|
المكان
والزمان* تحفل المكتبات بعدد من الكتب، لاقى
بعضها رواجًا غير متوقَّع، وأحيانًا في غير
محلِّه. ولا شكَّ في أن عددًا كبيرًا من هذه
الكتب اكتفى بجمع ما وَرَدَ في كتب أخرى
وبنقله؛ فقلما يقع القارئ على كتاب يقدِّم
مؤلِّفُه بحثًا جديدًا وهامًّا، ناتجًا عن
منحى أفكاره الشخصي. إن
الكتاب الذي نقدِّم له ينضوي تحت القائمة
الأخيرة. يبحث مؤلِّف الكتاب في المبادئ
الأساسية التي تُعتبَر الدعامة للنظريات
وللأعمال العلمية. وتبيِّن الدراسة
التاريخية أن جلَّ هذه المبادئ أوْجَدَها
الفلاسفة الإغريق منذ أكثر من ألفي عام.
والسؤال هو: ما مدى صحة هذه المفاهيم، وكيف
نشأت؟ أسئلة تتصدى لها قلة من الباحثين. يحاول
المؤلِّف، في غضون تسعة عشر فصلاً تشكِّل
الكتاب، تبيان تناقض الكثير من هذه المبادئ،
وما أدَّتْ إليه اليوم. فالعلم ثري
بالمحيِّرات paradoxes
والمتناقضات؛ ويحاول غالبًا تجاوزها
باستخدام أساليب رياضية اصطناعية. ولعل
المفهوم الأول هو النقطة. فقد تعلَّمنا أن
النقطة هي – مثلاً – الأثر الدقيق الذي يتركه
قلم رصاص على ورقة بيضاء. وفيما بعد، قيل لنا
إن هذا التمثيل للنقطة غير صحيح، وإنه كان
مفيدًا لتقريب هذا المفهوم من عقولنا النامية.
فتعريف النقطة هو: "النقطة كائن لا أبعاد له."
وعلى مفهوم النقطة (كائن دون امتداد أو بُعد)،
بنى الباحثون العلوم التي تبحث في المدى
والأبعاد! فكيف يمكن للمدى أن ينتج من كائن
عديم البعد؟! وعلَّمتْنا
المدرسة أيضًا في سنواتها الأولى أنه يمكن
تمثيل الحجم بواسطة مكعب، مثلاً، وأن هذا
الحجم محدود بسطوح. وقيل لنا فيما بعد إنه،
لكي تلعب السطوح دورها كحدود، يجب ألا تكون
لها سماكة؛ وبالتالي، فالسطوح، وفقًا لهذا
التعريف، ما هي إلا كائنات هندسية لا وجود
حقيقيًّا لها. فكيف، بالتالي، يحق لنا أن
نحدِّد حجمًا – وهو كائن فيزيقي حقيقي –
بعناصر خيالية ليست لها أية سماكة؟ تعلَّمنا
أيضًا موضوعة إقليدس القائلة إنه "من نقطة
خارج مستقيم يمكننا رسم موازٍ وحيد له".
ولكن، بما أن المستقيم كائن لا عرض له ولا
سماكة، يسأل المؤلِّف: "ابتداءً من أية
مسافة يمكن لنا أن نعتبر أن نقطة لا بُعد لها
تصبح خارجة عن مستقيم لا عرض له؟" ويسأل
المؤلِّف أيضًا: هل من الرصانة المنطقية أن
نقول إن مستقيمين متوازيين يلتقيان في نقطة
موجودة في اللانهاية؟ فمفهوم "التوازي"
يعني أن بُعدًا ثابتًا يفصل بين المستقيمين.
فكيف اختفى هذا البعد؟ يقول المؤلِّف إن هذا
الافتراض كان مفيدًا في بعض التطبيقات. أفليس
من الأصح أن نقول عندئذٍ إننا نعتبر هذا البعد
الفاصل مهملاً في اللانهاية؟ وأيضًا:
إذا كنَّا نستطيع معرفة عدد الأشياء التي
تتألَّف منها مجموعة ما، فمن المتفَق عليه أن
نقول إن هذه المجموعة محدودة بهذا العدد.
ويمكن القول في شكل دقيق إنه إذا أمكن التعبير
عن كمية ما بعددٍ طبيعي فإن هذه الكمية محدودة
بهذا العدد؛ إذًا، هذه الكمية منتهية، مهما
كانت قيمة هذا العدد الطبيعي. وهكذا فإن العدد
24319876543211211109876543182، مثلاً، يمثل كمية محدودة
تمامًا، كما هي الحال مع العدد 3! من
ناحية أخرى، يمكن لنا دائمًا، حيال كمية من
الأشياء، تعدادُها (نظريًّا و/أو عمليًّا)
وإعطاء مجموعها عددًا طبيعيًّا. وبما أن
الحال كذلك، كيف نبني، بالتالي، نظريات رائعة
وحاذقة، تنطلق في أساسها من افتراض وجود
مجموعات لانهائية – أي غير قابلة للتعداد؟! يحدِّثنا
بودان عن الهندسات الجديدة، فيقول إن من
المتفق عليه أن نظرية رياضية تُعتبَر نظرية
جيدة إذا حققت الشرط الآتي: "أن لا تصل
المسلَّمات والبديهيات التي تعتمد عليها هذه
النظرية إلى تناقض لدى إجراء المحاكمات
المنطقية." ويسأل المؤلِّف: أين يقع
عندئذٍ اللقاء مع الواقع الذي يتميَّز العلم
الصحيح بدراسته؟ فإذا لم يخضع علمٌ ما (أو
نظرية ما) للواقع، فماذا يمكن لدوره أن يكون
في فهم هذا الواقع؟ وهل يمكن اعتبار سلسلة
الاستنتاجات التي تنطلق من أسُس اختيرت حسب
رغبة واضعها – هل يمكن اعتبارها علمًا أم
مجرد لعبة فكرية؟ تلكم
بعض الأسئلة التي يطرحها المؤلِّف. وهو لا
يكتفي ببيان تلك المفارقات السابقة؛ إذ يقوم
بإعادة بناء وصياغة التعريفات الأساسية، من
نقطة ومستقيم وسطح وحجم إلخ. وتعريفات
المؤلِّف تنطلق من الواقع لتعود إليه. وهو،
انطلاقًا من هذا، يقوم بدراسة مفهومَيْ
الزمان والمكان. كما يدرس المشكلات التي
تطرحها الشروط المتعلقة بانتشار الضوء؛ وهذا
يقوده إلى توجيه انتقادات مهمة إلى نظرية
النسبية ذاتها. وقد
استخدم المؤلِّف في عرض أفكاره مزيجًا من
التاريخ والفلسفة العلمية والتحليل الرياضي،
مما جعل الكتاب ممتعًا ومشوقًا، ويسمح لعدد
كبير من القراء الاطلاع عليه، رغم أنه موجَّه
في الأساس إلى الباحثين. لذا، ما من شكٍّ في أن
هذه الدراسة الرائدة ستكون لها مكانتها لدى
الأجيال المقبلة من الباحثين. ***
*** *** تنضيد: نبيل
سلامة * Léonel Beudin, Espace et
matière : La véritable nature des données fondamentales,
Édition La Pensée Universelle, Paris, 1982.
|
|
|