ثقافة العنف في المجتمع العربي

الديموقراطية وحقوق الإنسان

في مواجهة ثقافة العنف

 

سمير التقي

 

أمسى العنف خبزًا يوميًّا للإنسان المعاصر. فهل هذا العنف جزء من الطبيعة الإنسانية؟ هل هو فطرة كامنة في أصوله الغريزية؟

تضاربت الآراءُ حول أصول العنف، بين قائلين بغريزية العنف (لورنتس) وبين قائلين بأنه صفة مكتسبة (سكينِّر). وتعود جذور هاتين النظريتين إلى الخلاف بين المنظِّرين والعلماء منذ عصر النهضة؛ ثم إلى الخلاف بين المناهج التقدمية، التي كانت تقول إن "الرذيلة" نتاج للظروف الاجتماعية، وبين المناهج المحافظة، التي حاولت أن تثبت أن التنافس بين البشر يعود إلى غريزة متأصِّلة لصالح كمون العنف في أعماقهم.

إلا أنه في بداية القرن الفائت تمَّ التوصل، عبر منجزات التحليل النفسي الفردي (فرويد) وعلم النفس التحليلي التجريبي (يونغ وفروم)، إلى حسم الصراع، ليَثبُت، بالتجربة، أن العنف ينقسم إلى نوعين:

أ‌.       العنف الدفاعي: ويشترك فيه الإنسان والحيوان؛ وهو عنف غريزي يهدف إلى الحفاظ على النوع.

ب‌.  العنف الخبيث (حب الإفناء): وهو عنف يختص به الجنس البشري؛ وتندرج فيه السادية وحبُّ الموت والتدمير. وهذا النوع من العنف مكتسب حتمًا؛ إذ من الممكن إثارته، والتأثير عليه، سلبًا أو إيجابًا، بواسطة العوامل الثقافية.

والعوامل الثقافية التي تؤثر في العنف "الخبيث" (التي سنكتفي بذكرها) هي:

-       الظروف الاجتماعية المحيطة (الإحباط الاجتماعي)

-       الثقافة المكتسبة عبر مراحل الحياة المختلفة (تجربة التعليم بالتعذيب)

العنف بين الحيوان والإنسان

عنف الحيوان دفاعي، ناتج عن غريزة حبِّ البقاء؛ وقد يتبلور إلى عنف بهدف الافتراس عند الحيوانات اللاحمة. وهو يظهر دون عوارض الغضب؛ ويزول التوتر العدائي عند الوصول إلى الهدف (الطعام). وهذا العنف ليس مدمِّرًا ولا ساديًّا. أما الإنسان – وهو حيوان غير لاحم في الأصل – فالعنف عنده قائم بذاته وتلقائي ومدمِّر. وتدل التجارب أن الحيوان الذي يقع في الأسر ويخسر حريته، ليوضع في محيط ضيق وفي بيئة غير بيئته الطبيعية، تظهر لديه ميول إلى العنف مماثلة للعنف العبثي المدمِّر عند الإنسان.

الرأي العامي يقول إنه كلما كان الإنسان بدائيًّا زاد ميلُه إلى العنف. ولكن الباليونتولوجيا تقول إن الإنسان العاقل، الذي أمضى 99% من حياته في مرحلة الصيد، منذ حوالى خمسين ألف سنة مضت، لم يكن يقتل ليستمتع بالقتل أو بالقسوة والعنف، ولم يكن مدمِّرًا ولا عنيفًا، ولم يكن يمثِّل بالضحية الحيوانية إلا بغرض الغذاء والكساء، ولم يكن يتسم بسلوك عدائي بين بني جلدته، بل كان يقتسم الطرائد معهم.

كان المجتمع البشري آنذاك مسالمًا بشكل عام: لم تكن حتى الكهوف محمية من احتمال اعتداء الإنسان؛ ولم تَظهَر التحصينات الهادفة إلى الدفاع ضدَّ عدوان البشر إلا في مجتمع الزراعة المتقدِّمة، أي بعد انكفاء المجتمع الأمومي وسيطرة الذكورية على الحضارة. ولا توجد في اللوحات التي رسمها الإنسان البدائي كلِّها أية مؤشرات على حروب ومعارك أو على قتل للإنسان، لأيٍّ سبب كان.[1]

ويتفق علماء النفس على أن الدوافع المكوِّنة للشخصية الثقافية ترتكز إلى عامل الحرية وتحقيق الذات أساسًا. وتتفق التجارب في مجال علم النفس التجريبي على أن الإحباط والقهر وقمع الحرية هو الأساس في الاغتراب والعنف، في حين لا تلعب العوامل الغريزية، مثل الشبع من الطعام والجنس، إلا حيزًا ضئيلاً جدًّا من وعي الإنسان المعاصر ودوافعه العنيفة. وتتأثر هذه الدوافع بالثقافة، فتحرِّضها هذه وتوجِّهها توجيهًا سليمًا أو مرضيًّا.

العنف لدى البشر، إذن، ليس من طبيعة الإنسان، إنما هو خاصية اجتماعية نَمَتْ الحضارة ونشأت معها؛ وهو ليس، بالتالي، سلوكًا مرضيًّا فرديًّا لإنسان بحدِّ ذاته. وإن اعتبرنا أن شخصية الجماعة هي ثقافتها، يكون العنف، بالتالي، فعل ثقافي مكتسب.

ثقافة العنف[2]

هل لدينا عنف في مجتمعنا؟ إن أجبت، لن يكون لبحثي أيُّ معنى! يحاول المجتمع المعاصر وثقافة العولمة فَرْضَ قيم مصطنعة، مسبقة الصنع، لكي يكتسب الإنسان معنًى لحياته: على الإنسان أن يكسب الكثير، وأن ينجح، وأن يستهلك على الموضة، ضمن الأُطُر التي يفرضها الاندماج الاجتماعي. وسواء نجح أو فشل، سرعان ما يقع في الإحباط، ليكتشف أنه افتقد حريته، دون أن يحقق أيَّ مغزًى حقيقيٍّ، وافتقد، بالتالي، دوافعه العاطفية؛ فيظهر لديه شعور عميق بالقهر والملل، يتجلَّى في ميل شديد نحو العنف والتدمير.

يتفق الباحثون أن العنف الاجتماعي يتخذ أشكالاً متنوعة، مباشرة وغير مباشرة، خفية ومعلنة. لكن ما أريد تأكيده، منذ البداية، هو أن العدوان الخارجي ليس مسوِّغًا لثقافة العنف؛ بل إن ثقافة العنف داخل المجتمع هي تأسيس للهزيمة أمام العدوان الخارجي. فلقد حان الوقت كي نتنبه إلى أن التنمية ليست مجرد تنمية للأرقام، بل هي، أولاً وأخيرًا، تنمية للإنسان. إذ يضاف العنف الإنساني، في مجتمعاتنا العربية، إلى تعنيف الطبيعة وقهرها، حيث تقوم ثقافة العنف على منظومة فكرية مركزية عقائدية وأخلاقية تستند إليها.

العنف الفردي

ونبدأ بالعنف الفردي، لنجد أنه كان دائمًا ردَّ فعل على عنف اجتماعي واقتصادي. وبين الفعل وردِّ الفعل، بين الفردي والاجتماعي، يدور المجتمع في دوامة. والنتيجة عنف متصاعد من الفرد، إلى العائلة، إلى أرجاء المجتمع كافة، ليرتدَّ عنفًا اجتماعيًّا باسم القيم والعقائد والأخلاق.

يقوم العنف الفردي على ردِّ فعل تواحدي، حيث يتواحد identify الفرد أو الجماعة مع نموذج لفرد زعيم أو معلِّم أو مربٍّ، مسوِّغين العنف بالإصلاح. ويتَّسم المجتمع الذي يهيِّئ لثقافة العنف بجملة من المظاهر:

-       انتقال السلوك والعادات من جيل إلى آخر انتقالاً جامدًا؛

-       تحكُّم العادات والتقاليد بالسلوك البشري، لا القانون والتربية والعلم[3]؛

-       نظام اجتماعي تحكُمُه مراتب عائلية ودينية واجتماعية واقتصادية جامدة.

وإذ تتأسَّس ثقافة العنف على الاستلاب الاقتصادي والاجتماعي، فإن هذا الاستلاب يولِّد، بدوره، استلابًا انفعاليًّا. فالشخص الذي يمارس العنف يقيم علاقته مع الآخر على كذب كبير مغلَّفٍ بالقيم وباللافتات الكبرى، فيردُّ عليه الآخرون بكذب مضادٍّ، مشبع بالأصولية وبالنفاق: كذب في الحياة، كذب في الزواج، كذب في الصداقة، كذب في ادِّعاء القيم، كذب في الرجولة، كذب في المعرفة، وكذب في الإيمان والتجارة والسياسية، إلخ. علاقات زائفة، ضلالية، لا حوار فيها، بل عنف وعنف مضاد، وكذب وكذب مضاد، ليتحوَّل العالم إلى زيف يلعب كلَّه لعبة العنف. وويل – حينئذٍ – لذوي النوايا الطيبة!

وتنطوي ثقافة العنف على جملة من العُقَد الاجتماعية، نحاول تحديدها كما يلي:

-       عقدة النقص من فقدان القدرة على المواجهة: الخوف من شرور الآخرين، الخوف من عدم التكافؤ الاجتماعي، الخوف من السلطة المنشغلة والمهمِلة لفردية الإنسان.

-       عقدة العار: فالإنسان، في ظلِّ ثقافة العنف، يخجل من ذاته؛ يعيش حياته عارًا وجوديًّا متأصلاً. وهو في حال دفاع دائم من احتمال افتضاح أمره وعجزه وبؤسه. يقول: "الله يستر على حريمك!" فـ"السترة" هاجسه المرضي، يخشى أن ينكشف، فلا يصمد أمام الحقيقة.

نرجسية في الظاهر وتفكُّك في الداخل! حيث يُسقِط الفرد مفهوم "العار" على السياسة، عبر التمسك بالأمجاد التليدة، ليخفي تقهقرًا وتراجعًا تجاه الواقع الظالم؛ ويُسقِط عنفه على المرأة، لتصبح موطن "العورة" والضعف والعيب والتقديس في آنٍ معًا! ويتجلَّى ذلك بسلوك التباهي والاستعراض للتستُّر على عقدة العار الناجمة عن ثقافة العنف؛ فيسري العنف، ادِّعاءً وتبجحًا وخداعًا، لينتهي إلى قلق وإحباط وسوداوية شاملة، تتكرَّر فيها مأساة الوجود وضعف الإنسان واجترار الزمن. إنه غرق في حزن أسود عميق، لا يتجلَّى إلا بانفجار العنف في مناحي الحياة كافة. وينفجر التراكم الداخلي في الشخص ضدَّ شخص آخر أضعف، يخترعه ليحمِّله وزر قهره. فالإنسان في مجتمع العنف، منذ أن ينشأ، لا يفهم إلا لغة العنف، فلا يكون لديه ردٌّ إلا بالعنف.

العنف ضدَّ المرأة

تشكِّل المرأةُ ساحةً عظمى لممارسة ثقافة العنف. إنها ملكية جماعية للعشيرة والقرية والأسرة والزوج والأب والابن، وربما للعمِّ والخال. جسدها ليس ملكًا لها، وليس لها أن تناقش أو تختار أو تحلِّل. وقد أثبتت الدراسات أن الأمم التي تربِّي أطفالها على العنف، ولو لجيل واحد، بحجة البناء أو بذريعة الدفاع ضدَّ العدوان، لا تستطيع، فيما بعد، تلافي توريث هذا العنف للأجيال اللاحقة إلا بجهود شاقة وكبيرة. وهكذا، وكما يجري تقسيم للعمل على أساس الجنس في المجتمع الذكوري، يجري توزيع للأدوار في ممارسة العنف. وتشكِّل الزوجات 76.6% من حالات العنف الواقع على المرأة، في حين يشكل الأبناء 28.6 % من حالات الاعتداء الأسري.[4]

فالأشخاص الذين تربوا على العنف أطفالاً يمارسونه تلقائيًّا مع أبنائهم. فالطفل المعرَّض للعنف لا يستطيع تمثُّل عنف أبيه، بل يغلي العنفُ في داخله ويختزنه، لينقله إلى أبنائه. وكذا الأم: فالأمهات اللاتي يمارسن العنف على أبنائهنَّ يتميَّزن بشخصية ضعيفة غير ناضجة؛ وتبيِّن الدراسات أن معظمهن تعرَّضن لعنف في طفولتهن.[5]

وفي مرحلة معينة من نموِّ العنف، يبدو أنه هو المناخ الطبيعي للمجتمع! فيظهر استعبادُ المرأة ليس كاستغلال لكائن مقهور، بل كأنه من طبيعة المرأة ذاتها، ويظهر استغلال البنات والأبناء كأداة في النفوذ وكجزء من العلاقات الطبيعية في الأسرة، بل كحقٍّ مقدس لها لا يجوز المساس به! والحال، لا يُبرَز من الدين إلا ما يؤكد ثقافة العنف وما يؤكد القناعة بالأمر الواقع، في حين أن التقاليد هي الملاذ الذي تفتخر به تلك الثقافة. وثقافة العنف تقف ضدَّ كلِّ ما يخرُج عنها: تلاحقه بالفضيحة، ويُستباح رزقُه وسمعتُه، تشفِّيًا وبطشًا. فالرجل المشحون بمشاعر العنف، المقهور من الخارج، لا بدَّ أن يُسقِط العنف والهوان على امرأته، فتردُّ هي، بدورها، لعبة العنف الذكورية بلعبة العجز الأنثوي والكذب والنميمة والمكر والكيد.

وتأتي ثقافة العولمة المتأمرِكَة والتطورات الاجتماعية العاصفة التي تمرُّ بها بلادُنا لتعطي أبعادًا جديدة للعنف الجنسي المسلَّط على المرأة. فالمرأة في الاقتصاد الطبيعي والمجتمع الزراعي والمدني التقليدي تكتسب مكانتها ليس من خلال وظيفة الإنجاب فحسب، بل من تربية الأطفال ومن دورها في الاقتصاد المنزلي. لكن هذه التطورات قد عملت، بدورها، على تضاؤل دور الأسرة في عملية التربية، من جهة، واضمحلال الاقتصاد المنزلي، بشكل خاص في المدن، من جهة ثانية. والنتيجة، بالتالي، هي تراجع دور المرأة ومكانتها.

وفي ظروف لا توفِّر للمرأة العلم والعمل، لن يكون أمامها إلا أن تستلم لآلة العنف الجسدي، كما يروِّج لها إعلامُ الغرب، متضافرةً مع آليات القهر الداخلية، لتمعن في الأنوثة ابتذالاً، وتحوِّلها إلى هَوَس الجسد وثقافة للسوق ونخاسة الأنوثة.[6] وهذا آخر ما تركتْه العولمة والتقاليد معًا لتلك المرأة في مجتمعاتنا. ويتغلغل القمع الجنسي الجمعي، بدوره، من خلال ثقافة العنف، حتى الأعماق، فتتفكَّك المشاعر، ويضعف التعاطف، وينهار احترام الذات.

العنف في الطفولة

سأنتقل الآن لفكرة أبعد: أين يتركَّز العنف في مجتمعنا؟ إنه يتركز، أول ما يتركز، في الأسرة وفي التربية. فالأم الجاهلة بأوليات التربية، المقهورة أصلاً بالعنف التاريخي الواقع عليها منذ الولادة، لن تستطيع أن تكون إلا حاضنة لثقافة العنف. إنها تشترك مع الأب في نقل نظرة خرافية إلى العالم لأولادها. فالوالدان – والأقرباء عمومًا – لا يجيبون عن أسئلة الطفل، بل يُغرقونه في التخويف والكذب؛ يكذبون عليه حتى لا يشرحوا له أو يغطوا جهلهم. إنهم يخيفونه، ولا يتورعون عن تهديده بالنار والحساب، ليبثوا أعنف المخاوف البدائية لردعه حتى عن أكل فتات خبز وَقَعَ على الأرض! – عنف ثقافي لن يجد الطفل–الرجل مخرجًا منه إلا بعنف مقابل. فبين قدسية الأبوة وحرمة الأمومة يسقط الطفل – باسم "الطاعة" – مهشَّمًا تحت وابل الأوامر والنواهى، فينشأ لديه نظامٌ لمفاهيم الحياة قائمٌ على التسلُّط والعنف والاعتباط.[7]

وتعود المرأة لتردَّ هذا العنف هيمنةً عاطفيةً تعويضية من خلال أطفالها، تعويضًا عن غبن لَحِقَ بها باسم "الأمومة المتفانية"، فتغرس في نفوس الأطفال تبعية الحبِّ وحبَّ التبعية، وتطوِّقهم بعوالم الخرافات والغيبيات، فلا يكون لها إلا أطفال منفعلون، مستلَبون للخرافات، عُجَّز. فالأب، حصيلة خرافات أمِّه ومجتمعه وأكاذيبهما، يأتي ليكمل عمل الأمِّ، خوفًا وهيمنةً وتحريمًا: لا قانون، ولا عقل، ولا تجريد، ولا نقد، ولا شروط سليمة للنموِّ الصحي للعاطفة والعقل – ناهيكم عن الاعتداء الجسدي على الأطفال.[8]

التعليم

العنف أيضًا يبدأ في المدرسة؛ إذ تأتي المدرسة لتتابع ثقافة العنف، عبر سلسلة طويلة من العلاقات التسلُّطية، تفرضها منظومة عقائدية مركزية وسلطوية، قائمة على ثقافة العنف والعسكرة[9]: معلِّم عاجز عن الوصول إلى عقل الطالب إلا عبر العنف، تصير الدراسة، من خلاله، "تدجينًا"، والتعليم خصاءً للفكر: فلا تحليل ولا موقف ولا رأي ولا اختيار، بل تعليم تلقيني، يصنع عقولاً راكدة مستلَبة للخرافة. فالعقل التقني عقل فارغ، وهو مستعد لتلقِّي العقائد الجاهزة؛ إنه عقل خرافي البنية، تلتقي فيه الخرافات والروايات. وهذا النمط من "التعليم" سطحي، تلقيني، امتثالي، بعيد عن النقد والجدل؛ وسلطة المعلِّم فيه لا تناقَش، والطالب يطيع ويمتثل. تعليم يعزِّز الانفعال، ويكرِّس التبعية الفكرية والثقافية، ويَحْرِم من استقلال الرؤية وممارسة التفرُّد في الحياة. (من هنا فإن عملية التدجين المدرسي هي في صلب حركات الرفض والعنف المضاد لدى الشباب.)

أما المواد الدراسية فغريبة عن الحياة اليومية للطالب: مواد فصامية، نصفها مستورد من خارج المجتمع، ونصفها الآخر مستورد من الماضي. فذاك الذي يلبس لبوس "المعلِّم" يتعامل مع الطالب لفظيًّا وخرافيًّا؛ وبذلك لا يعكس العلمَ ثقافةً، بل يبترُه عن جذوره المعرفية، فيختزله إلى قشرة خارجية تعمِّق الغربة، في حين تبقى لغة الحياة اليومية لغة الأمِّ مشحونة بالانفعال.

إن ثقافة العنف هذه تندرج في أرجاء التعليم والحياة كافة، في العمل كما في التدريب والتعليم، وفي العلاقة مع الجار والابن والأب والزوج والأخت. فإما أن تكون متسلِّطًا وإما مقهورًا – وغالبًا ما تكون الاثنين معًا، رازحًا تحت هرم من العنف الهائل. جبرية وقدسية وقَدَرية تسود أرجاء الحياة كلَّها: فأنت إما "مع" وإما "ضد" – في حين أن العصر كلَّه يتَّجه نحو تعليم لا يكتفي بنقل العلم والتقنية عبر القوانين، بل نحو علم مؤصَّل ثقافيًّا ومعرفيًّا.

العنف الاجتماعي

إنني أزعم أن أية ثقافة تقوم على النرجسية، ورفض الآخر، والانغلاق، والارتداد إلى السلف، القريب أو البعيد، لن تكون إلا ثقافة للعنف، تغلق العقل وتحبط التنمية. إنها لا تصدر عن العقل، إذ ترفض العقلانية بحثًا واجتهادًا ونقاشًا؛ بل إنها تعصُّب انفعالي، في محاولة لإجبار الآخر على الخضوع. ولا تخلو من العنف أية ثقافة؛ لكن ما يميِّز وضعَنا هو تراجُع الثقافة المضادة، القائمة على الحوار والعلمانية والانفتاح الفكري والحضاري، لصالح التعصب والانغلاق.

بين قهر التقاليد، وقهر الأسرة والعشيرة، والقهر الاقتصادي والسياسي، ترزح شخصية الفرد العربي تحت عنف شامل يمنع تفتحها ومجابهتها لحقائق الحياة والوجود. تنتج لدينا ذهنيةٌ متصلِّبة، محدودة الأفق، حيث كلُّ تجديد وسؤال هو إثْم يستحق العقاب والتصفية، لأنه يزعزع المحرَّمات وحقائق الماضي المهشَّم. فكرٌ أشْوَهُ، وحيدُ الجانب، انفعالٌ مضطرب، وشخصيةٌ مفكَّكة. كلُّ ذلك يولِّد انكفاءً على الذات، وارتدادًا إلى الماضي، تمسُّكًا بالتقاليد، حتى تكاد ثقافة العنف تبدو جزأً من طبيعة الأمور. فالواقع أن علاقة الفرد بالمجتمع يسودها التناقض بين أمل أسطوري وإحباط تاريخي.

إن الوسيلة الدارجة في مجتمع العنف هي توجيه العدوانية نحو الخارج عبر التعصب الطائفي أو العرقي أو الديني. ويصير الأمل الأخير للفرد المقهور منصبًّا على منقذ موهوم، يُلبِسُه كلَّ الصفات المضادة لضعفه، وسرعان ما يرتد عنه، كفرًا وعنفًا مضادًّا، ليغرق في دوامة جديدة من العنف.

ولعل موقف الإنسان، في مجتمع العنف، من القانون يعطينا فكرة عن تفكُّك شخصيته، حيث لا يكون الاعتداء على القانون محرَّمًا، بل يكون خوفًا من العنف! فالقانون لا يُفرَض إلا على مَن لا يمتلك القدرة على خَرْقِه. ليس هناك احترام للقانون، بل رضوخ وإرغام – ولك أن تخترق القانون إذا استطعت أن تنفد بجلدك! فإن ضعفتْ سلطةُ القانون، وتراجعتْ قدرةُ المجتمع على فَرْضِه، ينفجر العنف انفجارًا مذهلاً، وتنفجر العدوانية الكامنة، ويتعمَّم الاعتداء على القانون، واستباحة الحدود والممتلكات، دون مراعاة للمُواطَنة والجيرة والمشاركة أو الانتماء أو حقوق الإنسان.

العنف في الفكر والسياسة

كلُّ المجتمعات التي قامت على عقائد، لا على قيم للإنسان، غدت فريسة للعنف الاجتماعي، وأضحتْ فيها المؤسَّسة بديلاً عن العقيدة، والطقس بديلاً عن القيمة والمغزى الديني أو العقائدي. من هنا فإن ثقافة العنف في الفكر والسياسة تقوم على عقيدة مركزية توتاليتارية، لا سبيل إلى تقويضها بغير العلمانية.

والعلمانية، في القرن الحادي والعشرين، لم تعد تعني مجرَّد فصل الكنيسة أو الفكر الديني الغيبي عن الدولة والتشريع والإدارة والثقافة، بل أصبحت تعني رفض فَرْضِ كلِّ مسبق عقائدي على العقل والإنسان. من هنا فإن العلمانية هي الطريق للتأسيس لثقافة حقوق الإنسان.

فأية عقيدة أو مؤسَّسة تضع نفسها فوق المُساءلة والجدال والنقد والحوار ليست علمانية، مهما ادَّعت العقلانية والعلم؛ بل هي تؤسِّس لثقافة العنف والتعصب. وأية جماعة تغتصب أدواتِ الحوار، مدَّعيةً احتكار الحقيقة، بحقٍّ إلهي أو شعبي، لا تلبث أن تُخضِع المؤسَّسة والمجتمع المدني لسطوة مزدوجة: سطوة التقاليد وسطوة الاستبداد. فالضمانة الوحيدة ضدَّ ثقافة العنف هي العلمانية. والعلمانية ليست نفيًا لقيم السماء، ولا لقيم الأرض، بل هي تكريس لعقل الإنسان الحرِّ.

ثقافة العولمة

وفوق ثقافة العنف التي تعشِّش في مجتمعاتنا، يأتينا القصف الثقافي البخس لثقافة العولمة. إن العولمة لا تنقل إلينا القيم التي أسَّستْ لنهضتها: الديموقراطية، والعلمانية، وقيم المجتمع المدني، والمُواطَنة، بل هي تقصفنا بالتفاهة والعنف العبثي والتسطُّح الفكري، باسم العولمة الثقافية. فالعنف الثقافي هنا "عدوان ثقافي"، لا حوار حضارات، وتكريس للتفوق ولمنهج الإبادة الثقافية والبشرية.[10]

وما يقدَّم لنا على أنه نظام للسوق العالمية يهدف إلى ترسيخ فكرة الخضوع لضرورات الإنتاجية بالمعايير الغربية، وكأن الاقتصاد ليس إلا علمًا للأشياء، علمًا للتنمية الاقتصادية فحسب. ويبيع لنا إعلامُ العولمة الجنس العنيف والعنف الجنسي بأبخس الأسعار وبنفس السهولة التي يبيع بها أهم أخبار المجاعات والحروب. وإلى جانب العنف المباشر، تقوم ثقافة العنف العولمي بتكريس مفاهيم البطولة والخلاص الفردي: "اقتل، واضرب، ومزِّقْ، وانفد بجلدك!" عنف فردي يكرِّسه عنف جمعي، ويركَّب فوقه عنف كوني باسم العولمة والأمركة.

أمثلة على التلاعب الإعلامي

وها هي ذي وسائل الإعلام التي موَّلتْها بعض دول النفط على عتبة حرب الخليج الثانية تقدِّم لنا صورة فتاة لاجئة شابة، تروي كيف أفلتتْ بصعوبة من الأفظاظ العراقيين، وكتمتْ اسمها خوفًا من الانتقام. وها هي ذي تروي أمام الجمهور الأمريكي كيف اختطف العراقيون 12 مولودًا من الحاضنات ورموهم أرضًا ليموتوا، ثم أجهشت بالبكاء.

سرعان ما هزَّتْ هذه الحادثة أمريكا، وحصل بوش، بفضلها، على تفويض من الكونغرس بالحرب. وهكذا قُضِيَ في أيام على 200000 عراقي. ولكن سرعان ما تبيَّن أن هذه المؤسَّسة الإعلامية الأمريكية تلاعبت بعقول 250 مليون أمريكي – إذ لم تكن اللاجئة المزعومة سوى ابنة أحد سفراء الخليج في نيويورك، وقد فعلت ذلك مقابل 10 ملايين دولار! ألم تشارك وسائل إعلام العولمة في قصف شعب العراق بنفس القدر الذي ساهمت به الطائرات والصواريخ؟! ولقد أكد جورج بوش صحة هذه الرواية.

كذلك حين احتاج الوضع الاستراتيجي للولايات المتحدة للتدخل في الصومال، سرعان ما غزت كاميرات الـCNN كلَّ أرجاء الصومال، لتصوِّر أكواخ الجياع ومخيَّماتهم. وحين انقلبت المصالح، سرعان ما انسحب الجيش الأمريكي وانطفأت الكاميرات.

هل من مَخرَج من حلقة العنف المجنون؟

يجب أن ندرك، أولاً، ذلك الحيِّز الهائل الذي يحتلُّه العنف وثقافة العنف، بدءًا من حياتنا اليومية، إلى مختلف جوانب الحياة الفكرية والسياسية. ولا بدَّ، بعد إقرارنا، من أن نحرِّر الدراسات والبحث العلمي، لتغدو شفافة، سواء في علم الاجتماع أو في غيره من المجالات.

ثم إن مواجهة كلِّ الأصوليات في المجتمع تحتِّم إعادة الاعتبار لمؤسَّسات المجتمع المدني: فهي وحدها القادرة على مواجهة الفكر الشمولي والأصولي، وعلى محاصرة ثقافة العنف. فلقد أثبتت المؤسَّسات السياسية فشلاً ذريعًا في بلادنا في معالجة جملة من القضايا الاجتماعية والجماهيرية، بدءًا من محو الأمية، إلى تحرر المرأة، إلى الثورة الثقافية، إلى حماية المدن والآثار.

والطريق إلى هذا كلِّه يبقى هو العلمانية، التي ترفض كلَّ طقس أو عقيدة لا تنتجها حركةُ الحياة، كلَّ طقس أو عقيدة تسوِّغ العنف. بدون العلمانية، تسود العسكرة والتسييس المفتعل لكلِّ شيء في المجتمع، ليطغيا على سائر مرافق الحياة في مجتمعاتنا العربية. ومن تسييس العسكر إلى عسكرة المجتمع المدني، تنهار ثقافةُ الحوار والاختلاف والقبول بالآخر تحت وطأة ثقافة العنف، ويصير المجتمع مفتوحًا على الأصوليات وأشكال التعصب كافة، ويعيش في رعب العنف كلٌّ من السَّجَّان والسجين على حدٍّ سواء، ويصير السِّلم الاجتماعي استثناءً وشذوذًا.

موقف الثقافة السكونية من الديموقراطية وحقوق الإنسان

إن الهاجس الأساسي الذي دفعني إلى البحث في العلاقة بين الثقافة، من جهة، وبين العنف وحقوق الإنسان في مجتمعاتنا، من جهة ثانية، هو سؤال طرحتُه على نفسي في بدايات العقد الماضي: لماذا تقبَّلتْ مجتمعاتٌ عربية عديدة، منذ نهاية التاسع عشر، قيم حقوق الإنسان والديموقراطية، دون أن تنقطع عن فهم الثقافة والتراث الإسلاميين، بل قاربت الثقافة العربية الإسلامية من منطق الاستشراف الحَداثي، حتى فيما يخصُّ الأحوال الشخصية وإعمال التقنيات الحقوقية النابوليونية، دون مقاومة كبيرة حينذاك؟ ولماذا نشهد، في زماننا، الأصولية تلعب دور ردِّ فعل نكوصي معادٍ للتحديث والإصلاح؟

ليس من الصحيح القول إن ثقافتنا، بما تحمله من إرث، تشكِّل رصيدًا قويًّا لصالح استمرار قيم الاستبداد وسيادتها. فليست ثقافتنا العربية الإسلامية أفقر بمفاهيم الحرية من غيرها، ولا هي أغنى بالاستبداد من غيرها (الهند مثلاً). لكن حيثما ساد في الغرب وعيٌ بالتأخر لدى أمة أوروبية، ساد الاستبداد والتوتاليتارية والهوس القومي، كما جرى في ألمانيا النازية. وكلُّ النهضات الأخرى، سواء نهضة فجر الإسلام أم النهضة الأوروبية أو غيرهما، قامت على أساس الانتصار الاستراتيجي على الآخر – انتصار دفع الآخر بعيدًا.

أما النهضة في حالتنا الراهنة، فلقد قامت في ظروف غزوٍ وتحدٍّ وجودي: صار التراث سلاحًا إيديولوجيًّا في وجه الآخر الغازي، ولم يعد منظومة مرجعية قيمية، نراجعها بالنقد والتقييم وندرك نسبية كلِّ قيمها. أضحى التراث آلية للدفاع الذاتي عن النفس أمام الانصهار؛ أضحى هو وحده الهوية. فأضحى الضعف والانكسار لا يُعزى إلى تخلُّف البنية العقلية، ولا إلى المحدِّدات الثقافية، بل إلى أسباب طارئة، شكلية أو تآمرية. وأما هويتنا، كما يتم الترويج لها في ثقافتنا العربية الدارجة، فتقع فريسة لهاجس التعالي المفرط، هاجس الصدارة والخوف من الذوبان، مما يعيق مساهمتها بدورها "التاريخي" المفترض في صياغة الثقافة العالمية.

وفي حين أن الأسطورة كانت أساس الثقافات قاطبة، فإن ما ميَّز موقفنا من تراثنا هو أسطرتنا للتاريخ. كلُّ ثقافة قامتْ على التميُّز؛ لكن ما ميَّز موقفنا من التراث أنه يقوم على الفرادة، على التفرد والغائية، على التفوق، بحيث تنحصر مهمة العقل في التأويل وخلق مفاهيم مزيفة تشلُّ القدرة على فهم الواقع، سواء ارتدى ذلك لبوسًا سلفيًّا أو نهضويًّا، ليبراليًّا أو ماركسيًّا. لذلك اتخذ موقفُنا من التراث صفتَي:

1.     الفصل الشديد بين الصديق والعدو؛

2.     قلق من الآخر ورفض له.

موقف فصامي من الثقافات الأخرى الأقوى: وَهْم إمكان التلامس معها، دون التلوث بها! لذلك قام موقفنا على منطق جفري، حتمي، لاهوتي، قوامه منظومة مفاهيمية متكاملة، عناصرُها:

1.    الصبر؛

2.    الزمن والقائد التاريخي الموعود (المستبد العادل)؛

3.    حتمية الانتصار التاريخي.

ولعله منطق يوحِّد الأصوليات كلَّها: سلفية وليبرالية وماركسية.

وفي ثقافتنا الرائجة لا يقدَّم التراث كبنية حضارية تتقدم وتنمو. لذلك نجد جهلاً بتاريخ الثقافات الأخرى، وجهلاً بحركة المعرفة البشرية، بل نظرة ستاتيكية سكونية إلى المعرفة البشرية. وفي النتيجة، رفض للآخر: لا تقدَّم ثقافة العرب على أنها إعادة إنتاج للثقافة الإغريقية، ثم ارتقاء بجوانب هامة منها؛ ولا تقدَّم الثقافة الغربية على أنها إعادة إنتاج، بل تجاوز إيجابي للبنية العقلية للحضارة العربية ولقيمها ومفاهيمها ومعرفتها.

تاريخ الثقافة الرائجة هو نسخة رديئة عن الماضي – نسخة ميتة بالتعريف. فالحاضر مشغول بالماضي؛ أما المستقبل فأسير لحاضر مفوَّت. إنه موقف فصامي من واقع مزدوج – والفصام، كما حاولنا أن نثبت سابقًا، هو الأساس في ثقافة العنف: فمنذ قام محمد علي بفصل الأزهر عن المدرسة انشقَّ المجتمع إلى شقَّيْن، ثقافتين، عالمين، ونشأت مؤسَّستان، بل ثقافتان، تتحايثان المكان وتصطرعان على الزمان، فتفرزان صراعًا بين المؤسَّسة العلمية والمؤسَّسة الثقافية، بين العلم والثقافة. ومنذ ذلك يوم بدأ فصل العلم عن الثقافة.

ومن تجربة محمد علي، إلى التجربة الناصرية، إلى التجربة الشيوعية المحلِّية، ساد المنطق النهضوي الفصامي من هذه الازدواجية؛ نشأ موقفٌ فصامي من واقع مزدوج: تلفيق وتوفيق. والنتيجة هي أن الماضي حاضر فينا، لا كتاريخ نبني عليه، بل كمنظومة فكرية "معجزة"، نعجز عن تجاوزها، وتشكِّل غلافًا عقائديًّا لصراعاتنا وجاهلياتنا الراهنة.

ولعل في موقف بعض القوى المتنوِّرة والثوريةِ الموقف من المرأة مثالاً صارخًا على مآل الوسطية في الثقافة. إن المرأة هي حصن حصين للتقاليد ولثقافة العنف؛ لذلك يتخذها الارتداد المدني الحاصل حصنَه الأول، حيث تكون المرأة مرتكَزًا له، لأنها معقله الأكثر إيغالاً في البُنى الاجتماعية. ومادام هذا الحصن مغلقًا لن يُتاح للحداثة اختراقُ الطبقات الكثيفة التي لا تزال تحيط بكامل المنظومة السلفية.

حتى التيارات الشعبوية، بأغلفتها المختلفة، أعادت إنتاج القيم التقليدية الدارجة التي تمجِّد الذكورة كمرتكَز قيمي للعداء للآخر: الغرب. بذلك قبلت التيارات العلمانية بالمساواة بين الرجل والمرأة في السياسة، لكنها لم تقبل بها في القوانين المدنية وقوانين الأحوال الشخصية. مثالنا على ذلك ما وَرَدَ في الميثاق الوطني الجزائري للعام 1976:

على الاتحاد الوطني النسائي أن يكيِّف نشاطه مع المشاكل الخاصة التي يطرحها انخراطُ النساء في الحياة الحديثة، وعليه أن يدرك أن تحرُّر النساء لا يعني التخلِّي عن المعتقدات والتقاليد الأخلاقية التي يختزنها الشعب عميقًا.

ثم كيف يتطور ذلك الموقف الوسطي؟ هي ذي صحيفة المجاهد الجزائرية تقول: "ليست النساء مساويات للرجال. فجماهيرنا الكادحة هي في العمق تقليدية ومحافظة. إن اشتراكيتنا تستند إلى الأعمدة السبعة... لا إلى تحرر النساء." وهاهي جريدة المجاهد بعد سنوات تقول: "كان تحرر المرأة عاملاً حاسمًا في انحطاطنا." ثم تتابع: "إن خضوع المرأة لزوجها... لا يمنعها على الإطلاق من المساهمة في الحياة السياسية." ليتابع أحد الأصوليين، بعد سنة واحدة: "حتى صعود النساء إلى الجبال مع المجاهدين كان وبالاً عليهم، ولم يزدْ الجنود إلا خبلاً وفتنة، والله وحده يعلم ماذا كان يحدث هناك."

فما الذي نتج عن ذلك كلِّه؟ بَنَت الثقافة العربية، بمنابعها المختلفة، استراتيجيتَها على مصالحة الداخل في مواجهة الخارج. فما الذي نتج عن ذلك؟

أصالتنا هي طريقنا لإفنائه

حداثة الآخر: كُفر وتسطًّح حضاري ?

الشمولية من صلب "تقاليدنا"

ديموقراطية الآخر: فوضى وتفكُّك ?

ذكورية

تحرر المرأة: فجور وتحلُّل ?

التمترُس الماضوي

الحوار مع الآخر: مرفوض ?

إنه الوهم الجفري بأن كلَّ حَدَثٍ يسير إلى صالحنا، ودليل على قرب تفكُّك الغرب. وما الذي نتج أيضًا؟

نتج وعيٌ شقي، ينوس بين ماضٍ نمتلكه، ولا نستطيع تجاوزه إيجابيًّا، وبين مستقبل لم نؤسِّس له، ولا نستطيع القفز إليه – وعي رغائبي، يداور المتغيرات وينتج حلولاً دفاعية؛ وعي غير مطابق للواقع. ونتج أيضًا خطابٌ سياسي مبني على إملاءات مسبقة لدى التيارات الفكرية كافة، بحيث نصل متخلِّفين دومًا عن ركب الأحداث.

تنبأتْ تحليلات غربية كثيرة بغزو الكويت – إلا نحن، بسبب غرقنا في مفاهيم شيم العرب وأخلاقياتهم. لذلك صرنا حَداثيين في الحياة والاستهلاك، أصوليين في الثقافة. وتعمَّق التباس العلاقة بين الماضي والمستقبل. صار تاريخُنا الحديث صراعًا ضدَّ الغرب ولأجله: صار بعضنا "مع" الغرب إيديولوجيًّا، و"ضده" سياسيًّا؛ وبعضنا الآخر "مع" الغرب سياسيًّا و"ضده" إيديولوجيًّا. وصار تاريخنا صراعًا ضدَّ الماضي ولأجله: بعضنا سلفي سياسيًّا وحَداثي إيديولوجيًّا؛ وبعضنا الآخر سلفي إيديولوجيًّا وحَداثي سياسيًّا. وأمسى الإنسان وحقوقه الهاجس الأخير عند كلِّ من ادَّعى "التنوير" فينا. وما الذي نتج عن ذلك أيضًا؟

نتج شرخ اجتماعي ثقافي شامل: ازدواجية كاملة، تخلق مناخًا صراعيًّا في جوانب الحياة كلِّها، من الاقتصاد إلى الثقافة؛ ونشأ شرخ بين قطاعين: الأول عصري مستنسَخ، والثاني تقليدي ماضوي.

إن جوهر المشكلة التي نشأت ليس في ازدواجية الواقع، بل في ازدواجية الموقف منه. إنها العقدة الأساس: نصف حداثة، ونصف ماضوية سلفية. نستثمر في القطاعات العصرية باسم التحديث، ونستثمر في القطاعات التقليدية باسم الأصالة. والنتيجة فصام على المستويين الفردي والمجتمعي: حرب أهلية ثقافية شاملة.

ولعلنا نستطيع أن نضرب مثلاً على استيعاب المفارقة بين رموز النهضة في البلدان المتطورة و"نجومها" في بلادنا. فرموز النهضة في الغرب هم: مصرفي يتأبط عالِمًا، يصفِّقان لفيلسوف أو مبدع (وكثيرًا ما تبلورت الشخصيات الثلاث في واحد: ديكارت، سبينوزا، إلخ). وأما "نجوم" نهضتنا فهم: تاجر مدني، يتأبط بيروقراطيًّا، يصفِّقان لمثقف تراثي (وكثيرًا ما اجتمعت الشخصيات الثلاثة في واحد).

تأصيل الديموقراطية وثقافة حقوق الإنسان

لا بدَّ لثقافة حقوق الإنسان من أن تؤسَّس على نهضة مفهومية جديدة للمُواطَنة، تبدأ، أول ما تبدأ، من الأكاديميات والتعليم. إن ثقافة حقوق الإنسان هي التي تسمح بإعادة تأسيس مجمل العملية التربوية ضدَّ أشكال الفكر المسبق كافة، وبتكريس الوحدة الثقافية بتعزيز التنوع والحرية القائم على مبدأ الحوار والقبول بالآخر، وبإعادة التأسيس للعملية الثقافية على أساس إعادة التجديد من الداخل والانفتاح على الخارج.

هذه الأهداف المتعلقة بالتأسيس لثقافة حقوق الإنسان ليست منوطة بطبقة بعينها، مع أن طبقات بعينها قد تلعب أدوارًا تاريخية فيها. إنها نهضة تشمل البُنى الاجتماعية والفعاليات السياسية كافة، لتصهرها حول أهداف النهضة – نهضة تقوم على تكتل تاريخي للمجتمع والأمة بأسرها، لتكريسها، بكلِّ طاقاتها، لهذه الأهداف. وهذا لا يعني أن تتخلَّى الطبقات والأحزاب عن مصالحها وإيديولوجياتها، بل يعني تكريس هذه الأهداف لخدمة نهضة الأمة. إنها تعني وضع الوطني القومي النهضوي الديموقراطي زمنيًّا فوق الإيديولوجي. وهذا يحتِّم أن تقوم الأحزاب والقوى الاجتماعية بالتخلص من تشرنقها العقائدي ومن ترهُّلها الذي تمسخ به ارتباطاتها بالحياة وبقيم الحرية والعدالة وحقوق الإنسان.

ونستطيع أن نقول إن القيمة العميقة لأية حضارة تكمن في المكانة التي تعطيها لكرامة الإنسان. وفي المقابل، فإن حرية الوطن ليست شرطًا مسبقًا لحرية الإنسان؛ بل إن حرية الإنسان وحقوقه ومكانته كمواطن هي التي تؤسِّس للتنمية الحقيقية. لكن ما حصل أنه إبان فترة الحرب الباردة تمَّ توظيف حقوق الإنسان السياسية، من جهة، وحقوق الإنسان الاجتماعية، من جهة أخرى، سلاحًا في الدعاية والتضليل السياسيين، خدمةً للمصالح الجيوبوليتيكية لهذه الدولة العظمى أو تلك.

ليس هناك أيُّ معنًى لدولة القانون، ولا لأية تنمية، من دون حقوق الإنسان؛ بل إنها هي التي يجب أن تشكِّل المدخل الرئيسي لحثِّ عملية التنمية والتأسيس لها. فمنطق حقوق الإنسان يجذِّر ويعزِّز أبعاد التنمية ويؤسِّس لها، لتصبح أعمق وأكثر أصالة في بنية المجتمع. وليس هناك أيُّ معنًى لدولة القانون، ولا لأية تنمية، خارج إطار تعزيز حقوق الإنسان وتكريس مبدأ المُواطَنة. وكما في السابق، فإن النضال في القرن الجديد من أجل حقوق الإنسان سينطلق، أولاً، من تصفية أشكال الثقافة والانتماء ما قبل المدنية، ومن هدم المصالح السياسية والثقافية للمستفيدين من أيِّ تقسيم للمواطنين على أساس طائفي أو عشائري أو عنصري، ثانيًا.

لقد أثبتت التجارب أن القوانين لا يمكن أن تكفل حقوق الإنسان. لكن حقَّ الحياة والتعليم والتغذية والعمل والحماية ضدَّ المهانات كافة هي شروط لا بدَّ منها لنجاح التنمية، وليست مجرد أهداف مثالية عامة. إذ إن الجمع بين الأفق التنموي وأفق حقوق الإنسان، القائم على الانتماء الوطني (المُواطَنة)، هو الشرط لتحقيق تنمية بشرية في هذا العصر؛ بل إن كلاً منهما يعزِّز الآخر.

لقد غيَّر النضال من أجل حقوق الإنسان وجه العالم. وتنخرط فيه، أكثر وأعمق، ثقافةُ الجنسانية gender، لتدعمه بزخم كبير من أجل تعزيز النضال العام من أجل حقوق الإنسان. وعلى الرغم من ذلك، فإن تسريع التنمية الوطنية لا بدَّ منه من أجل استئصال الفقر الذي يشكِّل العائق الأساسي أمام توفير الشروط الأساسية لتحقيق حقوق الإنسان.

مع ذلك، فإن العنف والقمع لا يزالان متجذِّرين بقوة في مجتمعاتنا، في حين تعاني المؤسَّسة القضائية من اعتباط ونقص كبير في الكفاءة، بسبب ظواهر الفساد. إذ لم تعد التدابير والأنظمة وحدها كافية لحلِّ المشكلة، بل إن الأمر بات يتطلب إعادة النظر جذريًّا في البنية الإدارية والمؤسَّساتية للقضاء ذاته. فإذا كانت العدالة هي الشرط الأساسي لتنمية حقوق الإنسان، فإن الشفافية هي العمود المحوري الذي ينبغي أن تدور حوله المؤسَّسة القضائية للحيلولة دون تسلُّط منطق مراكز القوة وجبروتها.

وحدها الديموقراطية تستطيع أن توفِّق بين الأشكال الخمسة لحقوق المُواطَنة، أي الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والمدنية والثقافية. إلا أن بعض الديموقراطيات تفشل في تجذير حقوق الإنسان: فهي لا تلبث أن ترتدَّ قمعًا لهذه الأقلية أو تلك، لهذه الثقافة أو تلك، أو لهذا الفكر أو ذاك؛ كما أن الأحزاب غالبًا ما تكون مبنية، من حيث المبدأ، بحيث تستبعد الأغلبية من المشاركة.

*** *** ***


[1] وُجِدَتْ في المجتمع الأمومي في مدينة بيوك جطل في تركيا (العصر الحجري) آلاف الهياكل العظمية؛ ولم يُكتشَف فيها أيُّ أثر لموت عنيف؛ بل إن كلَّ المعطيات تشير إلى أن المجتمع كان يقوم على التعاون والعمل العائلي والملكية الجماعية.

[2] لن أناقش، فيما يلي، موضوعة العنف في العلاقات بين الشعوب، بل سأناقش، بالدرجة الأولى، ثقافة العنف داخل مجتمعاتنا العربية.

[3] 84% من الجانحين في سورية لم يكملوا تعليمهم الإعدادي.

[4] على عكس ما يروِّج له البعض، فإن 45.6% من حالات العنف الأسري في مصر تعود لأسباب اقتصادية ومحاولات القسر أو الاستيلاء على الأملاك.

[5] إن إساءة معاملة الأطفال، في أشكالها الأولية، وصولاً إلى الاعتداء الجنسي، تترك آثارًا عميقة في شخصية الولد أو البنت.

[6] يشكل الحرق 21% من حالات الاعتداء على النساء في مصر، يليه الطعن بالسكين (20%).

[7] في سورية، تشكِّل الأُسَر الأمِّية الملمَّة بالقراءة 78% من أُسَر الجانحين، و58% من أسر الجانحين فيها حالات خصام شديد بين الوالدين، و28% منهم يائسون من وجودهم الأسري.

[8] تفيد دراسةٌ أُجرِيَتْ على نساء لبنانيات، في مناطق تتميَّز بتقاليد متشدِّدة تجاه البنات، أن الأمهات عانين، من جراء قسوة التقاليد، تربية قاسية وعنيفة بهدف إخضاعهنَّ للمعايير الاجتماعية. وكانت الأم، بدورها، لا توفِّر مناسبة للاعتداء على جسم ابنتها تهديدًا وإيذاء. أما البنت فكانت تتصور هذه الأفعال هادفةً إلى تدمير جسمها، وتغدو محبطة حتى الأعماق.

[9] في سورية عانى 51% من الجانحين من قسوة المعاملة في المدرسة.

[10] أظهرتْ دراسةٌ أُجرِيَتْ في لبنان أن الطفل يشاهد على التلفزيون أكثر من 25 ألف عملية قتل وعنف جسدي شديد في العام؛ وفي ألعاب الكومبيوتر قد يقوم طفل واحد بأكثر من ألفي عملية قتل وهمية في 24 ساعة. في حين أنه قُتِلَ في لبنان، في العام نفسه، 71 طفلاً في أعمال عنف اجتماعي (وهي نسبة متفاقمة مع الزمن). ذاك ما تُمطِر به ثقافةُ العولمة وألعاب الكومبيوتر أطفالَنا الذين لا يسمح عمرُهم بعدُ بالتمييز بين الخيال والواقع.

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود