الصهيونية في مئة عام

تأريخ موثَّق لأطوار الهيمنة والصراع

 

وضاح يوسف الحلو

 

من أربعة أطوار وعشر مراحل تتشكَّل محتويات كتاب وليد الخالدي (مؤرِّخ فلسطيني) الصهيونية في مئة عام.*

 

والسؤال الذي يُطرَح بعد مراجعة هذا الكتاب: هل فقد العرب قضيتهم المركزية؟

لا، يجيب الخالدي عن هذا التساؤل. لكن بعد ظهور ملامح النظام الدولي الجديد وانهيار النظام الإقليمي العربي، يتبيَّن للعرب مدى صعوبة تحقيق الوحدة الائتلافية بينهم للردِّ على "النكبة" – خاصة بعدما اكتسب العرب مناعة جيدة ضدَّ كلِّ أشكال الحرية، مع تعذر تطوير النُّظُم العربية وفق معايير حداثية. والدلائل كثيرة على ذلك: ففيما ازدادت مستويات الخدمات العامة والتقديمات الاجتماعية عما كان عليه الوضع سابقًا، نرى أن عامة الناس تزداد تذمرًا من تردِّي أوضاع الأمة، ويزداد غضبُها من ضعف حكوماتها وتراخي قادتها أمام الحركة الصهيونية الوثابة، الدينامية، والفاعلة.

فمع تبلور الحركة الصهيونية في مؤتمر بازل (1897)، واتجاه الحركات الصهيونية نحو تنشيط الهجرة في اتجاه فلسطين، لم تتحرك الحكومات العربية في خطة مضادة. إنما صحيح أيضًا أنه كانت هناك حركات يهودية مناهضة للصهيونية، على أساس أن هذه العودة مرهونة بالإرادة الإلهية وظهور المسيح، وأن أية محاولة لاستباق هذه الإرادة من خلال المبادرة السياسية ما هي إلا بدعة تنبذها تعاليم الدين الصحيح.

سبق عددٌ من مفكِّري اليهود هرتسِل في بلورة الفكر الصهيوني، إلا أن هرتسِل حدَّد ماهيات الدولة العتيدة ومفاهيمها، مؤكدًا أنها الخلاص الأكيد لليهود جميعًا. وكانت، قبل هرتسِل، مفاهيم عديدة تتجاذب اليهود، منها نظرة موغلة في التشاؤم بخصوص أوضاع اليهود المستقبلية في البلاد الأوروبية. وهنا يرى المؤلِّف، د. وليد الخالدي، أن تأثيرات الثورة الفرنسية وتشريعات نابوليون أحدثت صدمة نفسية عنيفة لدى اليهود قاطبة. لكن الغريب أن اليهود مقبولون من الاشتراكية الأوروبية ومن اليمين الأمريكي في وقت واحد!

لم يأتِ تيودور هرتسِل بجديد في تشخيصه المعضلة اليهودية أو في وصفه للدولة اليهودية كعلاج لها. الجديد كان في طرحه المنهجي الهادئ وتوكيده الواثق على الدولة كحلٍّ أكيد لما يعانيه اليهود في المجتمعات الغربية، واطمئنانه التام إلى إمكان تحقيق الدولة عبر اقتراحاته. فقد اقترح قيام هيئتين:

1.    جمعية اليهود؛

2.    الوكالة اليهودية.

تجدر الإشارة إلى أن هرتسِل لم يحدِّد البلد المنوي الهجرة إليه، بل تساءل: هل يكون البلد فلسطين أم الأرجنتين؟ إلى ذلك، اعتبر أن "جمعية اليهود" هي الأداة السياسية بمفعول تقريري، فيما تتولى "الوكالة اليهودية" جمع المال. ورغم الدور الكبير الذي لعبه هرتسِل في بعث النهضة اليهودية تحت اسم "الصهيونية"، فإن اللاعب الأكبر في وثبة نهضوية كهذه هو حاييم وايزمان. وثق الغرب بوايزمان بصفته عالم كيمياء بارزًا خاصة، إثر توصُّله إلى اكتشاف مادة "الأسيتون" الأساسية لصنع المتفجرات، مما أعفى بريطانيا من استيراد مواد المتفجرات من الخارج. وهذا الاكتشاف أوصل وايزمان إلى منصب رئيس مختبر الأميرالية البريطانية (وزارة البحرية)، الأمر الذي يسَّر له الاتصالات الرسمية في شأن تأسيس دولة لليهود.

ففي تشرين الأول من العام 1916، قدَّم وايزمان برنامجه إلى الحكومة البريطانية لإعادة استيطان اليهود لفلسطين من طريق الهجرة الجماعية، على أن تمنح المنظمة الصهيونية "براءة" تتولاها "الوكالة اليهودية". ومع تولِّي لويد جورج رئاسة الوزارة البريطانية، مع احتفاظ آرثر بَلفور بمنصب وزير الخارجية، تضاعف نشاط وايزمان من خلال معاهدة سايكس–بيكو التي نشط الإنكليز لنسفها في محاولة لإبعاد فرنسا عن منطقة الشرق الأدنى.

يقول [المرحوم] مكسيم رودِنسون في كتابه العرب: "يثير العرب في الغرب أشد الانفعالات عنفًا، أكثر من أيِّ شعب آخر." وفي الواقع، لا يستطيع العرب منافسة اليهود في الغرب، مهما نشطوا، لأن الغربي ينظر إلى القضية اليهودية من خلال روحانية دينية محدَّدة هي التوراة. إلى ذلك، يظهر أن معظم أصدقاء العرب في الغرب هم من الموتى أو من المسؤولين المتقاعدين الذين لا حول لهم ولا قوة! فالأمريكيون يتفانون، مثلاً، في الدفاع عن دول الخليج، لكنهم يعتبرون أن موقف دول الخليج من إسرائيل عداء لأمريكا. العرب انفعاليون، والوقت أضحى ناضجًا للتخلِّي عن هذه الانفعالية، حتى في ما يخص الصهيونية: الانفعالية لا تجلب إلا الضرر لأية قضية عادلة. بينما اليهود الصهاينة هادئون، يدمِّرون بدم بارد كلَّ ما له صلة بالعرب.

مثلاً، انفعل العرب بقرار التقسيم، فـ"فشُّوا خلقهم" في أقرب الناس إليهم؛ أما الصهاينة فقالوا إن الحرب بدأت بسبب رفض العرب، من فلسطينيين وغير فلسطينيين، القبول بالقرار. رَفَضَ العرب، بحسب الرواية الصهيونية، الحلَّ الوسط بتقسيم فلسطين إلى دولتين: إحداهما يهودية والأخرى عربية. وتتابع الرواية اليهودية: حَمَلَ العرب السلاح، مما اضطر الدولة اليهودية إلى خوض الحرب دفاعًا عن نفسها؛ وفحوى الرواية الصهيونية أن العرب معتدون. وحول الرواية الصهيونية يقول وليد الخالدي: "إن التقسيم ليس حلاً وسطًا." لماذا؟

لأن مبدأ "الدولة اليهودية" (عنوان كتاب هرتسِل التأسيسي) هو غايةُ الصهيونية ومبتغاها، وهو مبرِّر وجودها، منذ المؤتمر الصهيوني الأول إلى ما بعده. لجأت الصهيونية إلى التستُّر والتغليف والتمويه، سواء في مؤتمر بازل (1897) أو وعد بلفور (1917) أو صكِّ الانتداب (1922). ولم ينص قرار التقسيم، الصادر عن هيئة الأمم في العام 1947، على أن يحتفظ كلُّ طرف بما لديه من الأراضي، بل "مَنَحَ" الطرف الصهيوني، الذي لا يملك أكثر من 6% من مساحة البلاد، 57% منها. وقرار الحرب الصهيوني لم يؤخذ في العام 1947، بل ينبع نظريًّا من صميم العقيدة الصهيونية. وقد أكد هذا الاتجاه حاييم وايزمان حين قال للرئيس الأمريكي فرانكلين د. روزفلت: "لا يمكننا أن نربط قضايانا بقبول العرب." وتابعتْ الصهيونية طريقها بعد العام 1948.

مضت سنون قليلة كان إسرائيل إبانها يهدِّد العرب بحرب حاسمة. البندقية الإسرائيلية موجَّهة دومًا إلى العربي – حتى كانت حرب حزيران، حين استولى إسرائيل، بعد قتال لم يدم أكثر من ستة أيام، على مساحة من الأرض العربية تبلغ ثلاثة أضعاف مساحته قبل العدوان: احتل الأراضي الفلسطينية 100%، وأشرف من على جبل الشيخ على الأراضي السورية شمالاً، ومن سيناء على قناة السويس. وقد أسكر النصرُ الساحقُ الشعبَ اليهوديَّ حيثما وُجِدَ، ونَمَتْ موجةٌ من الهجرة إلى إسرائيل. لكن العرب لم يستسلموا، من "لاءات" الخرطوم إلى حرب الاستنزاف.

وتطورت الأحداث حتى اتفاق أوسلو (1993) واتفاق القاهرة (1994) الذي يضع الإطار الأمني للاتفاق الأول. واتفاق أوسلو ليس معاهدة سلام، بل هو جدول زمني للمفاوضات بغية منحها غطاء شرعيًّا.

ليس هناك أدنى شك في أن المشروع الصهيوني استعماري استيطاني، قام في أساسه على مقولة "فلسطين أرض بلا شعب لشعب بلا أرض". لكن المنظمة اليهودية اكتشفت هذا الخطأ، ليطرح فلاديمير جابوتنسكي (الأب المؤسِّس لحزب حيروت، أي الليكود حاليًّا) مقولتَه حول معاملة الفلسطينيين بقبضة من حديد.

والصراع مستمر مع إسرائيل. فإذا كانت حرب رمضان المحطة الكبرى على منتصف الدرب بين حرب حزيران وكامب ديفيد، فإن الانتفاضة الحالية في فلسطين استمرار لحرب رمضان، لا لكامب ديفيد. المطلوب الآن، إسرائيليًّا، عدم إجهاض هذه الانتفاضة تحت حجج واهية، رغم أن ميزان القوى ليس لمصلحة العرب. والغريب أن يُوازِن إسرائيل قواه العسكرية بقوى كلِّ العرب، رغم الاحتياطات الاستراتيجية التي في حوزته.

يقول وليد الخالدي: "لست من المدافعين عن اتفاق أوسلو – وهو الطافح بالفجوات والنواقص – ولا عن القيادة الفلسطينية وأخطائها الاستراتيجية التي لا تُحصى؛ بيد أنني لست من المستسهلين الطلب بإلغاء اتفاق أوسلو." يقول الخالدي هذا الكلام في العام 1997، لا 2002. فالتطورات كَسَحَتْ العديد من المفاهيم والأطروحات التفاوضية. ويقف العالم العربي اليوم على أبواب تطورات، لعلها محرجة، سواء فلسطينيًّا أو عربيًّا.

*** *** ***

عن النهار، السبت 7 أيلول 2002


* وليد الخالدي، الصهيونية في مئة عام: من البكاء على الأطلال إلى الهيمنة على المشرق العربي 1897-1997 (دار النهار، بيروت، 2002).

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود