قراءة في

إشكالية المنهج في دراسة الفلسفة الإسلامية

 

نضير الخزرجي

 

أخذت الفلسفةُ مُسمَّياتٍ عدة، من قبيل "الحكمة" و"العرفان". وعُدَّتْ بعضُ المسمَّيات محاولةً من أصحابها للابتعاد عن دائرة التشوش والممانعة التي لفَّت مصطلح الفلسفة، ونوعًا من المقاربة مع المفاهيم الإسلامية المتسالَم عليها، كمصطلح "العرفان" الذي يجد قبولاً عند المدارس الإسلامية أكثر من مصطلح "الفلسفة"، نتيجة لتراكم مفاهيم مغلوطة عن الفلسفة بخاصة، والفلسفة الإسلامية بعامة – ما أوجد شرخًا غير صغير بين علماء المسلمين أنفسهم عن أصل الفلسفة ومنشئها ومساربها. وقد زادت دراسات المستشرقين من رقعة هذا الشرخ من خلال محاولات بعضهم، والبعض ممَّن تأثر بهم من الفلاسفة العرب والمسلمين، اختزال قرون عدة من الإبداع العربي والإسلامي. ولكن أين الخلل في هذا القصور المعرفي عن الفلسفة الإسلامية وعن الإحاطة بإبداعات المسلمين؟

يحاول الأكاديمي والباحث العراقي د. إبراهيم العاتي[1]، في كتابه الجديد المعنون إشكالية المنهج في دراسة الفلسفة الإسلامية[2]، الإجابة على هذا السؤال، من خلال الاستشكال على نوعية المناهج المتَّبعة في دراسة الفلسفة الإسلامية.

مناهج الباحثين الغربيين (المستشرقين)

في الفصل الأول، يتناول إبراهيم العاتي بالنقد مناهج المستشرقين والبعض ممَّن أخذ بطريقتهم من الباحثين المسلمين والعرب، معتبرًا أن معظم المناهج التي طبَّقها المستشرقون في تعاطيهم مع فلسفة المسلمين يعود إلى المنهج الاستشراقي التقليدي، فلا يخلو من تجنٍّ على الفلسفة الإسلامية وغَمْطٍ لإبداعات العرب والمسلمين في المجال الفلسفي.

ويردُّ الكاتب على نظرية "المركزية الأوروبية" euro-centrism التي تعتبر أن أوروبا هي مركز التاريخ والحضارة على وجه البسيطة، وهي وراء كلِّ ما وصلت إليه الإنسانية من إنجازات وإبداعات في جميع الحقول، من فلسفة وعلم وأدب وفن وغيرها، ويرى أن هذه النظرية والمنهج المؤدي إليها يتَّسمان بالعنصرية ويقومان على تجاهُل عطاءات الشعوب الأخرى.

قريب من ذلك مَن أخذ بمنهج "النظرية العرقية" التي تقسم الناس على أساس العرق والجنس، كما في حالة إرنست رينان (1823-1892)، الذي انطلق، هو ومَن يشاركه نظريتَه، في تقسيم البشرية إلى سامية وآرية، ففضلوا الجنس الآري على غيره من الأجناس.

وهناك من المستشرقين مَن يؤالف بين النظريتين السابقتين، ليخرج بنظرية ثالثة هي: "المعجزة اليونانية"، التي يرى فيها أن الفلسفة هي نتاج اليونان، بينما تعيش بقية الفلسفات على مائدة فلسفة اليونان، ثم فلسفة عصر النهضة الأوروبية (ومثل هذا الموقف قال به بعض المثقفين العرب).

ويعتقد العاتي أن هذه النظريات تتهافت أمام البحث والنظر، ويترافع في محكمة النظريات عن نظرية "التأثر والتأثير"، بوصفها "ظاهرة طبيعية في إطار الحضارات؛ حتى إننا لا نستطيع أن نجد حضارة خَلَتْ من عناصر خارجية أثَّرت فيها أو ساعدت على نشوئها. غير أن ذلك لا يقلِّل من قيمة تلك الحضارة ولا يلغي شخصيتها".

العقل العربي والمنهج القرآني

ولَّدت أحاديةُ النظرة إلى الفلسفة عند المستشرقين ردودَ أفعال لدى علماء العرب والمسلمين، الأمر الذي أوجد جيلاً من الباحثين تفرَّغ لدراسة الفلسفة الإسلامية. ويعتقد العاتي أن شيخ الأزهر مصطفى عبد الرازق (1885-1947) كان رائدًا في هذا المجال من خلال محاضراته ودروسه التي ألقاها في عشرينيات القرن الماضي. والعاتي يأخذ على البعض ممَّن أوغل كثيرًا في وضع الحدود بين فلسفة إسلامية "مغربية" وأخرى إسلامية "مشرقية"، على نمط ما فعل بعض المستشرقين، ويعتقد أن هذا المنهج المناطقي يدخل في إطار الحرب على الفلسفة الإسلامية – ولكن بسلاح "داخلي" – لتثبيت مسائل تجاوزتْها الشعوب العربية والإسلامية.

ومع أن الكاتب لا ينكر عملية التأثر والتأثير (أو ما نسمِّيه بـ"نظرية التفاعل والتفعيل") في نشأة أية فلسفة أو ظاهرة حضارية (ومنها الفلسفة والحضارة الإسلامية)، فإنه يدعو، في الوقت نفسه، إلى رَصْد "المؤثِّر الإسلامي قبل كلِّ شيء، لأنه الأقرب من جميع الوجوه إلى تلك النشأة". وهو ينتقد المناهج السابقة بسبب "إهمالها تحليل الطابع العقلي الإسلامي، ودور القرآن الكريم في صياغة العقلية الإسلامية، بحيث أصبحت هذه العقلية مهيأة للنظر والإبداع الفلسفي". فالعقلية الإسلامية، كما يرى العاتي، "ثمرة للمنهج القرآني الذي حثَّ على النظر والاعتبار والتأمل في آفاق الكون ومكنونات النفس".

الحكمة والشريعة: حرب مفتعلة

ويسعى المؤلِّف، في الفصل الثاني، إلى تبديد الظنون حول شبهة العلاقة التضادية بين الحكمة والشريعة، متلمِّسًا تعريف "الحكمة" التي تعني، من أحد أوجُهها، "الإصابة في القول والفعل، ومعرفة أفضل الأشياء بأفضل العلوم؛ أو هي العقل والعلم والفهم والمصلحة والموعظة والفلسفة، أو المعرفة بالدين والفهم فيه والنبوة والفقه". وهي، بحسب الشيخ الطبرسي (1077-1153)، "العلم الذي تعظُم منفعتُه وتجل فائدتُه؛ وإنما قيل للعلم حكمة لأنه يُمْتَنَعُ به عن القبيح لما فيه من الدعاء إلى الحَسَن والزجر عن القبيح". فالحكمة تريد بالإنسان خير الدنيا والآخرة، وكذا الشريعة. والحكمة تنشد معرفة الحق والشريعة، داعيةً إلى النظر المؤدي إلى معرفة الحق. فمنهج التوفيق بين الحكمة والشريعة، كما يذهب إليه العاتي، هو الطريق الأمثل لرفع الشبهة عن التخالُف والتعارض.

في الفصل الثالث، وتحت عنوان "تراثنا الفلسفي ودوره في صياغة مشروعنا الحضاري"، أشار الكاتب إلى أن فلاسفة العرب والمسلمين كانوا علماء قبل أن يكونوا فلاسفة، كالكندي (ت. بعد 966) والفارابي (ت. 950). ولم تكن كرة هؤلاء العلماء الفلاسفة عن مرمى العلم التجريبي ببعيدة، بل كانوا رياضييه وروَّاده وأهله، كجابر بن حيان (ت. 815) والشيخ الرئيس ابن سينا (980-1037) والحسن بن الهيثم (965-1039). بل إن العلاَّمة جورج سارتون (1884-1959)، مؤلِّف كتاب تاريخ العلم والأنسنة الجديدة، يذهب إلى أن اليونانيين "كانوا متخلِّفين من الناحية التجريبية، وإذا كان أطباؤهم مالوا إليها بحكم الصناعة، فإن الروح التجريبية لم تنشأ إلا بتأثير الكيمياويين وعلماء البصريات من العرب". وعن طريق التجربة، تمكَّن العلماء المسلمون من "استخراج العلة من المعلول، والمجهول من المعلوم، وانتهوا إلى عدم التسليم بما لا يثبت من غير تجربة".

وإذا انتقلنا إلى مجال العقل، فإن العقلانية سِمَةٌ ميَّزت الفلسفة الإسلامية، وصفةٌ امتاز بها علم الكلام. ويرى العاتي أن الفلاسفة يعتبرون "الموقف من العقل والسير على هدى أحكامه جزءًا لا يتجزأ من طبيعة الفلسفة"؛ بل إن الكندي يرى أن "الناس جميعًا لا بدَّ لهم من موقف فلسفي، إنْ أرادوا الحصول على قَدْر من التفكير السديد. وحتى خصوم الفلسفة مضطرون للتفلسف، شاءوا أم أبَوْا، لأنهم، إنْ رفضوا الفلسفة، وَجَبَ عليهم تعليلُ موقفهم والبَرْهَنة عليه – وإعطاءُ العلة والبرهان هو من طبيعة الفلسفة". ويذهب ابن رشد (1126-1198) بعيدًا في وجوب النظر الفلسفي شرعًا، ويستجلي أسُس التوافق والتناغم بين الفلسفة والدين، من خلال تأكيده أنه "إذا كانت هذه الشرائع حقًّا وداعية إلى النظر المؤدي إلى معرفة الحق، فإنَّا، معشر المسلمين، نعلم على القَطْع أنه لا يؤدي النظرُ البرهاني إلى مخالفة ما وَرَدَ به الشرع؛ فإن الحق لا يضاد الحق، بل يوافقه ويشهد له".

روَّاد المنهج العلمي عند المسلمين

يتناول الكاتب في الفصلين الرابع والخامس جوانب من سيرة العالِم والفيلسوف جابر بن حيان الأزدي الكوفي ويعقوب بن إسحاق الصباح الكندي. وهو ينقل عن الأول قوله: "إنَّا نذكر في هذه الكتب خواص ما رأيناه فقط، دون ما سمعناه أو قيل لنا وقرأناه بعد أن امتحنَّاه وجرَّبناه؛ فما صحَّ أوردناه وما بطل رفضناه." واشتهر جابر لدى علماء الغرب والشرق بأنه أول مَن وضع لعلم الكيمياء قواعد علمية تقترن باسمه.

أما الكندي، رائد المنهج الرياضي، الذي اعتبر الرياضيات شرطًا لا غنى عنه لتعلُّم الفلسفة، فقد ساهم العصرُ الذي عاش فيه في أن يبدع في مجال تخصُّصه – وهو عصر شهد حركة كبيرة للترجمة إلى العربية. فالكندي "يقف على الخطِّ الفاصل بين عصر النقل وعصر الإبداع، وقدَّر له هذا الموقف أن يعالج مشكلات تأسيس العلم في حضارة ناشئة، وبخاصة في ما يتعلَّق بالمفاهيم والمصطلحات التي كان العقل العربي والمسلم حديثَ عهد بها". والكندي "أدخل الرياضيات في النسيج المنطقي والفلسفي، فتوصَّل إلى نتائج لم تعرفها الحضارة إلا في العصر الحديث، وبخاصة على يد ديكارت وأصحاب المنطق الرياضي، أمثال برتراند رسل".

وقد حملت الفصول الخمسة الأخرى العناوين التالية: "التصوف الإسلامي: آراء في فهمه وتقييمه"، "جدلية الوجود والإنسان عند ابن عربي"، "جدلية المعرفة والسياسة عند الفارابي"، "الزمان وتجلِّياته في الفكر الإسلامي"، و"شفافية الرمز الفلسفي".

في الفصلين السادس والسابع، توقف الكاتب عند تعريف التصوف والإشكالات التي وَرَدَتْ عليه، وعلى أصل التصوف ونشأته ومصدره ومنهجه وواقعه، ومعرفة جدلية الإنسان والوجود. فيما تناول في الفصل الثامن نظرية المعرفة لدى الفارابي، وتناول في الفصل التاسع ظاهرة الزمن الكونية ونظرة التراث الإسلامي إلى الزمن. وبحث د. إبراهيم العاتي، في الفصل الأخير، أصل الرمز الفلسفي ومدى شفافيته وتوظيفه لبلوغ غايات وجدانية وفلسفية وأخلاقية وعرفانية.

*** *** ***


[1] عميد الدراسات العليا في "الجامعة العالمية للعلوم الإسلامية"، لندن.

[2] صدر الكتاب عن دار الهادي في بيروت في 135 صفحة من القطع الوزيري (17 في 24) ضمن سلسلة كتاب "قضايا إسلامية معاصرة" التي يرأس تحريرها الباحث العراقي عبد الجبار الرفاعي.

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود