروف مناخية قوامها الحرارة والرطوبة ونور الشمس الساطع طيلة أيام السنة، بحيث نتج عن ذلك سواد البشرة الداكن الذي يرتبط بالماهية الكيميائية للأشعة الشمسية القصيرة الموجة بشكل خاص، إلى جانب الشعر الأسود المفلفل ذي الملمس الصوفي الذي يعطي الإنسان الزنجي القدرة على العمل وهو حاسر الرأس دون أن يتضرر، كون الشعر المفلفل ناقل رديء للحرارة، بالإضافة لشكل الأنف العريض من أجل استنشاق أكبر قدر من الهواء ليحصل الجسم على الكمية اللازمة من الأوكسجين.

أما المجموعة السلالية الأوروبية القفقاسية، فقد نشأت في المناطق الجغرافية المعتدلة القائمة على حوض المتوسط إلى جانب جنوب أوروبا وغرب آسيا، ومنها أخذت هذه السلالة بالانتشار إلى الشمال والشمال الغربي من أوروبا، بعد أن أخذ العصر الجليدي بالتراجع في الفترة التي تتراوح بين 10 – 16 ألف عام، ومن أوجه التلاؤم بين عضوية هذه السلالة وبيئاتها المختلفة، نجد التفاوت في نسبة القتامين في البشرة والشعر وقزحية العين، فكلما كان الشعاع الشمسي أقل سطوعًا، كلما كانت مادة القتامين في خلايا أعضاء الجسم أقل، بحيث تميل البشرة إلى البياض والشعر إلى اللون الأشقر والعيون ملونة كما هو الحال في الشمال الأوروبي، أما في الجنوب فنجد أن أشعة الشمس أقوى وأطول خلال أيام السنة فنجد البشرة السمراء والشعر الأسود والعيون السوداء أو العسلية كما هو الحال في حوض المتوسط.

وإذا انتقلنا إلى المجموعة السلالية المغولية نجدها وقد نشأت في السهوب وأنصاف الصحاري الآسيوية، حيث ساد هناك في نهاية العصر الجليدي مناخ قاري بارد وجاف مصحوبًا بفروق حرارية يومية وفصلية كبيرة، مع هبوب رياح قوية محملة بذرات تربة اللوتس الناعمة التي تكون عادة محملة حصيات صغيرة مما لا يساعد على الرؤية، وقد أوضح الأنثروبولوجيون بأن العيون الموزية الشكل ذات الفتحة الضيقة والجفون العلوية المسدولة ذات الزاوية الحادة على الجانب الإنسي للعين، ما هي إلا التلاؤم والتكيف لجهاز البصر مع الظروف الطبيعية وسط آسيا آنذاك. أما سكان استراليا الأصليين، فيرجح أنهم قدموا إلى تلك المنطقة في نهاية الباليوليت وبداية العصر الحجري المتوسط وذلك عبر إندونيسية، والصفات المغولية واضحة على ملامحهم، ويبدو أنهم كانوا من تلك السلالة المتواجدة في جنوب شرق آسيا ومع التداخل مع المناخ الاستوائي هناك (في استراليا) حصل في منطقتهم الجديدة تغييرات طفيفة في مظهرهم السلالي. كذلك نجد عند جماعات قبائل البوشمن في الصحراء الكبرى في إفريقيا، ملامح تدل على أصول مغولية (وجوه أفرادها كشكل الجفن العلوي المسدول والزاوية الحادة للجانب الإنسي للعين) حيث يبدو أن أجداد البوشمن هم آسيويون قدموا إلى إفريقيا بعد خروج أجدادهم منها، أما بشرتهم السوداء وشعرهم المفلفل الصوفي وغلاظة شفاههم، ما هي إلا نتيجة تلاؤم وتكيف لمظهرهم الخارجي مع ظروف بيئتهم المناخية الجديدة. والأمر نفسه نجده عند سكان أميركا الأصليين، الذين قدموا إلى القارة منذ نحو 30 ألف عام من شمال شرق آسيا عبر مضيق بهرنج، الذي كان بريًا آنذاك بعد أن تأصلت فيهم الصفات المغولية، (دراسات حديثة تقول أنهم ربما وصلوا إلى أميركا بعد تراجع العصر الجليدي الأخير منذ حوالي 13 ألف عام)، مع حدوث تغييرات على من عاش منهم في المناطق الاستوائية من القارة بحيث أخذ مظهرهم الطابع المغولي الزنجي.

وهكذا يمكن تقسيم النوع البشري حسب المظهر الخارجي إلى ثلاث مجموعات سلالية كبرى، يندرج تحتها مجموعات أخرى أصغر، ولكل سلالة مميزاتها الحضارية والثقافية المتعلقة بشكل أساسي بالتكوين النفسي الخاص وآلية تطوره، وقد قام توينبي بعرض ميزان إحصائي لقياس مساهمات الأجناس المختلفة في الحضارة مقسمًا السلالة البيضاء إلى ثلاث فصائل هي النوردية، والألبية، والمتوسطية، وإذا ما أخذنا بهذا التقسيم على علاته، وأحصينا الحضارات التي قامت وأسهمت فيها تلك الفصائل، نجد أن النورديون أي الشماليون (الجرمان والساكسون)، قد أسهموا في أربع حضارات أو خمس هي: الهندية، والإغريقية، والغربية، والروسية المسيحية الأرثوذكسية، وربما الحيثية. أما الألبيون فقد ساهموا في سبع حضارات وربما تسع هي: السومرية، والحيثية، والإغريقية، والغربية، والروسية، والإيرانية، وربما المصرية والميناوية. أما المتوسطيون، فقد ساهموا في عشر هي: المصرية، والسومرية البابلية، والميناوية، والسريانية، والإغريقية والهيلينية، والغربية، والمسيحية الأرثوذكسية، والإيرانية، والعربية الإسلامية. أما السلالية السمراء فتشمل الدراويدي الهندي، وأهل الملايو، فقد ساهموا في الحضارة الهندية، والهندوكية. والسلالة المغولية الصفراء، قد ساهمت في الحضارة الصينية واليابانية، هذا دون أن ننسى حضارة الهنود الحمر الخاصة والمتأخرة التي أغفلها توينبي في تقسيماته.

وإذا كنا نريد أن نخرج بشيء إيجابي من ذلك الإحصاء، لعرفنا بأن نصف حضاراتنا قامت بمشاركة أكثر من سلالة واحدة، بحيث لا يوجد جنس مفرد قام لوحدة بصنع الحضارة كاملةً.

نسبية الثقافة

عرفنا أن الثقافة تمثل طريقة شعب في الحياة، بكل ما تتضمنه حياة هذا الشعب من تفاصيل تتصل بالطعام والشراب، والسكن، والأساس، والفرش، والقصص، والأمثال، والحكم، وتنظيم الأسرة، وعلاقة الأفراد بعضهم ببعض أو بالمجموع، وعلاقة الجماعة بالفرد متمثلة في نظام اجتماعي وتكوين فكري خاص. كما تتضمن نظرة شاملة تعبر عن علاقة الفرد بالطبيعة، من خلال جملة معتقدات معينة وطقوس مرافقة تدعي كل جماعة أنها تملكها بالشكل الأتم والأكمل. وفي هذا السياق كتبت بنديكت قائلة:

في الثقافة، يتعين علينا أن نتخيل قوسًا أعظم اصطفت عليه المهام المحتملة الناجمة سواءً عن دورة العمر البشرية، أو عن البيئة، أو الأنشطة المختلفة للإنسان، إن كل مجتمع بشري أيًا كان موقعة، قام بعملية انتقاء بين مؤسساته الثقافية، وإن كل مجتمع يبدو من وجهة نظر مجتمع غيره أنه يغفل أمورًا أساسية، ويستثمر أشياء لاعقلانية، فثمة ثقافة تكاد لا تقر بالقيم النقدية، في حين اتخذتها ثقافة أخرى أساسًا لها في كل مجال من مجالات السلوك، وثمة مجتمع يتجاهل التكنولوجيا على نحو لا يصدقه عقل، بينما مجتمع آخر يناظره بالبساطة زاخر بالإنجازات التكنولوجية التي تبدو معقدة وتلائم مقتضى الحال على نحو محكم يثير الإعجاب.

وعلى ذلك، فإن كل مجتمع يخضع في نشوئه وتطوره لآليات صيرورته الخاصة. والتعقيد الاجتماعي العام المتزايد باطراد في تطور الإنسان العاقل، لا بد وأنه حدث كعملية تدرجية، فقد نسجت الجماعات تجمعاتها الخاصة على مهل وأكملتها بعلاقاتها مع الجماعات الأخرى، وعدلتها بتأثير مظاهر التعقيد في الأنواع الأخرى، علاوة على الوضع الطبيعي الذي عاشت فيه، ومع أنه ليس من الواضح المدى الذي استمرت فيه العملية التطورية لزيادة الروح الاجتماعية، إلا أنه ومع استمرار العملية تلك، فإن كل زيادة في الروح الاجتماعية، ستقابلها زيادة أكبر في تعقيد الحياة الجمعية. ومن هنا يجب علينا عندما نطلق أحكامنا على مجتمع أو مجموعة من المجتمعات، أن نأخذ بعين الاعتبار الجانب الموضوعي في أحكامنا، والحذر من التعميمات السطحية التي لا تأخذ بعين الاعتبار أهمية هذا الجانب، ومن تلك المفاهيم التي تشوه الوعي الاجتماعي، يمكننا أن نأخذ مفهوم أصبح منتشرًا في الأدبيات الكلاسيكية والحديثة على حد سواء، وهو مفهوم (الشرق الروحاني والغرب المادي) إن قراءة هكذا مفهوم تتيح لنا وبشكل عام أن نحدد الأسس التي بمقتضاها تحددت النظرة الروحانية في الشرق والمادية في الغرب، وهذا لا يكون إلا إذا وضع ضمن إطاره التاريخي الجغرافي والديمغرافي، فإذا عرفنا أن ازدياد الراحة والرفاهية تساعد على نشوء مجموعة من المفاهيم التأملية النظرية والطقسية العملية التي تساعد على تصريف طاقة غير مصروفة بشكلها الكلي، وهذا ما كان متوفر في آسيا بشكل عام حيث المساحات الشاسعة والترب النهرية الخصبة التي تفوق عدد السكان بأضعاف، وبالتالي فلم يشعر إنسان تلك المناطق بالمزاحمة المباشرة على موارد الطبيعة، فتحول من المادي إلى ما فوق المادي، معلنًا انتصار الميتافيزيقي على الفيزيقي. أما في الغرب أي أوروبا فلأمر مختلف، فالطبيعة قاسية والعدد السكاني أكبر من الموارد، وهكذا وضع يقود إلى ازدياد الشعور الدائم بالمزاحمة والتفكير العملي الذي يساعد على الاستمرار، وبالتالي تميز الفكر بالطابع العملي الإنجازي أكثر من الطابع الروحاني الماوراء مادي.

وتنبغي الإشارة هنا، إلى أن عملية التلاقح الحضاري لا تكون دائمًا من الأكثر تحضرًا إلى الأقل تحضرًا، فقد تأخذ الدول المنتصرة والأكثر تقدمًا الكثير من عادات وممارسات المجتمعات الأقل تقدمًا، فالغزو الحضاري لم يكن يومًا وحيد الاتجاه، وهذا ما يحصل ويحصل منذ القدم، ويحدثنا هيروديت بأن الفرس الذين كانوا يرون أنفسهم سادة الحضارة، أخذوا عن الميديين ملابسهم وأزياءهم، وعن اليونان الكثير من الرذائل المتعلقة بالجنس. كما يحدثنا عن أن بحارة الإغريق الذين يرون أنفسهم سادة البحار، أخذوا عن أهل الشواطئ عوائد وممارسات لا تناسب مستواهم. ويقول توينبي:

أما نحن (ويقصد الأوروبيين) فقد أخذنا عن الهنود الحمر الذين أبدنا معظمهم تدخين التبغ، كما أخذنا عن الشرق شرب القهوة والشاي ولعبة البولو، وعن الصين لبس البيجامات، وعن تركيا حمامات البخار، وعن إفريقية التي استعبدناها موسيقى الجاز.

ومع ذلك فإن التلاقح الحضاري المذكور، لا يعني تشابه المكتسبات الواحدة عند ثقافتين، بمعنى أن الاختلاف يبقى موجودًا وإن كان بشكل طفيف في التعامل مع نفس المادة الثقافية بين الشعب المصدر والآخر المتلقي لهذه المادة الثقافية، وهذا يعود بدوره إلى التمايز النفسي بين الشعوب حاملة الثقافة، والذي يؤدي إلى الاختلاف في مناحي العناصر التغيرية وكيفية تفعيلها في الوظيفة الاجتماعية الكلية، بحيث نرى أن بعض الشعوب المحلية قد نقلت عناصر ثقافة معينة عن الشعوب الأخرى، ولكن دون أن تعي الغاية الحقيقية منها، كونها لا تدخل ضمن السستام الاجتماعي أو الدور الوظيفي لهذا المجتمع، ففي إفريقيا مثلاً جُعِل من (الدبوس المشبك)، زينة تعلق في الأذن، كما ظهرت لوحة أرقام الساعة الأوروبية كزينة زخرفية في فن العديد من الشعوب المحلية، (والعكس صحيح عندنا فنحن كثيرًا ما نرغب باقتناء تماثيل ورسومات معينة  للزينة، في الوقت الذي تعبر فيه هذه الأشياء عن معتقدات شديدة القدسية لدى ثقافات لا تخصنا)، وهذا يدل على ضرورة أخذ خصوصية الآخر بعين الاعتبار، تلك الضرورة التي غابت عن مفكري غالبية باحثي القرنين الثامن والتاسع عشر، الذين انساقوا وراء تعصب عرقي أحادي النظرة، بحيث اعترى أغلب أبحاثهم تعميم سريع دون البحث المعمق عن الأسس الكامنة وراء النتائج التي استخلصوها، وعلى سبيل المثال نجد الأمير الألماني لودفيغ هيرمان فون بوكلير الذي حاول دراسة مجتمع تونس والجزائر دراسة ميدانية متأثرًا بآراء أسلافه، فيصف أبناء ذلك المجتمع وعلى اختلاف مشاربهم، بأنهم "يتحلون أكثر منا (يقصد الأوروبيين) في مظهرهم وسلوكهم بهيبة الإنسان الفطرية ويفوقوننا من حيث السجايا البدائية، ولكنهم لظروف معينة! ظلُّوا جاثمين عند أول درجة في سلم الحضارة، كذلك بالنسبة لغرائزهم الطبيعية التي لا يتورعون عن إشباعها بفظاظة بل قل بوحشية رغم رقة شمائلهم... ثم يضيف بأنه لم تعد لهم أي صلة بمسلمي إسبانيا! بل أصبحوا جنسًا منتكسًا قاصرًا عن تحقيق أي نوع من النهضة أو عن بعث أي ضرب من ضروب الحضارة، ولا سبيل للحضارة إليهم إلا إذا أخضعوا لهيمنة المسيحيين".

وعلى الرغم من أن الليبرالية في أوربا كانت بداية عهد جديد نظر من خلاله الأوروبي إلى العالم خارج حدود قارته نظرة أكثر موضوعية، فإن النظرة المتعالية ظلت واضحة في ثنايا كتَّاب تلك الفترة، وعلى سبيل المثال نجد جون لوك، وهو أحد أقطاب الليبرالية الحديثة، يتحدث عن الهنود في أميركا، بأنهم يفتقرون إلى أهم مقومات الدولة فهم كسالى انفعاليون، وغير منضبطون، وبريُّون، وعنيفون، كما أنهم يطوفون الأرض بحرية ولا يسيِّجونها، ويفتقرون إلى مؤسسات، ولا تجد لديهم فنون أو علوم أو ثقافة! ومع أنهم يدعون أنفسهم أممًا إلا أنهم يفتقرون إلى المقومات الأساسية للدولة، وبالتالي فإن أراضيهم مفتوحة خالية ومهجورة بحيث يمكن أخذها منهم دون إذنهم، فالإنكليزي عند لوك ليس حرًا في أن يأخذ ريع الأرض الهندية وحسب، بل إن ذلك واجبًا عليه بغية نقل الهنود إلى المدنيَّة المنضبطة. وإذ يقارن لوك بين الأسلوب الإنكليزي والإسباني في الاستعمار، فإنه يرى أن هذا الأخير قام على الفتح بالسيف منتهكًا حقوق الهنود الطبيعية حيث أخفق في إقامة حياة متمدنة بينهم، أما الاستعمار الإنكليزي فهو إنساني يحترم حقوق الهنود الطبيعية ولا يستخدم القوة إلا حين يرفضون مقاسمته أراضيهم الخالية، كما أنه عمل على ترقية الهنود أخلاقيًا واقتصاديًا، وهو واثق من أن الهنود حين يتمردون على هذا النوع من الاستعمار فإنهم يدخلون في حرب غير عادلة ومن المشروع معاملتهم كعبيد، وهنا نجد أن الهنود عند لوك هم بشر من الواجب أن تصان حقوقهم، وبما هم كذلك، ينبغي أن يعيشوا وفق المقتضيات العقلانية التي تفرضها طبيعتهم الإنسانية، فنظريته قد قبلت الهنود بصفتهم موضوعات للاهتمام مساوية لغيرها، دون أن تقبلهم بوصفهم ذواتًا تجد تعريفها مساوية لغيرها وجديرة باختيار طرق حياتها بنفسها. والنظرة ذاتها نجدها عند فيلسوف كبير مثل كانط، الذي رد ردًا قاسيًا على هردر الذي انتقد التمييز الليبرالي السائد بين مجتمعات متمدنة وأخرى غير متمدنة، فسخر من إعجاب هردر بسكان تاهيتي السعداء واللامبالين، متسائلاً ما هو مبرر وجودهم أصلاً. وما يفوق تلك النظرات تطرفًا وتسطيحًا هو ما نجده عند أحد أنثروبولوجي القرن التاسع عشر يدعى (يوري دون سانت فانسان) الذي آثر الجنس أو العرق الأبيض، حيث رأى أن هناك خمسة عشر جنسًا بشريًا مستقلاً كل واحد منها عن الآخر بخلقه، واضعًا إياهم وفق سلَّم قيمي جعل فيه العرق الأبيض في المرتبة الأولى، بحجة أنه لمعت فيه أكبر العبقريات التي يمكن للجنس البشري أن يزدهي بها، أما الجنس العربي المتضمن العرق الآدمي الذي اتخذ الوحي مصدرًا له فيضعه في المركز الثاني، وهكذا حتى يصل إلى نهاية السلَّم المتمثل بالعرق الأسترالي الأصلي، وهو عديم الدين وبلا قوانين أو فنون. هكذا نجد أن النزعة الانطوائية القومية هي التي طغت على أفكار باحثي تلك الفترة، إذ طغى حكم القيمة على الحكم الموضوعي، وهذا ما يتناقض بشكل أساسي مع شرط المنهج العلمي السليم الذي يمنع اتخاذ أحكام القيمة كأساس لأي تصنيف، إذ لا يمكن استعمال أوصاف أحسن أو أسوأ في البحث العلمي إلا لغايات خاصة، ففي ميدان الثقافة يظل نظامًا ثقافيًا ما، أو نظامًا لغويًا، أو أي عنصر آخر يحتفظ بقيمته في أي دراسة للثقافة، طالما كان يقوم بوظيفته في حياة أولئك الذين يستخدموه بصورة مرضية، ويمكن أن يكون أحسن أو أسوأ فقط في ذهن الباحث الذي يكشف تفكيره لا محالة عن نظام القيم الذي نشأ عليه.

وهذا ما جعل الأنثروبولوجية الحديثة تقوم على مجموعة من القوانين التي توجه أبحاث علماء الأنثروبولوجية، وبعض هذه القوانين أساسي إلى درجة أنها أصبحت من المسلَّمات، منها: أن الإنسان يكتسب الثقافة بالتعلُّم لا بالفطرة، ويؤدي ذلك إلى مبدأ "الاقتباس الثقافي" الذي لعب وما يزال يلعب دورًا فائق الأهمية في دراسة الثقافة. ودراستنا لذاك المبدأ وآلياته الانتقالية تتيح لنا معرفة الخصوصية التي تتصف بها كل ثقافة، سواءً المصدرة أو المتلقية للمادة الثقافية، وفي كيفية التوظيف البنيوي لتلك المادة تبع خصوصيات كل ثقافة، حيث تبنى الأحكام على التجربة، ويفسر كل فرد التجربة حسب ثقافته الخاصة، وهنا تغدو مهمة الأنثروبولوجيا الكبرى القائمة على تحليل وتحديد مكان الإنسان في العالم، عندما تؤكد أن بعض القيم المجردة، كالحق، والباطل، والشاذ، والطبيعي، والرائع، والعادي... يتلقاها المرء أثناء تعلمه وتمثله لأساليب وأنماط الجماعة التي ولد فيها، هذا مع التأكيد على أنه رغم أن الأشخاص المنطوون تحت مجتمع واحد يتلقون ويلتزمون عن طريق التعلُّم والاعتياد أنماط الجماعة التي يعيشون في كنفها، فإنهم يختلفون في ردود أفعالهم إزاء مواقف الحياة التي يواجهونها معًا، كما يختلفون في رغبة كل منهم بالتغيير الاجتماعي العام الذي يصيب كافة المجتمعات والثقافات بلا استثناء، واستمرارية نمط الحياة، تعتمد على وجود علاقة تساندية متبادلة بين تحيز ثقافي معين، ونمط محدد للعلاقات الاجتماعية، تلك العلاقات والتحيزات لا يمكن الخلط والتوفيق بينها معًا، وهذا ما يسمى بشرط الانسجام، فأي تغيير في طريقة إدراك الفرد للطبيعة المادية الإنسانية مثلاً، يؤدي إلى تغيير في مدى السلوك الذي يستطيع الفرد تبرير عيشه فيها، فالقيم والمعتقدات لا تتلاقى بشكل عشوائي، وإنما هي دائمًا مرتبطة بعلاقات اجتماعية تساعد على إضفاء الشرعية عليها.

إن دراسة الثقافة مهما كان تعريفها تبرز بذاتها حقيقة تفردها، فالثقافات تتنوع بتنوع الأمم والجماعات العرقية، بل حتى تتعدى ذلك إلى النوادي، والمؤسسات، والشركات، وسائر التجمعات الأخرى بين الناس ضمن الجماعة الواحدة، وليس هذا سوى جانب واحد من جوانب مرونة الثقافة التي تترك مجالاً للاختيار بين احتمالات عديدة تعلمنا بأن الاعتراف بالقيم التي يتمسك بها شعب، لا تعني مطلقًا أن هذه القيم تمثل عاملاً ثابتًا في حياة الأجيال المتعاقبة في نفس المجتمع. إن التغير هو القانون الثابت الوحيد الذي يشمل كافة الجماعات، سواءً أكان ذلك ضمن الآلية الداخلية للمجتمع، أو بالمفاهيم الخارجية المتعلقة بالعلاقة بين الجماعات المختلفة، هذا دون إغفال القانون الأساسي الذي يحكم هذه التغيرات المختلفة المتمثِّل "بالانطوائية القومية" الذي يعني أن الإنسان يفضل طريقة قومه في الحياة على طرق جميع الأقوام الأخرى، وتلك هي النتيجة المنطقية لعملية التثقيف الآلية الأولى التي يقوم بها المجتمع تجاه الفرد، وما ينتج عن ذلك من شعور يتصف به معظم الأفراد تجاه مجتمعهم وثقافتهم الخاصة سواءً أفصحوا عن ذلك أم لم يفصحوا، وإذا ما أصبحت تلك الانطوائية عقلانية كما هو الحال في الثقافة الأوروأميركية وغذت أساسًا لوضع برامج عمل ضارة بثقافة الشعوب الأخرى، أدت إلى نشوء معضلات خطيرة. وقد تحدث الأنثروبولوجيون أنه عندما شاهد أحد زنوج أحراج سورينام مشعلاً كهربائيًا تعجب وقال: "سحر الرجل الأبيض ليس كسحر الرجل الأسود"، وهو بذلك لا يعدو أن يعزز إيمانه بثقافته الخاصة، ونحن نستطيع أن نضع مقابل ما قاله لوك عن الهنود، آراء هنود أميركا الوسطى بالرجل الأبيض، إذ يعتبرون حديثه بصوت عال، وسلوكه الغليظ، من علامات سوء تربيته وثقافته البدائية، وفي كثير من أصقاع أستراليا وإفريقيا وأميركا الجنوبية، اعتبر السكان أن أول البيض الذين دخلوا أراضيهم ما هم إلا أشباح الموتى من القبيلة.

وبطبيعة الحال نجد أن كل الجماعات البشرية تقريبًا، تكاد تتفق في عقيدة كل منها بأنها الأصل وسائر الجماعات أحط منها، ويمكن أن يشار هنا مرة أخرى بأن هذا الموقف الفكري الذي يصار باسمه إلى طرح الهمجيين من نطاق البشر، هو بالضبط الموقف الأكثر وضوحًا وتميزًا لدى هؤلاء الهمجيين أنفسهم، حيث تضيق مقولة البشرية لتخصهم فقط وحدهم دون ما سواهم الذين هم في أحسن الأحوال (خبثاء – أشرار – قردة الأرض)، ففي جزر الأنتيل الكبرى بينما كان الإسبان بعد اكتشاف القارة الأميركية يرسلون البعثات الاستكشافية بحثًا عما إذا كان أهالي تلك البلاد يملكون روحًا أم لا، كان هؤلاء الأهالي يعمدون إلى الأسرى البيض الذين يقعون في أيديهم، فيغطسونهم بالماء لكي يتحققوا بعد مراقبة طويلة لهم إذا ما كانت جثثهم عرضة للتفسخ والاهتراء أم لا. والهنود الأميركيون يعدون أنفسهم شعب الله المختار، خلقه الروح الأعظم ليكون مثالاً يرفع إليه البشر، وقال الكاريبيون (نحن وحدنا الناس)، وكان الإسكيمو يعتقدون بأن الأوروبيون إنما ارتحلوا إلى جرينلند ليأخذوا عنهم طرائق العيش الصحيحة والفضائل، وبهذا فالأوامر الخلقية والمحرمات لا تنطبق إلا على أهل القبيلة وأفرادها، أما الآخرون فما لم يكونوا ضيوفه فمباح له أن يذهب في معاداتهم إلى الحد المستطاع. أليس هو هذا وضع العالم المتحضر أيضًا؟ ألم نستبدل القبيلة بالقومية؟ وإذا كنا نطلق كلمة بشر على كل من يتصف بصفات إنسانية معروفة وعامة لدى الجميع، فإن هذا المصطلح نفسه كان مرهونًا بخصوصية معينة جعله حكرًا على مجتمع أو جماعة ثقافية معينة دون سواها، بحيث يصبح ما دونها جماعة من أنصاف البشر البرابرة (يكفي أن نطلع على الأحكام والأفكار التي كانت سائدة لدى أهالي مصر واليونان والرومان في العصر القديم ثم أوروبا العصور الوسطى لنعرف مدى عمومية هذا الطرح). وبالتالي فإن كل ثقافة تميل إلى المبالغة في تقدير الوجهة الموضوعية لفكرها، وعندما نرتكب خطأ الاعتقاد بأن الإنسان البري محكوم حكمًا مطلقًا بحاجاته العضوية أو الاقتصادية، فإننا لا ننتبه إلى أنه هو الآخر يعيرنا بالتهمة نفسها، بل إنه يرى أن رغبته الخاصة في المعرفة أكثر توازنًا من رغبتنا.

إن التكيف مع المحيط الطبيعي، هو ثمرة إنسانية تمت على أساس الاستيعاب والفعل، وقد عبَّر هذا الفعل عن نفسه بأساليب شتى تراوحت بين السيطرة الكاملة والجزئية، ذلك أن المحيط الحاوي والانتباه المتوقد الذي يولى له، والمعارف الدقيقة المتصلة به، كثيرًا ما كانت تدهش الباحثين بوصفها أمورًا تدل على مواقف واهتمامات يتميز بها الأهلون عن زوارهم البيض، ويحدثنا (ليفي شتراوس) أنه عند هنود التيوا الذين يعيشون في المكسيك، تسجل الفروقات البسيطة وهم يطلقون أسماء على كل أنواع الصنوبريات في المنطقة على الرغم من أن الفروقات في هذا المجال نادرًا ما تبدو للعيان، وإذا لم يكن الإنسان متمرسًا بالأمر فإنه يعجز عن التمييز بينها، وكذلك هنود الكواهويلا الذين كانوا يعيشون في منطقة صحراوية في جنوب كاليفورنيا، كانوا يعدون بالآلاف ولم يكونوا مع ذلك يستنفذون موارد تلك المنطقة الطبيعية حيث يعيشون عيشة رغد ورخاء في تلك المنطقة المقفرة في ظاهرها، فكانوا يعرفون ما لا يقل عن 60 نبتة غذائية، و28 نبتة أخرى ذات خصائص طبية مخدرة أو مهيجة، كما أحصى البعض 350 نبتة معروفة لدى هنود الهوبي وأكثر من 500 نوع نبات لدى النافاهو. أما القاموس النباتي لدى جماعات السوبانون الذين يعيشون جنوبي الفلبين، فيتجاوز الألف لفظة بكثير. وبالنسبة للحيوانات نجد على سبيل المثال أن قبائل الهانانو في إفريقية يصنفون الأشكال المحلية للعالم الحيواني بـ 75 صنفًا بينها 12 نوعًا للأفاعي، و60 للأسماك، وأكثر من عشرة أنواع من قشريات البحر، ومثلها من العناكب. ويميز زنوج البيناتوبو بين عادات 15 نوعًا من الخفافيش، فضلاً عن تصنيفهم للطيور والحشرات واللبونات والأسماك والأعشاب. وتروي الباحثة (أ. سميث يووين) قصة ارتباكها عندما وصلت إلى قرية إحدى القبائل الإفريقية، وأرادت أن تبدأ بتعلُّم لغتها، إذ وجد معرِّفوها، أنه من الطبيعي جدًا في المرحلة الأولى من تعليمهم لها، أن يجمعوا عددًا كبيرًا من النماذج النباتية ويشرعوا بتسمية تلك النماذج لها، لكن الباحثة كانت عاجزة عن تعيين هذه النباتات لا لطبيعتها الغريبة فقط، بل لأن الباحثة لم تكن قد اهتمت يومًا بغنى العالم النباتي وتنوعه، في حين أن الأهالي يعتبرون هذا الفضول أمرًا مفروغًا منه، ويقول شتراوس في هذا الصدد:

هكذا وجدت نفسي للمرة الأولى في حياتي بين قوم حيث الأطفال الذين في العاشرة من العمر لا يعرفون من المعلومات الرياضية أكثر مني، ولكني كنت أيضًا في مكان حيث كل نبتة سواءً أكانت برية أم جوية تختص باسم واستعمال محددين، وحيث كل رجل وامرأة وطفل يعرف المئات من أجناس هذه النباتات، والجدير بالذكر أن أيًا منهم لم يصدق أني لست قادرًا حتى لو أردت أن أكتسب في هذا الميدان مثل معرفتهم، ولا يبدو أن الحاجة العملية وحدها هي من لعبت الدور الأساسي في عملية التحصيل المعرفي المذكور، حيث يبدو أن هناك عوامل أخرى فعلت فعلها، ونحن نندهش [يضيف شتراوس] عندما نعرف أن صنف الزواحف بأسره والذي ليس له عند هنود الشمال الشرقي للولايات المتحدة وكندا، أي منفعة اقتصادية فهم لا يأكلون لحم الأفاعي أو الضفدع ولا يستعملون أي جزء من رفاتها إلا نادرًا، ومع ذلك فإن هؤلاء الهنود قد بلوروا علمًا فعليًا يتناول أصناف الزواحف ويخصص ألفاظًا بعينها للدلالة على هذا النوع أو ذاك وألفاظًا أخرى لأجناسها وتنوُّعاتها.

ويضيف شتراوس:

إن الثورة النيوليتية ينبغي لها أن توحي لنا ببعض التواضع من حيث الرفعة والعلياء اللتان قد يحاول الإنسان الغربي نسبتهما إلى نفسه، فالثورة الصناعية ولدت في أوروبة الغربية، ثم ظهرت في الولايات المتحدة، فاليابان، فروسيا التي أخذت تحث الخطى باتجاهها، ولعلها تنبجس أيضًا في مناطق أخرى إذا ما توفرت لها الظروف الموضوعية والسياسية الملاءمة، أما المعرفة الإغريقية فقد بدأت في اليونان ثم انتشرت وأعطت من قبل السوريين والمصريين وجزر بحر إيجة، وخلال ما يتراوح بين ألف وألفي عام نشبت الثورة النيوليتية في الحوض الإيجي ومصر والشرق الأدنى ووادي الهندوس والصين معًا، كما وجد أثار لتلك الثورة وإن بشكل أكثر تأخرًا في الحضارات الأميركية القديمة. ومن المحتمل إذًا أن تعمد ثلاثة وديان أو ثقافات في خضم مباراة إثبات ذات، إلى المناداة لنفسها بأولوية كسب السبق بالنسبة للآخرين زهاء بضع قرون فما الذي نعرفه عن تلك الأولوية؟ إنها لا أهمية لها بالضبط لأن الظهور المتزامن لنفس الانقلابات التكنولوجية في بلاد هذه اتساعها ومناطق هذا تباعدها، بحيث نرى بوضوح أن هذا الظهور لم يكن وقفًا على عبقرية عرق أو ثقافة، بل على شروط من العمومية بمكان بحيث أنها تقع خارج نطاق وعي البشر.

فليس ثمة مجتمع تراكمي بذاته ولذاته والتاريخ التراكمي ليس ميزة تمتاز بها بعض الأعراق أو بعض الثقافات عن الأخرى، وعندما نميل إلى وصف ثقافة ما بالجمود، يجب علينا أن نتساءل ما إذا كانت تلك الجمودية الظاهرة لا تنتج عن طبيعة جهلنا باهتماماتها الحقيقية الشعورية واللاشعورية، وما إذا كانت هذه الثقافة نظرًا لاختلاف معاييرنا عن معاييرها، ليست في نظرها إلينا ضحية الوهم ذاته، بعبارة أخرى قد يبدو بعضنا البعض مجردين مما يثير الاهتمام لأننا ببساطة لا نتشابه.

إن وجود ثقافات متنوعة تعني وجود خصوصيات أصيلة جغرافية واجتماعية ونفسية (وبالتالي معرفية) تخص تلك الثقافات ذات الأورمة المختلفة، إن بعض الثقافات تبدو كذلك لكنها إذا كانت تنبثق عن أورمة مشتركة، فإنها لن تختلف في هذه الحال كاختلاف مجتمعين لم يقيما في أي وقت من الأوقات صلات مشتركة، يقول شتراوس:

وهكذا فإن إمبراطورية الأنكا في البيرو، وإمبراطورية الداهومي في إفريقيا، تختلفان فيما بينهما بصورة أشد إطلاقًا من إنكلترا والولايات المتحدة اليوم على سبيل المثال، رغم أن هذين المجتمعين ينبغي أن يعالجا كمجتمعين مختلفين، وبالمقابل هناك مجتمعات أقامت حديثًا فيما بينها صلات حميمة جدًا، وتظهر بمظهر الحضارة الواحدة، في حين أنها وصلت لتلك الحضارة، عبر سبل مختلفة لا يحق لنا إهمالها.

وبالتالي، يغدو مصطلح "ما قبل المنطقية" أو "البدائية" الذي يطلق على هذه الشعوب، غير واف بالغرض، فالوقائع المستمدة من ثقافات عديدة تبرهن على أن كل الشعوب تفكر أحيانًا تفكيرًا منسجمًا مع مبدأ السببية الموضوعية، أو تتقبل تفسيرات تربط حادثة ما بسبب ظاهري، كما أن كل الشعوب تنطلق في تفكيرها من مقدمات تعتبرها ضرورية ومسلمة، وإذا ما أقرَّت المقدمات أصبح المنطق الذي تمليه غير قابل للنقض. وقد تحدَّث هرسكوفيتز قائلاً:

في الحقيقة يجب الاعتراف بأن جميع بني الإنسان يفكرون أحيانًا بشكل قبل منطقي ذلك أن عدد الذين يسلكون في تفكيرهم المنهج العلمي الذي نفخر به قليل نسبيًا حتى في ثقافاتنا لا يفكر هؤلاء الأشخاص أنفسهم تفكيرًا منطقيًا، فهم يستخدمون عندما يعملون في مختبراهم المنطق العلمي الدقيق، غير أن أشكالاً أخرى من التفكير تلعب دورًا هامًا خارج عملهم العلمي عندما يتكلم رجل العلم مثلاً عن الحظ في مصادفات الحياة الاجتماعية، أو عندما يبدي احترامه لرمز يمثل السلطة أو الجمال.

ويذهب شتراوس إلى أبعد من ذلك قائلاً:

أن كل من الفكر الأسطوري والعلمي يعملان بالمنطق ذاته، والإنسان قد أحسن التفكير دائمًا، فالبلطة المصنوعة من الحديد، ليست أرقى من البلطة المصنوعة من الحجر، لأن الأولى أفضل صنعًا من الثانية، فكلتاهما صممتا على نحو جيد غير أن الحديد شيء آخر غير الحجر.

ويضيف:

لعل بين العالم والأسطورة فرق أساسي واحد يكمن في أن الأول يعمد إلى صنع الحوادث (تغيير العالم) بواسطة بنى فكرية أو نظرية معينة، في حين نجد بأن الفكر الأخير يميل إلى صنع البنى بواسطة الحوادث.

وبهذا نجد أن التصور الخاص الذي يمتلكه عدد كبير من المجتمعات الأولية عن العلاقة بين الطبيعة والثقافة، يمكن أن يُفَسِّر بعض أنواع مقاومة الاندماج الحضاري بينها وبين المجتمعات الأخرى، ذلك أن النمو ينطوي على إقرار غير مشروط بأولوية الثقافة على الطبيعة، الأمر الذي لا يكاد يكون مسلمًا به إلا ضمن نطاق الحضارة الصناعية فقط، يقول شتراوس:

لا شك في أن الانقطاع بين العالمين الثقافي والطبيعي أمر معترف به لدى الجميع، فليس ثمَّة مجتمع مهما ضؤل شأنه إلا ويولي قيمة بارزة لفنون الحضارة التي كان اكتشفاها واستخدامها سببًا في انفصال البشرية عن الحيوانية، غير أن مقولة الطبيعة تتخذ دائمًا لدى الشعوب المسماة بدائية طابعًا ملتبسًا، فالطبيعة سابقة على الثقافة، وهي أيضًا دون الثقافة ولكنها وبشكل خاص هي المجال الذي يأمل الإنسان من خلاله أن يتصل بالآباء الأولين وبالأرواح والآلهة، ففي مقولة الطبيعة إذًا تنوع فائق للطبيعة أو غيبي، هذا الغيبي نفسه هو فوق الثقافة التي تأتي الطبيعة دونها. وفي ظل هذه الشروط لا ينبغي لنا أن نعجب إذا ما رأينا أن التقنيات والأشياء المصنَّعة تبتلى لدى الفكر الأهلي بضرب من الاستهانة بها ما أن تمس كنه الأمور، أي ما أن تمس العلاقات القائمة بين الإنسان والعالم الغيبي.

والخطأ الأساسي الذي يقع فيه من يتحدثون عن المجتمعات البدائية، وما يتبع ذلك من مفاهيم كفن بدائي – أدب بدائي - لغة بدائية... هو استخلاص تعميمي ينطلق من إحدى النواحي غير المتطورة نسبيًا من الثقافة، كالاقتصاد أو التكنولوجيا، ثم يعمم ذلك على كل مناحي وجوانب الثقافة الأخرى مما يشبه تمام الشبه المغالطة المنطقية القائلة "بما أن هذا يتبع ذاك فهو إذن نتيجة منطقية له"، ونفس تلك المفاهيم قادتنا إلى تعميمات سطحية أخرى، كالقول بأن تلك الشعوب لا تملك تاريخًا خاصًا بها، حيث تظهر أبحاث قام بها شتراوس وآخرين أن هذا الشعب ليس بلا تاريخ على الرغم من عدم معرفة تعاقب أحداثه التاريخية غالبًا، وحيث تظهر أبحاث الأنثروبولوجي سيليجمان على أهالي غينية الجديدة، كيف أن بنية اجتماعية منهجية جدًا في الظاهر قد تحررت تارة، وحفظت طورًا وسط سلسلة من الأحداث المحتملة كالحروب والهجرات والخصومات والفتوحات.

فهل يعتبر الأستراليون والفويجيون وقبائل أميركا الجنوبية والشمالية الوحيدين إلى جانب بعض جماعات الأقزام في إفريقية الذين تمتعوا بمزية البقاء غير المألوف هم وحدهم البدائيون الحقيقيون؟ إن هذا الزعم يستند إلى حجة مزدوجة أولها هو جهلنا بتاريخ تلك الشعوب جهلاً تامًا، وبقاء ذلك إلى الأبد بسبب غياب أو فقر التقاليد الشفهية والكتابية والأثرية لتلك الشعوب، رغم أن هذا لا يستتبع بحال من الأحوال القول بعدم وجود تاريخ لتلك الشعوب، وثانيها أن هذه الشعوب تثير بقدم تقنياتها ومؤسساتها ما يتيسر لنا تشكيله ثانية من الحالة الاجتماعية لأقوام عاشوا قبل 10 – 20 ألف عام ومن هنا استنتاج لقاء هذه الأقوام اليوم كما كانت عليه في ذلك العصر البعيد. وما هو أساسي في الوقت الحاضر، وفق شتراوس، هو أن تساعد الأثنولوجيا على التخلص من الراسب الفلسفي الذي ما زال لفظ بدائي يجره وراءه، ويفترض بالمجتمع البدائي الحقيقي أن يكون مجتمعًا منسجمًا إذ إنه إلى حد ما مجتمع منفرد مع نفسه، ولكننا نرى وفي منطقة واسعة من العالم أجريت فيها الدراسات من عدة وجوه، أن هذه المجتمعات التي تبدو قديمة حقًا أكثر من غيرها متغضنة جميعها بتنافرات يتجلى بها وسم الحدث التاريخي الذي يتعذر تجاهله. وعلى الباحث أن يأخذ بعين الاعتبار مسألة غاية في الأهمية، هي ضرورة التفريق بين التنظيم الحقيقي للمجتمع، والنظرة الشعبية عن ذلك المجتمع، ذلك أن الباحثين هم عرضة باستمرار للخلط بين نظريات الأهالي عن تنظيمهم الاجتماعي، والنشاط الحقيقي للمجتمع، رغم أنه قد يوجد بين الاثنين اختلافات كبيرة جدًا، ذلك أن تصورات الأهالي السيكولوجية، ليست قسمًا من تنظيمهم الاجتماعي أو صورة عنه، بل أحيانًا قد تكون نقيضة له تمامًا.

بناء على ما تقدم، نرى أنه عندما نتكلم عن شعوب بلا تاريخ، فإن هذه الصيغة الجازمة تعني فقط أن تاريخ تلك الشعوب مجهول وسيبقى مجهولاً، وهذا لا يعني بأنه غير موجود، يقول شتراوس:

خلال عشرات ومئات الآلاف من السنين، وجد بشر هناك أيضًا أحبوا، وكرهوا، وتأملوا، وابتكروا، وكافحوا، لكي يستمروا في الوجود، وفي الحقيقة لا توجد شعوب أطفال، فجميع الشعوب راشدة حتى تلك التي لم تكتب مذكرات طفولتها ومراهقتها، ويمكن القول بأن المجتمعات البشرية استعملت بصورة متفاوتة زمنًا ماضيًا كان ضائعًا بالنسبة لبعضها، وإن بعضها كان ليحل مع أعمالها والآخر كان يعبث على طول الطريق، وعندها نلتقي أمام نوعين من التاريخ، الأول: تقدمي اكتسابي يكدس الاكتشافات والابتكارات لبناء حضارات متتابعة. والثاني: تاريخ ربما كان فعَّالاً كالأول، ويستخدم المقدار نفسه من المواهب، لكنه يفتقر إلى القدرة التأليفية التي هي وقف على الأول، فكل تجديد لا ينضاف إلى التجديدات السابقة بل ينحل فيها كنوع من المد المتموج الذي لا يتوصل أبدًا إلى الابتعاد باستمرار عن الاتجاه البدئي.

*** *** ***

 

 

 

الصفحة الأولى
Front Page

 افتتاحية
Editorial

منقولات روحيّة
Spiritual Traditions

أسطورة
Mythology

قيم خالدة
Perennial Ethics

 إضاءات
Spotlights

 إبستمولوجيا
Epistemology

 طبابة بديلة
Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة
Deep Ecology

علم نفس الأعماق
Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة
Nonviolence & Resistance

 أدب
Literature

 كتب وقراءات
Books & Readings

 فنّ
Art

 مرصد
On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني