|
الثقافة
الراهنة
بين التأويل
والتغريب
سمير
التقي
على
الرغم من انطلاق حركة التنوير العربية الأولى
منذ منتصف القرن التاسع عشر وبدايات العشرين،
لم تتمكن الحركة الثقافية الوطنية من تحقيق
التواصل المعرفي المطلوب بينها وبين فكر
العقلنة والتنوير والديمقراطية للمنوِّرين
الأوائل. بل
جاءت اللبرالية، ومن بعدها الماركسية،
بالنسبة إلى الكثير من مثقفينا، نمطًا جديدًا
من الاغتراب، نمطًا شعبويًّا لفكرٍ مسطَّح
يتخذ لبوس عقيدة وحيدة الوجه والأبعاد. أقول "اغتراب"
لأن النهضة التنويرية الأولى لم تُستكمَل قط؛
إذ سرعان ما دُفِنت، وهي لم تؤتِ بعد إلا
براعمها الأولى، تحت ركام من الثقافة
الشعبوية الحداثية، بمظاهرها وتجلِّياتها
المختلفة، من الماركسية الأحادية الرسمية،
إلى التيار القومي الشعبوي الشعاراتي، إلى
الليبرالية التابعة، إلى المدرسة البنيوية
السوربونية. ما كان ينقص هو
التأصيل: التأصيل تراثًا، تاريخًا؛ والتأصيل
معرفة، فلسفيًّا ومفهوميًّا. فما لم نتأصل في
الماضي بابن رشد والفارابي، كممثلين لذروة
معرفية من ذرى التاريخ؛ ما لم ندرك أن ثمة
خيطًا نورانيًّا غاية في المتانة يربط بين
هذه الذروة وبين كلٍّ من أرسطو وهيبوقراط
وجالينوس في الماضي، عبر منظومة فكرية وعلمية–معرفية
وعرفانية؛ ما لم ندرك معرفيًّا ذلك الخيط
النوراني التاريخي والإنساني الذي يشدُّ
كلاً من روسو وبيكون وشتراوس، كما يشدُّ
فلسفة هيغل، إلى الصوفية الهندوسية
والزرادشتية والمسيحية واليهودية؛ ما لم
ندرك مفهوم وحدة الوجود لابن عربي ونتمثله،
كما تجلَّى في القرن العشرين فلسفة وتصعيدًا (لا
انحطاطًا) من خلال الحركة السوريالية وما
بعدها؛ ما لم ندرك الإضافة التاريخية التي
أسَّست لها الفلسفة الأوروبية قبل ماركس؛ ما
لم نبنِ ماركس على العقلانية الكبرى، على
الفكر الموسوعي، على العلوم الأساسية، على
المفاهيم الفلسفية الكلِّية؛ ما لم نفعل ذلك
كلَّه، يصير ماركس نتفًا فلسفية، قزمًا
مخصيًّا! فلا التراث هو
مجرد تلك الأحداث التي لا يزال الفكر العربي
غارقًا في تفسيراتها؛ ولا الماضي، الذي نحاول
حشر أنفسنا فيه بادعاء الانتساب إليه، يمتُّ
إلينا بأية صلة! فالدولة
الإسلامية، مثلاً، أسَّست في فجرها تلك
المنظومة المعرفية وتلك المؤسَّسات التي
تمكنت من الحشد لقفزة تاريخية في الفكر
والثورة وتحقيقها. فهل نحن تمكنَّا؟ فما دمنا
لا نزال نبدأ بتأكيد تفوقنا المستند إلى
أمجاد الأجداد وإلى تبوُّأ مكانهم تحت الشمس
– لولا المؤامرات الصهيونية والإمبريالية! –؛
ما دمنا نزدري تلك المصادر الفكرية للعقلانية
العظمى والمفهوميات الكبرى، من كونفوشيوس
إلى إريش فروم؛ ما لم ننكب على الأرض، ندرس
تاريخ الإنسان فيها، تاريخ الإنسان الساعي،
الشغِّيل، تاريخ أشكال تجمع الإنسان، ليس كما
عمَّمها إنجلز أو ستالين أو نيكيتين، بل كما
قامت فعلاً على أرض الواقع في بلادنا، بدءًا
من الأمويين، لا بل بدءًا من سبأ وعمورية... ما لم نفعل،
يصير ماركس أو هيغل، مثلاً، مجرد مسخرة
استشراقية تجارية، مجرد شطحة غربية حداثية،
تقوم على سلسلة من البديهيات الجاهلة سرعان
ما تأفل – والسلام! في ظل هذه
الظروف لم يكن غريبًا أن يسود نوعٌ من تقديس
العامية النصية الحرفية – ذلك أن الحداثة
جاءت إلى بلادنا من خارج وطنها؛ أي أنها لم
تتأسَّس عبر تراكم تراث وطني ومعرفي وثقافي،
ولم تتكرس، على التوازي معها، تلك المؤسَّسات
والآليات الضرورية لتكريس هذه المفاهيم. ثم هل العرب هم
مجرد خالد بن الوليد، وعمر بن الخطاب،
ومعاوية، وهارون الرشيد، وابن رشد و... عبد
الناصر؟! من أين كان يأتي العبيد والجواري
والخصيان في القصور العربية؟ هل كانوا
يتراكضون ليسلِّموا أنفسهم لأقرب نخاس عربي؟!
هناك العبودية وشغل الإنسان العربي ذاته؛
هناك العنصرية واحتقار الزنوج؛ هناك المرأة
– وتلك أكبر الآهات! فتدهور العلاقة الأكثر
إنسانية في حياة الإنسان كان في أساس تدهور
مدنيَّته وانحطاطه هو بالذات إلى نمط من
الفحولية الهمجية. لكم هو مدهش،
ونحن نحاول هذا الاستعراض، أن نكتشف صعوبة
الاتفاق على تشخيص الأخطاء! ولعل سبب ذلك هو
أننا كنَّا – بكلِّ بساطة – خارج الموضوع...
أخطاؤنا كانت خارج الموضوع. قد يُفهَم من
هذا الطرح أنني أتوجَّه إلى النخبة فقط حين
أطالب بتأسيس الحداثة في بُعدها العربي؛
تأسيس الفكر الراهن للمثقفين العرب بدءًا من
أرسطو وفيثاغوراس، مرورًا بالفارابي وابن
رشد والسهروردي، ثم السكولاستيين، ومن بعدهم
كانت وأوغست كونت وسبينوزا، ثم هيغل.
والحقيقة أنني أقصد ذلك ولا أقصده! أقصد أن
البحث عن قصور البرنامج النهضوي المعاصر يبدأ
في استكمال ذاك المشروع الغض المبسط الذي بدأ
بالمتنوِّرين الأوائل؛ وأقصد، في الوقت
ذاته، نقل الحاجة إلى وعي جمعي مؤسِّس؛ أقصد
الحاجة إلى التأسيس لهذه المفاهيم، بما
يجعلها تتغلغل في قلب الثقافة اليومية للناس. فهل أنا أحلم؟! آمل ألا أكون
حالمًا! فما أعنيه، أولاً، هو الحاجة إلى
الاعتراف – تواضعًا – بأن الحضارة البشرية
تحرِّكها الثقافة والحضارة الأوروبيتين منذ
ما يقارب الثلاثة قرون. وهذه الحضارة، إذ لم
تنشأ إلا لتكون عالمية، لم يكن ممكنًا
للحضارة الغربية ومناهجها العقائدية
وفلسفاتها (بما فيها الفلسفة الماركسية
بالطبع) إلا أن تكون كونية إنسانية (بمعني
شمولية). ولقد انعكست مجريات تطور هذه العملية
على شعوب العالم بأسره، بدءًا من الأسباب
وصولاً إلى النتائج. وعلى الرغم مما
تحمله هذه الفكرة من تشويه، ومع إدراكنا
التام أن الغرب المتقدم لم ولا يقل عن غيره من
الأمم المستبدة عنفًا وبربرية، إلا أنني أجد
ضروريًّا الاعتراف بصحتها من حيث الأساس. لا
بدَّ من إثارة هذه الموضوعة لسحب ذلك الخبل
السلفي الذي يسود "بفضل" العقلية
السلفية بمختلف مشاربها – من سلفية ماركسية
عقائدية، إلى سلفية قومية، إلى السلفية
الدينية. فرفض هذه الموضوعة هو الأساس، هو
المنطلق في نزعة الانطواء ارتدادًا إلى
العصور الغابرة وطواطم الأسلاف، يؤدلجونها
كلٌّ في حزبه على طريقة مشيخته الوثنية! فلا
قيمة هنا للأمزجة وللعواطف. بدايةً،
أُقحِمَتْ شعوب العالم الثالث في التاريخ
كمواضيع، بل كمادة له. أما الآن فالمطلوب
اللازم هو تغيير هذا الواقع. لكننا، ما لم
ندرك هذا الواقع بالذات، لن نستطيع تغييره،
لن نستطيع تحرير وتطوير مجتمعنا ولا نقله إلى
حالة الديمقراطية والمدنية. و الآن، ونحن
نحاول مراجعة الماضي والبحث عن مقاربة أكثر
نجاحًا لواقع ثقافتنا العربية الراهنة، لا
بدَّ لكلِّ حامل لمشروع نهضة للأمة،
ماركسيًّا كان أم قوميًّا (مازلت جاهلاً لما
يريده عمليًّا أنصار تمييز الماركسية عن
التيار القومي؛ أي "دم أزرق" لأيِّ مشروع
نهضوي وطني قابل للحياة؟!) أم متدينًا، لا
بدَّ لنا من العودة لإكمال مشروع الأولين من
حيث انقطع. لا بدَّ أن نستكمل الحلقة–الأساس
المفوَّت؛ لا بدَّ من تعويض الشرط التاريخي
الأساسي الغائب وتصفية الرواسب المنهجية
التي نجمت عن غياب أو ضعف انتقال التأسيس
النظري للفكر الحداثي المعاصر إلى المنهجية
العلمية الأكاديمية. و لعلنا نستطيع
أن نوجز استعراض بعض من هذه الرواسب بما يلي: 1.
المركزية العربية أو الإسلامية ردًّا على
المركزية الغربية والصهيونية؛ مركزية جاهلية
جاهلة لغنى التراث البشري، من الغنوصية
الهندوسية، مثلاً، إلى جماليات الروحانية
المسيحية. 2.
مركزية
عربية أو إسلامية تقوم على وهم جوهر مطلق سامٍ
في الأمة فوق كلِّ الأمم، بديل لها
ولثقافاتها؛ جوهر كامن منذ الأزل، التمع فجأة
لفترة قصيرة، ثم انكفأ، بفضل دور تآمري
شيطاني أبدي لـ"صهيونية عالمية" أو
ماسونية أو صليبية أو شعوبية ما، لم يحن بعدُ
أوان تجاوزها (حسب الجفر أو غيره من صُفر
الكتب!). إنه مفهوم ردَّة: مفهوم يرتد على
كونية علم الكلام الإسلامي وأمميَّته وعلى
التجريد العالي للاهوت الإسلامي للفارابي
والكندي وابن رشد؛ ردَّة على إنسانية
المسيحية وأمميَّتها؛ ارتداد حتى على
هيراقليطس. 3.
مركزية
مفوتة، تقوم على مفهوم لاتاريخي، رافض أصلاً
لفكرة التاريخ، لنمو الزمن كندٍّ محايث
للوجود البشري؛ إنكار المغزى العظيم لأيام
عظيمة، ناتئة في تاريخنا؛ عدم إدراك عظمة
الفرق بين الخمسينات والثمانينات. بعضهم – ومنهم
"الماركسية الرسمية" – لم يدرك قيمة
الحركة القومية الشعبية العربية، عظمة عبد
الناصر؛ لم يدرك، لم يحسب هكذا، بكل بساطة،
حتمية – وهنا أقول حتمية – الدور التاريخي
للريف، للعسكر؛ لم يدرك الضرورة التاريخية
للـ"شعبية"، للـ"شيطان"، الذي
سُمِّيَ فيما بعد – سُمِّي تعسفًا وتغربًا (وسوفييتيًّا)،
بل تأثرًا باستشراق غربوي ماركسي سقط عند أول
منعطف – بالبرجوازية الصغيرة الريفية، ثم
اتخذ تسميات ما أنزل الله بها من سلطان،
تسميات لم تكن إلا توريات لتسويق سياسات
معينة. والدليل، ببساطة، أن ما من دولة من
بلدان العالم الثالث إلا ومرت من هذا الممر،
بشكل أو بآخر: معظم هذه الدول مرت بالممر
الشعبوي. ولننظر ماذا
حصل لتلك الدول التي استمر فيها التأسيس الظاهري
لنظام اجتماعي على النمط الغربي؛ أي هل
تمكَّنت، بل مكَّنت، من تجاوز مرحلة الشعبية؟
لم تستطع هذه الدول إلا أن تلتحق، أن تلتصق
بالجسد المركزي للإمبريالية. فليبراليتها
الحاكمة، وقد استغنت عن الشعبية وأدارت الظهر
لها، لم تجد من بدٍّ – وهي الدولة التي قامت
بالتعريف على أساس هذا الالتحاق – من
الاعتراف بلاوطنيتها، لاقوميتها، الاعتراف
بطائفيتها ولامدنيتها، وقصور الشرط الوطني
فيها (وبالطبع أقصد هنا المثال اللبناني). فهل
أفلتت هذه الدول من الازدواج والتحقت
بالمدنية؟ هل حققت مقومات مدنيتها ومقومات
المجتمع المدني فيها؟ لم تدرك "الماركسية
الرسمية"، أهمية، وموضوعية، بل وعلمية،
الحدث الناصري والبعثي الشعبي. فبعد ليبرالية
الحركة الوطنية، بعد انقسام البلدان العربية
من داخلها، بعد انقسام المجتمع في سوريا ومصر
والعراق (مثلاً، بل أساسًا) بين مجتمع مدني
مرتبط عضويًّا بمتطلبات إدخال السوق المحلية
التابعة والسلطة والدولة (كبنية فوقية)
التابعة، من جهة، كانت هناك، من جهة أخرى،
الشرائح الواسعة، شعبية وغير شعبية،
الممثِّلة لأنماط الإنتاج ما قبل الرأسمالية
التابعة؛ كانت هناك الجماهير الواسعة من كلِّ
بقايا المجتمع التقليدي مهمَّشة. الحركة القومية
العربية، الناصرية، حزب البعث، مثلت نهضة
إضافية، استكمالاً لنهضة، لتجاوز التهميش
والاغتراب الذي أفرزتْه ليبرالية الحركة
الوطنية. إنها "ثورة" هدفت إلى النهوض
بمجموع الأمة، الشعب، مع الاعتراف بوجود
أمتين، توسيع دائرة التمدُّن، توسيع دائرة
المجتمع السياسي والمدني، لتشمل الأمة قاطبة.
فالتقدم مفهوم كلِّي، مفهوم شعبي، أولاً
وأخيرًا. أما ما هو مطلوب فشيء آخر تمامًا. من أهم السمات–السلبيات
في الواقع "الإدراكي المفهومي" للنشاط
الثقافي العربي، وهم القفز فوق التاريخ. وهذا
الوهم قائم عمليًّا (ولعله قائم "موضوعيًّا"،
لكي لا نغرق في جلد الذات)، في أغلب مجتمعات
العالم الثالث التي تتعرض لتمزقات الضغوط
الخارجية، لافتعال تنميتها تحت ضغط المنافسة
العالمية. هذه المجتمعات، تبني تطورها، شكلاً
ومضمونًا، على أساس الاستجابة لمتطلبات
السوق العالمية. فهي تخضع لوهم إمكان تجاوز،
إمكان القفز فوق الآليات، العمليات، "المفاصل
العقلية"، التي شكلت بالنسبة إلى أوروبا
الغربية والدول الرأسمالية المتمتعة بتأصُّل
رأسماليتها، الأساس التاريخي، الخلفية
المعرفية، الموروث الثقافي الحضاري، لمجمل
منجزاتها. لذلك فإن بعضهم يخطر بباله أن من
الممكن الانتقال إلى النتيجة فورًا، إلى
العلمانية، دون المرور بمقدماتها، الانتقال
إلى التطبيق، إلى التقنية وتجاوز العلوم
الأساسية. الثورة العلمية–التقنية
لم تصل هكذا إلى كانت وهيغل وماركس؛ لقد
تأسَّست، تأصَّلت، تشبَّعت قبلاً،
بالسكولاستية، ثم بالموسوعية، ثم بالصوفية
الألمانية والعقلانيات الكبرى للقرن السابع
عشر والثامن عشر. كان المفترض
نظريًّا في "الحداثيين العرب" أن
يحاولوا تجاوز هذه الإشكالية. والحق أني لا
أجد مبررًا لهذا الافتراض: لا مبرِّر أن نفترض
أنهم يمكن أن يكونوا خارج الأزمة العامة
لمجتمعهم، رغم بعض الخصوصية التي يولِّدها
الراهن الثقافي، تأويلاً أو اغترابًا. ***
*** ***
|
|
|