|
الهيمنة أم
البقاء؟ سعي أمريكا للسيطرة
العالمية صدر مؤخرًا كتاب الهيمنة
أم البقاء: سعي أمريكا للسيطرة العالمية،*
من تأليف عالِم اللسانيات والمفكر
والناشط الأمريكي المعروف نعوم تشومسكي،
الذي كان كتابه عن أحداث 11 أيلول ضمن قوائم
أكثر الكتب مبيعًا في العام 2002.
في هذا الكتاب
الجديد، وفقًا لمقالة في الـPublisher
Weekly، يؤكد
تشومسكي أن سياسات أمريكا في أفغانستان
والعراق لم تكن ردًّا على أحداث 11 أيلول، بل
استمرار لسياسة خارجية مستمرة منذ نصف قرن؛
وهي "استراتيجية إمبريالية كبرى" تسعى
الولايات المتحدة من خلالها إلى الإبقاء على
هيمنتها العالمية من خلال "استخدام القوة
العسكرية أو التهديد باستخدامها" – وهو
التحليل الذي من المتوقَّع أن يثير عاصفة من
الجدل والتشكيك في أمريكا التي تغيرت بعد
أحداث أيلول. إلا أن تشومسكي يبني فرضياته
بحذر، ويدعم ادِّعاءاته بتوثيق ملائم
للمراجع، دون أن يغفل الإجابة عن بعض
الادعاءات المضادة التي قد تواجهه. كما أنه
ينتقد بشدة عدم التوازن الأمريكي فيما يتعلق
بتوجيه تهمة "الإرهاب"، مؤكدًا أن
التعريف القانوني الرسمي الأمريكي للإرهاب
ينطبق تمامًا على السياسة الخارجية
الأمريكية، وخاصة عندما يتعلق الأمر بكوبا
وأمريكا الوسطى وفييتنام ومعظم بلدان الشرق
الأوسط. إلا أن وسائل الإعلام الأمريكية لا
تستخدم هذا المصطلح هنا، حتى عندما أدانت
محكمة العدل الدولية واشنطن، في العام 1986،
بسبب "استخدامها غير القانوني للقوة" –
يعني "الإرهاب الدولي"، على حدِّ قول
تشومسكي – في نيكاراغوا.
نعوم تشومسكي ومادة كتاب تشومسكي
صياغة موسَّعة لمحاضرة ألقاها في 7 تشرين
الأول 2003 في جامعة إلينوي (متوفرة على
الإنترنت في نسختين، مسموعة ومتلفزة، 50
دقيقة، حجم الملف الصوتي 27 ميغابايت على
الرابط http://www.democracynow.org/article.pl?sid=03/10/22/1450216).
وفيما يلي عرض
موجز لأهمِّ أفكارها: غالبًا ما يكون شهر
أيلول شهرًا هادئًا في الولايات المتحدة. لكن
أيلول 2002 شهد ثلاثة تطورات هامة: -
أولها
هو الإعلان، في السابع عشر منه، عن
استراتيجية الأمن القومي التي تصرِّح بأن على
أمريكا أن تسعى للسيطرة على العالم، حتى
باستخدام تفوقها العسكري الهائل، الذي ربما
يفوق العالم مجتمعًا، بهدف الوصول إلى
الهيمنة الشاملة، دون أن ينازعها أحد في ذلك. -
وثاني تلك
التطورات هو بدء قرع طبول الحرب، مع إعلان
كوندوليزا رايس أن الدليل التالي من صدام
حسين لن يكون إلا المظلة النووية؛ مما أطلق
حملة البروباغندا الكبيرة التي جعلت من
العراق خطرًا على الولايات المتحدة، رغم أن
جيرانه الذين يكرهونه لا يخشونه. ولكن الهدف
الحقيقي من الهجوم على العراق لم يكن إلا
توضيحًا عمليًّا لجدية مبدأ الهيمنة
الأمريكية في عمل يكون "عِبرة" exemplar
action، وأن أمريكا
ستقوم فعلاً بالهجوم على أيِّ بلد في العالم،
حتى من دون ذرائع معقولة أو مقبولة، ومن دون
ترخيص دولي. ومن الملفت أن استراتيجية الأمن
القومي لا تتحدث عن الشرعية الدولية
الممثَّلة في هيئة الأمم المتحدة؛ كما أن
كولن باول، في كانون الثاني 2003، في المنتدى
الاقتصادي العالمي، الذي تغيرت مناخاته
كثيرًا ذلك العام، لم يبالِ كذلك بمعارضة
شديدة من طبقة رجال الأعمال التي تملك العالم
والتي تشارك في هذا المؤتمر. وكان واضحًا أن
الولايات المتحدة تطالب الآخرين باللحاق
بها، مهدِّدة الأمم المتحدة بضرورة تبرير
أفعالها، ومؤكدة أنها ستجتاح العراق، حتى لو
غادر صدام وعائلته. -
أما التطور الثالث
فهو افتتاح حملات الكونغرس الانتخابية، حيث
أكد كارل روف أن التركيز يجب أن يكون على
قضايا الأمن القومي في حملات المرشحين:
فالسياسات الاقتصادية والاجتماعية للحزب
الجمهوري لا تصلح للسباق الانتخابي بسبب
لاشعبيتها، لأنها موجهة ضد مصالح غالبية
الجمهور. وكان واضحًا أن عددًا أكبر من الناس
اقتنع بجدية الخوف من العدو الشيطاني الذي
يهددهم، فانصاعوا لهذه السياسات. وبالتالي
فقد تمَّتْ استعادة سياسات رونالد ريغان في
السيطرة على الجمهور المحلِّي عن طريق "ضغط
زر الرعب"، لكنْ بحماسة وعزيمة أكبر. ورغم
أن ريغان كان مكروهًا، إلا أن إدارته استمرت
في الحكم 12 عامًا (ولايتَي ريغان ثم ولاية بوش
الأب). ينتقل تشومسكي بعد
ذلك إلى مناقشة لحملة العراق وتأثيراتها.
فاجتياح العراق لم يكن إلا تجربة لمبدأ "الحرب
الاستباقية" preemptive war،
رغم أن هذا المصطلح لا ينطبق هنا؛ فهو من
الناحية القانونية، التي لها مشروعية ما،
يعني القيام بضربة رادعة عندما لا يسمح الوقت
أو الظرف باللجوء إلى مجلس الأمن (وهو ما
يسمَّى أحيانًا "الحرب الوقائية" preventive
war أو
"الدفاع الاستباقي عن النفس" anticipatory
self-defense)،
كما هي الحالة لو أن بارجة كانت تتجه نحو
الولايات المتحدة، وليس هناك وقت لتدخُّل
مجلس الأمن: ففي حالة كهذه من الممكن للولايات
المتحدة أن تقوم بقصف هذه البارجة دفاعًا عن
النفس. وهي حالة غير منطبقة هنا، بسبب عدم
وجود مثل هذا التهديد الواضح، بل كان تهديدًا
خياليًّا دفع حتى الوسط التقليدي الأمريكي
إلى احتجاج شديد اللهجة. فآرثر شليسِنْغِر Arthur
Schlesinger قال،
بعد بدء القصف على العراق، إن هذا الفعل يماثل
فعل اليابان الإمبريالية في عملية بيرل
هاربُر، التي قال عنها الرئيس روزفلت إنها
يوم سيعيش في العار، لكنه عار أمريكا هذه
المرة (المقابلة متوفرة في موقع Newsweek على الإنترنت: http://www.msnbc.com/news/889365.asp?0cv=KB20). يناقش تشومسكي
بعدئذٍ أن السياسات الراهنة لأمريكا لا تهدف،
كما هو معلَن، إلى منع انتشار أسلحة الدمار
الشامل ومكافحة الإرهاب؛ إذ من الواضح أن
هذين السلاحين هما سلاح الضعيف. ولذلك يصير
السباق عليهما أهم لأن أمريكا، بتجاهلها
لكوريا وتركيزها على العراق، بلَّغتْ رسالة
واضحة، مفادها أن العراق (إضافة إلى كونه مركز
منطقة النفط الشديدة الأهمية) ضعيف تمامًا
بعد أن أنهكه الحصار؛ وبالتالي فإن على الدول
الأخرى أن تسعى إلى زيادة تسليحها، وبالأخص
ضد الإرهاب وأسلحة الدمار الشامل، لأنها
وسائل الردع المتاحة أمام الدول الأفقر. فقوة
كوريا الشمالية النووية هي ما منع أمريكا من
مهاجمتها، رغم أنها أخطر من العراق، وبسبب
أسلحتها التقليدية أيضًا. ومخطِّطو الإدارة
يعلمون ذلك، لكن الأمر غير مهم في نظرهم؛
فالمهم هو أن المجتمع الداخلي الأمريكي، رغم
معارضته للحرب، سيضطر إلى موافقة الإدارة على
سياساتها بسبب الأخطار التي تصير، أكثر
فأكثر، أخطارًا حقيقية. والمهم هو الوضع
الانتخابي، لأن الإدارة ترتكز على هامش
انتخابي ضيق للغاية (انتخابات 2000 المشكوك
فيها، وانتخابات 2002 وأغلبيتها البسيطة). ثم
يمضي في مناقشة مفصلة لسياسة الإدارة في
الكذب، وفي تكرار الكذبة مرارًا وبصوت عال،
حتى تصير حقيقة. أما الحقائق، وتحديدًا
الحقائق والتفاصيل المحددة، فهي أمور غير
مهمة! ثم يعود إلى التفصيل
في أهداف الحرب على العراق واستراتيجيتها في
إرعاب الأمريكيين ("الضغط على زر الرعب")،
مقارِنًا بين سياسات ريغان في نيكاراغوا
وغرينادا وبين سياسات جورج دبليو بوش
الراهنة، مؤكدًا على تأثير العجز المالي
الداخلي في تسويق سياسات الجمهوريين تجاه
تقليص الإنفاق على الضمان الاجتماعي
والتعليم والتأمين الصحي، لمصلحة قلائل من
الأثرياء، كما جرى في العهد الريغاني، لكن
بتطرف أكبر، خاتِمًا بالإنجاز الأكبر لحملة
البروباغندا هذه، التي حققت نتيجة مذهلة، ليس
فقط في وسائط الإعلام، بل حتى بين المعلِّقين
والمفكرين والمحلِّلين والأكاديميين
الأمريكيين، في أن الحكومة الأمريكية تستطيع
الاستمرار في ادِّعاءها أنها تسعى إلى هدف
نبيل، هو فرض الديموقراطية في الشرق الأوسط.
وهذا الادعاء يلقى القبول، رغم أن كره
الإدارة الأمريكية واحتقارها للديموقراطية
قد توضح بشكل غير مسبوق، مثلاً في التمييز بين
أوروبا "القديمة" (الأشرار) وبين أوروبا
"الجديدة" (الطيبين)، الذي لم يكن سببه
إلا أن حكومتَي فرنسا وألمانيا قد استجابتا
للإرادة الشعبية في معارضة الحرب؛ أما أوروبا
"الجديدة"، ممثَّلة في حكومتَي خوسيه
ماريا أثنار وسيلفيو برلوسكوني، فقد تجاهلت
الإرادة الشعبية في إسبانيا وإيطاليا،
الأكثر معارضة للحرب، بأغلبية ساحقة تفوق حتى
نسبة المعارضة في فرنسا وبريطانيا، وساندت
الحكومة الأمريكية في حربها، فاستحقت الثناء
عليها! أما الأكثر إثارة للدهشة فهو أن
الحكومة التركية لقَّنتْ أمريكا درسًا في
الديموقراطية عندما وافقتْ على مطالبة 95% من
الأتراك بعدم مساندة الحرب، رغم تهديدات
الحكومة الأمريكية المباشرة، مما جرَّ عليها
نقمة كبيرة من جانب الحكومة الأمريكية، التي
وَسَمَتْ حكومة تركيا بأنها "غير
ديموقراطية"، ومن جانب بول فولفوفيتز (الذي
تتم الإشارة إليه على أنه صاحب الدور المركزي
في الدعوة لـ"دَمْقرَطَة" الشرق الأوسط)،
الذي أدان الجيش التركي لعجزه عن التدخل
لإقناع الحكومة التركية بالتعاون مع أمريكا،
مؤكدًا أنهم سيندمون ويجب أن يعتذروا عن هذا
الموقف، حتى ينالوا شهادة ديموقراطية من
أمريكا! المدهش، يقول
تشومسكي، أن لا أحد ضحك و/أو علَّق على هذا
التناقض، كأن المثقفين الأمريكيين جثث
هامدة، أو بتعبيره، أصحاب intellectual
culture of Zombies! *** *** *** *
Noam Chomsky، Hegemony or Survival: America’s Quest for Global
Dominance.
|
|
|