كيف نجمع بين تجديد الإيمان وإرواء العقل؟

 

سهيل فرح

 

مفهوم الحقيقة

الحديث عن الحقيقة ليس بالأمر السهل، إذ يحمل في ثناياه الكثير من المعضلات. فعندما يتم تناول مفهوم الحقيقة بالمفرد يبدو، للوهلة الأولى، كأن ثمة حقيقة واحدة ثابتة؛ بينما عندما يجري الحديث عن الحقائق بصيغة الجمع، من حيث هي قضايا متعلقة بجزء ما من هذه الظاهرة، من هذا العلم، فهنا تحمل الحقيقة معنى جزئيًّا أو نسبيًّا. فيجري الحديث، في إطار المعرفة العلمية، مثلاً، عن أمر هو الحقيقة العلمية؛ ومن بعدُ تتفرع هذه الحقيقة إلى حقائق علمية عديدة، كالحقيقة الفيزيائية والحقيقة البيولوجية والحقيقية السوسيولوجية؛ ويمتد المجال ليشمل حقولاً معرفية في الوجود، كالحقيقة الفنية والحقيقة الدينية وغيرهما.

وهذه التساؤلات التي نطرحها مشروعة في جوهرها لأنها قد تساعدنا في توضيح التمييز بين الأشكال المتنوعة من الحقيقة، وعلى التمييز بين ما يسميه بعضهم الحقيقة المطلقة أو الحقيقة النسبية، الحقيقة اليقينية والحقيقة الترجيحية أو الاحتمالية، الحقيقة المادية الملموسة والحقيقة الصورية والروحية، الحقيقة الذاتية والحقيقة الموضوعية. وكافة هذه المفاهيم يبقى النظر فيها مجردًا ما لم يتم تحليلها بالمقارنة مع مصطلحات قريبة منها أو متداخلة معها، كالعلاقة بين الحقيقة والواقع، أو مع مصطلحات أخرى تدخل في الوعي الذاتي لدى هذا الطرف أو ذاك تحت اسم الخطأ أو الوهم أو الشك.

إن التصدي لهذه المعضلة يطرح مسألة اليقينيات أو الحقائق التي بناها بعضهم، من داخل الفكر العلمي أو من خارجه، على أخطاء تراكمت مع الزمن، وأضحت تمثل الحقائق اليقينية، ووصلت لدى بعضهم إلى درجة القداسة! وهذا الأمر يعقِّد المعضلة لأنه عندما يتم البحث في جوهر هذه اليقينيات ويجري الحفر في جينيالوجياتها، وصولاً إلى بدايات تكونها، تكون المفاجأة الكبرى إذا تم التأكد من أن هذه اليقينيات مبنية على أوهام!

ولما لم يكن من مهمة البحث تكريس الانتباه إلى مسألة الحقيقة كموضوعة مستقلة فإن الأمر هنا يقتصر على علاقة المفهوم بالمسألة العامة للأطروحة. من هنا، ومن أجل توخِّي الدقة، فإن البحث يستدعي الرؤية العقلانية النقدية لكلِّ وهم أو خطأ، والعمل علي الاقتراب من المفاهيم والحقائق الموجودة في واقع حياة البشر، في أنماط تفكيرهم وسلوكياتهم، في عالم الوعي عندهم وعالم اللاوعي، وهذا في إطار التصور العقلاني للمحسوس والملموس. والحقيقة الكونية، بدورها، قد تكون حاضرة أو موجودة في إطار اللامحسوس واللاملموس، أي في إطار موجودات العقل الباطن، أو في إطار القوانين والأسرار الموجودة في الطبيعة والكون التي ما زالت عصية على فهم العقل العلمي لها.

الحقيقة العلمية

لا جدال في أهمية العقل العلمي في اكتشاف أسرار الطبيعة والكون؛ ولا ضرورة للتأكيد على أهميته الفائقة في تحسين الحالة الصحية والمادية للإنسان في عالم دنياه؛ ولا حاجة للقول إنه استطاع، على مستوى العلوم الدقيقة والإنسانية، أن يفتح آفاقًا واسعة أمام الإنسان، وأن يزيل كلَّ ما هو واهم وخاطئ في تاريخ المعرفة، بما فيها المعرفة العلمية. وكما يقول كبار فلاسفة العلم فإن تاريخ العلم هو تاريخ أخطائه والتحرر الدائم منها. والعلم يمضي قُدُمًا في كشف مستمر لأسرار الأرض والكون؛ وتلك الأسرار تشكل المادة التي لا تنتهي للبحث والاستنتاج ولإعادة التجربة من جديد.

تلك وقائع بديهية؛ من ينكرها ينكر أهمية العقل العلمي في الحياة، وينكر الجانب الذي يساعد على بقاء حياة الكائنات وتحسينها واستمراريتها. بيد أن المسألة التي يجب الوقوف عندها هي الأسئلة الفلسفية الملحَّة التي تطرح نفسها حول علاقة العلم بالحياة، بالمادة والروح، وبالكون. بمعنى آخر: هل الحقيقة، بمعناها الفلسفي، هي علمية فقط؟ وهل الحياة علم وعقل فقط؟ أين الحقائق الأخرى في الحياة والكون؟ وهل يحمل الإنسان بعدًا واحدًا ماديًّا، أم أن له أبعادًا أخرى؟ وهناك أسئلة فلسفية أخرى تتعلق بالمعايير العلمية التي بموجبها نصوِّر أحكامنا الصائبة أو الخاطئة التي على أساسها نقبل بعض المبادئ ولا نقبل مبادئ أخرى.

كيف، على سبيل المثال، يمكننا أن نفرق بين معيارين مختلفين للحقيقة؟ كيف نفرق بين سببين لقبول أحد المبادئ؟ إن السبب أو الأسباب التي تحملنا على تصديق نصٍّ ما هو أننا نستطيع أن نستنبط منه نتائج يمكن تدقيقها بالمشاهدة؛ أو، بكلام آخر، نحن نصدِّق النصَّ بسبب نتائجه: نصدق قوانين نيوتن، مثلاً، لأننا نستطيع بواسطتها أن نحسب حركات الأجرام السماوية. والسبب الثاني هو أننا نصدق نصًّا ما لأنه يمكن استنباطه منطقيًّا من المبادئ الجلية. وفي لغتنا العلمية الحديثة نطلق على ذلك تسمية المعيار العلمي. وكافة النتائج العلمية السليمة ترتكز على الفرضيات التي لا يمكن إثباتها إلا بالتجربة.

بيد أن كلَّ الفروض والنتائج تبقى نسبية، إلى أن تأتي فرضيات ونتائج أخرى لتحلَّ محلَّها؛ لذا فليس من حقيقة ثابتة في العلم. إن المعيار العلمي للحقيقة ينطلق من الرؤية التي تماثل بين رؤية العين ورؤية العقل. وهذا المعيار هو، بدوره، خاضع لأكثر من تأويل، وتكون نتائجه أقرب إلى الغموض والتعقيد. هنا يتساءل المرء عن الفائدة العلمية لهذه المبادئ؟ فمن المفروض أن هذه المبادئ تعطي توصيفًا مقنعًا، وربما نهائيًّا، للكون والإنسان. فإذا ما تم اعتبار المجتمع البشري صورة عن الكون فإن الإنسان يتصرف بصورة طبيعية عندما يسير أو يتصرف وفقا لقوانين الكون. إلا أنه، من جهة أخرى، وإذا ما تم اعتبار أن المبادئ العلمية تعطي توصيفا ما للكون، فإن هذا التوصيف ينطلق من الفرضية العلمية التي تقول إن كلَّ الحقائق المادية يمكن استنباطها من قوانين الميكانيكا الكهربائية والديناميكا والذرة؛ وهذا يوقعنا في مخاطرة القول إنه ليس هناك في هذا الكون من وجود سوى للمادة، علمًا أن الكثير من المسائل الكونية التي تخرج عن إطار رؤية العين والعقل، والتي تدخل في إطار العالم الواسع الآفاق للروح والفن والإبداع، هي كلُّها حقائق موجودة، ولعلها تمثل الحالات الأكثر إشراقًا ومعنى في علاقة الإنسان بالكون.

فلسفة العلم، كما هو معلوم، انحازت إلى الرؤية الوضعية التي تعتبر أن العقل العلمي نهاية النهايات، وكأن لا وجود لفلسفة أو روحانيات أو لاوعي؛ كما أنها ترسم له مهمات وحدودًا لا يمكنه تجاوزها. فالعلم، بطبيعته، غير ثابت؛ وحقائقه، بطبيعة الأمر، غير ثابتة. فهو يعمل دائمًا على تجديد نفسه بالرؤية الجديدة المعتمِدة على مستجدات المصطلح والمنهج والمادة والموضوع. كما أن تاريخ العلم، كما يقول غاستون باشلار، "لا يُظهِر إيقاعًا متناوبًا بين الواقعية والوضعية، بين المذهب العقلي والمذهب الاختباري، بين مذهب الذرة ومذهب الطاقة، بين المنفصل والمتصل، ليس لأن سيكولوجية العالم تنوس في جهدها اليومي بين تشابه القوانين وتنوُّع الأشياء فحسب، بل لأن الفكر العلمي ينقسم انقسامًا واقعيًّا وانقسامًا وجوبيًّا في مجال كلِّ فكرة وصيغة".

وإذا كانت الحال الواقعية للعلم كذلك – وهي كذلك على الأرجح – فإن المعرفة العلمية للأمور، على واقعيتها وعقلانيتها وأهميتها الإنسانية الكبرى، معرفة نسبية، وكلُّ ما فيها قابل للتطور، للتعديل وللتغيير. من هنا ينبغي على المفكر أو الباحث في شؤون الدنيا والدين أن يحرِّر نفسه من وهم كان وقع فيه – ولا يزال – العديد من الفلاسفة وبعض علماء الطبيعيات والإنسانيات الذين يظنون أن الواقعية والعقلانية التامة محرابهم والذين يؤمنون أنهم قادرون على إعطاء صورة علمية واحدة للوجود. إنها نظرية غير متواضعة. فهذا الوجود الغزير، في كثرته ومعطياته الخارجية وفي وحدته الصميمية الكونية على حدٍّ سواء، يجعلنا نقطة صغيرة فيه ويدفعنا إلى الاعتقاد بأن أية حقيقة من الحقائق لا يمكنها أن تحيط ولو بالجانب الضئيل منه. كما أن الوجود الديني والدنيوي، في نظر العالِم المتواضع، لا يُدرَك دفعة واحدة، أو من خلال علم معين أو حقل معرفي واحد، لا في التجربة ولا في العقل. من هنا ينبغي النظر إلى تركيبة العقل العلمي، وإلى كلِّ تجاربه وفتوحاته، على أساس أنها تركيبة متحركة، حتى ولو بدا هذا التركيب من الناحية الفكرية أو الفلسفية معضلة لا يمكن حلُّها.

العلم، بمعناه المجرد، يزوِّدنا بالمعرفة التقنية وينمِّي فهمنا للكون. فالعلم والحقيقة العلمية يوفران للإنسان القدر الواسع من المعلومات الملموسة، ويضعان خبرتهما كلَّها في نظام متسق رائع، إلا أنه صامت. فالصورة "المطلقة" التي ينقلها الوضعيون، الكلاسيون منهم والجدد، والتي تعتبر أن العلم يتمكن من الفهم الكامل لكلِّ ما يحدث، تجعلنا نتصور أن الإنسان يتصرف كساعة ميكانيكية يمكن، في حدود ما يعلمه العلم، أن تسير على ما هي سائرة عليه، بلا وعي منها أو إرادة أو جهد أو ألم أو فرح أو مسؤولية؛ وهذا في الحقيقة مفهوم يحمل درجة عالية من المحدودية والابتذال. فالعلم لا يعرف ولا يحس باللذة والألم، بالجميل والقبيح، بالخير والشر، بالله والخلود، إلخ.

إن العقل العلمي الذي يعرف حدوده الإبستمولوجية متواضع جدًا. فهو يعمل في المادي والمحسوس ويبرع فيهما، ويسعى، إلى جانب دراسته للواقعي والعقلاني، لأن يفهم اللاواقعي والميتافيزيقي واللاواعي، وحتى الإحاطة ببعض أسرار الكون العامة. فكبار علماء القرن العشرين، من أينشتاين إلى شيلكوفسكي، ومن بلانك إلى فرنادسكي، ومن شارون إلى عظيموف، ومن تيار دُه شردان إلى كابيتسا وشيبوف، يدركون جيدًا الطاقة الجبارة للعلم وفتوحاته الكبرى؛ إلا أنهم يدركون جيدًا أيضًا أن العلم ليس كلَّ شيء في الحياة، ويعلمون جيدًا أن الكون يرتكز على تناغم المعادلة بين الروح والمادة.

لذلك، عند نظرتنا للحقائق العلمية المتنوعة والحقائق الكونية والروحانية الواسعة، وعند قراءتنا وتحليلنا أيَّ نص، وبالذات إذا كان يحمل في طياته شحنات واسعة من الرموز والاستعارات والصور والوجدانيات والروحانيات، ينبغي أن لا يتم الانطلاق من التوصيف العقلاني الصارم.

وفي هذا السياق لا يجوز النظر إلى الدين أو اللغة الدينية من باب المدخل العقلاني الصارم، أو من باب ما أسميناه بالحقيقة العلمية التي يقول عنها بعضهم إنها شمولية. فالنظرة أو الحقيقة أو التجربة الذاتية لدى المؤمنين تأتي عبر وجود ما نسميه حقيقة دينية، لها سماتها وخصائصها ولغتها وخطابها. وهذا ما يطرح علينا السؤال الآتي: هل الدين حال واقعية أو حقيقية؟

الحقيقة الدينية

هل صحيح قول الوضعيين – ومعهم فرويد – أن الإيمان الديني كان يمثل حال عدم نضج سيتغلب عليها العلم؟ سؤال لا يستطيع أن يجيب عليه العلم في صيغته أو تأويلاته، مثلما لا يمكن أن نجد الجواب الشافي عليه في الرؤية الشعبوية الدينية. فالحقيقة العلمية لا يمكن أن تجد المكان الطبيعي والنهائي لها في الرؤية الموضوعية.

إن الدين، كالشعر أو الموسيقى، لا يمكن أن يحاط به برؤية أو تفكير علمي صارم، ولا يمكن إخضاعه للمنهج التجريبي. الدين والحقيقة الدينية نتاج الإبداع الكوني المنفتح على المطلق. فالعلماء والفلاسفة الذين لا يجدون في مناهجهم وخطاباتهم مكانًا لله يشيرون عادة إلى فكرة الله العلَّة الأولى؛ وهذا مفهوم تم التخلِّي عنه، حتى من جانب النخب المفكرة في الخطاب الديني اليهودي والمسيحي والإسلامي. فالله الأكثر ذاتية لا يمكن إثباته، كأنه حقيقة موضوعية لا يختلف عليها اثنان. فلا يمكن وصف الله ضمن أيِّ نظام مادي في الكون؛ وليست مجدية تلك المحاولات التي تسعى إلى إثبات وجود الله منطقيًّا. كما أن الإيمان بالله لا ينبغي أن يأتي من خوف. فالأمر يتطلب حكمة إنسانية تفتح القلب لله وتدعوه دائمًا لأن يحضر في مُثُلنا الأخلاقية والكونية.

وعندما نتناول النص الديني ينبغي أن لا نقرأه انطلاقًا من الرؤية العلموية للأمور. فالرؤية العلمانية غير المؤمنة تصوِّر الآيات والعقائد الدينية على أنها خرافات وأساطير؛ ولكونها تنظر إلى النصوص بهذا المنظار فهي تظن أن لا شيء فيها صادق بالمعنى الحرفي. هذه القراءة العينية والحرفية تغيب عنها ناحية مهمة في علاقة الأنا الإنسانية بالمطلق. وهذه الناحية هي التي تشير وتهدينا إلى أن فكرة الله انطوت في الوعي الديني على معنى رمزي. فوجود الله ضروري لاستمرار وجود العالم والكون. ولعل حضور هذه القوة الرمزية الهائلة، التي سمَّاها العقل البشري الله، تعمل، كما كانت في الماضي وستعمل في الحاضر والمستقبل، بواسطة القوانين الطبيعية نفسها.

وبهذا فإن ثمة عملية تجانس بين الطبيعي والإلهي. إن الخضوع للبراهين المنطقية والحجج العقلية لا يجدي عندما يجري الحديث عن الله. فمن الأرحب والأجدى، في هذا السياق، أن نقرَّ بالنور الداخلي للحضور الديني المستقر في أعماق النفس الإنسانية الذي يفتح المجال واسعًا أمام مساحة رحبة من الرجاء لا يعطيها العقل ولا المادة ولا كلُّ أنواع السياسات البشرية.

إن الذين يرفضون صورة ما لله الذي ارتُكِبَت باسمه أبشع الحروب والكوارث الإنسانية المرعبة ينبغي احترامهم؛ كما أنه في الإمكان توظيف صورة الله كدواء غير مجدٍ أو كغاية لخيال متساهل. فلقد استُخدِمت فكرة الله مرارًا كأفيون مخدِّر للشعوب، على حدٍّ قول ماركس، كما فهم الله عن بعضهم على أنه وجود آخر يماثل وجودنا، أو بمعنى آخر، على "صورتنا ومثالنا"، لكنه أفضل منا في علياء سمائه التي ترادف صورة الفردوس المليء بكلِّ ما يشتهيه الإنسان في دنياه!

إن لله، حتى عند بعض الموسوعيين الماديين، حضورًا. بلوخ يرى أن فكرة الله طبيعية بالنسبة للحياة البشرية. فهذه الحياة موجهة دائما نحو المستقبل؛ ولأننا نشعر بحياتنا غير تامة وغير منتهية فإن هذا يولد فينا الحافز على أن نفكر ونطور كلَّ نقطة في حياتنا لتجاوز أنفسنا. فحتى الفلسفة تبدأ بالتساؤل الذي يكون بالتجربة. الله، بهذا المعنى، عند بلوخ وفويرباخ، مثل إنساني أعلى لم يتحقق بعد. كما أن ماكس هوركهايمر، المنظِّر الأبرز في مدرسة فرانكفورت، يرى أنه ما لم يشمل علمُ السياسة والأخلاق فكرةَ الله فإنهما سيبقيان متصفين بالبراغماتية والدهاء بدلاً من اتسامهما بالحكمة.

لا فائدة، إذن، من عملية إبعاد الدين عن الحضور في الذات الفردية والجماعية، وإبعاد العلم عن العمل الواسع في كشف أسرار القوانين الطبيعية وتوظيفها لخدمة الإنسان. إن إدخال الإنسان في لعبة إبعاد الواحد الآخرَ هي لعبة عبثية، حيث لا يمكن لأيٍّ منهما أن يستبعد الآخر أو يقصيه أو ينفيه. المهم هو وضع الحدود العاقلة بين الحقيقة العلمية والحقيقة الدينية، بين الحقيقة السياسية والحقيقة الأخلاقية، وتبيان ما هو متمايز أو متقاطع أو منسجم بين هذا وذاك.

وما يجعل علاقة الديني بالدنيوي متجانسة هو أن يُعطى لكلِّ بعد من أبعاد الشخصية الإنسانية حجمه الطبيعي. فالإنسان، في أبعاده المادية والروحانية، هو ابن التركيبة الكيمائية والبيولوجية للأرض والكون؛ وفي بُعده العقلاني هو ابن التطور الدماغي لهذا الكائن البشري؛ وفي بُعده الروحاني هو ابن الجانب الأكثر خلودية بين الكائنات الأخرى، هو ابن الله. ولا يمكن حصر وجوده البيولوجي أو الاجتماعي أو النفسي أو الثقافي في بُعد واحد أو بُعدين؛ فالصورة قد تكون أشمل فيما لو أخذناها بأبعادها الثلاثة، والمخاطرة في فهمه قد تقل في حال كانت إحاطتنا بهذه الأبعاد الثلاثة أشمل. فالمهم هو الإقرار بوجودها والعمل على ترسيخ قيم المعرفة العلمية في الأول، والنزعة المنفتحة في الثاني، وإعلاء قيم المحبة والسلام الداخلي والتسامي في الثالث.

إن للعقل حقلاً يفعل فيه ضمن ضوابط علمية. وهذه الضوابط تستند إلى مجموعة من المصطلحات والمفاهيم والمناهج غير ثابتة، بل هي في حال تغيُّر وحركة تجديد مستمرة؛ لذا فإن فاعليتها الزمنية والحياتية نسبية ومؤقتة خاضعة للمستجدات. وإذا كان العقل العلمي يفتش دائمًا عن الجديد في الطبيعة فهو يسعى لكشف أسرارها الموجودة في أصغر صغائرها، بدءًا من الذرة وانتهاء بالكون الواسع؛ لذا فإن مجاله مفتوح دائمًا للكشف. بينما القلب والوجدانيات لا تخضع لقوانين العقل العلمي، بل لمجال الروحانيات الرحبة، التي تفتح المجال واسعًا أمام النفس لأن ترتقي إلى الأعلى والأسمى، وإلى الأكثر إشراقًا في الحياة الأخلاقية والجمالية والإنسانية عامة، وتسعى أيضًا للإبحار الواسع في عالم الميتافيزيقا التي لا حدود لشطآنها وفضاءاتها.

إذن لكلِّ مجال حقوله. ولعل من الصعوبة – بل من الخطورة – أن نجعل من فكرة النظام العقلاني–العلمي المحكم خطابًا شاملاً للوجود بأسره. كما أن الخطورة الأخرى تقع في الجانب الآخر، حيث تعمل بعض الفعاليات المستفيدة من الإرث التاريخي الشعبوي–الديني والطائفي من أجل محاولة كبح العقل العلمي في اكتشاف أسرار الطبيعة.

الحالة الدينية حقيقة موجودة. فقد يلتحق الإنسان بالمكان الذي يمارس فيه عباداته وطقوسه، وقد لا يلتحق به أبدًا. قد يعتبر الكثير من الأقوال التي جاءت في النصوص الدينية ضربًا من الخرافات والحكايات الشعبية. وقد يرى بعضهم أن هناك زيفًا في العقائد لأنه اعتاد أن يأخذ بها ويقرأها حرفيًّا؛ وبهذا فإنه لا يتمكن من إدراك حقيقتها الرمزية ولا وظيفتها في عالم الإيمان، ومن هنا يأخذ منها موقعًا سلبيًّا محضًا. وقد يقف أيضًا ضد صورة الله أو الدين أو المذهب المرتبطة بالتعصب والحرب وسائر أشكال التنازع ورفض الآخر. قد يسمي نفسه علمانيًّا أو لاأدريًّا أو ملحدًا إلخ. ولكن في الحصيلة العامة لا ينتج عن ذلك بالضرورة الوصول إلى حال من اليقين المطلق بأنه لاديني، حتى ولو هو أقرَّ بذلك؛ فله دينه، وقد يتمثل في صورة من المشاعر الروحانية الواضحة. فعلى حدِّ قول الباحث في علاقة الفلسفة بالأديان وولتر ستيس: "إن لكلِّ إنسان ديانة معينة تعتمد على طريق خاص وتقوم بتجربتها الخاصة؛ وليس من حقِّ أولئك الذين عثروا على طريقهم وخبرتهم الخاصة أن يدينوا أولئك الذين عثروا على طريق آخر أو خبرة أخرى."

إننا في حاجة فعلاً إلى تجديد رؤيتنا الدينية لله وللكون. هناك تجارب نقية جدًّا في الماضي؛ وهناك نخب علمية ولاهوتية تفتح قلوبها مشرعة على العلم والله لتجد فيهما المفيد والخلاق والأخلاقي، الخاص والعام، الأرضي والكوني. وهذه المحاولات تجد حضورًا لها في كلِّ الجماعات والأديان والمعارف. ولعلَّ واحدة من هذه المحاولات هي التجربة الخلاقة التي قام بها تيار دُه شاردان وجان شارون وغيرهما من الذين دمجوا صورة الإيمان المتسامية بالعلم الحديث. فهؤلاء دعوا المسيحيين إلى أن ينقلوا إيمانهم بيسوع الإنسان إلى تبنِّي صورة كونية للمسيح تأخذ الجانب المتسامي في المسيحية التي تحضر في كلِّ ذات بشرية خيِّرة، نواتها المحبة التي تحيي الخلق كلَّه.

ولعلَّنا في حاجة أيضًا إلى إحياء الصورة الرائعة التي وصل إليها شيخ الصوفية العرب والمسلمين ابن عربي حول وحدة الوجود والتي وجدت أصداء لها عند متصوفين كبار معاصرين في الشرق والغرب، أمثال فريتيوف شووُن السويسري وغيره ممَّن يؤكدون على مفهوم الألوهة المرتبطة بالحقيقة الدينية الواحدة الموجودة عند المؤمنين الحكماء قاطبة. فابن عربي الذي يؤمن بأن الوجود هو أصل التشابه والتباين وعلة الجمع والفرق، يقول إنه في الواحد تجتمع الأشياء وتتفرق. فالغاية التي يتم التعبير عنها في الوعي الديني لدى المؤمنين بديانات مختلفة يعبَّر عنها بطرق مختلفة، إلا أن الجوهر واحد هو "الخلاص" أو "السماء" أو "النرفانا" أو "الاتحاد مع برهمن" (موكشا). في تلك الغاية توجد الغبطة اللامتناهية. وهذه الصورة موجودة في الرصيد الروحي العميق والراقي لدى كلِّ الأديان والجماعات المؤمنة.

إن المهمة الشاقة المطلوبة من العقول النيِّرة والإرادات الخيِّرة العاملة في الشأن الديني وفي حقول الدنيا هو تجديد جذوة الإيمان الصافي في النفوس وإرواء العقل الإنساني المتعطش دائمًا إلى المعرفة العلمية المتجددة.

*** *** ***

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود