صوت صامت

خطابٌ روحيٌّ مختلف

 

توفيق عبود

 

قيل: "حين تختفي لغة الحوار وتعجز الكلمات، يصبح الصمت الوسيلة الوحيدة للتعبير."

 

أمامي الآن كتاب ذو عنوان لافت: صوت صامت، من تأليف الأب حليم عبد الله؛ عنوان يغريك بالقراءة، ويشدُّك إلى موضوعات المؤلِّف الآخذة بأعناق بعضها بعضًا، فتخرج من قراءته مأخوذًا بوحدة فكرية قوامها البراءة والعذوبة والفطرة النيِّرة، فتشعر بأنك معه في كلِّ منعطف، تتبع خطواته المركَّزة، وإن تكن صامتة وهادئة. فقد تجرأ، وهو يدري أن الصمت، كالريح، يؤجِّج ويشعل الحرائق ويطفئ الشُّعَل النابتة على الجذور، فلا تعود تتَّقد أضواؤها التي أوقِدَت بزيت غير مقدس.

قرأت في مقدمة الكتاب قول المؤلِّف: "إن كتابي هذا مجموعة مقالات – رسائل – كتبتها لأهل الطلاب لترافق أولادهم في مسيرتهم عند النضج"، فأبديت خشيتي على هذا الكاتب الذي أحببت نهجه الفريد في كل مؤلفاته السابقة – وكانت تغريدًا خارج السرب – في نظرته إلى واقع القضايا السياسية والاجتماعية ورؤيته المميزة في كتابه الوجه الآخر للحرب في لبنان: ففي ثناياه نظرة عميقة وثاقبة، وفيه وطنية صارخة، بخلاف ما كُتِبَ في هذا الموضوع المهم. ثم كأن كتابه الجريء اعترافات ومشاكسات وقد تجلَّت فيه رؤيته النبوية – ولا أغالي! – إذ بسط الحقائق الدينية وقرَّع ممثلي الأديان على عدم فهمهم، أو لتمويههم الشؤون الجوهرية لتغدو كأنها "فولكلور" مزخرف، منحرفة عن موردها النقي الصافي. ورأيته كذلك في سائر مؤلفاته الجادة والرصينة، المعبِّرة عن فكرة سامية تجول في رأس هذا الكاهن الجليل.

لذلك كانت خشيتي وخوفي من أن أقع في هذا الكتاب صوت صامت على رتابة وعظ وإرشاد تتجلِّى فيها البلادة بحكم موضوعاتها. ولكن خوفي تبدد وزال وأنا أقرأ في نهم وأعيد القراءة، متمثلاً أمامي شموخًا في الفكر وتعاليًا في النبرة يُبعِدان الملل والسأم.

اختار أديبنا لغة سهلة مبسَّطة، أقرب ما تكون إلى لغة النصِّ والحوار، فجذبنا إلى تتبُّع مساره الفكري في رغبة ولهفة. ينقلنا من عنوان إلى آخر، فتمتلئ أفئدتنا نورًا دافقًا من شقِّ قلم هذا الراعي الصالح والمُصلِح. وتلك ميزة يتفرَّد بها أديبنا: فقلَّما رأينا صالحًا ومُصلِحًا في شخص واحد،. فأنتَ، يا أبتِ، كذلك، بطروحاتك وتجرُّدك وحدبك على عمل الخير وجرأتك وحسن سريرتك وإخلاصك للرسالة التي ائتُمِنْتَ عليها، حيث لا تجريح، بل دلالة واضحة على عمق التجربة الخلاصية.

هكذا – وفي شفافية مرهفة – تمرُّ أمامنا الموضوعات الدينية التي يعالجها هذا الكاهن والتي أضحت في واقعنا المملِّ روتينية؛ غير أنها خرجت من شقِّ قلمه لتهبنا صورة مختلفة في أذهاننا، حتى لكأننا أمام عمل جديد ليس من حياتنا اليومية وفي دُور عبادتنا. إنه نفسه، إنما بطعم شهي مميَّز، فنحسب أننا نتناول لقمة عيشنا ونحن جياع على مائدة هذا الكاتب المبدع، حيث نرى الديني والوطني متلازمين في دعواته.

يقول في مسيراتنا الاحتفالية: "نقطع مسافات طويلة لزيارة مكان مقدس. فهل نستطيع أن نقطع بضعة أمتار لنتصالح مع أخينا، أو مع جارنا، أو مع من أساء إلينا؟" ثم يتطرَّق إلى عودة البطريرك الماروني من رحلته وتوافُد الناس بعشرات الألوف لاستقباله، ويقول في جرأة تامة ويسمي الأشياء بأسمائها: "قاد غبطته حملة "تحرير" خارجي وهلَّلنا له؛ فلو قاد غبطته حملة "تحرير" داخلي ودعا المسيحيين الذين يملكون مئة مليون ليرة وما فوق إلى لقاء في بكركي وطلب إليهم أن يقتطعوا عشرة في المئة من أموالهم لتوزَّع على الفقراء والأيتام والمعاقين، فكم إنسان يأتي إلى بكركي ملبِّيًا نداء البطريرك؟"

ويبلغ المؤلف ذروة التألق في "كما أرسلني الآب أنا مرسِلُكم" قائلاً: "وفي هذه الظروف السياسية والاقتصادية التي تمرُّ بها البلاد، ألا نتصرَّف كأننا لسنا أصحاب رسالة؟ هذا الخطاب الذي نسمعه اليوم، ومن الجميع، هل يترجم همَّ الرسالة، وهل يحمل شيئًا من الرجاء؟ في زمن الحرب كنَّا نقول: الدولة الفلانية تتآمر علينا. أما اليوم ألا نتآمر كلُّنا على أنفسنا؟ هذا الخطاب الذي يتمحور حول فكرة واحدة: "هذا البلد لم يعد لنا، يجب أن نتركه"، أليس هو المؤامرة ننفِّذها على أنفسنا؟" ثم يتابع الأب حليم: فلو سألنا كلَّ واحد من هؤلاء بدوره: ماذا ينقصك؟ هل حُرِمْتَ من الكماليات؟ وفي زواج ابنك أو ابنتك هل حُرمتَ من إقامة حفلة تدهش بها الجيران وتبهرهم؟"

يجبهنا بهذه التساؤلات لتردَّ على المشكِّكين في مسيرة الوطن الجريح. ومما يزيد في آلامه حملة المستلقين خارج التاريخ، وهم – عن علم أو عن جهل، لا فرق – ينادون تارة بالإحباط وطورًا باللامبالاة حيال الأمور المصيرية.

وإن كان الأب حليم انطلق في كتابه هذا من عناوين دينية مسيحية فهو يتناول الشأن الوطني في نظر ثاقب ورؤية مستقبلية، لعلمه أن ما يدعو إليه يصبُّ في خانة الوطن الذي قيل فيه: "إنه رسالة"، لذا أعلن حربه على الأفكار الهدَّامة وسلَّط عليها الأضواء وفضحها.

هل تكون عامة الناس التي تقول: "كل مين على دينو الله يعينو" أفْقَهَ من الفقهاء الذين ما برح بعضهم يردِّد أن لا خلاص إلا باتباع هذا المذهب فحسب؟! وهنا تلحُّ علينا مقولة فيلسوف الفريكة أمين الريحاني القائل: "نريد دينًا ولكن بدون لاهوت." وأنا أقول في تواضع: نريد دينًا كما قدَّمه لنا الأب حليم عبد الله في كتابه هذا صوت صامت.

لقد أبصرتَ أنتَ يا أبتِ الفاضل، بينما اكتفى سواك – وهم كُثُرٌ – بالنظر والتنظير. فمرحبًا بك وبطروحاتك، ترمي بها خارج الطوق. إنها صرخة مكتومة عمرها عصور أطلقها هذا الكاهن الحارث في كَرْمِ الرب، أطلقها صرخة مدوية من صوته الصامت؛ بل أطلق قنبلة مشعَّة تفجَّرت أنوارُها في الأفئدة فملأتْها حبورًا وبهجة، فشدَّدَتْ العزائم وقوَّتْ الإرادة الخيِّرة ونزلت على القلوب كما الندى على الأزهار في فصل القيظ.

إن طريقة معالجة الموضوعات المتعددة التي حرَّرها الأب حليم في كتابه هذا تأخذ برقاب بعضها بعضًا، وإن اختلفت العناوين. ويطيب لي أن أتوقف قليلاً أمام عنوان "وتكونون لي شهودًا"، وقصة الشهود التي هجعت في رأسه حتى أصبح كاهنًا، ورأى كيف نعظ وكيف نعلِّم وكيف نعيش. استيقظت آنذاك قصة ذاك "الشهود" الذي كان يجلس على درج السراي في أميون، فلم يجده يتيمًا، ولا وحيدًا – فله آباءٌ وأمَّهات وأخوة وأخوات، منهم من يعلِّمون اللاهوت، ومنهم من يعظون بكلِّ الفضائل والقيم. ذاك المسكين امتهن الشهادة من أجل ثلاث ليرات ليعيش، وامتهن اخوتُه الشهادة لنيل صيت ومركز ولقب. ويتابع المؤلف قائلاً: "نحن اليوم نصلِّي من أجل وحدة المسيحيين "الممزَّقين"، وندَّعي أننا ننتسب إلى المسيح الواحد، وأننا شهود "الوحدة والمحبة". هل نشهد للمسيح في أعمالنا؟ أم نحكي عنه مثل ذاك الذي كان يجلس على درج السراي في أميون؟"

ولا أجد كلامًا بعد هذا يفي للدلالة على عمق تفكير هذا الكاهن وتوقه إلى الإرث الرسولي الصحيح ودعوته الجميع إلى المحبة الحقيقية والصفح، لنكون بالفعل مسيحيين، أبلغ من هذه الرسالة الموجهة إلى الجميع، ووضعهم في مواجهة ذواتهم لتتم فينا رسالة المخلِّص؛ ويمكننا آنذاك أن ندَّعي أننا تلاميذه وأننا مرسلون لزرع تعاليمه السامية بالمثل الحي والقدوة الصالحة.

قد تزعج بعض موضوعات هذا الكتاب بعض المتعنتين، فلا يأبهون لروح الكاتب المتحرِّر، المخلص، الذي يدعونا إلى الانضواء تحت جناح هذه الرسالة السماوية المثلى، لنعلن جميعًا الشهادة للمسيح عملاً وتطبيقًا، لا كلامًا فارغًا؛ حتى ليصحَّ فيه قول الفيلسوف نيتشه: "حين ترى الآخرين يرجمونك من الخلف، فاعلم أنك في المقدمة."

*** *** ***

عن النهار، الجمعة 5 تموز 2002

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود