هل تحتاج سورية إلى تيار ديموقراطيٍّ اجتماعي؟

 

صريح البني*

 

ثمَّة شيء جديد في الحياة السياسية السورية: الحزب الحاكم وأحد أبرز أحزاب المعارضة يراجعان، في وقتٍ واحد، الخلفية الفكرية لكلٍّ منهما، بكلِّ ما يمكن أن يتبع ذلك من تغييرات في البُنى السياسية والتنظيمية. ينتعش الحوار الوطني العام، الجاري على الطريقة السورية، وتكتسب عمليةُ التغيير محتوًى أصدق عندما تتحرَّى المسؤولية الذاتية في حصاد مسيرة ما بعد الاستقلال، وتذهب عميقًا في مراجعة ما عَدَدْناه ثوابت وقيمًا خالدة؛ أي عندما نتلمَّس، في وقائع حياتنا الراهنة، آثار رؤانا الفكرية التي حدَّدتْ سلوكنا ووجَّهتْ فعلنا عقودًا طويلة.

يبقى ما يجري في حزب البعث محصورًا، حتى الآن، في المناقشات الجارية ضمن هيئاته – مع إشاراتٍ قليلة نحو الخارج. بيد أن "موضوعات" المؤتمر السادس للحزب الشيوعي[1] لا يناقشها أعضاؤه فحسب، بل جمهور أوسع من المعنيين بالشأن السياسي.

بماذا تبشِّر هذه الإشارات في الثقافة السياسية؟ هل نشهد، في القادم من السنوات، بفعل القوى والعوامل الداخلية، حِراكًا سياسيًّا أوسع وأكثر تمثُّلاً لتجارب الماضي وعزمًا على إحداث تغييرات عميقة وجذرية؟

لعل أبرز السمات السياسية السورية، على امتداد سنوات ما بعد الاستقلال (أو أغلبها)، هو الركود وابتعاد الناس عن الممارسة السياسية المباشرة، مع فترات من تفجُّر العنف السياسي. تلاشى دور الفئات الليبرالية في المجتمع، وتقدَّمت التيارات القومية والماركسية والإسلامية، ببرامجها الثورية لقَلْبِ المجتمع، وأدارتْ علاقاتٍ متشنِّجة ومتوترة فيما بينها، سواء في اقتتالها أو في تحالفاتها غير المتوازنة، مساهمةً في خلق الحالة التوتاليتارية المعروفة. ربما ندرك، الآن، بشكل أفضل، أن تجاوُز هذه الحالة سيحتاج أحزابًا وحركاتٍ مجتمعية لا تنحشر في القوالب والتنويعات القومية والدينية والطبقية، لا بل أحزاب تستند إلى برامج محدَّدة لتحويل البلاد نحو الديموقراطية، وضمان حقوق المواطن، والتنمية، ومشاريع عدالة اجتماعية، لا تتيح عودةَ الملكية إلى الحاكم الجديد، أي تعمل على توفير شروط تأسيس الدولة الحديثة.

فهل يُنجَز ذلك دون صياغة علاقات ديموقراطية داخل بُنى المجتمع، ودون تخفيف الأوهام عن الخصوصيات التاريخية والسياسية والثقافية؟

يسار سوري جديد؟

1. أودُّ، في هذه المقالة، التنويه إلى ما يجري من تحولات هامة على صعيد الحزب الشيوعي (المكتب السياسي). فمغزاها قد يتخطَّى حدود الحزب، ممتدًا إلى نطاق أوسع في الحالة السياسية السورية: "موضوعات" المؤتمر القادم، كما ومشروع النظام الداخلي، قُدِّما ليس للنقاش في أُطُر الحزب الضيقة وحسب، وإنما لخلق بيئة حوارية في الوسط اليساري السوري حول مجمل القضايا الراهنة والمستقبلية التي يهتم بها هذا الوسط، بل وأبعد منه.

لقد فتحت "الموضوعاتُ" البابَ على مناقشة العديد من القضايا الفكرية والسياسية التي تجابه الأحزاب والقوى السياسية السورية. وقد أسهبتْ في عرضها تلك القضايا، ووسَّعتْها إلى حدودٍ احتجَّ بعضهم عليها خوفًا من فقدان التركيز على الأهم والحاسم. إلا أن خيطًا متينًا بقي يخترقها، في كلِّ فصولها وصفحاتها، ألا وهو: بداية استيعاب الدرس الديموقراطي! لقد كان – وما يزال – درسًا قاسيًا، معقدًا، باهظ الثمن، للحزب، بكلِّ تفرعاته، ولمجمل الحركة السياسية – وقبل كلِّ شيء، لابن البلد الذي لا تكتمل شخصيته، كمواطن، دون اكتساب مهارات العيش في ظلِّ الديموقراطية.

بحثتُ في "الموضوعات" عن صدى نقاط الخلاف في الحزب الشيوعي السوري، في نهاية الستينات ومطلع السبعينات، التي أدَّتْ إلى الشرخ الأعمق في صفوفه، فلم أجد المقاربة ذاتها لتلك المفاهيم التي انقسمنا من أجلها.[2] وأدركت (متأخرًا) أن ما جرى في تلك الفترة يجسِّد، في حقيقته، بدايةً أنضج للوعي الديموقراطي: نبذ الممارسة السلطوية في الحزب وفي الحركة الشيوعية وفي المجتمع، ومحاولة بناء حزب من نوع جديد، ذي علاقة جديدة مع المرجعيات النظرية والسياسية. كان، في حقيقته، إحدى محاولات "الإصلاح والتجديد" في إطار الحزب والحركة، على قاعدة الفكر الشيوعي – محاولةً اكتنفها الغموضُ والبلبلة، شأنها في ذلك شأن محاولات أخرى، محلِّية وعالمية، لم تُصِبْ الكثير من النجاح، ربما بسبب بقائها في سياق الفكر ذاته.

ولكن إعادة النظر في المركزية الديموقراطية (أساس إدارة الحياة الداخلية في الحزب) وُضِعَتْ، منذ ذلك الحين، على جدول العمل – ولو بشكلٍ ملتبس. كنَّا نحن (أشد المدافعين عن المركزية الديموقراطية وقواعد التنظيم اللينينية) مَن أصْدَرَ بيان 3 نيسان. بيد أننا تجاوزنا، مرتاحي الضمير، ركنًا أساسيًّا في تلك القواعد: خضوع الأقلية للأكثرية! لقد عثرنا في التراث اللينيني على مقالة تندِّد بأكثرية الصوت الواحد، من حيث هي "أكثرية ميكانيكية"، إلخ. وبما أن "اللينينية، حقًّا، لا تشيخ"، لماذا تؤرقنا هذه المفارقة العبثية؟!

كانت الإيديولوجيا مازالت تكبِّل عقولنا، وتجعلنا نتذوق الأشياء بطعم واحد وحيد! فلو توافرت ديموقراطيةٌ حقيقية داخل الحزب، لبقي الفريق الذي أقصيناه (أو أقصانا؟)، مطلع السبعينات، جناحًا من أجنحته – وليكن حتى جناحًا معارضًا! بيد أننا رأينا في ذلك صورة الشرِّ كلِّه. كان الفصيل "القومي"، كما أسميناه في ذلك الحين، يحمل "بذرة المعارضة" التي ستنمو لتجعل منه أحد أبرز قوى المعارضة في سورية. وقد دفع أعضاؤه أثمانًا غاليةً لقاء مواقفه تلك.

اليوم ندرك أن حياة سياسية دون معارضة (على مستوى البلاد أو على مستوى التنظيمات السياسية) هي حياة بائسة! وربما نتعلَّم كيف نفاخر، ليس فقط بوحدتنا الوطنية أو الحزبية (وهي، على الأغلب، مفاخرة استعراضية ومصطنعة)، وإنما بقدرتنا على إدارة خلافاتنا الدائمة والمتجدِّدة بأسلوب حضاري، يحرِّض آليات التقدم، دون تهديد عيشنا المشترك وأمننا وسلامنا الداخلي. إنها وحدة صعبة المنال، لكنها الوحدة الفريدة التي تعطي أُكْلها زمن الشدائد.

وفي هذا السياق، تأتي دعوةُ "الموضوعات" إلى "طريق المصالحة الوطنية"، التي لن تلغي الخلافات، "دون أن تستثني أحدًا" من أحزاب النظام أو المعارضة، بجميع مشاربها، مؤكدة الثقة بأن بين الجميع أناسًا "حريصين على الوصول إلى حلٍّ مأمون من خلال الانتقال إلى الديموقراطية".

فهل يتأسَّس يسار جديد،[3] يعيد التوازن إلى الشارع السياسي السوري، مسترجعًا حصَّته فيه زمن الخمسينات؟ – يسار لا ينشد الهيمنة على مجمل الحياة السياسية، بل يرنو إلى تشكيل لون بارز فيها، إلى جانب ألوان اليمين والوسط، في لوحة متقدمة، تجسِّد وقائع التعايش والصراع في الطيف السياسي والاجتماعي والثقافي.

 

"بنقدنا لنظرياتنا نستطيع أن نجعلها تموت بدلاً منا."

كارل بوبر

 

2. يقترح مشروع النظام الداخلي المقدَّم للمؤتمر السادس تحويل الحزب (وليس اسمه فقط) إلى حزب ديموقراطيٍّ اجتماعي! ويثير هذا التحول في الحزب الشيوعي هلع الكثيرين – وربما الأمل لدى آخرين. كانت الحجة التي جرى الانقسام ما قبل الأخير[4] في صفوف الحركة الشيوعية السورية بسببها هي: اكتشاف لونيات يمينية وتيار اشتراكي ديموقراطي في سلوك بعض الرفاق! ورغم أن الحزب الشيوعي (الحقيقي) – ذاك الذي عُدَّ آنئذٍ اشتراكيًّا ديموقراطيًّا – استمرا يمارسان السياسة ذاتها، فإن فريقًا مازال يتهم الآخر بالاشتراكية الديموقراطية، ليتباهى بصورته الصافية كحزب شيوعي – في مرآته هو، على الأقل! ولا ريب أن "الحياة ستُثبِت"، مرة أخرى، صحة التوقعات حول "خطر التحول نحو الاشتراكية الديموقراطية". فليس للحياة من مهمة أخرى سوى إثبات بُعْد نظر هؤلاء الحريصين على "النقاء النظري"!

يحتاج الأمر، إذن، إلى الكثير من الشجاعة لتقرير هذا التحول. وليس من قبيل المصادفة أن يتم التحول من قبل "الفريق المشاكس" إياه. فالتوقف عن المكابرة، والنظر إلى الحقائق بموضوعية، والاستفادة من التجارب التي سُدِّدَتْ أثمانُها الباهظة، هي البسالة، المطلوبة دائمًا من كلِّ تيار سياسيٍّ صادق؛ وهي التي تسمح بتمثُّل الخبرة السياسية الأهم في حياة جيلنا: لا يمكن التعويل على إنجاز عدالة اجتماعية في بيئة لاديموقراطية! ومن العبث المؤذي الركون إلى إمكانية تنفيذ تحولات اجتماعية ديموقراطية (أي لمصلحة المواطنين) بأساليب غير ديموقراطية.

قد نفوز بالسلطة، ونقمع "العدو الطبقي"، ونمنع أيًّا كان من حقِّ التعبير المخالف لرؤانا "كليَّة الصحة"؛ ولكن هذا القمع سيتَّسع – وقد اتسع دائمًا – ليشمل كلَّ مَن يرى الأشياء بعين أخرى، حتى في صفوف "الكادحين"، بل وفي صفوف الحزب ذاته! بيد أن سلطة لاديموقراطية كهذه تفشل في إشادة علاقات اجتماعية جديدة أكثر عدلاً. فهي ترمي إلى "مزبلة التاريخ" ليس أعداءها فقط، وإنما كلَّ من لا يجتهد – وفق طريقتها هي – في تفسير المقولات النظرية عن التطور الاجتماعي أو تطبيقها. إنها تؤسِّس لآلية عنفية لعلاقة السلطة بالمجتمع الجديد، لا تحرِّك الدوافع الفعلية للتطور – وهي دوافع تحتاج لإبداع أناس أحرار، يختلفون مع الرؤى السائدة، دون ذعر، ويتجاسرون على تطوير المفاهيم والمقولات النظرية، بل وحتى تخطِّيها وقَلْبها، إذا لزم الأمر. إن ثوابتهم أخلاقية وإنسانية، وليست معرفية أو فكرية. فالمعرفة تذبل وتختنق عندما تتحول إلى ثوابت مسلَّمٍ بها عبر الأزمان. فمثل هذه المعرفة توصل إلى الأصولية والسلفية، وليس إلى أيِّ تقدم؛ وهي المسؤولة عن الممارسة التوتاليتارية، بأشكالها المتعددة.

ثمَّة حاجة أكيدة إلى تدقيق الخلفية الفكرية لأيِّ حزب. وتبدو هذه الحاجة، الآن، مفتاحية لحزب يريد تجديد قواه ودخول معترك الحياة السياسية من باب أوسع، ناقدًا تجربته بكلِّ جرأة. ولكن إعادة نظر نقدية ودائمة للفكر وللممارسة يمكن – وينبغي – أن تغدو سلوكيةً ثابتةً لأية حركة جادَّة ومسؤولة.

ومن هذه الزاوية، فإن "الموضوعات" مُحِقَّة عندما تؤكد "ضرورة مراجعة مفاهيم التقدم والاشتراكية والشيوعية"؛ إذ "لا بدَّ من البحث في جذور الفشل الكبير الذي أصاب التجربة الاشتراكية في القرن العشرين، ليس برمي المسؤولية على التطبيق أو الممارسة، رغم أهميَّتهما الفائقة، بل بالعودة إلى الأساس النظري نفسه، ومعرفة نواقصه وثغراته".

لماذا خيار الديموقراطية الاجتماعية؟

 

"أولئك المزوَّدون بإيمان مفرط بأفكارهم غير مهيئين لإحراز كشوفات.

كلود برنار

 

3. يمكن التساؤل عن دوافع هذا التحول نحو الديموقراطية الاجتماعية: هل فيه صدى لنجاح تجارب الديموقراطية الاجتماعية في العديد من البلدان الأوروبية؟

أعتقد أن تغيير التسمية "الشيوعية"، بكلِّ مدلولاته ومضامينه العميقة، يعود إلى عوامل تتعلق بالخبرة الوطنية والأممية لهذا الفصيل، ولآخرين خارجه أيضًا. يمكن تلمُّس أثر المناخ العالمي الذي يتحول في اتجاه ديموقراطي، على الرغم من استبداد الإدارة الأمريكية. ومثل هذا التحول تخدمه – كما تعرقله – شروطٌ سياسية متناقضة. بيد أن توسع حدود الإمكانات المعرفية والمسارات الفعلية للتقدم، غير المتوافقة مع ما رَسَمَه الفكر الشيوعي، جعلا هذا الفكر يتعرَّض للتهوية وإعادة التأهيل. لقد ضاق الخناق على البُنى المجتمعية الضيقة التي تراهن على ظروف العزلة السياسية والثقافية والإعلامية في تكريس مفاهيمها اليقينية المطلقة.

وتبقى العوامل الأساسية لهذا التحول داخلية بالدرجة الأولى:

-       تجنِّب التحول نحو الديموقراطية الاجتماعية: البقاء في الفلك الدوغماتي، الذي لا يرى في كلِّ ما حصل أمورًا تستدعي مراجعة أدواتنا المعرفية؛ فهو مجرد مؤامرة، سيُهزَم أصحابها من جديد عندما نرجع إلى ما صلحتْ به أمورُ السلف.

-       وتجنِّب كذلك السير في توليفة براغماتية، جاهزة للتوفيق (الشكلي) بين كلِّ المتناقضات في الفكر، كما في السياسة التطبيقية. المهم أن "نعطي لكلٍّ جمله". ولا بأس من أن تعدَّنا شيوعيين، أو ديموقراطيين اجتماعيين، أو حتى ....... إذا شئت. إننا "شطَّار" إلى حدِّ الجلوس في "مناصب" السلطة، كما على مقاعد المعارضة، في آنٍ واحد!

لا يمكن الاستمرار في تبنِّي التسمية "الشيوعية" عندما يرى الحزب أن الفكر الماركسي لم يعد أكثر من محطة في تطور التراث الفكري العالمي، وأنه ينبغي البحث عن أدوات فكرية جديدة.[5] فقد ارتبطت التجربة الشيوعية في بلدان عديدة، واقعيًّا، بمفهوم ملتبس للديموقراطية: فقد تمَّ تقديم المحتوى الاجتماعي للديموقراطية على حساب محتواها السياسي؛ ولم ترَ الأحزاب الشيوعية فيها نظامًا لعلاقة المجتمع مع سلطته. لقد كانت نتائج هذا المفهوم للديموقراطية ثقيلةً على الشعوب التي فُرِضَ عليها، ليس على المستوى السياسي فقط، وإنما على المستوى الاجتماعي ذاته. وتشير "الموضوعات" إلى أن سلطةً لا تعمل في بيئة ديموقراطية ستحمل دائمًا بذور التحول إلى سلطة لا تحكم فقط، وإنما تملك أيضًا، معيدةً إنتاج طبقة مالكة، كانت قد أُبْعِدَتْ تحت شعار التخلُّص من الطبقات المالكة/الحاكمة.

عندما يكتسب حزبٌ شيوعي خبرة ديموقراطية أعمق، سيكون عسيرًا عليه الاستمرار مرتديًا العباءة ذاتها! ربما يحافظ على الهدف النبيل لرؤيته الاجتماعية الأصلية، ضمن صياغةٍ تُكسِبُ تلك الرؤية الواقعيةَ وقابليةَ التنفيذ، في إطار مشروع جديد كليًّا للتطور الديموقراطي. سيغضب هؤلاء الذين لا يرضون بديلاً عن التعامل مع الفكر الماركسي كسلَّة فكرية شاملة، لا يمكن ترك أجزاء منها دون الوقوع في الانتقائية والتحريفية! المهم، في نظرهم، تطبيق "القوانين" المكتَشفة، وليس إعادة اكتشافها.

ربما تعطي الحياةُ التجربةَ الجديدةَ فرصةً أفضل من التجارب السابقة لتحديث الحزب، محليًّا أو على نطاق أبعد. نعم، سيكون مطلوبًا، دائمًا، العثور على أساليب جديدة لكشف أسرار التقدم الإنساني، بكلِّ مفرداته. ومثل هذا الكشف يحتاج إلى إبداع متواصل ومتجدد. ومهمة كهذه لا يمكن أن تكون قد أُنجِزَتْ في وقت ما بعيد، بل تبقى مستمرةً على جدول أعمال كلِّ جيل.

وفي مجمل الأحوال، ليس ضروريًّا أن تجسِّد تسميةُ الحزب تكثيفًا شديدًا للإيديولوجيا، بأهدافها البعيدة، إلى المدى الذي تتعذر فيه رؤيةُ تلك الأهداف، فتتكرَّس كيوتوبيا وحسب. وإذا كانت اليوتوبيا مشروعةً لإنعاش الخيال الإنساني، فإن تأسيس أحزاب بغرض تحقيقها يمسي عبثيًّا تمامًا عندما نجابه عشرات القضايا الملحَّة في حياة أجيال عطشى للديموقراطية والنموِّ وفرص التعلُّم والعمل ومستوى معيشة لائق بالحياة البشرية النظيفة من صنوف التلوث.

تلك هي التحديات الراهنة أمام عشرين مليون سوري، وحولها تنصبُّ اهتماماتُهم. وأيُّ حزب يطمح لِلَعِبِ دور في حياتهم ينبغي أن يقدِّم مشروعه لمواجهة تلك التحديات، بواقعية ومسؤولية تبتعد أكثر ما يمكن عن الشعارات الملتهبة الصاخبة. إن مشاكلنا الراهنة أعقد بكثير جدًّا من الوصفات السحرية التي توحي بها الخيالاتُ الإيديولوجية؛ بل إن بعضها دخل مرحلة المرض العضال الذي يتعذر شفاؤه. ودعوني أسأل: أليس مطلوبًا أن نعالج بعقلانية المشاكل المعقدة التي يخلقها نموُّنا السكاني الرهيب، بعيدًا عن الحلول الإيديولوجية التي تكاد تلتقي في جعل موضوع كهذا شبه محرَّم؟!

من جهة أخرى، هل من المفيد الاستمرار في إدانة التجارب الناجحة للديموقراطية الاجتماعية، في العديد من البلدان، بدعاوى إيديولوجية صرفة كانت قد طُرِحَتْ قبل أن تمتلك الإنسانية مخزون التجارب الاجتماعية المطبَّقة على مدى القرن العشرين كلِّه؟

صحيح أن الرؤية الديموقراطية الاجتماعية لا تتَّسم بالمعالجة الجذرية لمسألة الاستغلال الرأسمالي، ولا تصل في مشروعها الاجتماعي إلى النهايات القصوى التي بشَّر بها الفكر الشيوعي؛ لكن الإنصاف يستوجب منَّا الاعتراف بسجلِّها في تطوير حلول للمسائل الاجتماعية، دون التورُّط في تحويلها إلى عوائق في المسار الاقتصادي، كما يستوجب تقدير طاقاتها على خلق الشروط المواتية لاستمرار تقدُّم القوى المنتجة، وتكريسها الديموقراطية نظامًا ثابتًا لممارسة السلطة. ولهذه الأسباب مجتمعة مازالت تكسب أصوات الناخبين بنسبٍ عالية.

أبعاد الحزب وأساليبه وتوجُّهاته

4. موضوع آخر يكتسب أهمية بالغة في التأسيس لحركة سياسية جديدة: ما هي أبعاد الحزب المنشود، وأساليب عمله، ولمن يتوجَّه؟

تبتعد "الموضوعات" (وكذلك النظام الداخلي) عن الصيغ القسرية لحزب الطبقة العاملة وجماهير الكادحين، ليغدو حزبًا "يعمل من أجل سورية لجميع أبنائها، ويلتزم حقوق الإنسان ويدافع عنها بلا هوادة. وهو يناضل من أجل تكريس مفهوم المواطن، ومن أجل مبدأ المساواة بين المواطنين".

لقد سأل بعضهم عن هوية الحزب الضائعة كـ"حزب طبقي"، يعمل من أجل الاستيلاء على السلطة. لكن الحزب "الطبقي"، شأنه شأن الأحزاب القومية أو الإسلامية، تعثَّر في بناء الدولة الحديثة، القائمة على تعزيز المُواطنية. ومثل هذه الدولة يشترك في إدارتها كلٌّ من السلطة والمعارضة، معًا، كدولة لمواطنين متساوين في الحقوق والواجبات، مهما ابتعدوا أو اقتربوا من دوائر السلطة.

يكمن أحد مبادئ الديموقراطية في حقِّ تداول السلطة والاحتكام إلى صناديق الاقتراع. وكلُّ حزب سياسي يحتاج إلى فرصة لتحقيق برنامجه في إطار المنافسة الديموقراطية. بيد أنه قادر على ممارسة نفوذ واسع جدًّا وفعَّال (في ظلِّ حياة دستورية صحيَّة) حتى وهو خارج السلطة، من خلال التأثير الذي تُحدِثُه برامجُه في تكوين المفاهيم المشتركة للمواطنين. وما تقترحه معارضةٌ قوية من مناهج سياسية واقتصادية وثقافية يساهم في رسم المعالم التفصيلية للحياة السياسية، ولا يستطيع الحاكم تجاهلها.

إلغاء الأحكام العرفية داخل الحزب؟

5. تضمَّن النظام الداخلي المقترَح للحزب الديموقراطي الاجتماعي تبديلاً واسعًا في قواعد التنظيم، لتغدو أكثر ديموقراطيةً وانسجامًا مع ما يدعو إليه الحزب. فهو يريد أن ينفتح أكثر على الناس، ويطمح، بشروط عضويته، وبآلية عمل هيئاته، وبالفَصْل الجاري بين سلطاته الداخلية، وبأسلوب مناقشة سياساته وإقرارها، وبإصراره على علنية نشاطه ونبذه أشكال العنف كافة، وبإعطائه دورًا مباشرًا للمتعاطفين معه في رسم سياساته ذاتها – يطمح، عبر ذلك كلِّه، إلى أن يكون حزبًا لمواطني بلده، كما هو حزب لأعضائه.

ربما نتفهم، بشكلٍ أفضل، أن إدراكنا لضرورة الديموقراطية في الحزب، كما في بُنى المجتمع كلِّها، على أهميته الفائقة، لا يعني اكتسابنا مهارات العيش والتفكير بأسلوب ديموقراطي. فتجاوُز إرث الاستبداد الكثيف، المجسَّد في وعينا وسلوكنا الفردي والجمعي (بما فيه إرثنا الخاص في بيئة الحزب – وكنا جميعًا جزءًا أصيلاً منه، بما في ذلك فصيل المكتب السياسي)، ليس بسهولة إدراكنا ضرورةَ تجاوُزه. قد يحتاج الأمر إلى تجارب أجيال قادمة من المواطنين الذين لم يقضوا جلَّ حياتهم في مناخ الممارسة الاستبدادية المركَّبة. إننا نحسُّ باستبداد الآخر عندما يمارَس علينا؛ ولكن التفكير والعيش بطريقة ديموقراطية يتطلب اقتلاع جذور الاستبداد فينا.

لعلنا نعترف بأن الفكر الماركسي، كما طبَّقناه، أغنى، واقعيًّا، خبرة الاستبداد لدينا، وأعطاها مذاقًا طبقيًّا، جَعَلَ من صاحب "الرأي الآخر" مشروع عدوٍّ طبقي! ربما نبدأ من تغيير "صورة الآخر" التي تكوَّنتْ في وعينا إبان تاريخ مديد من ثنائية الولاء والإقصاء، بحيث نعتاد قبول تمايُزه عنَّا وشراكته لنا: أي ليس مجرَّد إعطائه حقَّ إبداء الرأي.

مهمة النظام الداخلي (الذي يمكن وضعه قيد التجريب، مع إعادة تأهيله باستمرار) هي المساعدة في اكتساب الفهم والسلوك الديموقراطيين في الحزب. لن يكون سهلاً الخروج، دفعةً واحدةً، من إرث القواعد والمفاهيم التنظيمية السابقة كلِّه. يمكن ذكر شواهد عديدة على بقايا هذا الإرث في المشروع المقترَح. بيد أن محاولة تضييق هذا الإرث لا يمكن تجاهلُها. إنه يطمح إلى إنهاء الأحكام العرفية الدائمة التي جسَّدتْها "المركزية الديموقراطية" داخل الحزب. وسيكون هامًّا، من أجل خلق حالة ديموقراطية حقيقية، تطبيقُ المادة التي تحدِّد فترة البقاء في الهيئات المركزية بدورتين انتخابيتين متتاليتين فقط. فربما يجفِّف هذا الإجراءُ التربةَ التي سمحتْ بتحول القائد الحزبي إلى "صاحب" للحزب، فيعيقه عن "دلق" صفاته وطباعه ونزواته الشخصية على الحزب. فكثيرًا ما كانت تلك الطباع والنزوات أشدُّ مضاءً من "حسِّه وفهمه الطبقيين"! لذا سيكون من العناصر الهامة في التحولات السياسية التي تقرع أبواب الحياة السياسية السورية أن ينفِّذ الأستاذ رياض الترك (وهو معروف بمصداقيَّته الرفيعة) وعدَه بالتقاعد وترك منصب الأمين الأول.[6] ففي هذا أيضًا تحوُّل هام في التقاليد الحزبية السورية؛ وستضيف هذه الخطوة إلى الرصيد المعنوي لرياض الترك، كما إلى رصيد اليسار الديموقراطي السوري.

فهل يضفي تحوُّل حزب شيوعي نحو الديموقراطية الاجتماعية على الأفق السياسي السوري لونًا جديدًا، يحرِّك الحياة السياسية ويضخُّ فيها الحيوية والأمل؟

*** *** ***


* صريح البني، دمشق، هاتف: +963-11-6120041، فاكس: 011-6112439، بريد إلكتروني: sarih@scs-net.org.

[1] أحد الأحزاب الأربعة الحاملة لهذا الاسم، الذي يستعد، على ما يبدو، لتخفيف الكمِّ الفائض من الأحزاب الشيوعية السورية!

[2] نشر الأستاذ طلال سلمان مادة مستفيضة حول هذا الانقسام في مجلة الصياد (1972). وقد كنت آنذاك في قيادة إحدى المنظمات الحزبية الموقِّعة على بيان 3 نيسان من العام 1972، الذي أعلن،عمليًّا، انقسام الحزب.

[3] "يسار ديموقراطي" بحسب التسمية التي اقترحها الصديق د. ياسين الحاج صالح للحزب الجديد.

[4] حدث هذا منتصف الثمانينات؛ وأرجو أن لا أكون قد أهملت أحد الانقسامات اللاحقة.

[5] راجع: حديث الأستاذ رياض الترك إلى ملحق جريدة النهار (آذار 2004).

[6] راجع: حديث الأستاذ رياض الترك إلى ملحق جريدة النهار (آذار 2004).

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود