تأمُّلات كريستوف أندريه حول "سعادة العيش"

التفاؤل الصافي الذكيُّ ومقاومة إغراء التعاسة

 

ندى الحاج

 

يبحث الجميع عن السعادة من غير أن يعرفوا وجهتها، كالثملين يفتشون عن بيوتهم وهم يعلمون مشوشين بوجودها.

فولتير

 

في كتابه الأخير، الصادر بعنوان العيش سعيدًا عن منشورات أوديل جاكوب، يعلِّمنا الطبيب والمعالج النفسي كريستوف أندريه تذوُّق السعادة اليومية الصغيرة والسعادة التي نربيها لتدوم. كما يعلِّمنا أن نكتشف نموذج السعادة الذي يلائم شخصيتنا وأن نقاوم إغراء التعاسة والكآبة وأن نزرع في نفوسنا تفاؤلاً ذكيًّا صافيًا.

 

غالبًا ما يتحدث المحلِّلون النفسيون عن حالات الألم والعُصاب والانهيار التي يعالجونها يوميًّا؛ لكن كريستوف أندريه اختار التحدث عن السعادة التي يؤكد لنا إمكان وجودها، حتى لو لم نولد جميعا مفطورين عليها أو مستعدين لها بالبيئة والظروف.

في هذا الزمن المقلق تتجسد السعادة سلاحًا فاعلاً ضد اليأس. من دونها لا يمكن الإنسان، في تعبير أندريه، أن يتحمل فكرة الموت. ولكثرة ما قَصَدَهُ الناس المشتكون من عدم قدرتهم على الوصول إليها، رغب أندريه في التفتيش عن الوسائل الأفضل لبلوغها. وهو يفرِّق بين السعادة الانفعالية والسعادة البنَّاءة، اللتين لا تلتقيان بالضرورة. الحب، مثلاً، كمنبع أول للسعادة الانفعالية، معضلة أكبر بالنسبة إلى السعادة البناءة. يحتاج الإنسان إلى روابط ترضيه ليكون سعيدًا. ونعرف أن القدرة الجيدة على التواصل تساهم في الإحساس بالسعادة، وأن النجاح المهني لا يكفي خارج الجو العلائقي الجيد في العمل.

يلقى بعضهم صعوبة جمَّة في العثور على السعادة. فالقلقون يعيشون دومًا في هاجس "المابعد"، فيستبقون النهاية الفجائية للأمور الحسنة. المتشائمون يحتاجون إلى تصور الأسوأ كي لا يفاجئهم إذا ما حلَّ بهم. أما المزاجيون فيتأرجحون بين مراحل من الإحباط والغبطة. كما أن هناك فئة من الذين يعارضون شرعية السعادة في ظلِّ آلام الآخرين – وهذا ما يعتبره أندريه أنانية وعماء؛ إذ يبدو ظاهريًّا موقفًا فلسفيًّا وأخلاقيًّا، بينما يستند، في العمق، إلى صعوبات شخصية في بلوغ السعادة. وتتجنب فئة أخرى خطر السعادة التي تتبعها التعاسة حتمًا. يعتبر أندريه أن التعاسة تنتظرنا بالمرصاد في وقت من الأوقات لأن جوهر السعادة مرحلي وغير مستقر – فضلاً عن الموت الذي يصيبنا ويصيب أحبَّاءنا.

غالبًا ما تتضمن الحياة أمورًا مزعجة، كما أن الانفعالات السلبية أصلب وأشد من الانفعالات الإيجابية. أن نعيش يعني أن نتعرض للمرض والفقد والألم؛ لكن الامتناع عن السعادة لا يسعه أن يمنع عنا المآسي. ذكاء الحياة، يراه كريستوف أندريه في الاقتناع بالأحداث السعيدة التي تُصادِفنا، مدركين عدم استمراريَّتها. وتلك وجهة نظر المتفائلين؛ فالانفعالات السلبية لا تقوِّينا.

الشعور بالسعادة أمر نسبي وذاتي، لأننا نختار وفق ميولنا الأساسية بعض العناصر في حياتنا ونتجاهل عناصر أخرى، فنغفل عن ظروف قد تُسعِدُنا ونفقدها؛ أو على العكس، نتغذى من تجارب سعيدة وذكريات احتفظنا بها منها.

تعمل السعادة على مستويات عديدة لدى الإنسان: هناك بعض الأشخاص الذين يتمتعون بمزاج أكثر استعدادًا لالتقاط الانفعالات الإيجابية؛ وهذا المزاج فطري ناتج من الآلية الوراثية، تضاف إليه الظروف البيئية. تمر علاقتنا بالسعادة عبر ما تعلَّمناه من محيطنا خلال نشأتنا وكيف ساعدنا هذا المحيط على إدراكها: كأن نرى والدينا كيف كانا يتصرفان حيال أمور الحياة الصغيرة، في إحباط أو عدم استقرار، في حكمة أو خفة، فنتعلَّم منهما التعامل مع السعادة منذ العمر الباكر.

والأطفال هم الأكثر موهبة في التقاط السعادة: فارتباطهم بالماضي والمستقبل أبسط عامة من الراشدين. الطفولة هي مرحلة السعادة غير المخبأة؛ إذ لا يقاوم الطفل فيها إطلاق صرخات الفرح. ويتفوق الأطفال على الراشدين في قدرتهم على عيش اللحظة، رغم أن بعضهم من ذوي المزاج القلق لا يقوون على ذلك. ولو استطاع الراشد العمل على ذاته والتراجع عن رؤية الحياة في سوداوية، فإنه يصعب على الطفل أن يتخذ قرارًا مماثلاً لكونه غير مستقل. أما المراهقون فلا يهتمون بالسعادة؛ إذ يجدونها سطحية وخاملة، ويحلمون بالمطلق والتجارب المتطرفة.

العمر الدالُّ على النضج، في رأي كريستوف أندريه، هو الذي نشرع معه في التساؤل حول السعادة؛ إنما لا عمر مثاليًّا. لذلك، حتى لو بدا أننا أكثر استعدادًا للعيش في سعادة في الستين من عمرنا، لدى تخلصنا من الانشغالات العائلية، ففي المقابل، كلما تقدَّمنا في السن، تبدلت طبيعة السعادة وبحثنا عن الأكثر هدوءًا وحكمة.

يؤكد أندريه أننا نولد موهوبين للسعادة أو لا؛ إنما يسعنا أن نتعلم، مع بعض الجهد، كيف نضحي تلامذة في مدرسة السعادة – رغم أن فكرة "الجهد" تبدو غير متجانسة مع السعادة التي نتصورها "هبة" تدعو نفسها إلينا بلا سابق إنذار.

يتحدد الشرط الأول لبلوغ السعادة في الكفِّ عن محاربة الذات ونقدها باستمرار. كما أن السعادة لا تنسجم مع التبعية: فلو ألحقنا سعادتنا بأشخاص آخرين أو بمركز اجتماعي أو بممتلكات مادية، لتعرَّضنا للألم والخيبة. لذا علينا أن نغذي استقلاليَّتنا وحرية إرادتنا، ونلبث، في الوقت نفسه، مرتبطين اجتماعيًّا بالآخرين كي نجد التوازن المطلوب.

ومن المهم جدًّا التخلِّي عن هاجس السيطرة، في شكل كلِّيٍّ، على محيطنا والأحداث. ونلاحظ أن السعداء هم الذين حددوا لأنفسهم أهدافًا في حياتهم من غير أن يستميتوا في بلوغ الكمال أو يبالغوا في الصلابة الفكرية. فالسعادة، في رأي أندريه، مرتبطة على نحو وثيق بقدرتنا على الشعور بالغنى الذي تمنحنا إياه تجاربنا.

ويؤكد كريستوف أندريه، أخيرًا، أن كتابه الجديد العيش سعيدًا دفعه إلى تنظيم جهوده في طريقة مختلفة من أجل بلوغ السعادة؛ إذ تأمَّل كثيرًا في الأخطاء التي وقع فيها وفي الأفراح الصغيرة التي حاذاها من دون الانتباه إليها. ولا يزعم أنه أكثر سعادة – مادامت السعادة ليست حالة مستقرة – لكنه يعتقد أنه أضحى أكثر قابلية للعيش سعيدًا.

*** *** ***

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود