الأرمــن في سورية
سمير عنحوري
الكنيسة الأرمنية الأرثودوكسية في باب شرقي دمشق
رسم الفنان الهولندي
Theo De Feyter
تواجد عدد من الأرمن في حوض البحر المتوسط وفي أوروبا الشرقية منذ قرون
بسبب عوامل سياسية وكوارث إنسانية عديدة حلَّت بهذا الشعب منذ ألفي
سنة، وسأتحدَّث عن تاريخ أرمينيا باختصار في نهاية هذا البحث.
لقد عَرفْتُ الأرمن منذ نشأتي في حارة باب شرقي في دمشق حيث كان يسكن
عدد هام منهم بجوار كنيستهم القديمة وفي الأحياء والحارات المتفرعة حتى
ساحة باب توما شمالاً وحيّ طالع الفضَّة والخراب غربًا، وأكثرهم ينتمي
إلى طائفة الأرمن الأرثوذكس. وقد ذكر الأرمن في دمشق المؤرخ الدمشقي
نعمان قساطلي في كتابه الروضة الغناء في دمشق الفيحاء، سنة
1878، حيث جاء فيه:
عدد الأرمن في دمشق 140 كاثوليك و450 أورثوذكس، ولهم فيها كنيستين
أقدمها مار سركيس واقعة بجانب الباب الشرقي بلصق السور مختصَّة بطائفة
الأرمن القديم (الأورثوذكس) وهي قديمة العهد جدًا، احترقت عام 1860
ثمَّ تجدَّدت وفي دائرتها مدرسة صغيرة لذكور تلك الطائفة، وبقربها بيت
يسكنه مرتبيت (كاهن) الطائفة. والأخرى كنيسة الأرمن الكاثوليك واقعة
أمام دير الرهبان العازاريين من جهة الشرق وهي صغيرة جدًا وقد انشئت
بعد عام 1860 على اسم القديس غريغوريوس وكان مكانها فرن وقد اختبأ فيه
المؤلف (وكان عمره أربع سنوات) في أول يوم من حادثة 1860.
أما الآن فإن كنيسة الأرمن الكاثوليك تقع جانب حمام البكري في باب توما
وكانت سابقًا تخص الرهبان اليسوعيين الذين تخلوا عنها لصالح الأرمن منذ
أكثر من نصف قرن.
كان هؤلاء الأرمن، وعددهم الإجمالي 590 نسمة، يشكِّلون في النصف الثاني
من القرن التاسع عشر جزءًا صغيرًا من المجتمع المسيحي في دمشق الذي كان
يبلغ تعداده بكل مذاهبه حوالي 15500 نسمة في مدينة مجموع سكانها من
مسلمين ومسيحيين ويهود حوالي 145000 نسمة (المرجع السابق نفسه).
ومن جهة أخرى يذكُر الكاتب الدمشقي عبد العزيز عظمة في كتابه مرآة
الشام، تاريخ دمشق وأهلها بأن:
عدد الأرمن في دمشق في سجل الحكومة الرسمي في أوائل القرن العشرين 360
أرمني قدماء أو أورثوذكس و192 أرمن كاثوليك مجموهم 552 يضاف إليهم زهاء
عشرة آلاف أرمني هاجروا إليها في السنوات الاخيرة الذين لم يدخلوا إلى
هذا الإحصاء، وأن عدد السكان الإجمالي في دمشق 250 ألف نسمة في عام
1939. أما في إحصاء إلى نهاية سنة 1939 لمقدار عدد نفوس الدولة السورية
بكافة مذاهبهم فيبلغ مجموع عددهم 1899369 نسمة منهم 65567 ألف أرمني
أورثوذكس و12421 أرمن كاثوليك مجموعهم 77988 أرمنيًا.
كما يذكر الكاتب والمؤرخ الفرنسي بيير روندو
Pierre Rondot
في كتابه
Les Chrétiens d’Orient
الصادر عام 1955:
أن عدد الأرمن المتواجدين في سورية ولبنان قبل عام 1914 يبلغ حوالي
5000 نسمة، ثم بلغ عددهم في منتصف القرن العشرين نتيجة هجرتهم المكثفة
من الأناضول أثناء الحرب العالمية الأولى وبعدها بحوالي 100000 ألف في
سورية و80000 في لبنان.
علمًا أن الأرمن هاجروا أيضًا إلى فلسطين ومصر والعراق بأعداد متفاوتة
ولا أملك مع الأسف أية احصاءات بهذا الخصوص. وتجدر الإشارة إلى أن
الأرمن تحالفوا مع الصليبيين منذ القرن الحادي عشر وتواجدوا في مملكة
القدس وفي الإمارات الصليبية الأخرى على الساحل السوري وفي جنوب
الأناضول شمال شرق سورية وفي قبرص ومدينة البندقية. فاقترنت بعض
الأرمنيات بأمراء الصليبيين وأصبحت إحداهنَّ
Mélisande
ملكة في القرن الثاني عشر عند وفاة زوجها ملك القدس
Foulque d’Anjou
سنة 1143. كما أن الأرمن خدموا أيضًا في صفوف الجيش
العثماني النظامي في القرن التاسع عشر، ووقع ثمانمئة منهم أسيرًا في يد
الجيش المصري أثناء حملة ابراهيم باشا على سورية في موقعة انتصر فيها
هذا الجيش على الجيش العثماني على مشارف مدينة حمص: "فأطلقهم (القائد
المصري) وأرسلهم لعند مطران الروم"، هذا ما جاء في كتاب منتخبات من
الجواب على اقتراح الأخبار للدكتور ميخائيل مشاقة الدمشقي. وربما
التحق بعض هؤلاء الأرمن الأسرى بالجيش المصري وانسحب معهم إلى مصر عند
مغادرته أراضي بلاد الشام سنة 1840.
اشتهرت بعض الشخصيات الأرمنية في آسيا الوسطى وبلاد الشام ومصر خلال
التاريخ القديم والحديث منهم الملك تيكران الثاني الكبير (121 – 54 قبل
المسيح) الذي احتل جزءًا من آسيا الصغرى وشمال بلاد الرافدين وسورية ثم
خسرها في حربه ضد الرومان بقيادة بومبيوس
Pompée
الذي احتل آسيا الصغرى وبلاد الشام حتى مدينة القدس عام 63 قبل
الميلاد. كما أن السلطانة المملوكية شجرة الدرِّ كانت من أصول أرمنية
وكذلك الإمبراطورة البيزنطية ثيودورا زوجة الإمبراطور جوستينيان الأول
التي كانت هي الأخرى أرمنية. أما في القرن التاسع عشر وأول القرن
العشرين فقد اشتهر منهم بوغوس نوبار باشا السياسي المحنَّك الذي خدم
حكَّام مصر وأسَّس جمعية "الاتحاد الأرمني العام للإحسان" في مصر عام
1906 التي كان لها تأثيرًا معنويًا واجتماعيًا بالغًا في حياة الأمَّة
الأرمنية، واوهانس باشا متصرف جبل لبنان (1912-1915)، ورجل الأعمال
العبقري كالوست سركيس غلبنكيان الذي وُلد في اسطنبول (1869-1955) وساهم
في تأسيس شركة النفط البريطانية العراقية
Iraq Petroleum
(وكان حائزًا على الجنسية البريطانية) التي تقاضى منها طوال حياته 5%
من قيمة عائداتها النفطية محققًا بذلك ثروة طائلة سمحت له باقتناء
مجموعة كبيرة من اللوحات الفنِّية والتحف النادرة تمَّ عرضها فيما بعد
بشكل في غاية الأناقة والترتيب في متحف خاص أسسه في مدينة ليشبونة
البرتغالية يحمل اسم:
The Gulbenkian Foundation Museum
وخُصص أحد أقسامه للحضارة العربية الإسلامية.
أما بالنسبة للأرمن المقيمين في سورية ولبنان قبل الهجرة فقد قدَّر
عددهم الكاتب الفرنسي روندو بخمسة آلاف، وكان هؤلاء منتشرون في الأراضي
السورية وخاصة في حلب وبيروت ودمشق، وكان جميعهم بطبيعة الحال مواطنون
عثمانيون يتعاطون أعمالهم بشكل عادي وطبيعي كلٌّ في اختصاصه، فكان
القليل منهم ثريًا وهم طبقة التجار بينما كان أكثرهم، ومنهم الموظفون
في مؤسسات الدولة والعمال والحرفيون، يملك القليل من المال والأملاك،
وربما كان البعض منهم أيضًا في غاية الفقر والعوز لكنه لا يلجأ قط إلى
التسوُّل فيقبل بالقيام بأي عمل يمكنه أداؤه شرط أن لا يمسَّ هذا العمل
بكرامته.
حلَّت أسوأ الكوارث والمجازر في التاريخ الأرمني الحديث بدءًا من عام
1894 أيام حكم السلطان عبد الحميد الثاني وانتهاءً في عام 1923 أيام
بدء حكم مصطفى كمال (أتاتورك) الجمهوري كانت أسبابها في البداية سياسية
وانتهت لأسباب قومية عرقية أثنية؛ وهي على التوالي:
1894 – 1896:
بدأت أول مجزرة بحق الأرمن في ولاية ساسون شرقي تركيا وامتدت بعدها إلى
سائر بلاد الأناضول حتى مدينة اسطنبول عام 1895 حيث تم قتل الأرمن في
أحيائهم على مرحلتين: الأولى في شهري أيلول وتشرين الأول 1895 والثانية
في شهر آب 1896. وقد بلغ مجموع القتلى ثلاث مائة ألف على الأقل بينما
تمكَّن مائة آلف آخرين من النجاة أو الفرار إلى خارج البلاد فتوزعوا في
بلاد أوروبا وروسيا القيصرية وأمريكا.
1909:
حصلت مجازر في مدينة أدنة التركية.
1915 – 1917:
مجازر مروعة أدت إلى قتل وتهجير أكثر من مليون ونصف أرمني في ظروف
بربرية شنيعة يصعب للإنسان وصفها أو حتى تصوُّرها، وترحيل من لم يُقتل
منهم تحت حراسة شديدة وبمنتهى القسوة إلى الولايات العربية العثمانية
المجاورة علمًا بأن بعض هذه الأعمال المرعبة جرت بمعرفة وأحيانًا
بمساعدة القوات الألمانية الحليفة للدولة العثمانية المتواجدة على
الأراضي التركية أثناء الحرب العالمية الأولى.
1919 – 1923:
وأخيرًا اضطهاد وترحيل من تبقى من الأرمن في معقلهم الوطني قيليقيا،
ويبلغ عددهم حوالي مائة وخمسون ألف أرمني، إلى الدول العربية المجاورة
بتشجيع ومساعدة القوات الفرنسية المنتدبة هناك منذ انتهاء الحرب عام
1918، والتي جلت عنها عام 1923 بإرادة القوات التركية الكمالية بشكل
مخزي ومعيب للدولة الفرنسية المنتصرة، كما فعلوا لاحقًا بعد أقل من
عقدين من الزمن وأيضًا بظروف معيبة ومخزية عند تسليم سنجق الاسكندون
السوري لدولة تركيا سنة 1938.
كادت هذه الفترة الزمنية الوجيزة المليئة بالمذابح الفظيعة والمتكررة
أن تُهلك شعبًا بأكمله وتقضي على الحضارة الأرمنية العريقة والمتواجدة
على أرض آسيا الصغرى منذ أكثر من ألفي عام. ومن المعروف للجميع بأن هذه
الممارسات ارتُكبت بوحشية وقسوة نادرتين ونُفذِّت أحيانًا تحت أعين
المصورين والكاميرات السنيمائية وقد شوهدت أفلامها بالأبيض والأسود بكل
فظاعاتها من أعمال تعذيب وشنق وتقطيع رؤوس جماعية لملايين من الناس
أثارت فيمن شهدها شعورًا لا يحتمل من الاشمئزاز والغضب، وهي أعمال لا
يمكن وصفها إلا "بالتصفية العرقية" التي نفت وقوعها الحكومات التركية
المتتالية حتى الآن، وقد وصفها الرئيس اردوغان بأنها "أعمال مكدِّرة
ومؤسفة"!!
لقى الأرمن المهجَّرون بين عامي 1915- 1917 (سفر برلك) في مسيرتهم
الشاقة إلى بلاد الشام صعوبات وظروف في منتهى الشدَّة والقساوة؛ إذ
قطعوا هذه المسافة الشاسعة مشيًا على الأقدام ومات منهم الكثير رجالاً
ونساءً وأطفالاً نتيجة لسوء معاملة حراسهم الأتراك النظاميين وغير
النظاميين من جهة وبسبب الإعياء والمرض والجوع من جهة أخرى، فوصل
الناجون منهم إلى سورية ولبنان في حالة مزرية للغاية من الفقر والبؤس
والشقاء لم يعرفها أرمن كيليكيا حين تم تهجيرهم منها لاحقًا بين عامي
1921 و1923 في ظروف أقل شدَّة وقسوة.
لم يسع سكان الجُزيْرات الأرمنية المقيمة في بلاد الشام اسعاف ومساعدة
هذا العدد الهائل من المهجرين بسبب نقص وضآلة إمكانياتهم المادية، خاصة
أن هذه الهجرة جاءت في ظروف اقتصادية وسياسية كارثية للبلاد العربية
بسبب الحرب العالمية الأولى والقتال الذي كان يجري على أراضيها بين
الجيش العثماني وقوات الحلفاء البريطانيين والفرنسيين.
أبدتْ البلاد العربية تجاه هؤلاء المنكوبين إحساسًا عميقًا من الشفقة
والتعاطف وروح المساعدة لكنها كانت هي نفسها في طور التأسيس بعد
تحررُّها من السلطة العثمانية التي دامت أربعة قرون فقبلت ببقائهم على
أراضيها رغم ما كانت تعاني هي الأخرى من احتلال فرنسي وبريطاني جديد،
وما كان يشكِّل هجرة الأرمن إليها من عبء كبير من الناحيتين الاقتصادية
والديموغرافية. فكان لا بدَّ أن يحدث في هذا الجو المشحون سياسيًا
واجتماعيًا بعض الإشكاليات بين السكان والوافدين الجدد تمَّت تسويتها
عندما استَّتب الأمن لاحقًا بعد انتهاء الثورة السورية عام 1927.
أقام الأرمن أولاً على أراضٍ شبه جرداء بنوا عليها مساكن بدائية
عشوائية من أخشاب قديمة ورديئة سقفوها بألواح من التنك ومن أغصان
الأشجار ووضعوا فيها ما أمكنهم الحصول عليه من ثياب وأدوات ومخلَّفات
وأغذية تكاد تكفي لحاجياتهم اليومية الضرورية، ناهيك عن ظروف العيش
البائس في أراضٍ لا تتوفر فيها أي من الشروط الصحية الأولية تقع في
ضواحي المدن الرئيسية حلب وبيروت ودمشق، على الرغم مما وردهم من
المساعدات بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى من بعض المؤسسات الدولية
والجمعيات الخيرية خاصة الفرنسية والأمريكية وأيضًا من جمعية الاتحاد
الأرمني للإحسان.
عمل الأرمن بجدٍّ وأمانة ونشاط في كثير من الأعمال اليدوية البسيطة إذ
كانوا يفتقرون للأدوات والتجهيزات اللازمة للأعمال المهنية الحرَّة،
يتقاضون لقائها قروشًا معدودات تكاد تكفي حاجات أسرهم اليومية. وقد
لاقوا خلال العشر سنوات الأولى صعوبات عملية كثيرة ربما كان أهمَّها
عدم معرفتهم باللغة العربية وتقاضيهم أجورًا أدنى مما كان متعارفًا
عليه في حينه، مما كان يشكِّل بينهم وبين الآخرين حالة من المنافسة
والحذر، شأنهم في ذلك شأن كل غريب أينما وجد. لكنهم تجاوزوا هذه
المرحلة الصعبة بنجاح فأقاموا بادئ الأمر حوانيت ومتاجر متواضعة وخدموا
في الفنادق والورشات الميكانيكية والمحلات التجارية والمهنية
المتخصِّصة فبرعوا في أدائهم بشكل سريع نال تقبل وإعجاب الجميع.
أما الجيل الثاني من المهاجرين الأرمن فقد شبَّ وترعرع في جوٍّ أكثر
ودية وتقبلاً رغم ميلهم للعزلة ضمن أماكن عيشهم ضمانًا لاستمرار لغتهم
وعاداتهم وتقاليدهم، مما أعاق لسنين عديدة اندماجهم بالمجتمع الدمشقي
رغم حصولهم في عهد الانتداب على الجنسية السورية. لكن هذا لا يعني أنهم
كانوا يعيشون في عزلة تامة، إذ أنهم كانوا يتواصلون يوميًا بطبيعة
الأحوال مع الآخرين في أماكن عملهم أو نشاطاتهم المختلفة، كما أن
أولادهم دخلوا المدارس الخاصة وكان بعضها يخصُّ الطائفة الأرمنية،
وتخرجوا منها ونالوا الشهادات السورية الرسمية، كما تابع البعض منهم
الدراسة الجامعية في دمشق وبيروت وأوروبا فتخرج من جامعاتها عددٌ من
الأطباء والصيادلة والمهندسين وغيرها من الاختصاصات، وأذكر أن أحد
هؤلاء الأرمن الدمشقيين واسمه يرفنت كريكوريان كان على ما أعتقد أول
سوري ينال الشهادة الجامعية من جامعة
MIT
الأمريكية الشهيرة عالميًا
Massachusetts Institute for Technology
سنة 1922.
ومن مدارس الأرمن التي سمعت عنها في طفولتي، وأعتقد أنها لا تزال
موجودة حتى الآن، المدرسة المتواجدة في كنيسة الأرمن الأرثوذكس
(القديم) في باب شرقي وهي المدرسة التي ذكرها القساطلي سابقًا، وكانت
مدرسة صغيرة مخصصة للأطفال، وربما كانت تدرِّس الإعدادي أيضًا، ومدرسة
صغيرة أخرى في حارة المسك في باب توما وأظنها كانت للأرمن فقط، ثم
وُجدت مدارس أخرى لا تقتصر على الأرمن وإنما أيضًا على أبناء الأديان
والطوائف الأخرى: مدرسة الحياة والزهور والمنار والنور وكلها في حيِّ
باب توما، وكذلك مدرسة النظام في شارع العابد والطليعة في حي عرنوس
الصالحية، مما يدل على وجود بعض الأرمن في تلك الأحياء البعيدة عن باب
توما والقصاع منذ الثلاثينيات في القرن الماضي.
شكلت المدارس والجامعات عاملاً هامًا في اندماج الشعب الأرمني مع الشعب
العربي في سورية ولبنان وفلسطين والأردن والعراق ومصر، بينما أثبتت
المهارات الأرمنية بالتوازي مع التحصيل العلمي حقَّها في المشاركة في
كافة المجالات العلمية والثقافية والحرفية والمهنية في سورية ولبنان
خاصة وفي باقي الأقطار العربية. وقد برز عددٌ منهم في المهن العلمية
كالطب والصيدلة والهندسة والمهن الفنية كالموسيقى وصياغة الفضة والذهب
والمجوهرات والمهارات الميكانيكية والكهربائية في تصليح جميع أنواع
السيارات والآلات الصناعية، مع الإشارة لمِهَنٍ برعوا فيها بشكل خاص هي
التصوير الفوتوغرافي، ومن هؤلاء في دمشق المصور هرانتس في أواخر القرن
التاسع عشر وأوائل القرن العشرين وابنه سركيس، وميناس فاروجيان.
وهوفانيس حلاجيان في حيفا، وغرابيت كريكوريان في القدس الذي التقط
صورًا للإمبراطور الألماني غليوم الثاني أثناء زيارته للقدس ودمشق في
عام 1898، والمصور آزاد بويادجيان في دمشق في النصف الثاني من القرن
العشرين؛ وصنع النظارات الطبِّية وربما كان أشهرهم في دمشق "أرتور"،
والمنتجات الجلدية، وأخرى برزوا فيها في فترة الخمسينات وهي الرياضة
وخاصة منها لعبة كرة القدم.
بينما نال أخرون نجاحًا هامًا في عالم التجارة والمقاولة والبناء وكذلك
في الجيش السوري حيث خدموا بجدارة وبتفانٍ وبروح وطنية مميزة، ونال
بعضهم رتبًا عسكرية عالية في الجيش والدرك والشرطة، ومن أشهرهم في
منتصف القرن الماضي قائد الدرك العقيد هرانت مالويان وفي الجيش
العقيدان قره مانوكيان وكيليتجيان.
لكن الشعور الوطني الأرمني المتأصل عند الأرمن جعل حوالي خمس وعشرون
ألفًا منهم في سورية ولبنان وربما عددًا مشابهًا في مصر يلبُّون بحماس
دعوة الاتحاد السوفييتي لهم عام 1945 بالعودة إلى وطنهم الأم الذي أصبح
يدعى منذ ثلاثة عقود جمهورية أرمينيا الاشتراكية السوفييتية، ثم عاد
عدد منهم بعد فترة وجيزة إلى ديارهم العربية. وقد برز في الاتحاد
السوفييتي في النصف الأول من القرن العشرين عددٌ من الشخصيات السياسية
الأرمنية وكان من أهمهم أنسطاس ميكويان الذي بلغ أعلى المناصب السياسية
ونال ثقة ستالين مما جنَّبه أعمال التصفية التي قام بها هذا الأخير
تجاه أكثر مقرَّبيه في المجلس السوفييتي الأعلى. ويجدر الإشارة في هذا
السياق أن شقيق ميكويان كان مهندسًا بارعًا صمَّم الطائرة المقاتلة
المعروفة
Mig
وهو اسم مصغَّر من كنية المهندس، والقائد العسكري إيفان باغراميان الذي
حقق انتصارات ساحقة ضدَّ الجيش الألماني أثناء الحرب العالمية الثانية،
والمؤلف الموسيقي الشهير ختشادوريان
Aram khatchatourian
مؤلف القطعة الموسيقية الرائعة
Gayaneh.
ازدهرت الجالية الأرمنية في حلب بشكل ملحوظ وكان عددهم فيها يفوق بكثير
عدد الأرمن المتواجدين في دمشق وحمص واللاذقية والجزيرة. كان الكثير من
أهالي حلب يتقنون أو يفهمون اللغة التركية بسبب قربهم من الأراضي
التركية والتعامل التجاري القديم والوثيق مع الأتراك، مما سهَّل على
الوافدين الأرمن عامل التأقلم والاندماج مع السكان وبالتالي إيجاد فرص
عمل أكثر في المجالات التجارية والصناعية والحرفية والثقافية التي كان
يتقنها الشعب الأرمني، فما لبثوا أن أصبحوا جزءًا هامًا ومؤثرًا في
المجتمع الحلبي. وقد هاجر عددٌ منهم إلى لبنان وكندا في أول الستينات
من القرن الماضي لأسباب اقتصادية والتجأ آخرون إلى أرمينيا وكندا خلال
تلك السنين الأخيرة مما أضعف تواجدهم حاليًا في حلب بشكل ملحوظ.
*
إن الحديث عن تاريخ أرمينيا يمثِّل عملاً مشوِّقًا ومثيرًا مليئًا
بالأحداث والتطورات، سأحاول اختصاره قدر الإمكان بدءًا من المراحل
الرئيسية لهذا التاريخ ثم الأسباب التي أدَّت إلى الكارثة الإنسانية
التي ارتُكبت بحقِّ الأرمن منذ مائة عام ونيف مما دفع إلى تشتيتهم في
مختلف بلاد العالم.
تقع أرمينيا في القفقاس في منطقة جبلية أعلاها قمَّة أرارات (5200 م.)
وتروي الأسطورة أن سفينة نوح وقفت عليها، وتحوي في سهولها عددًا من
الأحواض المائية أوسعها بحيرة "سيفان" وبحيرة "وان" التي تشكَّلت
حولهما عاصمتها إيريفان والمدن الصغيرة الأخرى، وكان يسكنها شعب يدعى
"اورارتو"، ويُعتقد أنَّ مؤسس هذه الدولة كان الرجل الأسطوري "هايك"
الذي قاد إليها في حوالي القرن الثاني عشر قبل الميلاد شعبًا جاء من
مناطق تقع في أقصى الجنوب الشرقي من أوربا، وقد شكَّل هذا الشعب جذور
الأمة الأرمنية فسمِّيت أرضهم "هياستان" نسبة إلى زعيمهم الأول هايك.
وقد وُجد اسم هذا الشعب محفورًا بالخط المسماري على صخور الكردستان
الإيراني التي يعود تاريخها إلى أيام داريوس الأول ملك الفرس في القرن
السادس قبل الميلاد. كما أن المؤرخ اليوناني هيرودوت كان أول من عَرَّف
أوروبا الغربية باسم الأرمن في القرن الخامس قبل الميلاد.
حكم أرمينيا في سنة 94 قبل الميلاد الملك تكران الثاني الكبير الذي
لَقَّب نفسه "ملك الملوك" وبنى كيان الدولة الأرمنية وهويتها الوطنية
والثقافية. ومما ثبَّت هذه الهوية لاحقًا: أولاً اعتناق الأرمن الدين
المسيحي منذ نهاية القرن الثاني بعد الميلاد رغم ما لاقوا من اضطهاد
واستشهاد. لكن الرسول المبِّشر غريغوريوس المُنوّر هدى سنة 288 م مليكه
ومضطهده "تيريدات الثالث" إلى الدين المسيحي فانتشر هذا الدين دون قيود
واضطهاد وأصبحت مملكة أرمينيا دولة مسيحية وغريغوريوس أول أسقف عليها؛
وثانيًا استعمال حروف أبجدية جديدة قابلة للتكيُّف مع اللغة المتداولة
وبذلك أصبح هناك لغة أرمنية محكيَّة ومكتوبة أعدَّها الراهب مِسروب
Misrop
في القرن الرابع، تبنَّاها الشعب الأرمني وجعلها بعد ترجمة النصوص
الدينية السوريانية واليونانية إليها لغة وطنية ودينية مستقلة تميِّزه
عن جيرانه الفرس والبيزنطيين من جهة وعن العرب والأتراك من جهة أخرى،
لكنَّ الكنيسة الأرمنية انفصلت عن الكنيسة البيزنطية الشرقية عام 491
رافضةً قرارات المجمع المسكوني الذي عُقد في مدينة خلقيدونة عام 451
الذي أكدَّ الطبيعتين للمسيح وأعلنت نفسها كنيسة رسولية مستقلة
Eglise Apostolique autocéphale Grégorienne
مركزها اتشميازّين. وقد انفصل عنها عددٌ من الأرمن في القرن السابع عشر
واعتنق المذهب الكاثوليكي بينما انفصل آخرون لاحقًا وتبعوا المذهب
البروتستانتي.
لم تنعم أرمينيا بالحرية خلال تاريخها الطويل أكثر من اربعمائة سنة
بسبب موقعها الجغرافي الذي جعلها على مرِّ العصور محطَّ أطماع الفاتحين
والمحتلِّين؛ فقد احتلها على التوالي الفرس واليونان السلوقيين
والرومان والبيزنطيين والعرب (عام 640 م) والأتراك السلاجقة والمغول
والمماليك والأتراك العثمانيين وأخيرًا روسيا القيصرية ثم السوفيتية.
حكم ارمينيا الكبيرة لمدة قرنين تقريبًا سلالة أرمنية هم البغراطيّون
Bagratides
855 – 1080 م. عاصمتها مدينة آني. لكن هذه المملكة المستقلة سقطت بسبب
اجتياحات السلاجقة والمغول فهاجر العديد من سكانها إلى منطقة قيليقية
جنوب شرقي الأناضول قادهم إليها زعيمهم "روبن" عام 1080 وعرفت بدولة
"أرمينيا الصغرى" المستقلة في العهد الصليبيِّ، ثم سقطت بأيدي المماليك
عام 1375 م.
قضى السلطان العثماني سليم الأول على دولة المماليك عام 1516 وأُخضعت
جميع أراضي أرمينيا ما عدا جزء صغير منها ضمَّته إيران، ووضع
العثمانيون إدارة الأرمن تحت سلطة البطريرك الأرمني الأرثوذكسي. قاست
أرمينيا ويلات الحروب بين الفرس والترك ثم بين الروس والعثمانيين. ثم
استولت روسيا القيصرية على القسم الشرقي من أرمينيا عام 1829 وبقي
القسم الآخر خاضعًا للعثمانيين.
قام الأرمن بمحاولات تحرُّرية عديدة فتعرضوا لاضطهاد العثمانيين،
وتوالت عليهم في القرن التاسع عشر والقرن العشرين المذابح وأحداث القتل
والنهر التي أخذت في زمن حزب "تركيا الفتاة" بزعامة أنور وطلعت وجمال
تحت حكم السلطان رشاد منحى عملية إفناء جماعي للأرمن، لحقها بعد سنوات
قليلة تهجير جماعي وكامل للأرمن المقيمين في تركيا وكان عددهم يفوق
المليون قام بها الحكم الجمهوري بقيادة مصطفى كمال. وسأقدم لمحة موجزة
عن الأسباب السياسية التي دعت السطلة العثمانية لارتكاب هذه الأعمال
الوحشية في تصفية إثنية عرقية تعتبر الأولى من نوعها في تاريخ القرن
العشرين.
حكمت الدولة العثمانية منذ سقوط القسطنطينية سنة 1453 م. بفضل قوتها
العسكرية الجبارة امبراطورية مترامية الأطراف غربًا وشرقًا يسكنها
العشرات من الشعوب والأقوام التي تنتمي إلى ثقافات وأديان مختلفة. لكن
التوسُّع الجغرافي والسياسي للإمبراطورية توقَّف ثم بدأ بالضعف
والانحسار بعد دمار اسطولها البحري العظيم في معركة "ليبانت" وانتصار
اسطول التحالف الأوروبي في عرض شواطئ اليونان سنة 1571 ثم انكسار جيشها
تحت أسوار "فيينا" سنة 1683 وخسارتها لبلاد المجر سنة 1699.
اكتفى العثمانيون لمدَّة ثلاثة قرون بعظمتهم المستندة على قوة جيوشهم
وعلى نظام إداري بيروقراطي يمتد إلى كافة أنحاء الامبراطورية، ولم
يعيروا أي اكتراث أو اهتمام بما يجري حولهم وخاصة في أوروبا منذ القرن
السادس عشر من تطورات فكرية وثقافية وعلمية واكتشافات جغرافية أدت إلى
نهضة غير مسبوقة في كافة المجالات وإلى ثورات فكرية وسياسية وصناعية
رسَّخت قوة واتساع الإمبراطوريات الأوروبية في القرن التاسع عشر والنصف
الأول من القرن العشرين.
تزامنت النهضة الأوربية وقوتها الاقتصادية والعسكرية مع بدء الضعف
والانحطاط للدولة العثمانية التي لم تقم بأي إصلاح يُذكر في أنظمتها
العسكرية والإدارية والاقتصادية حتى منتصف القرن التاسع عشر حين بلغ
عجزها المالي ذروته بسبب شحِّ الموارد الزراعية المتردِّية والعائدات
الضريبية الظالمة التي أرهقت وأفقرت كل طبقات الشعب من جهة، وبسبب
البذخ المفرط في قصور السلطان وحاشيته والفساد المتفشي في كافة أطراف
الامبراطورية من جهة أخرى، مما جعل السلاطين يلجؤون منذ منتصف القرن
التاسع عشر إلى طلب قروض مالية هامة وبشكل مستمر من المصارف الأجنبية
لسدِّ العجز المالي للدولة الذي أصبح ظاهرة خطيرة ومتزايدة على مرِّ
السنين. فتهافتت وتنافست الدول الأوروبية وبنوكها إلى النزول عند رغبة
السلطان وقدَّمت القروض المالية المطلوبة مرفقة بشروط ورغبات مُلْزمة
تضمن تحصيلها ممَّا جعل الدول القارضة وعلى رأسها روسيا وبريطانيا
وفرنسا والنمسا وألمانيا أصحاب القرار في الشؤون الداخلية والخارجية في
الدولة العثمانية التي أطلقوا عليها اسم "الرجل المريض" يتربَّصون
سقوطها عاجلاً أم آجلاً ليقتسموا تُركتها بعد أن ينتهوا من امتصاص
خيراتها وثرواتها بواسطة الفوائد الباهظة التي تترتب على القروض
المالية والامتيازات العديدة والخطيرة التي حصلوا عليها من السلطان في
المجالات الإدارية والاقتصادية والتجارية والعسكرية مما أودى بالدولة
العثمانية إلى طور الاحتضار يغذي ضعفها وانحطاطها الأفكار السياسية
والقومية التي عمَّت أوروبا في القرن التاسع عشر وتغلغلت في نفوس وعقول
الأقوام الخاضعة للعثمانيين، فتحررت أولاً اليونان واستقلت سنة 1830 ثم
انفصلت مصر سنة 1840 واستقلت كافة دول البلقان سنة 1913.
في هذه الأثناء بدأ الأرمن بتنظيم أمورهم داخل الدولة العثمانية وفي
خارجها، فأسَّسوا مجلَّات في الخارج في مدينة مرسيليا سنة 1885 وفي
لندن سنة 1888. وأسَّسوا جمعيات سرِّية في الداخل منها ما سقط بسرعة
تحت ضغوط وبطش السلطة كما حصل في مدينة
Erzeroum
سنة 1880 فهاجر عدد منها إلى بلاد البلقان وإلى مدينة مرسيليا في فرنسا
وإلى أميركا الشمالية، فيما تابعت جمعيات أخرى نشاطها ومقاومتها رغم
الاضطهاد والقمع في سبيل تحقيق أهدافها ومنها حزب "هينتشاك" الذي توزعت
فروعه منذ سنة 1887 في اسطنبول والأناضول، ومنافسه حزب "طاشناك" الذي
أسَّسه خريستوفور ميكايلْيان سنة 1890 والذي باشر فورًا بالكفاح
المسلَّح داخل الأراض العثمانية. كما كان هناك مجموعة ثالثة اسمها
"رامكافار" كان اتجاهها السياسي أكثر اعتدالاً من الحزبين السابقين،
علمًا أن جميع الحركات الأرمنية ظهرت بتشجيع ومساعدة الدول الأجنبية
الطامعة في اقتسام الدولة العثمانية، فقدَّمت لهذه الحركات الوعود
الكاذبة طمعًا بهم لمساعدتهم في الوصول إلى أهدافهم السياسية السرِّية
ودفعتها إلى القيام بأعمال خطيرة ومتسرِّعة أدت إلى نتائج وخيمة
وكارثية.
حصل كل ذلك في أجواء محمومة وخطيرة تنذر بالانفجار سيطرت عليها المصالح
المتضاربة خاصة بين الروس والبريطانيين من جهة، وحالة الخوف والتآمر
والريبة والبغض المنتشرة في البلاد من جهة أخرى في عهد السلطان عبد
الحميد الثاني، ثم أثناء حكم حزب "تركيا الفتاة"، ممَّا كوَّن العوامل
الرئيسية التي أدت في النهاية إلى مأساة الأرمن المروعة.
دمشق 15 شباط 2019
*** *** ***
المراجع:
-
الروضة الغنَّاء في دمشق الفيحاء،
نعمان قساطلي.
-
مرآة الشام (تاريخ دمشق وأهلها)،
عبد العزيز العظمة.
-
دمشق - صور من الماضي 1840 – 1918،
بدر الحاج.
-
“Mustafa Kémal” – de Benoist-Méchin
-
“Les Chrétiens d’Orient” de Pierre Rondot
-
“L’Epopée des Croisades” de René Grousset
-
“What Went Wrong” de Bernard Lewis