اغتيال الحلم
محمود جميل حميداني
اجتاح
المدينة انزياحٌ مفاجئ! الجدران تنزاح السقوف تنزاح. وحتى الأشجارُ
المزروعة على امتداد الطريق أخذت بالانزياح. تتنتاب الأشياء كلَّها
كآبةٌ مداهمة. ثمّةَ أمرٌ ما! غادر صفوح المنزل تتنازعه هواجسُ جمًّة.
فقد أحدث انفصال زوجه عنه زلزالاً كبيرًا في عالمه الصغير. لا لأنه
يحبها أو يتعلق بها بل لذلك الحُكْم المفاجئ الذي انتزَع منه ابنته
الصغيرة التي أحبها واحتمل المرارة لأجلها. وهو الآن مضطرٌ للسفر
بترشيح من الجامعة التي يعمل فيها ليقدِّم ورقة عمل في المؤتمر
المُنعقدِ هناك. اتجه إلى المطار حاملاً حقيبته الجلدية وكيسًا وضع فيه
علبة حلوى. أحسَّ بالطريق تطول وتمتدُّ عبْر ذلك الانزياح المُضني حتى
إذا وصل وأدرك أنه مفارقٌ لامحالة انفجرتْ عيناه بالبكاء فأخرج منديلاً
وراحَ يمسح دموعه.. لقد عانى الكثير!! غير أنَّ محاولاتهِ تفاديَ الأمر
باءت بالفشل ما غصبه على الاستسلام. كانت زوجُهُ سيدةَ مجتمعٍ من
الطراز الأول تمتلك مواهبَ متعددة وذكاءً لا يخفى في المواقف التي
تتعمَّد فيها تجاهُلَ كيانِه البشريِّ فلطالما استخدمت جمالَها
الأخَّاذ في قهره والسطو على قدراته حتى غدا في نظر الآخرين مجرَّدَ
هيكل لإنسان لا يملك حوْلاً ولا قوَّة فيعود إلى الاستسلام. هو تربَّى
في أسرة متوسطة الحال واعتمد على نفسه في التحصيل ما جعله أسيرَ كتبه
وطموحٍ كبير ما كان لينخرط في تعقيدات المجتمع الرَّاقي ولم يألفِ
الحَفلاتِ والطقوسَ الطافية على السطح ولم يكُن له كثيرٌ من الأصدقاء
فجعل يكبِتُ مشاعره وانفعالاتِه إلى أن ضاقت به الحال وثار ثورتَه التي
كسرتِ القشَّةَ الواهية التي تربطه بها فكان ما كان. فيما راحتِ
السيدةُ الصؤول تتابع حياتها غيرَ عابئة بما حدث آخذةً معها كلَّ شيء.
أنجز أوراق السفر واتجه عبر البهو الطويل إلى قاعة الانتظار مذهولاً لا
يَلوي على شيء. تكاد قسماتُه تشي بما في داخله من الألم والعذاب. أنعم
النظرَ في الشاشة قُبالَته ففُوجئَ بتأخير الموعد لساعتين! حملَ بقاياه
واتَّجه إلى المقهى. هناك اتخذ لنفسه مكانًا في الزاوية بعيدًا عن جموع
المسافرين. طلبَ فنجان قهوة وأخرج لفيفة ثخينة وراح ينفثُ الدُّخان
باضطراب حتى تشكلتْ حوله سحابةٌ داكنة لفَتتْ إليه الأنظار أو هكذا
خُيِّلَ إليه وهو في غمرة من تزاحُم الأفكار فجأة داهم تَوَجُّسَه طيفٌ
فائق الجمال يتلفَّفُ بعباءة سوداء!
- أَتسمح؟!
- بكُل سرور.
- أنت ترى الازدحام! ما من مكان!
- تفضَّلي فالمكان عامٌّ.. لا مشكلة.
جلست المرأة قبالتَه. أخرَجتْ علبة لفائف تبغِها تناولت واحدةً وراحتْ
هي الأخرى تنفث الدُّخان ما شكَّل فوقهما سحابة كثيفةً أشعرته
بالارتياح وهو يرقُب وجهها الجميل المعصورَ بالانفعال فبادرها السؤال:
سأحضر لك فنجان قهوة. وهي أومأتْ بالإيجاب. جلب القهوة. قدَّمها بأدب
وجلس. "يبدو أنكَ مغرم بالقهوة مثلي!" وضحكا معًا. تواصلتْ بينهما
خيوطُ نظراتٍ متبادَلة وحائرة!
- أين وِجْهةُ السيدة؟
- الدار البيضاء
- زيارة؟
- أنا مغربيَّة أهلي هناك.
- أنا من سورية وعندي هناك...
استرسلا في حديث جميل أعانهما طيلة مدة الانتظار على قطع الوقت وشيءٍ
من التعارف قليل. صعِدا الطائرة. هي جلستْ في المُقَدَّمة وهو في
المقعد الثالث خلفَها. أقلعت الطائرة. حلَّقت فأحس برغبة جامحة تشدُّه
إليها. تمنى لو يتدخل القدر فترجع الطائرة ويعاود محادثتَها ولْتطُلِ
الرحلة ما تطول. وبينا هو يحلم اقتربت المضيفة منه: السيِّدة! وأشارت!
تسألك ما إذا كنت لا تمانع من الانتقال فالمقعد محجوز من قِبَلها. وقبل
أن تكمل نهض. تشوَّف المكان وهُرِعَ إليها حاملا كيسَه الصغير. كان
المقعد الآخرُ بجوارهما فارغًا أيضًا.
- شكرًا لدعوتِك.. كأنك تُحسنين قراءة الأفكار.
- هل أنت متزوُّج؟
- نعم لا.. أقصِدُ مُطَلَّق!
- جِدُّ آسفة..
كررتها مرارًا.. وقطعت الحديث والتفتت صوب النافذة. كان الوقتُ ضحىً
والشمس تسطع من الناحية الأخرى. مرَّتْ لحظاتٌ قاتمة وثقيلة دون أن
تندَّ عنها التفاتة أو حتى إشارة. فقط ظلَّت معلَّقةَ بالأفُق وهو
يتململ. ينهز ذراعه نحوها. يفتعل حركة أقوى.. يُخرج أوراقًا يعيدها..
دون جدوى. ما دفعه ليلفتها بعَفًوية واضطراب ليلحظ احمرارًا في عينيها
ودموعًا تنثال منهما محدثَة على وجنتيها الذائبتين في أتون جمال حالم
ومتفرِّد خطّيْن متعرِّجين من أثر الكحل الفاتن وهي تلملم شفتيها
المرتَجفَتين بصورة مثيرة للغاية. فأخرج منديلاً وراح يمسح مرة هنا
ومرة هناك وهي مُستسْلمة تبيح له أن يفعل. "أنتِ تبكين! ما السبب..؟ هل
لي معرفة ما..". ولكنها لا تجيب وتنثال دموعها أكثر فتزيد احتدامَه
ويرمي المنديل مستخدمًا كفَه الذي استلهم ما في داخلها واتصلت بينهما
إيماءة خافتة طغتْ على الموقف ولا حظت المضيفة تصرُّفاتِه فأحضرَتْ
كوبين من العصير وأومأت له بالتشجيع. قرَّبَ الكوب من فمها. لامس
شفتيْها بأصبعه فاشتد احتدامُه. نسيَ ما كان عليه أمسِ. أحسَّ رغبة
جامحة تشدُّه لاحتضانها. استجابت لها وبسرعة ذراعُه التي دارت حولها
برفق ثم جذبها أكثر وأُكثر.
- هل أنت متزوجة؟
نظرت إليه بحنوٍّ وعادت إلى النافذة فجذبها: "كفى بكاءً أفهميني..
أرجوك أفهميني!". "دعني من فضلك.
أرِحْ نفسك. أنا..". "أنتِ ماذا؟ قولي شيئًا". واتحدت بينهما دمعَاتٌ
راحت تمسحها عن عينيه مرة وكذلك هو يفعل والمضيفة تومئ كل حين
بالمؤازرة. أراد أن يغفو على لمسات كفيها أحس بطعم جديد يطرق أبواب
أحاسيسه لم يذق مثله مرَّة من قبلُ وأدرك أنه قد تحرَّر الآن ليصحوَ من
ضغوط الماضي إلى نفس توَّاقة للحياة. وأن زواجه القاتل البشع ذاك لم
يكن سوى سجن خانق ورهيب تمنَّى اللحظةَ لو ينهض ويعلن أمام الجميع ما
يعتمل في صدره غير أنها فطنت إلى ما يدور في خَلَده وقد لاحظَتْ مدى
اندفاعِه فلملمته من متاهته واستقرَّا معًا على راحتيْ انتعاش.
- أنا.. متزوجة!! أرجوك ألا تقاطعني.. أنتَ الآن تجبرني على الكلام.
وأتمنى أن تفهمني. كان لديَّ كل ما تتمناه أية امرأةٍ وأكثر. قصرٌ فاره
ومتَّسِع وقاعات ونوافير وزركشات وو. كلُّ ما تحلم به الأميرات من مال
وخدم حدَّ التخيُّل سوى شيءٍ واحد لا أكثر. نعم لا أكثر!"
كان مذهولاً وهي تسترسل في الحديث. عاش معها ما تفقده وسمع تردُّد
الأصداء وتماهى مع الحال في دهشة وتفاعل كبير. عرف أنها تدور في الفلَك
نفسِه وراوده حلمٌ آسر وقرَّر ألا يُفلته من بين يدي حظه العاثر
فأوقفها وقال:
- دعينا من الماضي! والآن ما؟
وقبل أن يُكمل أجابت: "لاشيء. "ماذا؟". "قلتُ لك لاشيء! انسَ الأمر".
- هكذا تظنين؟ وبهذه السهولة!
- الآن فقط..
- دعني أفكرْ.. أعِدُك.
- ليس لدينا وقت. الطائرة سَتـ...
- أعرف وسأتصل بك حالما أصلُ إلى قرار.
- إذن أعطيني رقم هاتف لأتصل وأعرف!.
- لا. أنا سأتصل عندما أتَّخذ القرار. كن بخير.
- ولكن كيف؟ كيفَ؟.
- أعرف مكان انعقاد المؤتمر. فقط امنحني الفرصة. وأعدُك.
في هذه اللحظة حطَّت الطائرة على صوت القبطان يهنئ الركاب بسلامة
الوصول وانقطع الحديث وسط الجلبة وافترقا دون أي مؤشر يريح اعتمالاته
أو يرشده إلى طريقها. وحدها الآن من يقدر على هذا. اتجه هو إلى الفندق
حيثُ مكانُ انعقادِ المؤتمر ورحلت هي إلى المجهول. ما إن وصل الفندق
حتى فاجأه حشد كبير. خلقٌ كثير من الذين وصلوا قبله للمشاركة. كانوا
واقفين وراء لجنة الاستقبال في مشهد يبعث على الريبة. وأحسَّ بشيء غامض
يلفُّ الموقف. وباغت شعورَه ثانيةً ذلك الانزياحُ الذي كان يسكنُه،
كلُّ شيء ينزاح عن مكانه... الجدران تأخذ بالانزياح، الحشد أمامه
ينزاح، ومن بين هذا كلَّه اقتحم توجُسَه رجلٌ يعقد ربطة عنق سوداء
تقدَّم نحوه انحنى مُحيِّيًا. ناوله مغلَّفًا صغيرًا. "البقية في
حياتك! وتراجع بصمت". لم يسمع ما قاله الرجل بوضوح وهو يفضُّ المغلف
بارتياب. عبارة مقتضبة. جملة واحدة فحسب سمَّرته، أوقفت نبضه فتهاوى.
وصار الانزياح شديدَ الوطأة وخانقًا هذه المرَّة ودار الحشد حوله وبينا
هو في غيبوبته رأى طائرًا خرافيًا ينقَّض على قلبه وينتزع منه لؤلؤة
صغيرة شديدة النَّصاعةِ فأفاق مرعوبًا. تقدم منه رجلٌ آخر يرتدي زِيًّا
رماديًا. ناوله مغلفًا وقال: "كان الخبرُ فاجعًا ما باليد حيلة... هذه
التذكرة لتتمكن من إلقاء النظرة الأخيرة وحضور الجنازة ونحن آسفون كلَّ
الأسف ولكن الموقف المحيِّرَ أجبرنا.. لم يعد أمامك للوصول إلى المطار
غيرُ ساعة.. السيارة بالانتظار ولك تعازي الجميع". اسلم نفسه الغائمة
بالأسى إلى موكب العودة... على طريق المطار عاوده اختلاطُ انزياحات
وتعاكسُ اتجاهات. وحده كان صامتًا وصامدًا. في الساعة التاسعة مساءً من
اليوم نفسِه كان هاتف الغرفة المخصصة له في الفندق حيث انعقادُ المؤتمر
يرنُّ ويرنُّ ويرنُّ ويرنُّ ولا أحد.
*** *** ***